المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ويستثنى من القاعدة مسائل

ثم على الجملة قلت: أراه بدلا عن القراءة، وإذا لم يكن بدلا فالتحريك الكثير يلحق بالفعل الكثير انتهى.

ومنها لو خاف الجنب -من الخروج من المسجد- على نفس أو مال يلبث، ووجب عليه التيمم -إن وجد غير تراب المسجد.

صرح به القفال والأستاذ أبو منصور وصاحب التتمة وأفهمه كلام الرافعي في "الشرح الكبير"، وصر به النووي في الروضة، ووجهه أن أحد الطهورين وهو التراب ميسور فلا يسقط المعسور.

ووقع في عبارة الرافعي في "الشرح الصغير"، في هذه المسألة أنه يحسن ويتعين تأويلها، لئلا تخالف النقل والعقل.

فإن قلت: يؤيد ظاهرها -الشاهد لعدم الموجود- قول القاضي أبي الطيب فيمن أحدث ومعه مصحف -ولم يجد الماء وهو قادر على التراب- أن له حمله من غير تيمم.

قلت: وقد أفتى القفال في هذه الصورة أيضا بأنه يتيمم؛ فلم يكن قول القاضي أبي الطيب مسلما.

ثم أقول: كلام القاضي محمول على من المصحف في يده فلم يغتفر إلقاؤه على الأرض لأجل الطهارة الكبرى. وإذا حمل على المصحف في يده لم يكن كمسألة الجنب في المسجد.

ومنها: إذا وجد مانع من الجماع -طبيعي- في الزوج بعد مضي المدة المحسوبة في إيلاء كمرض لا يقدر معه على الوطء؛ فيطالب بالفيئة باللسان أو الطلاق إن لم يفئ.

ومنها: من اجتمع عليه قتله وصلب فمات ففي وجوب صلبه وجهان.

ص: 158

"‌

‌ويستثنى من القاعدة مسائل

":

منها: إذا لم يجد المظاهر إلا بعض رقبة عدل إلى البدل.

منها: الشفيع إذا وجد بعض ثمن الشقص لا يأخذ قسطه من الشقص.

ص: 158

ومنها: إذا قال الموصي: اشتروا ثلثي رقبة وأعتقوها فلم يجد رقبة لا يشتري الشقص.

ومنها: أوصى بشراء -رقاب وعتقهم فلم يتيسر إلا اثنان وشقص لم يشتر الشقص- على الأصح- عند الرافعي والنووي، وخالفهما ابن الرفعة والوالد.

ومنها: لو لم يجد المحدث إلا ثلجا أو بردا -لا يقدر على إذابته- وجب استعماله على المذهب. وقيل: يجب، فيتيمم على الوجه واليدين، ثم يمسح به الرأس. ثم يتيمم على الرجلين.

قاعدة: إذا تضمن الشيء الخروج من أمر فلا يتضمن الدخول في مثله، وإن شئت قل: الشيء الواحد لا يتضمن الخروج والدخول في شيء واحد أو: الشيء الواحد لا يتضمن قطع الشيء ووصله.

أو الشيء الواحد لا يحصل به الفسخ والعقد جميعا. وهذه عبارة الرافعي ذكرها عند الكلام في بيع المبيع في زمن الخيار ومن ثم مسائل:

منها: لو كبر للإحرام للصلاة ثم كبر ثانية أو أكثر قاصدا بكل واحدة من تكبيراته -تكبيرة الإحرام؛ فإن صلاته تنعقد بالأوتار وتبطل بالإشفاع، فإن انتهى إلى وتر فصلاته صحيحة وإن انتهى إلى شفع لم تصح لأنها تنعقد بالأولى فإذا كبر الثانية للإحرام يضمن إبطال الأولى والدخول في الصلاة والتكبيرة الواحدة لا تصلح لقطع الصلاة ووصلها فتبطل صلاته؛ فإذا كبر الثالثة انعقدت: لأنه ليس في صلاة، فإذا كبر الرابعة بطلت لما قلناه في الثانية، وهلم جرا.

وقد ذكر النووي هذه المسألة -"في الروضة" في باب "صفة الصلاة"- من زوائد - لكونها ليست في الرافعي في هذا الباب ولكنها في الرافعي في موضعين في البيع عند الكلام في أن بيع البائع المبيع في زمن الخيار هل يكون فسخا؟ وفي الشفعة عند الكلام في تصرف المشتري في الشقص.

فليست من زوائد الروضة -على الإطلاق- بل باعتبارات صفة الصلاة فقط.

ومنها: لو تصرف المشتري في الشقص فعن أبي إسحاق أنه ليس للشفيع نقض تصرفه، كما لا ينقض بناه.

ص: 159

واختلفوا في موضع هذا الوجه فمنهم من خصصه بتصرف تثبت فيه الشفعة ومنهم من عمم، وقال: تصرف المشتري يبطل حق الشفيع مطلقا نعم لو كان بيعا ونحوه يحدد حق الشفعة، وعن رواية الشيخ أبي علي لا يتجدد أيضا؛ لأنه كان مبطلا للشفعة لا يكون مبتا لها كمسألة الصلاة.

فإن قلت: الأصح صحة بيع البائع العين المبيعة في زمن الخيار إذا كان الخيار له، ثم الأصح أن ذلك فسخ للبيع السابق؛ فهذا تصرف يتضمن إبطال بيع سابق وصحة بيع لاحق.

قلت: إبطال البيع السابق وقع ضمنا على وجه البيع، وليسا مقصودين.

ومنها: للمتوضئ تفريق النية على أعضائه على الأصح، أن ينوي -عند الغسل الوجه- رفع الحدث عن الوجه- وعند اليدين رفع الحدث عن اليدين وكذا عند الرأس والرجلين.

وذهب الشيخ أبو حامد الراذكاني الطوسي1 شيخ الغزالي فيما نقله عن ابن الصلاح- إلى أن صورة التفريق أن ينوي -عند الوجه- رفع الحدث عن جميع الأعضاء. ثم يعود إلى مثل ذلك في كل عضو.

واعتراضه ابن الصلاح بأن ذلك ليس قطعا؛ بل هو تأكيد لما تقدم.

