المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول الثاني: التفريق بين ما كانت نسبة الاستثمار المحرم فيه كثيرة فيحرم - الأسهم - حكمها وآثارها

[صالح السلطان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد

- ‌المسألة الأولى: تعريف الأسهم

- ‌المسألة الثانية: خصائص الأسهم

- ‌المسألة الثالثة: قيمة السهم

- ‌المسألة الرابعة: أنواع الأسهم

- ‌المسألة الخامسة: محل العقد في بيع الأسهم

- ‌المسألة السادسة: حكم بيع الأسهم قبل تداولها

- ‌المبحث الأولحكم المساهمة في هذه الشركات

- ‌المسألة الأولى: في حكم هذه المساهمة

- ‌القول الأول: تحريم الاتِّجار فيها مطلقا:

- ‌القول الثاني: التفريق بين ما كانت نسبة الاستثمار المحرم فيه كثيرة فيحرم

- ‌المسألة الثانية: في فروع متعلقة بهذا الحكم

- ‌الفرع الأول: التطهير هل يرفع التحريم

- ‌الفرع الثاني: مساهمة من يقدر على التغيير فيها

- ‌القسم الأول: الشركات المؤثرة في اقتصاد البلد:

- ‌القسم الثاني: الشركات غير المؤثرة:

- ‌المسألة الثالثة: إذا دخل في شركة، ثم تبيَّن له وجود استثمار محرم فيها

- ‌المبحث الثانيالمعقود عليه في المضاربة

- ‌المبحث الثالثتصرفات المضاربين في سوق الأسهم

- ‌المبحث الرابعحقيقة المضاربة في سوق الأسهم

- ‌المبحث الخامسآثار المضاربة على الأسهم

- ‌ الجانب الاقتصادي

- ‌ آثارها الاجتماعية

- ‌ آثارها الشرعية:

- ‌ملحق خاص

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌القول الثاني: التفريق بين ما كانت نسبة الاستثمار المحرم فيه كثيرة فيحرم

فهذا الذي لا يُشَكُّ في تحريمه عندهم، والمنع منه، ووقوعه فاسدًا، كما صرح بذلك ابن قدامة وغيره.

‌القول الثاني: التفريق بين ما كانت نسبة الاستثمار المحرم فيه كثيرة فيحرم

، وبين ما كانت فيه قليلة، فيجوز: مع أن الورع تركها، مع اختلاف أصحاب هذا القول في تحديد هذه النسب، وكذلك اختلافهم في تطبيق هذه النسب على الاستثمار في عائد المساهمة وعلى المضاربة، أو في قصره على الاستثمار في العائد فقط دون المضاربة.

وهو قول طائفة من المعاصرين؛ منهم: الشيخ عبد الله بن منيع، والدكتور علي القره داغي، والشيخ مصطفى الزرقا (1)، والدكتور تقي الدين العثماني، والدكتور نزيه حماد (2)، وعدد من الهيئات الشرعية، منها:

الهيئة الشرعية لشركة الراجحي (3)، والهيئة الشرعية للبنك الإسلامي الأردني (4) والمستشار الشرعي لدلة البركة (5).

أدلة القول الثاني:

استدل أصحاب هذا القول بالأدلة الآتية:

1 -

حديث ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما

(1) وقيده بالشركات الكبرى الحيوية التي تحتاجها الأمة، والتي تؤدي خدمات عامة، مثل: الكهرباء، والمواصلات، ونحوها. انظر: المعاملات المالية، لشبير، ص209، 210.

(2)

انظر: بحوث في الاقتصاد الإسلامي، ص219 وما بعدها، الأسواق المالية للقره داغي، ص20، مجلة النور، عدد (183)، عام 1421هـ.

(3)

قرارات الهيئة 1/ 241.

(4)

الفتاوى الشرعية للبنك الإسلامي الأردني.

(5)

الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية بمجموعة دلة البركة، فتوى، رقم (37).

ص: 26

يخرج منها من ثمر أو زرع»، وفي لفظ:«أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها» (1).

والجواب عنه من وجوه:

1 -

أن الحديث لا يدل على كل المدعى به، فلا دلالة فيه على مشاركة من يأخذ الأموال ويودعها في البنوك ونحوها، ويأخذ عليها فوائد ربوية، كما هو الحال في هذه الشركات موضوع البحث.

2 -

أن الحديث ليس فيه أنهم اعتملوها - زرعوها - من مال حرام يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأن اقترضوا بالربا، وزرعوا به، ودفعوا الفوائد منه، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم (2).

وكون الربا يوجد في معاملاتهم الأخرى لا مدخل له في هذا العقد، وفرق بين معاملة من يرابي وبين مشاركته في تصرفه المحرم.

3 -

أن هذه المزارعة ليست مشاركة من كل وجه؛ بل هي معاملة فيها شبه بالمشاركة في الناتج فقط؛ وأما الأصل فهو للمسلمين، وفيها شبه بالإجازة بجزء من الخارج، ومن ثم فليس فيها شيوع المالين معا واختلاطهما، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم مالا ليتاجروا به مع أموالهم، كما هو الحال في الشركات المساهمة؛ حيث يشارك في رأس مال الشركة وربحها ويكون ماله شائعًا في الشركة.

2 -

استدلوا ببعض القواعد الفقهية على النحو الآتي:

القاعدة الأولى: يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالا (3):

لهذه القاعدة مجموعة تطبيقات منها:

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المزارعة، باب المزارعة بالشطر رقم 2203، 2206.

(2)

وهذا الذي فهمه ابن حزم، وهو ممن استدل بهذا الحديث على الجواز. المحلى 8/ 125.

(3)

بحوث في الاقتصاد الإسلامي، ص227، الاستثمار في الأسهم، د. علي القرة داغي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، العدد التاسع 2/ 82.

ص: 27

جواز بيع العبد مع ما له من مال؛ فيبيعه سيده ومعه ماله بثمن نقدي، هذا الثمن هو ثمن العبد وماله، فهذا المال للعبد يعتبر تبعا للعبد الذي يجوز بيعه استقلالا، ولا يجوز بيع ماله استقلالا إلا بشروط الصرف، ولتبعيته للعبد جاز بيعه بغضِّ النظر عن توفر شروط الصرف في هذا المال. والأصل في جوازه حديثا ابن عمر في بيع العبد ومعه مال، وبيع الثمر قبل تأبيره.

ومنها: جواز بيع الحامل؛ سواء أكانت أمة أو حيوانا، ولا يخفى أنه لا يجوز بيع الحمل في بطن أمه إلا أن يكون تبعا غير مقصود فيجوز ذلك؛ إذ يغتفر في التبعية ما لا يغتفر في الاستقلال (1).

(1) وبمثل هذه القاعدة استدل الدكتور يوسف الشبيلي فقال: "فإذا كان الحرام الذي فيه يسيرا وتابعا غير مقصود فإن ذلك لا يقتضي حرمة السهم كله؛ بناء على القاعدة الشرعية: "أن اليسير التابع مغتفر"، لاسيما مع عموم البلوى، وهذا كالنجاسة اليسيرة إذا وقعت في الماء فلم تغيره فإنه يبقى على طهوريته، وكالسلع التي لا تخلو من يسير محرم؛ فإنه لا يحرم شراؤها وبيعها؛ لوجود ذلك اليسير؛ مثل الصحف التي قد يوجد بها الصور المحرمة، وكعقود الخدمات العامة مثل: الكهرباء والاتصالات والنقل ونحوها؛ فإن من المعلوم أن بعض من يستفيد من هذه الخدمات قد يستعين بها على المعصية، ومع ذلك فلا تحرم هذه الخدمات، ولا يعد العمل بها من الإعانة على المعصية؛ لأن استخدامها في المعصية يسير بالنظر إلى جملة المستفيدين من هذه الخدمات.

ويجاب بأن الفرق بينهما ظاهر من وجهين:

أحدهما: أن النجاسة وقعت بغير قصد في الغالب؛ بخلاف الاستثمار المحرم؛ فإنه مقصود أصلا.

