الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجود وإن كان غير متحيز لزم في كل جوهر ان يكون غير متحيز ضرورة المساواة في المعنى وهو محال.
وأنه لا معنى للجوهر غير المتحيز بذاته فما لا يكون كذلك لا يكون جوهراً.
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه إذا كان قابلاً للإشارة كان متحيزاً.
وقوله: لا معنى للمتحيز إلا هذا: إن أراد به أن المفهوم من كونه مشاراً إليه هو المفهوم من كونه متحيزاً كان قوله فاسداً بالضرورة.
وإن أراد أن ما صدق عليه هذا صدق عليه هذا.
قيل له: من الناس من ينازعك في هذا ويقول: إنه سبحانه فوق العالم ويشار إليه وليس بمتحيز.
فإن قال: هذا فساده معلوم بالضرورة.
قيل له: ليس هذا بأبعد من قولك إنه موجود قائم بنفسه، متصف بالصفات مرئي بالأبصار، وهو مع هذا لا يشار إليه، وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا مداخل له.
فإن قلت: إحالة هذا من حكم الوهم.
قيل لك: وإحالة موجود قائم بنفسه يشار إليه ولا يكون متحيزاً من حكم الوهم.
بل تصديق العقول بموجود يشار إليه ولا يكون متحيزاً
أعظم من تصديقها بموجود قائم بنفسه متصف بالصفات لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه.
ثم يقال ثانياً: لم قلتم: أنه يمتنع أن يكون متحيزاً؟ قولك: إما أن يكون متحركاً أو ساكناً يقال لك فلم لا يجوز أن لا يكون قابلاً للحركة والسكون، وثبوت أحدهما فرع قبوله له؟
فإن قلت كل متحيز فهو قابل لهما.
قيل لك: علمنا بهذا كعلمنا بأن كل موجود قائم بنفسه موصوف بالصفات إما مباين لغيره، وإما محايث فإن جوزت موجوداً قائماً بنفسه، لا مباين ولا محايث، فجوز وجود موجود متحيز ليس يمتحرك ولا ساكن.
فإن قلت: المتحيز إما أن يكون منتقلاً عن حيزه أو لا يكون منتقلاً عنه.
والأول هو الحركة والثاني هو السكون.
قيل لك: ليس كل متحيز أمراً وجودياً فإن العالم متحيز وليس له حيز وجودي ومن قال إن الباري وحده فوق العالم أو سلم لك إنه متحيز لم يقل إنه في حيز وجودي.
وحينئذ فالحيز أمر عدمي، فقولك إما أن يكون منتقلاً عنه أو لا كقولك: إما أن يكون منتقلاً بنفسه أولا وهو معنى قولك إما أن يكون متحركاً أو ساكناً وهذا إثبات الشيء بنفسه.
فإن قلت: هذا بين مستقر في الفطرة والعلم به بديهي.
قيل لك: ليس هذا بأبين من قول القائل: إما أن يكون صانع العالم حيث العالم وإما أن لا يكون حيث العالم والأول هو المحايثة والدخول فيه، والثاني هو المباينة والخروج عنه.
فإن قلت: يمكن أن لا يكون داخلاً فيه ولا خارجاً عنه.
قيل لك: ويمكن أن لا يكون المتحيز منتقلاً ولا يكون ساكناً، كما تقوله أنت فيما تقول إنه قائم بنفسه لا منتقل ولا ساكن فإن قلت: أنا أعقل هذا فيما ليس بمتحيز ولا أعقله في المتحيز.
قيل: وكيف عقلت اولاً ثبوت ما ليس بمتحيز بهذا التفسير؟
والمنازع يقول أنا لا أعقل إلا ما هو داخل أو خارج.
فإذا قلت أنت: هذا فرع قبول ذلك وقابل ذلك هو المتحيز فما لا يكون كذلك لا يكون قابلاً للمباينة والمحاديثة والدخول والخروج.
قال لك: نحن لا نعقل موجوداً إلا هذا.
فإن قلت بل هذا ممكن في العقل وثابت أيضاً.
قال لك: وكذلك متحيز لا يقبل الحركة والسكون هو أيضاً ممكن في العقل وثابت.