قلت: وبتقدير كونه قطعا؛ فإنما هو قطع لنية ما وراء العضو الذي انغسل ثم هو قطع ضمني فيغتفر.

1 أحمد بن محمد الطوسي ذكره في الطبقات الكبرى وقال: وهذا الراذكاني أحد أشياخ الغزالي في الفقه تفقه عليه قبل رحلته إلى إمام الحرمين.

وقال: وراذكاني براء مهملة ثم ألف ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة ثم كاف ثم ألف ثم نون من قرى طوس.

الطبقات الكبرى 4/ 91.

ص: 160

ومنها: ذكر ابن الصباغ فيما نقله عن شبيب الرحبي1، أن عتق المبيع قبل القبض؛ إنما صح مع كون بيعه غير صحيح، لأن العتق قبض، بخلاف البيع.

فقيل: إذا جعلت العتق قبضا فيجب أن لا يقع العتق إلا بعتق مجرد لأن الأول حصل به القبض، أي فلا يحصل مع القبض الخروج من اليد.

فقال: هذا غير ممتنع كما لو قال لغيره: أعتق عبدك عني ففعل فإن العتق يقع عن السائل، ويحصل به القبض والعتق معا.

فقال له السائل عن الموضوعين: اسأل، فقال: العتق إتلاف؛ فيجوز أن يحصل به الأمران معا كما إذا قتل العبد المبيع في يد البائع.

قلت والحاصل أن القبض يقع ضمنا كما قلنا في المبيع زمن الخيار فكان امتناع تضمن الشيء والخروج والدخول ليس على الإطلاق؛ بل في الخروج والدخول المقصودين دون ما إذا كان أحدهما ضمنيا.

ومنها: قال الإمام "في النهاية" في باب ما على الأولياء إذا ثبت حق التزوج لعصبات النسب فقد سمي الأصحاب ذلك ولاية ثم توقف الإمام في الأخ؛ لأنه لا يزوج أخته البالغة قهرا، وحكى تردد الأصحاب في أنا هل نسمي الأخ وليا لأخته الصغيرة؟

فمن ناف؛ لأنه لا يملك تزويجها، ومن مثبت لأن لا يستحيل أن يصير وليا بعد البلوغ، إذ البلوغ قد يؤثر في قطع الولايات ويستحيل أن يؤثر في إفادتها. انتهى ملخصا.

ونقله ابن الرفعة في باب الوكالة في الكلام على التوكيل ببيع عبد سيملكه -على غير وجهه- ومحل غرضنا منه أن البلوغ لا يصح لإثبات الولاية؛ لأنه صالح لانتفائها.

ومنها: أن اليمين الواحدة لا تصلح لإثبات ما يدعيه ونفي ما يدعى عليه، ولهذا قاعدة نخصه بذكرها -إن شاء الله تعالى- في الدعوى والبينات في أن اليمين لا تصلح في الجلب والدفع مع نظائرها.

1 شبيب بن عثمان صالح الفقيه أبو المعالي الرحبي من أهل رحبه الشام وهو من تلامذة أبي منصور ابن أخي صاحب الشامل. انظر الطبقات الكبرى ص7، ص9.

ص: 161

ومنها: أنه لا يتخذ القابض والمقبض، وأمثاله، وسيأتي إن شاء الله تعالى في قواعد البيع.

ومنها: جزم جماعة من الأصحاب بأنه إذا ادعى عليه بألف فقال قبضته أنه يكون مقرا مع حكايتهم قولين فيما إذا قال: له علي ألف قضيتها، وتكلف ابن الرفعة الفرق بأن قضيته لفظ واحد تضمن الإقرار والبراءة والشيء والواحد لا يستعمل في الشيء وضده لغة وعرفا وشرعا، فأبلغناه فيما له دون ما عليه.

وقوله: له علي ألف قضيتها لفظان يقتضي أحدهما الشغل والآخر البراءة؛ وذلك ينتظم لفظا وإن امتنع شرعا وعقلا فلا جرم. خرج على القولين. قال الشيخ الإمام رحمه الله: ولو قيل بالعكس لم يبعد لأن قوله علي ألف قبضتها يقتضي كونها في الحال عليه وأنه قضاها، بخلاف قضيته فإن مضمونه الإقرار بدين سابق، فهو مثل كان له علي ألف.

وقد صحح النووي في مثل كان له علي [ألف] 1 أنه ليس بإقرار؛ فلم لا يكون هنا. كذلك قال: فينبغي أن يكون الصحيح في قضيته أنه غير إقرار.

قاعدة: ذكرها الشيخ الإمام في باب الحيض من "شرح المنهاج" وفي باب استقبال القبلة.

النظر2 إلى الظاهر أو إلى ما في نفس الأمر؟ وهذه العبارة فيها خلل؛ فإن نفس الأمر منظور قطعا، يعني أنه لا بد منه؛ إنما النظر في إن ظن خلافه هل يؤثر في اندفاع حكمه؛ فالأولى أن يعبر أن الظن -غير المطابق- هل يؤثر؟ وفيه خلاف في مسائل:

منها: وهي أم الباب -إذ باع مال أبيه على ظن أنه حي فإذا هو ميت فالأظهر الصحة.

ومنها: ويجري الخلاف فيما لو باع العبد على ظن أنه آبق أو مكاتب فبان أنه قد رجع مع الكتابة.

ومنها: زوج أمه أبيه على ظن أنه حي فبان ميتا ففي صحة النكاح خلاف. وألحق الشيخ صدر الدين ابن المرحل بمسائل الباب إذا تزوج أمرأة المفقود على ظن أنه حي -فإذا هو ميت، قال: فقولان، الأصح الصحة.

1 سقط في ب.

2 في "ب" هل النظر.

ص: 162

قلت: وفيه نظر، فإن صورة مسألة القولين إذا لم يظن حياته. بل بعد مدة التربض -بناء على القديم- ثم بان أن المفقود كان ميتا وقت الحكم بالفرقة ففي صحة النكاح على الجديد وجهان بناء على بيع مال الأب على ظن حياته.