الثاني: أن النجاسة قد زالت ولم يبق لها أي أثر مطلقا، ولو بقي أثرها لما صح استعمال الماء بالإجماع؛ بخلاف هذه الاستثمارات المحرمة قرضا أو إقراضا؛ فإنها باقية بأصلها مؤثرة بذاتها.

وأما السلع التي لا تخلو من يسير محرم كالصور، ففي بيعها خلاف، وعلى القول بالجواز ـ وهو الراجح ـ فلأنها غير مقصودة لبائعها ولا مشتريها غالبا، وقد يكون محتاجا لهذه الصحف؛ بخلاف الاستثمارات المحرمة؛ فإنها مقصودة لأرباب الشركات، والاستثمار في مثل هذه الشركات لا يتحقق فيه معنى الحاجة كما سيأتي.

وأما القياس على عقود الخدمات فبعيد؛ حيث لا أثر لمستخدميها في المعصية على من يستخدمها في المباح، ولا علاقة له به؛ بل يقتصر أثر المحرم عليه؛ بخلاف الاشتراك في مثل هذه الشركات؛ حيث تختلط الأموال اختلاطا شائعا وتؤخذ الفوائد المحرمة عليها جميعا، أو تخلط بالمال المحرم وتصطبغ به وتدفع الفوائد منها جميعا؛ فالحرام متأصل في مال كل مستثمر مع اختياره؛ حيث رضي بالمساهمة أو المضاربة في أسهم هذه الشركات.

انظر: صناديق الاستثمار بالأسهم المحلية. مقال منشور في موقع الإسلام اليوم بتاريخ 4/ 3/1426هـ.

ص: 28

ويمكن اعتبار بيع سهم في شركة تجاوز مجلس إدارتها صلاحيته الشرعية؛ فتأخذ الربا من البنوك الربوية، أو تعطيه حيث يعتبر ذلك يسيرا ومغموسا في حجم الشركة ذات الأغراض المباحة. يمكن اعتبار ذلك من جزئيات هذه القاعدة؛ إذ الغالب على هذه الشركة الاستثمار بطرق مباحة، وما طرأ عليها من تجاوز إداري آثم في الأخذ من البنوك بفائدة أو إعطائها بفائدة يعتبر يسيرا، وهو في حجم السهم المباع تبعا، ويغتفر في التبعية ما لا يغتفر في الاستقلال.

يناقش من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول:

إثبات دعوى الحجة، وهي لا تثبت؛ لأمرين:

1 -

أن زيادة رأس المال من أجل التوسع في النشاط ليس حاجة تستدعي الولوغ في المحرم المجمع على تحريمه.

2 -

أنه يمكن للشركة زيادة رأس مالها عن طريق تمويل إسلامي، أو عن طريق اكتتاب جديد، وطرق زيادة رأس المال الحلال أكثر من أن تحصى.

الوجه الثاني:

القول بأنه تبع غير مسلَّم؛ بل هو مقصود لأرباب الشركة وإدارتها

ص: 29

ومستقل بذاته، ولو كان غير مقصود لما استقل بعقد تأخذ الشركة فيه قرضا ربويا أو فائدة ربوية مقابل إيداع الفائض لديها.

وشتان ما بين تصرُّف الشركة الربوي، وبين من يشتري عبدا يقصده ويكون له مال، ولذلك لو صرح بقصده المال لما صح العقد بإجماله.

الوجه الثالث:

أن تجويز هذه الأسهم بناء على اندراجها تحت هذه القاعدة مجرد اجتهاد ظني منازع فيه، وأدلة تحريم الربا - قليله وكثيره - صحيحة صريحة قطعية الدلالة والثبوت، والمساهم مكَّن الشركات من المراباة بأمواله، وأخذ الفوائد الربوية عليها باختيارها، وكذلك خلطها بأموال ربوية تقترضها وتستثمرها؛ ومن ثَمَّ فلا مجال لاجتهاد في مقابل نص؛ إذ الاجتهاد في مقابل النص غير سائغ بالإجماع.

القاعدة الثانية (1): الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة (2):

هذه القاعدة ذكرها كثير من علماء الفقه والأصول، وذكروا لها جزئيات؛ منها:

إباحة العرايا للحاجة العامة؛ بالرغم من أن العرايا بيع مال ربوية بجنسه غير متحقق تماثلهما.

وفيما يلي بعض نصوصهم في ذلك:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"الشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم"(3).

(1) من القواعد التي استدل بها المجيزون.

(2)

بحوث في الاقتصاد الإسلامي، ص229 - 231، الاستثمار في الأسهم علي القرة داغي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، (د9) 2/ 83، العدد التاسع.

(3)

مجموع الفتاوى 29/ 49.

ص: 30

وقال: "ويجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها كما جاز بيع العرايا بالتمر"(1).

وقال: "الشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر؛ بل يبيح ما يحتاج إليه في ذلك"(2).

وقال الزركشي:

"الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس"(3).

ويناقش من سبعة أوجه:

1 -

هذه القاعدة أصلا هي محل خلاف، وقد ذكر بعض الشافعية أن أكثر العلماء على خلافها فقال:(الأكثر: أن الحاجة لا تقوم الضرورة)(4).

2 -

بيان معنى الحاجة والمقصود بها، وهل هو متحقق هنا:

قال الشاطبي في بيان معنى الحاجة: (ما يفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة).

فهل الحاجة بهذا المعنى موجودة؟!

وهل أفراد المجتمع يدخل عليهم الحرج والمشقة بترك المساهمة والمضاربة في هذا النوع من الشركات؟!

وأين هذا الحرج قبل وجود هذه الشركات قبل وقت قريب جدا؟!

(1) مجموع الفتاوى 29/ 480.

(2)

مجموع الفتاوى 29/ 227.

(3)

المنثور في القواعد 2/ 34.

(4)

المواهب السنية شرح الفوائد البهية 1/ 288.

ص: 31

بل إن القاعدة حتى عند القائلين بها ليست على إطلاقها؛ بل هي مقيدة بما لم يرد فيه نص يمنع منه بخصوصه.

ففي شرح القواعد الفقهية (1): (

والظاهر أن ما يجوز للحاجة إنما يجوز فيما ورد فيه نص يجوِّزه، أو تعامل، أو لم يرد فيه شيء منهما، ولكن لم يرد فيه نص يمنعه بخصوصه، وكان له نظير في الشرع يمكن إلحاقه به، وجعل ما ورد في نظيره واردا فيه .... وأما ما ورد فيه نص يمنعه بخصوصه فعدم الجواز فيه واضح، ولو ظننت فيه مصلحة؛ لأنها حينئذ وهم ....).

والربا وردت فيه نصوص قطعية تمنع فيه بخصوصه قليله وكثيره

ومن ثم فلا يدخل تحت قاعدة الحاجة حتى عند القائلين بها.

3 -

لو سلم بوجود الحاجة إلى المساهمة في هذه الشركات ـ وهو غير مسلَّم ـ فيجاب عنه من ثلاثة وجوه:

أ- أنه لا يتعين ارتفاع حاجته إذا ساهم فيها؛ بل إن احتمال الخسارة فيها وارد، بل قوي جدا، ومن ثم فحاجته لا ترتفع؛ بل قد تزداد.

يؤكد ذلك واقع ما يجري في الأسواق من مضاربات مشبوهة وغير نزيهة، والتلاعب بصغار المضاربين والتغرير بهم مما زاد من معاناتهم، ولم يرفع حاجتهم ويحقق مرادهم وطموحهم.

ب- أن وجود شركات لا تمارس أعمالا ربوية يمكن الاستثمار فيها، وهذا ينفي وجود الحاجة إلى المشاركة في هذه الشركات المشبوهة.

ج- لو سلم بالحاجة إلى المساهمة في هذه الشركات ـ وهو غير مسلم ـ فإن الإقراض بالربا الذي تمارسه هذه الشركات محرم لا

(1) للشيخ أحمد الزرقا، ص210.

