الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما تقدم، فيكون الرب معلول الوجود، وهو محال.
وإن كان متناهيا من جميع الجهات فله شكل ومقدار، وهو إما أن يكون مختصا بذلك الشكل والقدر لذاته، أو لأمر خارج، فإن كان الأول لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة، وإن كان الثاني فالرب محتاج في وجوده إلى غيره وهو محال.
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون مختصاً بالشكل والمقدار لذاته؟ قوله: إن ذلك يستلزم اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة، إنما يصح إذا سلم أن طبيعة الأجسام كلها متحدة، وهذا ممنوع بل باطل بل معلوم الفساد بالضرورة والحس، فإن طبيعة النار ليست طبيعة الماء ولا طبيعة الحيوان طبيعة النبات وهذا مبني على القول بأن الأجسام متماثلة في الحقيقة، وهذا لو صح لأغنى عن هذه الوجوه كلها، وهو في كتابه لما ذكر قول من يقول بتجانس
الأجسام من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية قال: إنهم بنوا ذلك على أصلهم: أن الجسم هو الجوهر المؤلف أو الجوهر المؤتلفة وأن الجواهر متجانسة وأن التأليف من حيث هو تأليف غير مختلف فالأجسام الحاصلة منها غير مختلفة.
ومعلوم أن هذين الأصلين اللذين بنوا عليهما تماثل الأجسام قد أبطلها هو وغيره، وهي مما يخالفهم فيها جمهور العقلاء، فأكثر العقلاء لا يقولون إن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة، لا جمهور أهل الملل ولا جمهور الفلاسفة، بل جمهور أهل الكلام من الهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والكرامية لا يقولون بذلك، فكيف بمن عدا أهل الكلام من سائر أنواع أهل العلم؟ فإنهم من أعظم الناس إنكاراً لذلك.
وكذلك القول بتماثل الجواهر قول لا دليل عله إذ المتنازعون في الجواهر المنفردة: منهم من يقول باختلافها ومنهم من يقول بتماثلها.
وأيضاً فقول القائل إما أن تكون مختصاً بذلك المقدار لذاته أو لأمر خارج.
يقال له أتريد بذاته مجرد الجسمية المشتركة أم ذاته الذي يختص بها ويمتاز بها عن غيره؟
أما الأول فلا يقول عاقل، فإن عاقلا لا يعلل الحكم المختص بالأمر
المشترك، فلا يقول عاقل، إن ما اختص به أحد الشيئين عن الآخر كان للقدر المشترك بينهما فإن القدر مستلزمة للمعلول، الملزوم أعم من العلة فإذا لم يكن المشترك ملزوماً للمختص كما أن، لا يكون علة أولى وأحرى فإن الملزوم حيث وجد وجد اللازم.
ومعلوم انه ليس حيث المشترك يوجد المختص، إذ المشترك يوجد في هذا والمختص بالآخر منتف.
وفي الجملة فهذا ما لا يتنازع فيه العقلاء، فلا يكون اختصاص أحد الجسمين عن الآخر بخصائصه لمجرد الجسمية المشتركة بل تلك الخصائص مما يمتنع ثبوتها لسائر الأجسام.
وحينئذ فيقال: معلوم أن كل جسم مختص بخصائص وخصائصه لا تكون لأجل الجسمية المشتركة، وذلك يمنع تماثل الأجسام، لأنها لو كانت متماثلة للزم أن يكون اختصاص بعضها بخصائصه لمختص والمخصص إما الرب وإما غيره وتخصيص غيره ممتنع لأنه جسم من الأجسام فالكلام فيه كالكلام في غيره، ولأن التقدير أنها متماثلة، فليس هذا بالتخصيص أولى من هذا وتخصيصه أيضاً ممتنع
لأنه يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بغير مرجح وذلك ممتنع وإذا قيل المرجح هو القدرة والمشيئة.