إما إذا ظن أنه حي فلا قائل فيما أعلم -بصحة النكاح في صورة امرأة المفقود. وإذا علمت أن صورة المسألة فيما ذكرناه فلا يصح تخريج البناء؛ لأن في بيع مال الأب على ظن الحياة عن المنافي حالة البيع، وفي تزويج امرأة المفقود لم يظن للنافي في حالة العقد.

ومنها: لو رأى العسكر سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان غير عدو فأصح القولين وجوب القضاء.

ومنها: رأوا عدوا فخافوه، ثم بان أنه كان بينهم خندق فالأصح وجوب القضاء أيضا.

ومنها: استباب المغصوب الذي لا يرجى برؤه ثم برئ فالأصح عدم الإجزاء.

ومنها: اشتبه عليه إناءان فتوضأ بما ظن طهارته منهما، ثم تيقن أنه كان نجسا أو أخبره بذلك عدل لزمه الإعادة على أصح القولين.

ومنها: اشتباه القبلة كذلك ومنها: بأن إمامة امرأة أو كافرا ولو كفرا مختفيا على الأصح وجبت الإعادة.

ومنها: بان إمامه جنبا أو محدثا أو ذا نجاسة خفية؛ فلا تجب الإعادة لعد الأمارة على ذلك.

ومنها: بان أميا فهو كما إذا بان امرأة على الأصح.

ومنها: اقتدى بمن يظنه خنثى فبان رجلا لم يسقط القضاء في الأظهر.

ومنها: وكل وكيلا بشراء شيء ثم باعه ظانا أن وكيله لم يشتره بعد وبان أنه كان قد اشتراه فالأصح في المسألتين الصحة؛ نظرا إلى ما في نفس الأمر كالأصح في غالب مسائل القاعدة؛ وإنما خولف في مسألة الخنثى، لتردد النية.

ومنها: تزوج خنثى بامرأة فبان رجلا لم يصح.

ومنها: تزوج المرأة من يشك في كونها محرمة عليها. لم يصح وعللوه بأن الأصل في الإيضاح الحرمة.

قال الشيخ الإمام: وهو يشكل بتزويج أمه أبيه.

ص: 163

ومنها: دفع المالك الزكاة لمن ظنه فقيرا فبان غنيا لم تجزه في الأظهر؛ بخلاف ما إذا كان الدافع الإمام فإنه يجزئ.

ومنها: إذا بان كون المدفوع إليه كافرا أو عبدا لم يجزئ أيضا في الأصح.

ومنها: إذا أقام بينة أنه غارم، فأخذ من سهم الغارمين، ثم بان كذب الشهود ففي سقوط الفرض الخلاف.

ومنها: إذا فسد عقد الهدنة لم يجز اغتيال الكافرين، بل يجب إنذارهم لظنهم الصحة.

ومنها: وطيء زوجة أجنبي يظنها زوجته المملوكة فالأصح يلزمها الاعتداء بقرأين اعتبارا باعتقاده، وقيل: بواحد اعتبارا بماا في نفس الأمر. وإن ظنها زوجته الحرة؛ فهل يلزمها قرء أو قرءين أو ثلاثة؟ فيه أوجه أصحها الثالث.

ولو وطئ امرأة يظنها أمته قطع جماعة بثلاثة أقراء؛ لأن الظن يؤثر في الاحتياط دون المساهلة.

وأجرى المتولي الوجهين: إن اعتبرنا حالها فثلاثة أقراء، أو ظنه فقرء ولو ظنها زوجته المملوكة فطرد فيه الوجهين: هل قرءان لظنه أو ثلاثة؟ والأشبه إلى ظنه؛ لأن العدة لحقه.

ومنها: زوجة أبوه -وهو لا يدري- أو ظن أن زوجته أجنبية فخاطبها بالطلاق فالمشهور المنصوص وقوع الطلاق. ظاهرا، وفي نفوذه باطنا وجهان بناهما المتولي على الإبراء عن المجهول، وللغزالي احتمال أنه لا يقع ظاهرا لأن من لا يعرف الزوجية لا يقصد إلى قطعها.

ومنها: لو عامل المأذون من علم رقه ولم يعلم كونه مأذونا ثم بان أنه مأذون قال الرافعي: فهو ملحق عند الأئمة ببيع مال الميت على ظن الحياة ويقرب منه وجهان -حكاهما الحليمي- فيما إذا كذب مدعي الوكالة ثم عاملة فظهر صدقه في دعوى الوكالة.

ومنها: إذا قال لمن عليه ألف درهم: أبرأتك منها ثم قال: لم أعلم.

ومنها: المستحاضة إذا عاد الدم على خلاف ما اعتادته من طول زمن الانقطاع طولا يسع وضوءا وصلاة فلا يجب إعادة الوضوء في الأصح اعتبارا بما في نفس الأمر.

ص: 164

ومنها: قال الرافعي في فروع الطلاق: ولو خيرها وهي لا تشعر فاختارت نفسها قال إسماعيل البوشنجي: يخرج على بيع مال الأب على ظن الحياة.

ومنها: إذا قال الغاصب للمالك: أعتق هذا العبد فأعتقه ظنا أنه ملك للغاصب، فالصحيح النفوذ نظرا إلى ما في نفس الأمر.

ومنها: إذا اعتق أمته بشرط أن تتزوج به؛ فمنهم من بناه على بيع مال الأب المظنون الحياة.

ومنها: قال في الوسيط في نكاح المشركات: لو أسلم ونكح أخت المتخلفة وأصرت المتخلفة انبنى صحة النكاح على القولين بمن باع مال أبيه على ظن الحياة.

ومنها: ارتكب كبيرة في ذهنه لوطئ زوجته يظنها أجنبية قال الشيخ عز الدين: يجري عليه أحكام الفاسقين، لجرأته، ولا يعذب تعذيب زان.

ومنها: كان ينفق على ظن الحمل، ثم بان أنه لا حمل فله الاسترداد لأنه مسلم عن جهة الواجب، وقد تبين خلاله فأشبه ما إذا ظن أن عليه دينا فأداه ثم بان خلافه، وما إذا أنفق على أبيه على ظن إعساره، فبان يساره وعن القاضي الحسين أنه احتج لذلك بما روي:"أن أبي كعب رضي الله عنه علم رجلا القرآن أو شيئا منه فأهدى له شيئا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخذتها أخذت قوسا من النار" 1.