ص: 32

تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض الذي تمارسه هذه الشركات محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه عن المقترض إلا إذا دعت الضرورة، ولا ضرورة لهذه الشركات لهذه القروض؛ ومن ثم فالداخل في هذه الشركات داخل في هذا التحريم.

هذا ما اتفق عليه علماء مؤتمر البحوث الإسلامية الثاني في مصر في قرار مجمع البحوث الإسلامية (1).

4 -

أن زيادة رأس مال المرء والتوسع فيه ليس حاجة ولا مقصودا للشارع: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ وإنما أباح منها ما لا يشغل عن المقصود الأسمى، فقال تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ} ، ثم قال:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، وهذا لا يعني عدم أهمية المال في حياة الأمة؛ وإنما يعني وجوب العناية به وتنميته وتقويته؛ حتى تكون الأمة قادرة على الجهاد والبناء والمعرفة والتطور.

لكن لا يكون هو الهدف المطلق؛ بحيث تصادَمُ من أجلِه النصوص وتُعَطَّلُ القواعد والأصول.

5 -

أن استثمار المال ليس مقصورا على أسهم خالطها الحرام، وشاع فيها، حتى أصبح لا يمكن تمييزه؛ بل مجالات استثمار المال في وجوه مباحة أرحب وأوسع.

6 -

أن الفرق بين الاستثمار في هذه الشركة وبين العرايا واضح وبَيِّنٌ؛ إذ إن حاجة الناس للرطب في وقته ظاهرة وماسَّة لجميع الناس؛ لأنهم يقتاتونه ويطعمونه؛ بل قد يكون مما به قوامهم، وهو خاص

(1) انظر: بحث الربا، للدكتور أحمد بزيع الياسين "الربا"، مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة الثالثة، المجلد الثالث، ص1822.

ص: 33

بالعرايا بالنص، فلا يجوز العدول به إلى غيره، ولذلك قال زيد بن ثابت: إن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّصَ بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غير ذلك (1).

ومع ذلك لم يجوِّز المفاضلة المتيقَّنة؛ بل سَوَّغَ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة (2).

بخلاف المساهمة والاستثمار في هذه الشركات؛ فالحاجة فيه إن وجدت فهي يسيرة لا تستدعي هذا القياس؛ وذلك لتعدد مجالات استثمار المال وطرق تنميته.

وأما النقل المذكور عن شيخ الإسلام، فهو من أبعد ما يكون عن هذه المسألة، وهو تحميل لقوله بما لا يحتمله، ولا يقوله رحمه الله؛ فإنَّه بَيِّنٌ أن الحاجة راجحة، وهي غير موجودة هنا، وبَيِّنٌ أن هذا الكلام يكون فيما فيه نوع غرر، لا فيما خالطه الربا المجمع على تحريمه، وشاع فيه؛ بل شدَّد في كل ما فيه ربا تشديدا بَيِّنًا لا يحتمل التأويل، كما شدد فيه القرآن، فقال رحمه الله:"وأكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان ذكرهما الله في كتابه هما: الربا والميْسِر؛ فذكر تحريم الربا الذي هو ضِدُّ الصَّدقة في آخر "سورة البقرة" و "سورة آل عمران" و "الروم" و "المدثر". وذم اليهود عليه في "سورة النساء" وذكر تحريم الميسر في "سورة المائدة".

وقال: "وأما الربا: فتحريمه في القرآن أشد، ولهذا قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر كما

(1) أخرجه البخاري في صحيحه 2/ 763 كتاب البيوع/ باب بيع المزابنة رقم 2072، ومسلم في صحيحه 3/ 1168، كتاب البيوع/ باب تحريم بيع الرطب بالتمر في العرايا رقم 1536.

(2)

مجموع الفتاوى 29/ 26.

ص: 34

خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم وصَدِّهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات، وكلاهما أمر مجرَّبٌ عند الناس".

وقال: ومفسدة الغرر أقل من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه؛ فإن تحريمه أشدُّ ضررًا من ضرر كونه غررًا؛ مثل بيع العقار جملة، وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس

فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره.

ولما احتاج الناس إلى العرايا أرخص في بيعها بالخرص ولم يجوِّز المفاضلة المتيقنة؛ بل سَوَّغَ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة إذا تَبَيَّنَ ذلك؛ فأصول مالك في البيوع أجود من غيره

والإمام أحمد موافق لمالك في ذلك في الأغلب؛ فإنهما يحرمان الربا ويشددان فيه؛ لما تقدم من شدة تحريمه وعِظَمِ مفسدته، ويمنعان الاحتيال عليه بكل طريق وإن لم تكن حيلة، وإن كان مالك يبالغ في سَدِّ الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه، أو لا يقوله، لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها

ففي الجملة: أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة وأصولها.

وقولهم في ذلك: "هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة، وتدل عليه معاني الكتاب والسنة"(1) اهـ، فهذا كلام الأئمة في منع الحيل عليه فكيف بالدخول الصريح فيه؟!

وأين في كلام شيخ الإسلام ما يدل على الربا وجواز الدخول فيه عند الحاجة؟!

(1) مجموع الفتاوى 29/ 22 - 31 ملخصا ومختصرا.

ص: 35

بل قال في القواعد النورانية: (فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية ـ هي ترك واجب أو فعل محرم ـ لم يحرم عليهم ....)، ووجود الربا في عقود هذه الشركات قرضا وإقراضا أليس معصية وفعلا محرما؟!!

7 -

إذا كانت الضرورة تقدر بقدرها، كإساغة اللقمة بالخمر لمن غص ولم يجد غيرها، وكإباحة الأكل من الميتة مما يسد الرمق، ولا يتجاوزه إلى الشبع لقوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فما بالك بالحاجة التي هي أدنى من الضرورة، هل يسوغ بأن تتعدى قدرها إلى أن تجعل تشريعا عاما (1).

وما ذكروه من أن حاجة الدولة تقتضي توجيه الثروة الشعبية إلى استخدامها فيما يعود على البلاد والعباد بالرفاهية والرخاء صحيح؛ فإنشاء الشركات، وتعدد أغراضها يحقق المصلحة للدولة، وللأفراد، وللمجتمع؛ لكن لا يتوقف هذا على التعامل بالربا؛ بل يتحقق بدونه.

وإقبال الناس الشديد على الاكتتاب في أسهم الشركات وتزاحمهم عليه، يؤكد ذلك أعظم تأكيد، ويبين عدم الحاجة إلى الاقتراض الربوي.

القاعدة الثالثة (2): اختلاط جزء محرم بالكثير المباح (3):

هذه المسألة ذكرها علماء الفقه والأصول، وتوصل غالبهم إلى القول بجواز التصرف في هذا المال المختلط إذا كان المحرم فيه قليلا، فيجوز بيعه وشراؤه وتملكه وغير ذلك من أنواع التصرفات الشرعية، وأسهم الشركات التي هي موضوع بحثنا من هذا النوع؛ فإن جزءا يسيرا

(1) حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، ص122.

(2)

من القواعد التي استدل بها المجيزون.

(3)

بحوث في الاقتصاد الإسلامي، ص231، الأسواق المالية ص210.

ص: 36

فيها حرام والباقي منها ـ وهو الكثير ـ مباح، وأصل الحرمة جاءت من أخذ التسهيلات الربوية أو إعطائها.

وفيما يلي بعض من نصوصهم في ذلك؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"الحرام إذا اختلط بالحلال فهذا نوعان:

أحدهما: أن يكون محرما لعينه كالميتة، فإذا اشتبه المذكَّى بالميت حُرِّما جميعا.

والثاني: ما حرم لكونه أُخذ غصبا، والمقبوض بعقود محرمة؛ كالربا والميسر؛ فهذا إذا اشتبه واختلط بغيره لم يحرم الجميع؛ بل يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه وهذا إلى مستحقه" (1).

