الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيت المال. ثم لما حضرته الوفاة أمر عائشة أن ترد إلى بيت المال ما كان قد دخل في ماله من مال المسلمين، فوجدت جرد قطيفة لا يساوي خمسة دراهم، وحبشية ترضع ابنه، وعبدًا حبشيًا، وناضحًا، فأرسلت بذلك إلى عمر فقال: عبد الرحمن بن عوف له: أتسب هذا عيال أبي بكر؟ فقال: كلا ورب الكعبة لا يتأثم منه أبو بكر في حياته وأتحمله أنا بعد موته. وقال: يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك (1)(2) .
أشجع الناس بعد الرسول
صلى الله عليه وسلم
الشجاعة تفسر بشيئين. أحدهما: قوة القلب وثباته عند المخاوف. والثاني: شدة القتال بالبدن بأن يقتل كثيرًا ويقتل قتلاً عظيمًا.
والقتال يحتاج إلى التدبير والرأي، ويحتاج إلى شجاعة القلب وإلى القتال باليد. وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن.. والشجاعة إنما فضلها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله. وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد سبيل الله كانت إما وبالاً عليه إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان، وإما غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله.
وأبو بكر رضي الله عنه كان أشجع الناس، لم يكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع منه، هو أشجع من عمر، وعمر أشجع من عثمان، وعلي وطلحة والزبير. وهذا يعرفه من يعرف سيرهم
(1) جـ4/ 129 جـ 1/217.
(2)
ونقل الشيخ عن ابن حزم عزوف أبي بكر عن المال (منهاج جـ4/130) وفتح الباري جـ7/13 وروى الزبير بن بكار عروة عن عائشة أنه لما مات ما ترك دينارًا ولا درهمًا.
وأخبارهم؛ فإن أبا بكر باشر الأهوال التي كان يباشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الإسلام إلى آخره، ولم يجبن ولم يحرج، ولم يفشل. وكان يقدم في المخاوف يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويجاهد المشركين تارة بيده، وتارة بلسانه، وتارة بماله، وهو في ذلك كله مقدم.
وكان يوم بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش (1) . مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ثابت القلب، رابط الجأش، يظاهر النبي صلى الله عليه وسلم ويعاونه ويذب عنه، ويخبره بأنا واثقون بنصر الله. والنظر إلى جهة العدو، وهل قاتلوا المسلمين أو لا؟ والنظر إلى صفوف المسلمين لئلا تختل، وتبليغ المسلمين ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال (2) . وفي الصحيح:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش معه الصديق أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم نعسة من النوم، ثم استيقظ مبتسمًا، فقال: أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع» ، وفي رواية ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، وهذا جبريل آخذ بعناه فرسه يقوده على ثناياه النقع» يعني الغبار (3) .
(1) وحده.
(2)
ففي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادًا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من وراءه وقال: يا نبيا لله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأمده الله بالملائكة» (مسلم ك32 ب18 ص1383، 1384) البخاري (64 ب4) .
(3)
عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوم بدر هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب» ، البخاري ك64 ب11، وذكر ابن كثير في البداية والنهاية جـ3/ 276، 280، 283، 284) طرق هذا الحديث ورواته.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر خرجا بعد ذلك من العريش، ورماهم النبي صلى الله عليه وسلم الرمية التي قال فيها:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} (1) . والصديق قاتلهم حتى قال له ابنه عبد الرحمن: قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك، فقال: ولكني لو رأيتك لقتلتك.
والمسلمون كانت لهم هزيمتان يوم أحد ويوم حنين، والمذكور في السير والمغازي أن أبا بكر، وعمر ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ويوم حنين لهم ينهزما مع من انهزم (2) .
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم حتى أوهنت العقول فهذا ينكر موته، وهذا قد أقعد، وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه ومن يسلم عليه، وهؤلاء يضجون بالبكاء، وقد وقعوا في نسخة القيامة، وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين، وذلت كماته، فقام الصديق رضي الله عنه بقلب ثابت وفؤاد شجاع فلم يجزع ولم ينكل، وقد جمع الله له بين الصبر واليقين؛ فأخبرهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله قد اختار له ما عنده، وقال لهم: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} (3) ثم خطبهم
(1) سورة الأنفال: 17.
(2)
ولما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد انصرف المشركون خاف أن يرجعوا قال: «من يذهب في أثرهم فانتدب منهم سبعون رجلاً كان فيهم أبو بكر، والزبير» . أخرجه البخاري عن عائشة (انظر ك64 ب25) .
(3)
سورة آل عمران: 144.
فثبتهم وشجعهم، قال أنس: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه وكنا كالثعالب، فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود. وأخذ في تجهيز جيش أسامة مع إشارتهم عليه (1) . وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص، وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة (2) (2) حتى كان عمر مع قوته وشجاعته يقول له: يا خليفة رسول الله تألف الناس. فيقول: علام أتألفهم، أعلى دين مفترى، أم علي شعر مفتعل؟
قلت: ومن شجاعته مدافعته عن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خنقة عقبة بن أبي معيط كما تقدم. وسبقت الإشارة إلى موقفه حين خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين ونام الرسول تحت الصخرة ونهض أبو بكر يحرسه. اهـ
وقد روى أنه لما قيل له: لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاظها وبالبحار لغاظها وما نراك ضعفت. فقال: ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني قال: لا عليك يا أبا بكر؛ فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام (3) .
فكان له رضي الله عنه مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية، وقوة يقينية في الله عز وجل، وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين. وهذه الشجاعة لا تحصل إلا لمن كان قوي القلب، لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقين، وتنقص بنقص ذلك فمن تيقن أنه يغلب عدوه كان إقدامه
(1) ويأتي ذكر ذلك في آخر الكتاب -إن شاء الله تعالى-.
(2)
عن عائشة رضي الله عنها قال: «لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، اشرأب النفاق، وارتدت العرب، وانحازت الأنصار، فلو نزل بالجبال الراسيات، ما نزل بأبي لهاظها» الحديث، أخرجه الترمذي عن عائشة (رقم 1023) وعن أبي بكر قال: ما دخلني إشفاق من شيء، ولا دخلني في الدين وحشة إلى أحد بعد ليلة الغار؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى إشفاقي عليه وعلى الدين قال لي:«هون عليك، فإن الله عز وجل قد قضي لهذا الأمر بالنصر والتمام»
(3)
ابن عساكر) كنز العمال جـ12/486) .