وقال: إن ذلك الرجل ظن وجوب الأجر عليه من غير شرط وكان معطي القوس على ظن أنه يعطي الواجب عليه فمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن أخذه.

ومنها: قال الرافعي في باب الكتابة فيما إذا أوصى برقبة المكاتب كتابة فاسدة، وهو يظن أن الكتابة صحيحة أن في الوصية قولين:

أحدهما: لا يصح؛ لأنه أوصى، وعنده أن ما يأتي به لغو.

والثاني: يصح به اعتبارا بحقيقة الحال، وهو أشبه عن المزني.

ثم قال: ولو باع المكاتب كتابة فاسدة أو المبيع بيعا فاسدا أو وهب أو رهن وهو

1 أخرجه ابن ماجة في السنن 2/ 730 في كتاب التجارات/ باب الأجر على تعليم القرآن من حديث "2158" وقال البوصيري: في الزوائد إسناده مضطرب قاله الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الرحمن بن سلم وقال العلاء في المراسيل عطيه بن قيس الكلاعي عن أبي بن كعب مرسل.

ص: 165

جاهل بالفساد فطريقان أحدهما: طرد القولين، والثاني: القطع بالفساد بخلاف الوصية؛ فإنها تحتمل من الخطر ما لا يحتمله البيع والرهن.

انتهى ملخصا، وخرج منه أو الوصية بالمكاتب كتابة صحيحة باطلة على القولين والأمر كذلك على الجديد.

أما القديم الذي يجوز بيع الكتب؛ فإنه يجوز الوصية به وقد قدمه الرافعي قبل هذا -كما قلنا- وقال: الجديد إنها باطلة كما لو أوصى بعبد الغير في تسويته بين البيع والوصية نظر؛ إذ لا يلزم من منع البيع منع الوصية. وفي تسويته -أيضا- بين الوصية بالمكاتب والوصية بعبد الغير ولا ملك له عليه -منع الوصية بالمكاتب وهو يملكه.

وقد تقدم -في باب الوصية في الركن الثالث في الموصي به- أنا إذا منعنا بيع المكاتب فالوصية به كالوصية بمال الغير.

ونقله عن التتمة قال: وإذا أوصى بمال الغير فقال: أوصيت بهذا العبد -وهو ملك لغيره- أو بهذا العبد -إن ملكه- فوجهان: الصحة؛ لأن الوصية به والشيء الواحد لا يجوز أن يكون محلا لتصرف شخصين. قال النووي: قلت الأولى أفقه وأجرى على قواعد الباب؛ فتبين بهذا أن الوصية بمال الغير على ما ظهر من الكتابة ومن الفوائد أن قضية كلام الرافعي في باب الكتابة الفرق بين الوصية بعبد الغير فتبطل، وبين قوله: إن ملكت عبد فلان فقد أوصيته به فإنه صحيح على الراجح، وفي باب الوصية -كما رأيت جعلهما على حد واحد.

فصل:

فيمن أخطأ الطريق وأصاب المطروق، وبعبارة أخرى فيمن هجم فتبين أنه فعل الصواب هل يكون خطؤه في الطريق؛ حيث هجم موجبا لتغيير حكم المطروق؟ إذا كان من حقه أن يأتيه إلا من حيث أمر ولا يضر ذلك فيه صور.

اشتبه ماء طاهر بنجس فالمذهب وجوب الاجتهاد؛ فلو هجم بلا اجتهاد وتوضأ بأحدهما لم يصح وضوءه ولا صلاته؛ فإن بان أنه توضأ بالطاهر قال الشيخ أبو إسحاق: لا يصح لكونه متلاعبا، وخالفه ابن الصباغ.

ص: 166

ومنها: صلى شاكا في دخول الوقت -بغير اجتهاد- فوافقه لم يصح، وللغزالي في المسألتين كلام طويل ذكره شبيب الرحبي.

قاعدة: قال الشافعي رضي الله عنه: "الظن ملغي إلا ما قام الدليل على إعماله"، وقال مالك رضي الله عنه:"معمول به إلا ما قام الدليل على إهماله".

كذا نقلت هذه القاعدة عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله.

قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله في كتاب "الطوالع المشرقة"، ويثبت ذلك عندي - عنه؛ إلا أنه يمكن أخذه من اختلاف الشافعي ومالك في المصالح المرسلة.

قلت: وكان الشيخ الإمام يرتضي هذه العبارة ويحرر عنها عبارة أخرى؛ فيقول: "الأصل عدم العمل إلا ما قام الدليل على إعماله" وقيل: الأصل العمل إلا ما قام الدليل على إلغائه.

وفي القاعدة مسائل:

منها: الصحيح -عندنا أنه لا يكفي ظن الطهارة عند اشتباه الإناء الطاهر بالنجس؛ بل لا بد من اجتهاد وظهور علامة.

ومنها: أنه لا يقبل قول الصبي المميز -وإن أثار ظنا- إذ لا انضباط لهذا الظن.

ومنها: في زيادة الروضة في الاستنجاء لو غلب على ظنه زوال النجاسة، ثم شم من يده ريحا فالأصح لا يدل على بقاء النجاسة في المحل كما هي في اليد.

ومنها: إذا جاء من يدعي اللقطة -ووصفها وظن الملتقط صدقه لم يجب الدفع إليه على المذهب؛ بل يجوز، وقيل: يجب.

وأمثلته كثيرة، وحاصلة أن مجرد الظن إن لم يقصد بشاهد شرعي لا يعتبر؛ لأن الأصل إلغاؤه، ومن تأمل الكتاب والسنة وجد فيهما الكثير مما يدل على ذم العمل بمجرد الظنون.

خالفناه فيما تأكد بدليل، كوطء الرجل المرأة إذا زفت إليه يظنها زوجته، والأكل من المنحور والمشعر في الفلاة ودخول الأزقة والدروب المشتركة يظن رضاء أهلها، وما هذا شأنه يعتبر الظن فيه لقيام الدليل عليه ومن ثم مسائل اختلف فيها:

منها: السقط إذا لم يتيقن حياته ولكن دلت عليها أمارة -من اختلاج ونحوه-

ص: 167

صلى عليه في أصح القولين؛ لأن الاختلاج أمارة الحياة فأشبه الصراخ.