ويناقش ما نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية على النحو الآتي:

1 -

قوله: أحدهما: "أني كون محرما لعينه كالميتة، فإذا اشتبه المذكى بالميتة حرما جميعا".

يناقش هذا الاستدلال: بأن فيه تجنيا على شيخ الإسلام، وتحميلا لأقواله ما لا تحتمله!

فأين في كلامه ما يدل على مشاركة من يرابي قرضا وإقراضا مع رضاه بذلك، وشيوع أرباح العقود الربوية واختلاطها بأمواله على وجه لا يمكن تمييزه، وهو الذي يرى وجوب التمييز، وهل يجتمع التمييز مع تركها مشاعة والاتجار بها على وجه الشيوع. اهـ.

2 -

وقوله: "ما حرم لكونه غصبا أو المقبوض بعقود محرمة كالربا والميسر"، يناقض بأنه لا دلالة فيه؛ لأنه إذا كان تمييزُ المحرم وإخراجه

(1) مجموع الفتاوى 29/ 276.

ص: 37

مطلوبا، فكيف يقال بجواز الدخول فيه، وقد نص الشارع على تحريمه؟!

وأما الجواب على ما استدلوا به لهذه القاعدة فيقال:

بأن ما نقلوه استدلالا لهذه القاعدة أو تطبيقا لها لا يخرج عن أمور:

1 -

إما أن تكون هذه النصوص لا دلالة فيها؛ كالمنقول عن شيخ الإسلام وابن القيم وابن رشد في كيفية التعامل مع المال إذا اختلط المباح منه بالحرام، وأنه لابد من تمييزهما، وأنهما لا يتركان على الشيوع والشركة، كما تقدم.

جاء في أحكام أهل الذمة: "إن عمر بن الخطاب قال: "ولوهم بيعها وخذوا أثمانها".

قال ابن القيم: "وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم جاز لهم شركتهم في ثمنه، وثمنه حلال؛ لاعتقادهم حله، (هذا معنى معاملتهم)، وما باعوه واشتروه بمال الشركة فالعقد فيه فاسد؛ فإن الشريك وكيل، والعقد يقع للموكل، والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير"(1)، وهذا يدل على فساد عقد شراء الأسهم المشتملة على الربا على كلام ابن القيم الذي حمَّلوا قوله ما لا يحتمله، ولا يقوله رحمه الله.

2 -

وإما أن تكون في مسائل خالفهم فيها غيرهم، ودلالة قول المجيزين ضعيفة، لا تنهض في مقاومة أدلة تحريم الربا الصريحة التي لا تفرق بين ما كان خالصا وبين ما كان مختلطا مع غيره، وبين ما كان كثيرا وما كان يسيرا مغموسا في الحلال؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:«ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع» (2)، فهو عام في وضع كل ربا، والمنع من عقده والدخول فيه.

(1) أحكام أهل الذمة 1/ 275.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 886 كتاب الحج/ باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم 1318 من رواية جابر بن عبد الله.

ص: 38

3 -

أن اليسير لا يمكن ضبطه، ويتغير بسرعة حسب خطط الشركة واستراتيجياتها؛ لأن من استباح استثمار المحرم القليل لا يمتنع عن الكثير؛ فإنه لا فرق بينهما عند من يعقد هذه العقود الربوية.

4 -

أن نظام الشركات في كل دولة ينص على وجوب اقتطاع جزء معين من الربح كـ 10 % كاحتياطي من الربح، وللجمعية العمومية للشركة أن توقف هذا الاقتطاع إذا بلغ الاحتياطي نصف رأس المال كما ينص عليه النظام السعودي التجاري؛ وهو مبالغ كبيرة جدا، والغالب استثماره في فوائد محرمة عند من يمارس أعمالا ربوية، ومن ثم فدعوى اليسير المحرم فيها نظر؛ لاسيما مع عدم الشفافية والوضوح في ميزانيات بعض الشركات، وسرعة تغيرها.

القاعدة الرابعة (1): للأكثر حكم الكل:

قد يعبر عن هذه المسألة بتعبير آخر وهو الحكم للأغلب، وهذه المسألة ذكرها علماء الفقه والأصول، وخرجوا عليها مجموعة من الجزئيات، ومنها بيع العبد وله مال، وبيع الحامل وغيرهما.

وفيما يلي جملة من نصوصهم في هذه المسألة:

قال البعلي الحنبلي:

الأكل من مال من ماله حرام هل يجوز أم لا؟

في المسألة أربعة أقوال

الثالث منها إذا كان الأكثر الحرام حرم، وإلا فلا؛ إقامةً للأكثر مقام الكل. قطع به ابن الجوزي في المنهاج. اهـ (2).

(1) من القواعد التي استدل بها المجيزون. انظر: بحوث في الاقتصاد الإسلامي، للشيخ عبد الله بن منيع، ص234 - 235، الاستثمار في الأسهم، د. علي القرة داغي، مجلة الفقه الإسلامي، العدد التاسع 2/ 83.

(2)

القواعد والفوائد، ص96 - 97.

ص: 39

وقال البهوتي:

لا يحرم ما كان من حرير وغيره إذا استويا ظهورا ووزنا، أو كان الحرير أكثر وزنا والظهور لغيره، وكذا إذا استويا ظهورا؛ لأن الحرير ليس بأغلب، وإذا انتفى دليل الحركة بقي أصل الإباحة. وقال أيضا: إن ما غالبه حرير ظهورا يحرم استعماله كالخالص؛ لأن الأكثر ملحَق بالكل في أكثر الأحكام. اهـ (1).

وقال الحصني الشافعي:

إذا رُكِّب الحرير مع غيره مما يباح استعماله كالكتان وغيره ما حكمه؟

يُنْظَر؛ إن كان الأغلب الحرير حرم، وإن كان الأغلب غيره حَلَّ؛ تغليبًا لجانب الأكثر؛ إذ الكثرة من أسباب الترجيح. اهـ (2).

ويمكن أن يكون من جزئيات هذه المسألة: بيع الشجر وعليه ثمره الذي لم يبد صلاحه؛ إذ لا يخفى أنه لا يجوز بيع الثمر إلا بعد بُدُوِّ صلاحه، ولكن لما كانت الثمرة تابعة للأصل، وهي قليلة القيمة، بجانب قيمة الأصل - جاز ذلك؛ إذ الحكم للأغلب، ويجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا، ولهذه المسألة جزئيات كثيرة في أبواب العبادات والمعاملات.

ونظرا إلى أن الغالب على الأسهم موضع البحث الإباحة، والحرام فيها قليل بالنسبة لإباحة غالبها، فإن تخريج حكم التعامل بهذه الأسهم بيعا وشراء وتملكا على المسألة الحكم للأغلب ظاهر لا يحتاج إلى مزيد من التوجيه والتحرير، وما قدَّمْناه من نصوص فقهية قد يكفي في القناعة بجواز تملك ذلك وبيعه وشرائه؛ ما دام الغالب والأكثر فيها مباحا.

ويناقش هذا الاستدلال من وجوه:

(1) كشاف القناع 1/ 281.

(2)

كفاية الأخيار 1/ 100.

ص: 40

1 -

أن هذا الكلام الذي ذكروه قاعدةً ليس على إطلاقه في كل شيء؛ فالخمر مثلا ولو كان قليلا جدا لا يجوز تناوله إذا اختلط بمباح وقد بقي أثره؛ فكذلك خلط الأموال بالأموال المحرَّمة واستثمارها معا، أو أخذ الفوائد عليها معا، وهذا أعظم وأخطر.

قال الغزالي: "والحرام المحض: هو ما فيه صفة محرَّمة لا يُشَكُّ فيها؛ كالشدة المطربة في الخمر، والنجاسة في البول، أو حصل بسبب منهيٍّ عنه قطعا كالمحصَّل بالظلم والربا ونظائره"(1).