فإن قلت الفطرة تدفع هذا.
قيل لك: وهي لدفع ذاك أعظم.
فإن قلت ذاك حكم الوهم.
قيل وهذا حكم الوهم.
فإن قلت العقل أثبت موجوداً ليس بمتحيز.
قيل لك: إنما أثبت ذاك بمثل هذه الأدلة التي تتكلم على على مقدماتها.
فإن أثبت مقدمات النتيجة بالنتيجة، كنت مصادراً على المطلوب فأنت لا يمكنك إثبات موجود ليس بمتحيز إلا بمثل هذا الدليل وهذا الدليل لا يثبت إلا ببيان إن مكان وجود موجود ليس بمتحيز فلا يجوز أن تجعله مقدمة حجة في إثبات نفسه.
ويقول له الخصم: ثالثاً هب أنك تقول: لا بد له إذا كان متحيزاً من الحركة والسكون فنحن نقول: إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون فإنه إما أن يكون منتقلاً أو لا يكون منتقلاً فإن كان منتقلاً فهو متحرك وإلا فهو ساكن.
فإن قلت: ثبوت الانتقال وسلبه فرع قبوله.
قيل لك: هذا التقسيم معلوم بالضرورة في كل قائم بنفسه، كما ذكرت أنه معلوم بالضرورة في كل ما سميته متحيزاً، وحيزه عدم محض فإنه إذا لم يكن إلا الانتقال وعدم الانتقال فالانتقال هو الحركة وعدمه هو السكون.
وإذا قلت: هذان متقابلان تقابل العدم والملكة فلا بد من ثبوت القبول.
كان الجواب من وجوه:
الأول: أن يقال مثل هذا فيما سميته متحيزاً.
الثاني: أن يقال هذا اصطلاح اصطلحته وإلا فكل ما ليس بمتحرك وهو قائم بنفسه فهو ساكن كما أن كل ما ليس بحي فهو ميت.
الثالث أن يقال هب أن الأمر كذلك ولكن إذا اعتبرنا الموجودات فما يقبل الحركة أكمل مما لا يقبلها فإذا كان عدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها صفة نقص فكونه لا يقبل الحركة أعظم نقصاً كما ذكرنا مثل ذلك في الصفات.
ونقول رابعاً الحركة الاختيارية للشيء كمال له، كالحياة ونحوها، فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلاً كانت الأولى أكمل.
ويقول الخصم: رأبعاً قوله لم لا يجوز أن يكون متحركاً قولك: الحركة حادثة.
قلت: حادثة النوع او الشخص؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وقولك مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث إن أريد به ما لا يخلو عن نوعها فممنوع والثاني لا يضر وانت لم تذكر حجة على حدوث نوع الحركة إلا حجة واحدة وهو قولك الحادث لا يكون أزلياً وهي ضعيفة كما عرف.
إذ لفظ الحادث يراد به النوع ويراد به الشخص فاللفظ مجمل كما أن قول القائل الفاني لا يكون باقياً لفظ مجمل فإن أراد به أن القائم بنفسه لا يكون باقياً فهو حق وإن أراد به أن ما كان فاني الأعيان لا يكون نوعه باقياً فهو باطل فإن نعيم الجنة دائم باق مع أن كل أكل وشرب ونكاح وغير ذلك من الحركات تفنى شيئاً بعد شيء وإن كان نوعه لا يفنى.
وأما قوله في الوجه الثاني: إن اختصاصه بحيزه: إما أن يكون لذاته أو لمخصص من خارج.
فيقال أتعني بالحيز شيئاً موجوداً أو شيئاً معيناً سواء كان موجوداً أو معدوماً أو شيئاً مطلقاً، فإن عنيت الأول فالرب سبحانه لا يجب أن يكون متحيزاً بهذا الاعتبار عند المنازع بل ولا عند طائفة معروفة.
وإن عنيت الثاني لم يسلم المنازع كونه متحيزاً بهذا الاعتبار وإن عنيت الثالث، فيقال لك حينئذ فليس اختصاصه بحيز معين من لوازم ذاته، بل هو باختياره.