والقول الآخر لا يصلي عليه لعدم التيقن، وعدم اعتضاد هذا بأصل.

قاعدة: ما ربط به الشارع حكما فعمد المكلف إلى استعجاله لينال ذلك الحكم؛ فهل يفوت عليه معاملة له بنقيض مقصوده أو لا لوجود الأمر الذي علق الشارع الحكم عليه؟

وهذه القاعدة هي التي يسميها من لا تحقيق عنده "المعاملة بنقيض المقصود"، ويأخذ ذلك كلاما عاما.

وتحريره عندي أن يقال: إن كان الذي ربط الشارع به الحكم أمرا يتطلب إيقاعه فإذا فعل نال الحكم المرتب عليه -كالثواب الذي ربطه الشارع بالصلاة وغيرها من الأعمال حثا على تلك، وهذا لا ينحصر، وضابطه: كل سبب شرع حثا على فعل المسبب- كمضاعفة الأجر بالصلاة في مكة والمدينة والمسجد الأقصى وركعتي الفجر وغير ذلك- فالمسبب نصب باعثا للمكلف على فعل السبب.

وينبغي أن ينظر هل من هذا القسم ما نصه الشارع مسببا ليبعث ويحمل على فعل المسبب وما نصه إلا كذلك؟ فيكون هذا القسم على قسمين.

أحدهما: ما كان مسببه منصوبا ليبعث على سببه، وهو أبلغ من الثاني الذي هو غيره.

وإن لم يكن أمرا وطلب الشارع إيقاعه؛ فإما أن ينهي عنه أولا.

الأول: أن ينهى عنه فيعمد المكلف إلى ارتكابه لينال ما يترتب عليه الموت سبب لميراث الوارث المال؛ فيعمد الوارث إلى قتل مورثه لينال الميراث فهل حصل له ما يترتب على الموت؟ أو لم يعمد هذا موضع النظر. وتحقيقه أن يقال إن لم يختل بانتفاء ذلك الحكم المرتب عليه قاعدة من قواع الشرع فينتفي ولا يحصل. وهنا يقال: عومل بخلاف مقصوده.

ومن ثم لا يرث القاتل؛ لأن انتفاء ميراث بعض الوارثين لا يهدم قاعدة مهدها الشارع؛ إذ رب قريبين لا يتوارثان لاشتباه حالهما بهدم أو غرق أو اختلاف دين أو غير ذلك. وإن اختلفت قاعدة فلا ينتفي؛ بل يبقى على حاله مستندا إلى السبب الذي نصبه الشارع. وفي هذا مسائل:

ص: 168

منها: إذا باع نصاب الزكاة قبل الحول، فرارا من الزكاة فلا يجب، ولا يلزم وإيجاب الزكاة في مال لم يحل عليه الحول، أو في مال حال عليه الحول لا في ملكه فتختل قاعدة الزكاة.

ومنها: إذا طلق امرأته فرارا من ميراثها فيه فلا ترثه على الصحيح الجديد وإلا يلزم توريث بلا سبب ولا نسب.

فإن قلت قلنا قول إنها ترث لم يجر نظيره في الزكاة.

قلت: فرق بعض أصحابنا بأن المستحق في الزكاة غير معين. بخلاف الزوجة ونقض الفرق بأن مستحق الزكاة قد ينحصرون فيعينون. ورد النقض بأن انحصارهم عارض، والأصل عدمه.

قال ابن الصباغ: فإن قلت: فهل يأثم في هذا القسم.

قلت: قالوا في الزكاة يكره ولا يحرم، وللغزالي احتمال في تحريمه. ومنشأ ذلك أن الإقدام على الفعل -قبل انعقاده سبب لا يحرم؛ لأن الحكم لمن يرتبط به بعد، وإلا فيحرم، وفي الزكاة لم ينعقد السبب؛ لأنه المال مع الحول أو المال بشرط الحول؛ فلم يوجد السبب بتمامه لأن فقد شرطه يوجب فقده، وفي طلاق الغائر يحرم، لأن الزوجية هي السبب والموت شرط والمتوسط منهما فراره.

ومنها: إذا قتلت المستولدة سيدها فتعتق ولا تعامل بخلاف مقصودها؛ فلا تختل قاعدة أم الولد -تعتق بالموت- ويمكن الاستدلال على هذا بخصوصة قوله صلى الله عليه وسلم "اعتقها ولدها" ويقال لم يعتقها السيد، بل الولد، فلم يكن القتل مانعا، ولم يكن هذا من القسم الذي نحن فيه.

ومنها: إذا قتلت المدبرة سيدها

ومنها: إذا دخل المسجد في وقت الكراهة ليصلي التحية صحح الرافعي كراهة صلاة التحية حينئذ، قالوا: كما لو أخر الفائتة ليقضيها في هذه الأوقات.

ورجح الشيخ الإمام أن الصلاة لا تكره؛ إنما المكروه الدخول والتأخير لهذا الغرض فإن دخل أو أخر فلا يحكم على الصلاة -حينئذ- بالكراهة وما قاله هو الأرجح، وليس لما صحح الرافعي والنووي وجه إلا أن يكونا عاملاه بنقيض مقصوده حيث ارتكب المنهي ودخل ليصلي.

ص: 169

تنبيه: قال أبو جعفر الطحاوي الحنفي في كتاب مشكل الآثار أن المكاتب إذا كانت له قدرة على الأداء فتأخر ليتسع له النظر إلى سيدته بملكها إياه فحرام عليه؛ لأنه منع واجبا عليه ليبقى له ما يحرم عليه إذا أداه. ونقله عن الوالد رحمه الله في "شرح المنهاج"، عند الكلام في نظر العبد إلى سيدته وقال: إنه تخريج حسن لا يبعد من جهة الفقه.

وبنى عليه الطحاوي أن الأمة المكاتبة إذا قدرت على الأداء؛ فعليها أن يصلي بقناع -وأن تعتد عدة الحرة ولا تسافر إلا مع محرم، والعبد المكاتب لا زكاة عليه؛ فإذا أخر الأداء مع قدرته عليه كان حراما عليه.