2 -

قال الدكتور صالح المرزوقي (2):

"هذه القاعدة لم أجدها بهذا النص في كتب القواعد التي اطلعت عليها، ولم يحلنا الباحثون أصحاب هذا الرأي على المصادر التي تثبت أنها قاعدة، والراجح عندي أنها ليست كذلك، وأن الفقهاء يوردون هذا القول تعليلا لمسألة يعرضونها، وقريب منه في اللفظ قولهم: "العبرة للغالب الشائع لا للنادر".

وفرق بين هذه القاعدة، وذلك التعليل؛ فقاعدة:"العبرة للغالب الشائع لا للنادر" تُعَبِّرُ عن بعض شرائط العرف لكي يعتبر، وهي شرائط الغلبة والشيوع؛ بمعنى أن يكون حاصلا في أكثر الحوادث أو عند أغلب الناس، وأن يكون اشتهار العمل بذلك العرف وانتشاره بين الناس (3).

وإذا كان العرف - وهو من الأدلة المعتبرة ـ لا يصحُّ الاحتجاجُ به إذا صادم نَصًّا (4) فمن باب أولى عدم الاحتجاج بما ذكر أنه قاعدة

(1) إحياء علوم الدين 2/ 98.

(2)

حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، ص133.

(3)

المدخل الفقهي 2/ 874، ف504.

(4)

الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، للدكتور محمد صدقي البورنو، ص170 - 171.

ص: 41

شرعية وهي: للأكثر حكم الكل؛ لأنه صادم نصوص تحريم الربا.

وهي مردودة بقاعدة: "إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام"(1).

3 -

ما ذكروه من نصوص عن الفقهاء؛ فهو أبعد ما يكون عن الشركات المختلطة، وبيان ذلك:

أ- ما نقلوه عن البعلي الحنبلي من الأكل ممن في ماله حرام؛ فهو في الأكل وحرامه عليه هو، وأما مخالطتُه ومشاركتُه في الحرام، فهي مشاركة له في الحرام، وإقرار له بهذه المعاملة.

ب- ما نقلوه عن البهوتي؛ فيجاب عنه من وجهين:

1 -

أنه ليس محل اتفاق؛ بل من أهل العلم من يرى التحريم؛ لعموم أدلة تحريم الحرير.

2 -

أنه لا دلالة فيه أيضا؛ لأن الحرام متميزٌ عن الحلال، وخرج به عن مسمى الحرير المحرم؛ بخلاف هذه الشركات؛ فإن الأموال فيها مختلطة اختلاطًا شائعًا غير متميز؛ فالربا متأصلٌ فيها، وغير خارج عن مسماها؛ بل مؤثر في قوة استثمارها ومحرك له، وفيه دفع المال للبنوك، وأخذ للفوائد عليها، وهذا غير خلط الحلال بالحرام.

ج- وأما بيع الثمر، فأبعد ما يصلح للاستدلال؛ لأن البيع واقعٌ على الشجر، وهو المقصود بالبيع، والثمر جاء تبعا ولا أثر له؛ بخلاف العقود الربوية قرضا وإقراضا؛ فإنها أصيلة في هذه العقود ومقصودة منها؛ فالفرق بينهما كان بين المشرق والمغرب.

ومن ثم فالقول: "بأن تخريج حكم التعامل بهذه الأسهم بيعا

(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص150.

ص: 42

وتملكا وتمليكا على قاعدة الحكم للأغلب ظاهر لا يحتاج إلى مزيد من التوجيه والتحرير .... " هو من أبعد ما يكون عن هذه القاعدة لو سَلِمَتْ هذه القاعدة.

القاعدة الخامسة (1): ما لا يمكن التحرز منه فهو عفو:

هذه المسألة ذكرها علماء الفقه والأصول، وفرعوا عليها الكثير من الجزئيات في العبادات والمعاملات، واعتبروا ما ينطبق عليها من الأمور المعفو عنها (2) ....

ويناقش: بأن معنى القاعدة: ما لا يمكن التحرز منه - أي: لمشقته ولحوق الضيق والحرج والعنت بتركه - فهو معفوٌّ عنه؛ فهل الاتجار والاستثمار في هذه الشركات ينطبق تحت هذه القاعدة أصلا؟

هذا غير مسلَّم؛ لأنه يمكن التحرُّز من الربا المحرم بعدم الدخول فيه أصلا، وبعدم الدخول في هذه الشركات، والاقتصار على شركات مباحة، أو الاستثمار في مجالات أخرى غير الأسهم، وفي المباح غنية عن الحرام، وامتثال لأمر الله بالبعد عن الحرام والمتشابه، والاستدلال بهذه القاعدة غريب جدا، وكأنه لا يوجد إلا هذه الشركات يستثمر المسلم فيها أمواله.

أدلة القول الأول:

استدل أصحاب هذا القول بالأدلة الآتية:

أولا: من الكتاب:

1 -

آيات سورة البقرة:

{الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ

(1) من القواعد التي استدل بها المجيزون.

(2)

بحوث في الاقتصاد الإسلامي، ص235.

ص: 43

مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].

{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278].

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279].

في هذه الآيات بيَّن الله حالَ آكلِ الربا ومتعاطيه، وعقوبة من لم يتب منه، ثم أتبع ذلك بِحَثِّ عباده المؤمنين على التقوى، وبترك ما بقي من الربا، وحذَّر وآذن من استمر على الربا بحرب من الله ورسوله.

قال ابن كثير: ذكر الله أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال:{الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].

أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قياما منكرا.

وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق. رواه ابن أبي حاتم (1).

(1) تفسير ابن كثير 1/ 327.

ص: 44

وقال البغوي في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا} [البقرة: 275]؛ أي: الذين يعاملون به، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال (1).

وقال الزركشي: وترك الربا قاعدة الأمان، ومفتاح التقوى، ولهذا قال:{اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 279]، ويشتمل على أنواع الحرام، وأنواع الخبائث، وضروب المفاسد، وهو نقيض الزكاة، ولهذا قوبل بينهما في قوله:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، واجتنابه أصل في التصرفات المالية (2).

وقال الشنقيطي: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276]: صَرَّح في هذه الآية الكريمة بأنه يمحق الربا؛ أي: يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله، فلا ينتفع به، كما قال ابن كثير وغيره، وما ذكر هنا من محق الربا أشار إليه في مواضع آخر كقوله:

{وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39]، وقوله:{وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37](3).

واعلم أن الله صرح بتحريم الربا بقوله:

{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وصرح بأن المتعامل بالربا محارب من الله بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278].

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279].

(1) تفسير البغوي 1/ 261.

(2)

البرهان في علوم القرآن 1/ 409.

(3)

أضواء البيان 1/ 160.

ص: 45

وصرح بأن آكل الربا لا يقوم ـ أي: من قبره يوم القيامة ـ إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسِّ؛ بقوله:

{الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].

وأختم هذه النقول بقول الإمام الطبري؛ فإن فيه ردًّا على من قال بجواز المشاركة بهذه الشركات، ثم تطهير هذه المشاركة بإخراج ما فيها من مكاسب وفوائد ربوية.

قال الإمام الطبري:

فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله، أيستحق هذا الوعيد من الله؟

قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل؛ إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الآية يوم نزلت، كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا؛ فذكَّرهم بصفتهم، معظمًا بذلك عليهم أمر الربا، ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم، وفي قوله جل ثناؤه:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

} الآية. [البقرة: 278 - 279]- ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا، وأنَّه سواء العمل به وأكله وأخذه وإعطاؤه، كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:

«لعن الله آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه إذا علموا به» (1).

(1) تفسير الطبري 3/ 103.

ص: 46

2 -

آيات سورة آل عمران:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130].

في هذه الآية النهي الصريح عن تعاطي كل أنواع الربا؛ لأن "أل" لاستغراق الجنس، وبيان عاقبة متعاطيه بالخزي في نار جهنم؛ لأن الكاتب وكذلك الشاهد إذا كانا ملعونين، فمن يخلط ماله بمال من يرابي أو يدفع ماله لشركة تدفعه للبنوك وتأخذ عليه فوائد ربوية - أشد لعنا من باب أولى.