وإذا كان يخصص بعض الأحياز بما شاء من مخلوقاته فتصرفه بنفسه أعظم من تصرفه بمخلوقاته.
وأما قولك ليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى.
فكلام ساقط لوجوده:
الأولى: أن الله يخص ما شاء من الأحياز بما شاء من الجواهر ولا يقال ليس هذا أولى من هذا فكيف يقال إنه ليس أولى من بعض مخلوقاته بما هو قادر عليه مختار له؟
والثاني إن يقال فما من جوهر إلا وله حيز يختص به دون غيره من الجواهر سواء قيل إنه حيزه الطبيعي أو لا فعلم أن مجرد الاشتراك في كل حيز.
الثالث: أن كل جوهر مختص من غيره بصفة تقوم به ومقدار يخصه مع اشتراكها في الجواهرية فكيف لا يختص بحيزه؟
الرابع: أن الحيز ليس أمراً وجودياً، وإنما هو أمر عدمي والجواهر الموجودة لا بد أن يكون لبعضها نسبة إلى بعض بالعلو والسفول والتيامن والتياسر والملاقاة والمباينة ونحو ذلك وكل منها مختص من ذلك بما هو مختص به لا تشاركه فيه سائر الجواهر فكيف يجب أن يشارك المخلوق لخالقه؟
الخامس: أن هذا مبني على تماثل الجواهر وهو ممنوع بل هو مخالف للحس وسيأتي كلامه في إبطاله.
السادس: أنا لو فرضنا الجواهر متماثلة فالمخصص لكل منها بما يختص به هو مشيئة الرب وقدرته وإذا كان بقدرته ومشيئته يصرف مخلوقاته فكيف لا يتصرف هو بقدرته ومشيئته، كما أخبرت عنه رسله وكما انزل بذلك كتبه حيث أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش، وأمثال ذلك من النصوص.
وأما قوله إن كان غير متحيز لزم ان يكون كل جوهر غير متحيز فعنه جوابان:
الأول: أن يقال له ولأمثاله كالرازي والشهر ستاني ونحوهما من
المتأخرين الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية أو قالوا: إنه دليل على نفي ذلك: أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم، فقلتم: لا نعلم دليلا على نفيها، أو قلتم بإثباتها وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها، والدلائل العقلية السليمة عن المعارض، وقالوا: إن الخالق تعالى فوق خلقه، سعيتم في نفي هذا القول لوازم هذا القول وموجباته، وقلتم: لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته، فإن كان هذا القول حقا فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة، وإن كان باطلا فلا تعارضوا به المسلمين.
أما كونه يكون حقا إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمون، ويكون باطلا إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين، وحسن النظر والمناظرة عقلا ًوشرعا.
والجواب الثاني: أنك قلت في أول هذا الوجه: إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها ههنا أو هناك، أو لا تكون قابلة.
ثم قلت: فإن كان الأول فيكون متحيزاً.
فكان حقك أن تقول: وإن لم تكن ذاته قابلة
للإشارة إليه لزم في كل جوهر أن لا يكون مشاراً إليه وأن لا يكون متحيزاً.
وإذا قلت ذلك، قيل لك، إثبات جوهراً لا يشار إليه هو قول المتفلسفة الذين يثبتون جواهر لا يشار إليها، وقول النصارى الذين ينفون العلو.
وحينئذ فيقولون: لا نسلم أن كل جوهر فإنه يجب ان يكون مشاراً إليه وأنت قد اعترفت في بحثك مع الفلاسفة بهذا وهذا القول وإن كان باطلاً لكن المقصود تبيين ضعف حجج هؤلاء النفاة نفياً يستلزم نفي الصفات.
ويقال لك: إثبات جوهر لا يشار إليه كإثبات قائم بنفسه لا يشار إليه.
وإن قال: أنا ذكرت هذا لنفي كونه جوهراً كالجواهر.
فيقال: من قال هذا يقول: هو جوهر كالجواهر التي يدعي إثباتها من يقول بإثبات الجواهر العقلية المجردة فإنه هو جوهر كالجواهر العقلية المجردة، فمن نفي هذه الجواهر أبطل قولهم وإلا فلا