قال الوالد رحمه الله وبعض ما ذكر الطحاوي مردود وبعضه لا بأس به فإن تعبير الأحكام من إيجاب القناع على الأمة واعتدادها اعتداد الحرة يعتبر حكم الشرع.

وتحريم تأخير الأداء مع القدرة لا بأس به وإن كانت الكتابة جائزة من جهته لكنه قادر.

وتحريم نظره والنظر إليه؛ إما لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه كما يقول أصحابنا -المشرف على الزوال كالزائل، وإما عقوبة له، وإما لأن في تمكينه من النظر إعانة له في تأخير الواجب فلا بأس بذلك.

قلت: وأما معاملة له بنقيض قصده، ولأجل هذا ذكرناه في هذه القاعدة المنقول من كلام الطحاوي هنا أنه يحرم عليه تأخير الأداء لأجل تفاحل النظر إلى سيدته، وأنه يحرم عليه النظر معاملة له بنقيض قصده.

وأما الصلاة بقناع والاعتداد عدة الحرة؛ فلا سبيل إليهما وهي أمة، ولا وجه له ولو تم ذلك لكان يلزمه أن يقول: إن المكاتب يعطي بمجرد القدرة على الأداء ثم يلزم بالأداء؛ لكنه لم يقل بذلك.

واعلم أن أصحابنا مختلفون في أنه هل للمكاتب أن يفسخ عقد الكتابة؟

فعلى القول بأن له الفسخ -وهو المرجح عندهم- قد يقال: إن فيه ردا على من حرم تأخير الأداء، أو يمكن الجواب بأن تأخير الأداء حرام؛ فإما أن يؤدي، وإما أن يعجز نفسه ويرتفع عقد الكتابة، وقد ذكرت هذا في "التوشيح".

ص: 170

قاعدة: مترددة في غضون كلام أكثر الأصحاب "إعمال الكلام أولى من إهماله"، واستشهد صاحب التتمة لها -في كتاب البيع في مسألة وهبتك بألف يقول الشافعي رضي الله عنه فيمن أوصى بطبل وله طبل حرب وطبل لهو: يحمل على طبل الحرب لتصح الوصية، وتبعه صاحب البحر في هذا الاستشهاد. وذكر ابن الرفعة في "المطلب في باب الوصية عند الكلام في الوصية للدابة أن الإمام حكى في كتاب الطلاق فيما إذا تردد اللفظ على وجه يحتمل الاستحالة، ويحتمل إمكانا أن من الأصحاب من لا يبعد الحمل على الاستحالة، ومنهم من يوجب الحمل على الإمكان حتى لا يلغي اللفظ، ومن هذا ما إذا قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق.

وأقول: محل القاعدة فيما إذا استوى الإعمال والإهمال بالنسبة في الكلام أو تقاربا، كمسألة الطبل؛ فإن الطبول بالنسبة إلى لفظ الطبل فيحمل على ما يصح سواء كان عنده النوعان من الطبول أو لم يكن عنده؛ فإن لم يكن عنده إلا طبل اللهو فالوصية باطلة؛ لأن قرينة كونه عنده يرشد إلى أنه الموصي به، فاضمحل هنا احتمال الإعمال.

ومن ثم نقول: أما إذا بعد عن اللفظ وصار بالنسبة إليه كاللغز فما الإعمال راجحا وبين القرب والبعد الدرجات.

وبعد ما كتبت هذا وجدت نحوه في كلام الوالد رحمه الله في باب الوصية كلام على الوصية للدابة؛ فإنه ذكر بعدما حكى ما حكاه ابن الرفعة عن الإمام من الخلاف ما نصه: هذه القاعدة؛ حيث يكون تردد اللفظ على السواء أو لا يكون على السواء؛ ولكنه راجع إلى موضوع اللفظ مع احتمال قريب، أما إذا لم يكن للفظ إلا موضوع واحد واحتمال لا يحتمله إلا مكلف فالمصير إليه بعيد، والوقوف عند موضوع اللفظ واجب، وإن كان مستحيلا إذا لم يدل دليل على ذلك للمحتمل البعيد. انتهى.

فلله الحمد على أن وقع ذهني وفهمي على ما وقع عليه ذلك الحبر، وها أنا ذاكر مسائل: ما جزم فيها بالأعمال فلقربه، وما جزم به فيه بالإهمال فلبعد الإعمال وما تردد فلتردد النظر.

ومنها: أوصى بعود من عيدانه وله عيدان لهو غير صالحة لمباح وعيدان قسي وبناء؛ فالأصح بطلان الوصية تنزيلا على عيدان اللهو؛ لأن اسم العود عند الإطلاق له واستعماله في غيره مرجوح وليس كالطبل: لوقوعه على الجميع وقوعا واحد كذا فرق

ص: 171

الأصحاب، وعزوا المسألة إلى النص، والنص شهد لما قدمته.

ومنها: قال: زوجتك فاطمة ولم يقل بنتي، لم يصح لكثرة الفواطم، وفيه وجه.

ومنها: قال: طلقت زينب ولم يقل زوجتي طلقت على المذهب، ويحتاج إلى الفرق بين النكاح والطلاق.

ومنها: إذا قال مشيرا لامرأته وأجنبية: إحداكما طالق ثم قال: أردت الأجنبية، ذهب الأكثرون إلى أنه يصدق وذهب بعضهم إلى أنه لا يصدق ويقع على امرأته، وقاسه على مسألة الطبل.

ومنها: ظاهر القاعدة أن الوكيل في الشيء إذا تصرف فإن كان الموكل فيه ما يصح فعله منه عن قبل نفسه وعن الوكالة ولم ينو الموكل أنه يحمل على التصرف عن نفسه -وإن لم يعلم نيته- حملنا الأمر على ذلك.

وإن كان لا يصح عن نفسه يحمل على أنه عن جهة الوكالة صونا للتصرف عن الإلغاء وحملا على الظاهر؛ فإن الظاهر من حال العاقل أنه إنما تصرف تصرفا صحيحا.