قال الآلوسي: "خص الربا بالنهي لأنه كان شائعا إذ ذاك، وللاعتناء بذلك لم يكتف بما دل على تحريمه مما في سورة البقرة؛ بل صرح بالنهي وساق الكلام له أولا وبالذات؛ إيذانًا بشدة الخطر.

والمراد من الأكل الأخذ، وعبر به عنه لما أنه معظم ما يقصد، ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة التشنيع (1).

وقال القرطبي: "وإنما خُصَّ الربا من بين سائر المعاصي لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، والحرب يؤذن بالقتل؛ فكأنه يقول: إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم؛ فأمرهم بترك الربا لأنه كان معمولا به عندهم، والله أعلم (2).

وقال النسفي: هذا نهي عن الربا؛ مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه؛ كان الرجل منهم إذا بلغ الدَّيْنُ محلَّه يقول: إما أن تقضي حقي أو تربي وتزيد في الأجل.

واتقوا الله في أكله لعلكم تفلحون، واتقوا النار التي أعدت للكافرين؛ كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول:

(1) روح المعاني 4/ 55.

(2)

تفسير الطبري 4/ 202.

ص: 47

هي أخوف آية في القرآن؛ حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدَّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه (1).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:

قال سبحانه: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]؛ فأمر سبحانه المؤمنين أن لا يأكلوا الربا، وأن يتقوا الله، وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين؛ فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي، مع أنها معدة للكافرين لا لهم .... (2).

وقال: فإن الله بيَّنَ بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره

وأن الربا يبطل العمل، وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أي: في ذلك العمل ونحو ذلك (3).

وقال الشوكاني: "يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة، وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها؛ فقال تعالى:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].

قوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم؛ قال كثير من المفسرين: وفيه أنه يكفر من استحل الربا.

وقيل: معناه: اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار،

(1) تفسير النسفي 1/ 178.

(2)

كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير 15/ 368.

(3)

المرجع نفسه 12/ 348.

ص: 48

وإنما خص الربا في هذه الآية الذي توعد الله عليه بالحرب منه لفاعله" (1).

وقال الأندلسي: "وحكى الماوردي وغيره عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن أكلة الربا إنما توعدهم الله بنار الكفرة؛ إذ النار سبع طبقات: العليا منها - وهي جهنم - للعصاة، والخمس للكفار، والدرك الأسفل للمنافقين؛ قالوا: فأكلة الربا إنما يُعَذَّبون يوم القيامة بنار الكفرة، لا بنار العصاة، وبذلك توعدوا؛ فالألف واللام على هذا في قوله واتقوا النار إنما هي للعهد"(2).

ثانيا: من السنة النبوية:

دلت أحاديث كثيرة على عظم الربا عند الله وشدة عقوبته، من غير تفريق بين الكثير منه والقليل، وبين الآخذ منه والمعطي له، والمتسبب فيه، وشدة خطورته على المجتمع والأمة إذا تفشى فيها، كما هو الحال الآن، ومن هذه الأحاديث:

1 -

ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات!» ، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (3).

(1) فتح القدير 1/ 381.

(2)

المحرر الوجيز 1/ 507.

(3)

أخرجه البخاري، في كتاب الوصايا، باب قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 101]، رقم الحديث (2615)، 3/ 1017، وفي كتاب الحدود، باب رمي المحصنات، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكيدها، رقم (89) 1/ 92.

ص: 49

2 -

عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فردَّه حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا» (1).

3 -

عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» (2).

4 -

وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل» (3).

(1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب آكل الربا وشاهده وكاتبه، رقم (1979) 2/ 734.

(2)

أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، رقم (2275) 2/ 765 بلفظ "الربا ثلاثة وسبعون بابا". وقال الألباني: صحيح، والحاكم في كتاب فضائل القرآن. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، رقم (2259) 2/ 43 واللفظ له، والبيهقي في الشعب، باب في قبض اليد عن الأموال المحرمة، رقم (5519) 4/ 392 وقال: هذا إسناد صحيح والمتن منكر بهذا الإسناد ولا أعلم إلا وهما وكأن دخل لبعض رواة الإسناد في إسناده.

(3)

أخرجه الحاكم في كتاب فضائل القرآن وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ولم يخرجاه، رقم (2262) 2/ 43، وأحمد في مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، رقم (3754) 1/ 395، قال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح، وأبو يعلى مسند عبد الله بن مسعود، رقم ..... ، والطبراني طرق حديث عبد الله بن مسعود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (10538) 10/ 223، والبزاز، أو مسند عبد الله بن مسعود، رقم (2042) 9/ 411، والبيهقي في الشعب، باب قبض اليد عن الأموال المحرمة، رقم (5511) 4/ 392.

ص: 50

5 -

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآخذ والمعطي سواء في الربا» (1).

6 -

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا» (2).

7 -

عن عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام» (3).

8 -

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيما: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه» (4).

(1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت

»، أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، رقم (2273) 2/ 763، قال الألباني: ضعيف. وابن شيبة في كتاب المغازي حديث المعراج حين أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم، رقم (36574) 7/ 335، وأحمد في مسند بني هاشم، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، رقم (8625) 2/ 353، قال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف.

(2)

أخرجه الحاكم في كتاب فضائل القرآن، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، رقم (2307) 2/ 56.

(3)

أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم (2682) 3/ 124، والدارقطني في كتاب البيوع، رقم (48) 3/ 16، وأحمد في مسند الأنصار رضي الله عنهم، حديث عبد الله بن سلام، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، وعطاء الخراساني لم يسمع من ابن سلام، والمنذري في الترغيب والترهيب، رقم (1159) ج1، وقال الألباني: ضعيف.

(4)

أخرجه الحاكم في كتاب فضائل القرآن، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، رقم (2260) 2/ 43، والبيهقي في الشعب، باب في قبض اليد عن الأموال المحرمة، رقم (5530) 4/ 397.

ص: 51

9 -

عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى الثمرة حتى تطعم، وقال:«إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» (1).

10 -

وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل» (2).

11 -

عن عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسَّنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب» (3).

وإذا كانت تلك الأحاديث قد دلت على عظم الربا وشدة عقوبته وخطورته على الأمة، فقد دلت أحاديث أخرى على شمول العقوبة لكل متعاط للربا، أخذا وإعطاء، بل وإعانة، حتى ولو بكتابة أو شهادة.

1 -

عن جابر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: «هم سواء» (4).

ورواه مسلم أيضا من حديث ابن مسعود والبيهقي عن علي.

وروى البخاري عن أبي جحيفة قال: لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواشمة، والمستوشمة، وآكل الربا وموكله (5).

(1) أخرجه الحاكم في كتاب البيوع رقم 2261 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه 2/ 43.

(2)

قال الهيثمي: رواه أبو يعلى وإسناده جيد رقم 6581، مجمع الزوائد 4/ 2130.

(3)

أخرجه أحمد في مسند الشاميين بقية حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (17856) 4/ 205، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف جدا، عبد الله بن لهيعة سيئ الحفظ.

(4)

أخرجه مسلم في كتاب المساقاة/ باب لعن آكل الربا ومؤكله رقم 1598، 3/ 1219.

(5)

أخرجه البخاري في كتاب البيوع/ باب موكل الربا رقم 1980، 2/ 735.

ص: 52

فهذا الحديث نص صريح في تحريم المشاركة في هذه الشركات، أو المضاربة في أسهمها من وجهين:

أحدهما: أنه صرح بلعن الآكل وهو الآخذ، والموكل وهو المعطي؛ فيدخل في عمومه كل معط للربا، ومن يقدم ماله في هذه الشركات فهو معط أو آخذ.

الثاني: أنه أدخل في اللعن الكاتب والشاهد، وفي هذا تنبيه على دخول كل من يشارك في الربا بأي نوع مشاركة أو إعانة.