قيل نسبة القدرة والمشيئة إلى جميع المتماثلات سواء فيمتنع الترجيح بمجرد ذلك، فلا بد أن يكون المرجح ما لله تعالى في ذلك من الحكمة، والحكمة تستلزم علم الحكيم بأن أحد الأمرين أولى من الآخر، وأن يكون ذلك الراجح أحب إليه من الآخر.
وحينئذ فذلك يستلزم تفاصيل المعلومات المرادات وذلك يمنع تساويها وهو المطلوب.
وهذا الكلام يتعلق بمسألة حكمه الله في خلقه وأمره، وهو مبسوط في غير هذا الموضع.
ونفاة ذلك غاية ما عندهم انهم يزعمون أن ذلك يقتضي افتقاره إلى الغير لأن من فعل شيئاً لمراد كان مفتقراً إلى ذلك المراد مستكملا به، والمستكمل بغيره ناق بنفسه.
وهذه الحجة باطلة كبطلان حجتهم في نفي الصفات وذلك أن لفظ الغير مجمل فإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى شيء مباين منفصل عنه فهذا ممنوع فإن مفعولاته ومراداته هو الفاعل لها كلها، لا يحتاج في شيء منها إلى غيره وإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى ما هو مقدور له مفعول له، كان حقيقة ذلك انه مفتقر إلى نفسه أو لوازم نفسه.
ومعلوم أنه سبحانه موجود بنفسه لا يفتقر إلى ما هو غير له مباين
له، وأنه مستوجب لصفات الكمال التي هي من لوازم ذاته فإذا قال القائل إنه مفتقر إلى نفسه كان حقيقته أنه لا يكون موجوداً إلا بنفسه وهذا المعنى حق.
وإذا قيل هو مفتقر إلى صفاته اللازمة أو جزئه أو لوازم ذاته او نحو ذلك كان حقيقة ذلك أنه لا يكون موجودا إلا بصفات الكمال، وأنه يمتنع وجوده دون صفات الكمال التي هي من لوازم ذاته وهذا حق ومعلوم: إن الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة متعاقبة ليس الكمال في أن يكون كل منها ازليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون، فإن ذلك نقص وعدم، بل في أن تكون كل منها أزليا فإن ذلك ممتنع، ولا في أن ذلك لا يكون، فإن ذلك نقص وعدم، بل في أن تكون بحسب إمكانها على ما تقتضيه الحكمة، فيكون وجود تلك المرادات للحكمة من أعظم نعوت الكمال التي يجب أن يوصف بها، ونفيها عنه يقتضي وصفه بالنقائص، وإن كل كمال يوصف به فليس مفتقراً فيه إلى غيره أصلا، بل هو من لوازم ذاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، الذين يصفونه بالنقائص ويسلبونه الحكمة التي هي محض
بل لا يقتضي إثباتها إلا استلزام ذاته لنعوت كماله وكمال نعوته لا افتقار إلى شيء مباين لنفسه المقدسة.
وأيضاً فيقال القول في استلزام الذات لقدرها الذي لم يقدره المشركون كما قال تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} الزمر 67 كاستلزام الذات لسائر صفاتها من العلم والقدرة والحياة، فإنه لو كان مختص يحتاج إلى مخصص لزم الدور أو التسلسل الباطلان فلا بد من مختص بما يختص به يختص بذلك لنفسه وذاته لا لأمر مباين له.
وهذا هو حقيقة الواجب لنفسه المستلزم لجميع نعوته من غير افتقار إلى غير نفسه، مع أنما ذكره في وجوب تناهي الأبعاد قد أبطل فيه مسالك الناس كلها، وأنشأ مسلكا ذكر أنه لم يسبقه إليه أحد وإذا حرر الأمر عليه وعليهم في تلك المسالك كان القدح فيها أقوى من مسالكهم في النفي، فلو قدر ان أثنين أثبت احدهما موجوداً قائماً بنفسه لا يتناهى وأثبت الآخر موجوداً لا يكون متناهيا ولا غير
متناه كان قول الثاني أفسد والأول أقرب إلى الصواب وما من مقدمة يدعون بها إفساد قول الأول إلا وفي أقوالهم ما هو أفسد منها.
والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما، أو بطلان أحدهما او كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر فإن هذا ينتفع به كثيراً في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحاً وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسداً لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت ولكن صالوا عليها أصول المحاربين لله ولرسوله فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله.
وقد حكى الأشعري وغيره عن طوائف أنهم يقولون إنه لا يتناهى وهؤلاء نوعان: نوع يقول: هو جسم ونوع يقول ليس بجسم فإذا أراد النفاة أن يبطلون قول هؤلاء لم يمكنهم ذلك فإنهم إذا قالوا: يلزم أن يخالط اقاذورات والأجسام قالوا: كما أثبتم موجوداً لا يشار إليه ولا هو داخل ولا خارج، فنحن نثبت موجوداً هو داخل
ولا يخالط غيره فإذا قالوا هذا لا يعقل قالوا وذلك لا يعقل.
ومذهب النفاة أبعد في العقل من مذهب الحلولية، ولهذا إذا ذكر القولان لأهل الفطر السليمة نفروا عن قول النفاة أعظم من نفورهم عن قول الحلولية وكذلك ما ذكره من امتناع النهاية من بعض الجوانب دون بعض فإن هذا قاله طائفة ممن يقول إنه على العرش.
وقول هؤلاء وإن قيل إنه باطل فقول النفاة أبطل منه إما احتجاجه على هؤلاء بأن اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر محال لعدم الأولوية، أو لافتقاره إلى مخصص من خارج فيقولون له أنت دائما تثبت تخصيصاً من هذا الجنس كما تقول إن الإرادة تخصص أحد المثلين لا لموجب فإذا قيل لك: هذا يستلزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح قلت هذا شان الإرادة والإرادة صفة من صفاته فإذا كانت ذاته مستلزمة لما من شأنه ترجيح أحد المثلين لذاته بلا مرجح فلأن تكون ذاته تقتضي ترجيح أحد المثلين بلا مرجح أولى.
وهذا للمعتزلة والفلاسفة ألزم، فإن المعتزلة يقولون إن القادر المختار يرجح بلا مرجح والفلاسفة يقولون: مجرد الذات اقتضت ترجيح الممكنات بلا مرجح آخر فقد اتفقوا كلهم على أن الذات توجب الترجيح لأحد المتماثلين بلا مرجح فكيف يمكنهم مع هذا ان يمنعوا كونها تستلزم تخصيص أحد الجانبين بلا مخصص.
ولو قال لهم منازعهم الموجودان القائمان بأنفسهما لا بد أن يكون بينهما حد وانفصال فعلمنا التناهي من جانب هذا الموجود واما الجانب الآخر فلا نعلم امتناعه إلا إذا علمنا امتناع وجود أبعاد لا تتناهى، وهذا غير معلوم لنا، أو هو باطل لكان قوله أقوى من قولهم.
والمقصود هنا أن غايتهم في إبطال قول هؤلاء أن ينتهوا إلى أبطال بعد لا يتناهى أو إلى عدم الأولوية أو وجوب المخالطة.
وهذه المقدمات يمكن منازعوهم أن ينازعوهم فيها أعظم مما يمكنهم هم منازعة أولئك في مقدمات حجتهم ويرد عليهم من المناقضات والمعارضات أعظم مما يرد على أولئك، وهذا مبسوط في موضعه.
فهذه الحجة وأمثالها من حجج النفاة يمكن إبطالها من وجوه كثيرة بعضها جهة المعارضة بأقوال أهل باطل آخر وبيان انه ليس أولئك بأبطل من قول هؤلاء، فإذا لم يمكن الاستدلال على نفي أحد القولين إلا بالمقدمة التي بها نفي القول الآخر، لم يكن نفي أحدهما أولى من نفي الآخر، بل إن كانت المقدمة صحيحة لزم نفيهما جميعاً، وغن كانت باطلة لم تدل على نفي واحد منهما فكيف إذا كانت