وهل يحتاج في نفاذ تصرفه إلى أن ينوي كونه من موكله أو إنما يحتاج إلى عدم الصارف بمعنى أنه إن أطلق حمل على أنه عن الوكالة، وإن نوى أنه غير الوكالة.

وحاصل هذا أنه هل يكون عن الوكالة إلا أن تصرف ذلك بنية أو لا يكون منها إلا أن ثبوته فيه خلاف؟

أقول: هذا كله تفقها ويشهد له من المنقول -قول الأصحاب فيمن اشترى شيئا ولم يتلفظ بالوكالة ولا نواها: أن الشراء يقع له لا للموكل؛ فإن قلت: قال الغزالي: وكيل الزوجة بالخلع إذا خالع ولم يتلفظ بالوكالة ولا نواها أنه يقع عن الوكالة.

قلت: اعترضه الرافعي وقال: القياس الظاهر أن من اشترى شيئا ولم يتلفظ بالوكالة ولا نواها يقع الشراء له لا للموكل.

قال: وقد يفرق بين البابين بأن الأصل وقوع العقد لمن تحصل هل فائدته ومنفعته والشراء تحصل فائدته لكل من يقع الشراء له ومباشر العقد أولى لحصول منفعة العقد له من غيره وفي الاختلاع تعود الفائدة والمنفعة إلى الزوجة وغيرها ببذل المال على سبيل الفداء؛ فكان صرف العقد إليها إذا أمكن أولى من صرفه إلى غيرها.

ص: 172

قلت: ثم المسألة يجب أن تقيد بما إذا كان الوكيل يمكنه أن يختلع عن نفسه وهو مطلق التصرف.

أما السفيه إذا وكلته ليختلعها من زوجها؛ فخالع وأضاف إليها وقد قدم الرافعي قبل هذا الفرع عن التتمة أن يصح؛ إذ لا ضرر في ذلك عليه ولو فرض هنا أن الوكيل سفيه تعين أن يوقع تصرفه عنها أو يلغو، إذ لا سبيل إلى جعله عنه.

ونظير المسألة: لو وكل أحد الشريكين في الرقيق صاحبه في عتق نصيبه قال: أعتقت نصفك وأطلق فهل يتعين فيما هو مكله أو فيما هو وكيل فيه؟ وفيه وجهان.

قال النووي: لعل أقواهما الأول؛ فهذا ما يدل من كلام الأصحاب، على أن إسناد التصرف إلى نفسه -حيث يمكن- أولى، والتردد وقع فيه بين إعمال كل من الأمرين، ولا إهمال في الطرفين.

أما إذا دار بين الإعمال والإهمال -وهو ما قلنا: إنه لا يمكن وقوعه عن المباشر؛ وذلك كالطلاق يكون وكيلا فيه عن الزوج، فيطلق ولا ينوي الطلاق وأنه عن الموكل؛ ففي الوقوع وجهان حكاهما الرافعي في فصل الكناية من الطلاق "قبل الفصل الثاني في الفعل والإشارة المفهمة، ثم أعاد حكايتهما في أثناء فروع الطلاق، وقال: الأقرب أنه لا يحتاج.

قلت: وهو الأرجح، وهو إذا أطلق أما إذا نوى وقال: نويت الطلاق عن نفسي فيكون لغوا، لا عن موكلي فيحتمل أن يقال: تسمع بينته هذه ولا يقع الطلاق، ويدل له ما في الرافعي قبل باب الديات عن فتاوى صاحب التهذيب أن الوكيل باستيفاء القصاص إذا قال: قبلته بشهوة نفسي عن جهة الموكل يلزمه القصاص.

ويحتمل أن يقال: لا يسمع منه لمخالفته للظاهر، ولأن إعمال الكلام أولى من إهماله، وليس كمسألة القصاص، فإن قول الإنسان على نفسه مقبول وما فعله من القتل معتبر على كلا التقديرين؛ فإنه إن كان عن الوكالة كان استيفاء معتبرا؛ وإلا كان فعلا موجبا للقود فلم يكن ملغي بخلاف الطلاق؛ فإنه إذا لم يكن عن الوكالة كان لغوا بالكلية لا سيما على قول من لا يوقف العقود وهو الصحيح.

ويحتمل أن يفصل -وهو الأقرب- فيقال: إن كانت قرينة على نية الصرف تباعد

ص: 173

دعواه، كما لو أكره على طلاق من هو وكيل في طلاقها فطلق، وقال: إنما نويت التصرف عن نفسي والخلاص عن غائلة الإكراه فيسمع منه؛ وإلا فلا ويدل على ذلك احتمالان حكاهما الرافعي، عن أبي العباس الروياني في الوكيل بالطلاق يكره عليه، هل يقع لحصول اختيار المالك؟ أو لا يقع لأنه المباشر؟ قال أبو العباس: هو أصح، قلت: وينبغي أن يكون محلهما عند الإطلاق.

إما إذا نوى التصرف عن نفسه فقد يقال بالجزم بعد الوقوع لما ذكرناه لا سيما إذا فرعنا على أنه لا بد عند الإطلاق من نية التصرف عن الوكيل. وأما إذا نوى التصرف عن الموكل فينبغي أن يجري في الخلاف المذكور في المكره على الإطلاق إذا نواه هل يقع؟ وهو الأصح؛ لأن النية دفعت الإكراه أولا، لأنه لا أثر لها. مع لفظ صادر عن الإكراه.

ثم هذا كله إذا دار الأمر بين الإلغاء بالكلية والإعمال؛ فإن دار بين الإعمال -بالكلية- والإلغاء لا مطلقا لكن بالنسبة إلى البعض كأحد الشريكين في العبد المشترك يقول: أعتقت نصف هذا العبد، وليس هو بوكيل لصاحبه.

فهذا تصرف دار بين أن يحمل على نصيبه فيعمل بتمامه أو على الإشاعة فيبطل في حصة شريكه ويصح في حصته؛ فلا يعتق إلا ربع الأصل. وفي المسألة وجهان: أصحهما الثاني لا إطلاق اللفظ وهو المعزو في الروضة قبل باب المتعة إلى الأكثرين، وقد يستشهد له بقول الإصحاب في باب المساقاة في حديقة بين اثنين مناصفة. ساقي أحدهما صاحبه وشرط له ثلثي الثمان أنه يصح.