ودخول من يقدم أمواله لهذه الشركات لتودع جزءا منها مقابل فوائد ربوية من باب أولى؛ لأنه معط للربا.

وكذلك من يشارك بأمواله من يقترض أموالا ربوية، وتخلط هذه الأموال معا، وتستثمر في نشاط هذه الشركة وتدفع الفوائد على هذه القروض من مجموع الأموال؛

حتى ولو أراد التطهير، فإن هذا لا يخرجه عن عموم هذا اللعن والتحريم.

قال ابن القيم: "إن الربا لم يكن حراما لصورته ولفظه، وإنما كان حراما لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع؛ فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة ركبت، وبأي لفظ عبر عنها؛ فليس الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له"(1).

ثم بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الربا تفشَّى في هذه الأمة، ولعل الواقع يدل على ذلك، وأن الإنسان سيأخذ المال غير مبال ممن أصابه أو اكتسبه، ثم عاقبة أمره إلى قلة وخسار:

(1) إعلام الموقعين 3/ 148.

ص: 53

1 -

فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا فإن لم يأكله أصابه من بخاره» . قال ابن عيسى: «أصابه من غباره» (1).

2 -

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام» .

3 -

وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل» (2).

ثالثا: الآثار عن الصحابة:

كثيرة منها:

1 -

روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22]، قال: أمثالهم الذين هم مثلهم يجيء أصحاب الربا مع أصحاب الربا

) (3).

2 -

قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه لرجل: إنك بأرضٍ الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى

(1) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات، رقم (3331) 3/ 323. قال الألباني: ضعيف، وابن ماجة في كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، رقم (2278) 2/ 765، والحاكم في كتاب فضائل القرآن، وقال: وقد اختلف أئمتنا في سماع الحسن عن أبي هريرة فإن صح سماعه منه، فهذا حديث صحيح، رقم (2162) 2/ 13. أقول: لكنه لم يثبت سماعه.

(2)

سبق تخريجه ص 50.

(3)

أخرجه الحاكم في كتاب التفسير، تفسير سورة الصافات، رقم (3609) 2/ 467، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، قال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور في تفسير سورة الصافات: الآية 22 (بالزيادة الموجودة).

ص: 54

إليك حمل تبن، أو حمل شعير أو حمل قت، فلا تأخذه، فإنه ربا (1).

ووجهه: أن الهدية إذا كانت من أجل حق في الذمة من باب الربا، ونهى عنها رضي الله عنه، فدفْع المال لمن يربي فيه أو يخلطه بأموال ربوية وينميها ويستثمرها أولى بالنهي وأشد وقوعا في الإثم والحرام.

3 -

قال ابن مسعود: (ما هلك قوم إلا وقد فشا فيهم الربا والزنا)(2).

4 -

أن رجلا سأل ابن عباس: هل يشارك اليهودي والنصراني؟ فقال: (لا تفعل؛ فإنهم يربون والربا لا يحل)(3).

ووجهه: أنه نهاه عن المشاركة، وعلَّلَ النهي بأنهم يربون، والربا قد يوجد منهم في حال الشركة، وقد لا يوجد، فكيف بمن يقدِّم أمواله لشركة ترابي فيها، وتأخذ عليه فوائد ربوية، أو تخلطها بأموال اقترضتها بفوائد ربوية، أليس أولى بالنهي وأصرح بالتحريم وأنه لا يحل؟!

(1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، رقم (3603) 3/ 1388.

(2)

أخرجه المروزي، ذكر السنن التي هي تفسير لما افترضه الله مجملا، رقم (177) 1/ 180، والداني، باب ما جاء فيما ينزل من البلاء ويحمل من العقوبة، رقم (323) 1/ 379، وفي مسند أحمد:«ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله» . عن عبد الله بن مسعود، قال البيهقي في مجمع الزوائد 4/ 118: رواه أبو يعلى وإسناده جيد، رقم (9768)، وقال الألباني في غاية المرام: حسن، وفي صحيح الجامع، رقم (5510).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب البيع والأقضية في مشاركة اليهودي والنصراني، رقم (19980) 4/ 268، والبيهقي في كتاب البيوع، باب كراهية مبايعة من أكثر ماله من الربا أو من المحرم، رقم (10604) 5/ 335.

ص: 55

وبمثل فتوى ابن عباس أفتى طائفة من التابعين؛ منهم عطاء، وابن سيرين، وطاووس، ومجاهد، والضحاك (1).

رابعا: الأدلة من الاعتبار والنظر المبني على الأثر:

1 -

القاعدة المعروفة: (الشك في التساوي كتحقق التفاضل).

فإذا كان مجرد وجود شك في تساوي البدلين يمنع من صحة المعاملة بحيث يلحقها فيما تحقق فيه التفاضل ـ كما تدل على ذلك أدلة تحريم المزابنة والمحاقلة (2)؛ فوجود الربا المحقق من باب أولى؛ كما في أسهم الشركات التي تقترض بفوائد، أو تودع أموال المساهمين أو الفائض منها في البنوك وتأخذ عليها فوائد ربوية، وأموال المساهمين شائع بعضها في بعض لا يمكن تمييزه؛ فالمساهمة في مثل هذه الشركات أو المضاربة بأسهمها تمكين لهذه الشركات من تشغيلها بفوائد ربوية، أو خلطها بأموال مقترضة بفوائد ربوية؛ فالربا متأصل فيها من كل ناحية.

2 -

كل عقد يدخله الربا فهو باطل أو فاسد باتفاق المذاهب، وبطلانه أو فساده من وجهين:

الوجه الأول:

أنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد إذا عاد إلى ذات المنهي عنه، أو وصفه الملازم له، وهو هنا قد عاد إلى وصف الملازم ـ وهو الربا ـ

(1) مصنف ابن أبي شيبة 4/ 296.

(2)

كحديث أبي سعيد: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة» ، والمزابنة: اشتراء التمر بالتمر في رؤوس النخل. أخرجه البخاري 2/ 763، كتاب البيوع، باب بيع المزابنة، ومسلم في صحيحه 3/ 1179، حديث رقم (1546)، وحديث جابر:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة» ، والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل معلوم. أخرجه مسلم 3/ 1175، حديث رقم (1536).

ص: 56

لاسيما وقد اقترن به ما يدل على الفساد، وهو عدم ثبوت الملك ووجوب الرد، كما تقدم في الآيات السابقة.

قال القرطبي: التاسعة عشر: عقد الربا مفسوخ، لا يجوز بحال؛ لما رواه الأئمة، واللفظ لمسلم عن أبي سعيد قال: جاء بلال بتمر بَرْنِيٍّ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا؟» فقال بلال: تمرٌ كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله عند ذلك: «أوه، عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به» . وفي رواية: «هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا» .

قال علماؤنا: فقوله: «أوه عين الربا» ، أي: هو الربا المحرم نفسه، لا ما يشبه، وقوله:«فردوه» يدل على وجوب فسخ صفقة الربا، وأنها لا تصح بوجه، وهو قول الجمهور (1).

وقال ابن حجر معلقًا على حديث: «من عمل عملا ليس علينا أمرنا فهو رد» .... قال: "وفيه رد المحدثات وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيَّات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها"(2).

قال في اللمع: (فصل: والنهي يدل على فساد المنهي عنه في قول أكثر أصحابنا)(3).

الوجه الثاني:

أنه قد اختل شرط من شروط صحة العقد؛ وهو أن يكون المعقود عليه مباحا؛ وهو ما يعبر عنه الفقهاء: "أن تكون العين المعقود عليها أو على منفعتها مباحة النفع مع غير حاجة"، والربا محرم بالإجماع، وأدلة تحريمه من الكتاب والسنة صريحة قطعية متواترة، والشركات التي تودع

(1) تفسير القرطبي 3/ 358.

(2)

الفتح: 5/ 303.

