الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخذا بتلك العمومات المانعة المحكمة، ومفسدة الولوغ في الربا وأثره السيئ على الأفراد والمجتمعات أعظم من أن تدفع بمجرد احتمالات ودعاوى لا وجود لها عند التحقيق، وفي واقع الأمر. والله أعلم.
القسم الثاني: الشركات غير المؤثرة:
كالشركات الصغيرة في حجمها، أو في إنتاجها، أو في تأثيرها في السوق واقتصاد البلد، ومساهمة غير المواطنين لا تؤثر سلبا، ولو وجد مفسدة فهي قليلة ومغمورة لا تعادل مفسدة الولوغ في الربا من أجل درئها؛ فإنه لا يجوز الدخول فيها لعدم قيام الأسباب المؤثرة التي تراعى فيها المصالح وتدرأ فيها المفاسد، وتَمَسُّكًا بتلك العمومات المحكمة الصريحة في المنع من كل ربا قليلا كان أو كثيرا.
* * * * *
المسألة الثالثة: إذا دخل في شركة، ثم تبيَّن له وجود استثمار محرم فيها
إذا دخل في شركة تستثمر في محرم فعليه الخروج منها متى علم بالمحرم؛ لكن إن دخل فيها بمقتضى فتوى أو قول لمن يثق بعلمه ودينه ثم أراد الخروج، فإنه يخرج منها ويتخلص فقط ما فيها من فوائد ربوية؛ لأنها حرام بالنصوص المتقدمة.
وهذا الذي أراده شيخ الإسلام بتلك النصوص التي نقلها القائلون بجواز الاستثمار في هذه الأسهم، يقول رحمه الله: (ما حرم لكونه غصبا أو المقبوض بعقود محرمة كالربا والميسر، فهذا إذا اشتبه واختلط بغيره لم يحرم الجميع؛ بل يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه،
وهذا إلى مستحقه) (1).
وما عدا ذلك من أرباح فإنها تطيب له، قال شيخ الإسلام:(.... وهكذا من كان قد عامل معاملات ربوية يعتقد جوازها، ثم تبين له أنها لا تجوز، وكانت من المعاملات التي تنازع فيها المسلمون، فإنه لا يحرم عليه ما قبضه بتلك المعاملة على الصحيح)(2).
وقال في موضع آخر: (وما اكتسبه الرجل من الأموال بالمعاملات التي اختلفت فيها الأمة - كهذه المعاملات المسؤول عنها وغيرها - وكان متأولا في ذلك، ومعتقدا جوازه لاجتهاد، أو تقليد، أو تشبُّه ببعض أهل العلم، أو لأنه أفتاه بذلك بعضهم، ونحو ذلك - فهذه الأموال التي كسبوها وقبضوها ليس عليهم إخراجها؛ وإن تبين لهم بعد ذلك أنهم كانوا مخطئين في ذلك، وأن الذي أفتاهم أخطأ؛ فإنهم قبضوها بتأويل، فليسوا أسوأ حالا مما اكتسبه الكفار بتأويل باطل.
لكن عليهم إذا سمعوا العلم أن يتوبوا من هذه المعاملات الربوية، ولا يصلح أن يقلد فيها أحدا ممن يفتي بالجواز
…
) (3).
وإن كان قد دخل بها وهو يعلم أنها تستثمر في محرم غير آخذ بقول أو فتوى ترى الجواز، فيجب عليه التخلص مما فيها من فوائد ربوية (4)
كما تقدم، وما عدا ذلك من أرباح فقيل: يتخلص منها. لأنه
(1) مجموع الفتاوى 29/ 276.
(2)
مجموع الفتاوى 29/ 267.
(3)
29/ 443 - 445.
(4)
وذهب بعض أهل العلم إلى عدم وجوب التخلص من هذه الأرباح المتجمعة من الفوائد، لقوله تعالى:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275]، ووجهه: أن الله قد عفى عما سلف، والمحرم ما لم يقبض من المستدين ونحوه وإن كان الأفضل في حقه التخلص منه.
وجماهير أهل العلم على وجوب التخلص من الربا لعموم: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]، ووجهه: أنه تعالى قصر الحق على رأس المال، وقول الجمهور أحوط وأبرأ، وقالوا: إن معنى {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] أي: مما أكل وأخذ قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك، ويؤيد ذلك الأثر عن عائشة في قصة أم ولد زيد بن أرقم ـ المتقدمة ص59. انظر: تفسير الطبري 3/ 101، وابن كثير 1/ 436، تفسير أبي مسعود 1/ 266، تفسير النسفي 1/ 134.
دخل عالما بالتحريم معتقدا بطلان عقده، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (1)، ومشاركة من يرابي ليس عليها أمر الله ورسوله؛ فتكون مردودة مع ما يترتب عليها؛ لأن ما نشأ عن باطل فهو باطل.
قال في الإنصاف (2): المقبوض بعقد فاسد لا يملك به ولا ينفذ تصرفه على الصحيح من المذهب، جزم به المصنف والشارح وغيرهما وقدمه في الفروع وغيره (3).
ومقتضى قول شيخ الإسلام المتقدم: (المقبوض بعقود محرمة كالربا والميسر إذا اشتبه واختلط بغيره لم يحرم الجميع؛ بل يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه وهذا إلى مستحقه). مقتضى هذا القول: أن الأرباح الناشئة في أمواله من غير فوائد ربوية - أنها تطيب له؛ لأن أصل كسبها حلال وطيب.
(1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، رقم (3243)، وأخرجه هو والبخاري بلفظ:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» . صحيح البخاري، كتاب الصلح، رقم (2499)، وصحيح مسلم، كتاب الأقضية، رقم (3242).
(2)
4/ 362.
(3)
انظر: بدائع الصنائع 4/ 582، 585، البحر الرائق 5/ 277، المغني 5/ 109، تفسير القرطبي 3/ 355 - 356.
وهذا القول هو الراجح فيما يظهر؛ بناء على هذا الأصل؛ لكن يخرج شيئا من هذا الكسب إن كانت الشركة اقترضت قروضا ربوية، واستثمرتها مع أموال المساهمين؛ لأن الربح ناشئ من مجموع هذه الأموال، ولو خسرت الشركة لدفعت الفوائد على القروض من مجموع هذه الأموال، وهذا المخرج تطييب لكسبه وإبراء لذمته.
* * * * *