(3)

1/ 25. وانظر: المستصفى 1/ 221، وتحقيق المراد 1/ 74، 91 - 92.

ص: 57

أو تقترض بفوائد قد اختلت عقودها؛ لفقدانها هذا الشرط وهو الإباحة.

والعقود الفاسدة لا يثبت فيها الملك، ولا يصح التصرف فيها، قال في الإنصاف (1):"المقبوض بعقد فاسد لا يملك به، ولا ينفذ تصرفه على الصحيح من المذهب". جزم به المصنف والشارح وغيرهما وقدمه في الفروع وغيره.

وقال في المغني: "فأما ما يشتريه أو يبيعه من الخمر بمال الشركة أو المضاربة، فإنه يقع فاسدا، وعليه الضمان؛ لأن عقد الوكيل يقع للموكل، والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير، فأشبه ما لو اشترى به ميتة، أو عامل بالربا".

وقال في بدائع الصنائع (2): "ولأن اشتراط الربا في البيع ونحو ذلك معصية، والزجر عن المعصية واجب، واستحقاق الفسخ يصلح زاجرا عن المعصية؛ لأنه إذا علم أنه يفسخ فالظاهر أنه يمتنع عن المباشرة"، وقال فيه:"والملك الخبيث لا يفيد إطلاق الانتفاع؛ لأنه واجب الرفع"(3).

3 -

أن الشارع حرم الربا من كل وجه، وحرم كل وسيلة أو فعل يتوصل به إلى الربا، كما في بيع العينة (4)

ونحوها؛ فلاشك أن تحريم

(1) 4/ 362.

(2)

5/ 300.

(3)

وفي البحر الرائق 5/ 282 ومنها ـ أي شروط البيع ـ الخلو عن شبهة الربا. وفي الدر المختار: وبطل بيع مال غير متقوم أي غير مباح الانتفاع به 52/ 55.

(4)

انظر: فتح القدير لابن الهمام 7/ 148، البحر الرائق 6/ 216، القوانين الفقهية لابن جزي 1/ 171، إرشاد الفحول 1/ 412 - 413، وبيع العينة مأخوذ من العين وهو المال الحاضر؛ لأنه يبيع به، وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة.

وفي الاصطلاح: هو أن يبيع الرجل من الرجل السلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. انظر: تفسير القرطبي 2/ 59، الدر المختار 5/ 325، فتح الباري 4/ 401، الكافي لابن قدامة 2/ 25، الإنصاف 4/ 335، الدراري المضيئة 1/ 208، سبل السلام 3/ 42، التعريفات 1/ 69. ويطلق عليها المالكية بيوع الآجال. انظر: الكافي لابن عبد البر 1/ 325، الشرح الكبير للدردير 3/ 76.

ومن أدلة تحريم بيع العينة: حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم» .

وما رواه أبو إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت: يا أم المؤمنين، إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وأني ابتعته منه بتسعمائة درهم نقدا، فقالت عائشة: بئسما اشتريت وبئسما شريت، أخبري زيدا أن قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب.

ص: 58

العقد المتصل به الربا من باب أولى، وهو آكد وأقطع في التحريم، ومن ذلك هذه الأسهم محل البحث.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكر بعض الحيل الربوية: (فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا

)، ثم قال:(ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة، ذكرنا منها نحو ثلاثين دليلا .... ومن ذرائع ذلك مسألة العينة)(1).

وقال الشيخ عبد الله بن بيَّه: (وتحريمه من باب تحريم المقاصد وتحريم الوسائل؛ أما تحريم المقاصد فلأنه ممارسة للربا في شكل بيوع فاسدة، وتعاطي البيع الفاسدة في حد ذاته محرم مهما كانت نية المتعاطي في جبره.

قال السيوطي: "تعاطي البيوع الفاسدة حرام"(2)، وممنوعة منع الوسائل والآلات؛ لأنها تعاون على الإثم؛ قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

لأنها وسيلة إلى استمراء الربا والانغماس في حمأته، وقد يؤول

(1) مجموع الفتاوى 29/ 28 - 30 ملخصا.

(2)

الأشباه والنظائر، ص287.

ص: 59

الأمر إلى ورثة لا يهتمون حتى بإخراج الأرباح الناشئة عن "المعاملات الربوية"(1) أو لا يعلمون بها وبمقدارها (2).

الترجيح:

القول الأول هو القول الراجح الذي تدل على قوته ورجحانه الأدلة من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة فمن بعدهم؛ بل إن حديث جابر في لعن آكل الربا، ومؤكِله، وكاتبه، وشاهديه (3) نص ـ فيما يظهر لي والله أعلم ـ على التحريم؛ فإذا كان كاتب الربا والشاهد عليه ملعون بنص هذا الحديث، فما الحال فيمن يقدِّم ماله لشركة تتاجر فيه، أو بجزء منه بالفوائد الربوية أو تخلطه بمال ربوية تتاجر فيه؟!

إضافة إلى قوة الأدلة التي استدل بها لهذا القول، مع مناقشة جميع أدلة القول الثاني القائل بالجواز، وعدم سلامتها، وبقائها بعد المناقشة في مقابل أدلة القول بالتحريم.

ولو لم يكن في قول القائلين بالجواز إلا وجود الشبهة في هذا القول لكان كافيا، كما صرح بذلك كثير منهم، وقالوا بوجوب تحري الكسب الطيب والبعد عن الخبيث، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك.

وفي حديث النعمان بن بشير تأكيد لهذا المعنى؛ قال رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما مشبَّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن

(1) توضيح أوجه اختلاف الأقوال في مسائل من معاملات الأموال، ص58 - 59.

(2)

وقد ذكر الأستاذ إبراهيم السكران في بحثه: "الأسهم المختلطة" أدلة لهذا القول، وأورد عليها بعض المناقشات

وقد قمت بالتعليق على هذا البحث في مبحث مستقل، ونظرا لطول هذا التعليق فقد جعلته في ملحق في آخر البحث قبل الخاتمة.

(3)

سبق تخريجه ص52.

ص: 60

وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه» (1).

قال الشيخ عبد الله بن بيه (2): (ولم نجد نقلا يجيز الدخول معه في شركة مع العلم بأنه يتعاطى الربا، ولا نعلم أحدا أقرَّه على الاشتراك معه إذا اكتشف ذلك التعامل؛ لأنه لا يجوز أن يبقى المسلم متلبسا بمعاملته الربوية ليدفع قسطا من أرباحه تخلصا من الحرام، وإنما يجب أن يكون دفع هذا القسط علامة على التوبة على أن لا يعود؛ قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92].

ولتأكيد وتأصيل ما ذهبنا إليه نذكر ثلاثة قواعد في شكل مبادئ:

المبدأ الأول: إن الشريك يده هي نفس يد الآخر؛ بحيث أن أي عمل يعمله الآخر بالشركة هو عمله هو، لا فرق بينهما، أشار إلى ذلك ابن قدامة، فهو وكيل عنه.

المبدأ الثاني: هو شيوع الحرام في مال الشركة، مما يجعلها متلبسة بالحرام، حتى ولو أعطى قسطا من الربا؛ حيث يظل ماله مخلوطا ببقية مال الشركة الذي ينتشر فيه الحرام؛ فإن ذلك لا يطهره؛ لأن المعاملات الربوية هي معاملات فاسدة، وبالتالي فإن المال مرهون بمعاملات فاسدة ينتشر فيها الحرام.

المبدأ الثالث: إن الشركة كالوكالة، والوكالة لا تجوز على محرم، قال السيوطي:"قاعدة: من صحت منه مباشرة الشيء صح توكيله فيه غيره وتوكله عن غيره، وإلا فلا"(3).

(1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع/ باب الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات رقم 1946، 2/ 723، وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات رقم 1599، 3/ 1219

(2)

توضيح أوجه اختلاف الأقوال في مسائل من معاملات الأموال، ص56 - 58.

(3)

الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص463.

ص: 61