قالوا: وإن شرط له ثلثها، أو نصفها لم يصح؛ لأنه لم يثبت له عوضا بالمساقاة؛ فإنه يستحق النصف بالملك.

فصل:

إذا عرفت أن الإعمال مقدم على الإهمال عند الإمكان لم يخف عليك بعده أنه إذا تعذر إعمال لفظ دار الأمر فيه بين طرحه وإلغائه وبين حمله على معنى صحيح أن حمله على الصحيح أولى.

وهذه قاعدة مستقلة تلقب بأنه: "هل الاعتبار بألفاظ العقود أو بمعانيها؟ ".

ص: 174

وهذه القاعدة متعددة الفروع غير منصوصة لصاحب المذهب، رضي الله عنه -لا يعرف فيها نص صريح، ولكن دل نصه في باب الخيار في السلف في مسألة اشتريت منك ثوبا صفته كذا بهذه الدراهم على اعتبار المعنى وكذلك قال في أول باب الشفعة من "الأم" إذا كانت الهبة على ثوب معلوم وهو بالمبيع أشبه؛ لأن البيع لم يعطه إلا بالعوض، وهكذا هذا لم يعطه إلا بالعوض.

وأنا منبهك في هذه القاعدة على أمور.

أحدها: أنها مخصوصة بالعقود فيما يظهر من كلام كثير من الأصحاب منهم الإمام الغزالي، وصاحبا التتمة والبحر والرافعي.

وكلام من أطلق -أنه هل العبرة باللفظ أو بالمعنى- محمول على من قيد بالعقود، وسيظهر لك عند عد الفروع كيف خرج قوم على هذا الضابط وليس لهم هذا؛ فإن المذهب نقل ولم ينقل الخلاف إلا في العقود.

الأمر الثاني: أن محلها ما إذا تعذر العمل باللفظ، أما إذا لم يتعذر فلا شك في اعتباره، ومن ثم أقول قد يقال: إنها ليست فرعا للقاعدة السابقة في أن الإعمال أولى ن الإهمال؛ لأن تلك في إعمال لفظ أمكن حمله على أحد محامله وإن بعدت، وهذه في الخروج عن اللفظ بالكلية إلى معنى آخر والأقرب أنها هي؛ فإن المعنى الذي يحمل عليه فلا بد أن يكون بينه وبينه علاقة وإلا فيكف يحمل على ناء عنه بالكلية:

وقد قدمنا أن مثل هذا يصير بالنسبة إلى اللفظ -بالكلية- كاللغز؛ فلا يعتبر وقد قدمنا كلام الشيخ الإمام الوالد رحمه الله في ذلك.

الأمر الثالث: لم أر من بسط القول في مفتاح هذه القاعدة أكثر من صاحب التتمة وتبعه صاحب البحر، وهو كثير الاتباع له فيما لا نجده في الحاوي.

وملخص ما ذكرناه في مسألة "وهبت منك بألف" خلاف في أن الاعتبار بظواهر اللفظ أو بمعانيها.

وأراد بالظواهر الألفاظ، واستدل باعتبار اللفظ بأنه الموضوع لإعادة المعنى الذي يفهم منه عند الإطلاق، ولهذا إذا أراد الطلاق بالظهار وعكسه لا تعتبر إرادته ويحمل اللفظ على بابه، قالا: واعتبار المعنى عدول عن مقصود اللفظ، ولفظ اللغة لا يعدل به

ص: 175

عن موضوعه؛ فكذلك لفظ العقود، قالا: والعقود تفسد بشرط مفسد فما ظنك بتغيير مقتضاها.

واحتجا لاعتبار المعنى، بما روي عن أبي الدرداء أنه قال في الهبة شرط العوض هو دين على صاحبه في محياه ومماته، وبأن ظاهر الأمر الوجوب، ثم إذا تعذر حمله على الاستحباب ونحوه فكذلك ظاهر الكلام إذا تعذر حمله على الصحيح حمل على المعنى تصحيحا له. واطالا في ذلك ومنازعتهما ممكنة في كثير مما ذكرناه؛ غير أنا لسنا لها الآن.

الأمر الرابع:

في أنه هل الأرجح اعتبار اللفظ أو المعنى أو لا يطلق ترجيح. ولقد اضطربت الفروع في ذلك، وحاول الرافعي في باب الإجارة ضبطها -بعد اعترافه بتنوعها- بطرق تقارب الطريق التي ذكرتها في باب الإعمال والإهمال؛ فقال فإن اختل اللفظ أهمل، وذلك كالشراء بلفظ السلم؛ فإن تمام معنى السلم لا يوجد في الشراء لأنه أخص منه، ولا يؤخذ الأخص في الأعم، وكذلك أن يرفع آخر اللفظ أوله مثل بعتك بلا ثمن وإن انتظم مثل: أن يكون المعنى الأصلي مشتركا بين خاصين يشتهر في أحدهما مع كونه مستعملا في الآخر كالسلم بلفظ الشراء؛ فإن المعنى الأصلي للشراء موجود بتمامه في السلم إلا أنه اشتهر في شراء الأعيان؛ فهنا يعتبر المعنى.

وقريب من كلام الرافعي قول ابن الرفعة بعدما ذكر اختلاف الصحيح في مسائل القاعدة، أن ينظر إلى اللفظ عند بعد المعنى، وإلى المعنى عند قربه.

ولعل هذا الكلام أقرب من كلام الرافعي؛ فإن الطريق التي حاولها بعيد أن تستقيم في كل الفروع.

أما قوله: في بعتك بلا ثمن رفعا لأول اللفظ مناقشة يمكن أن يقال إن هذا غير منتظم بالكلية، لأن بعتك بمجرده لا يقتضي شيئا حتى يذكر الثمن، فإذا نفاه لم يرد النفي على شيء ولولا وروده لثبت. فلا يكون كتعقيب الإقرار بما يرفعه.

الأمر الخامس: في تعديد فروعها.

فمنها: المسألة التي جعلها صاحب التتمة والبحر أم الباب: إذا وهب بشرط

ص: 176

الثواب فهل يبطل لتناقضه؟ أو يصح ويكون هبة اعتبارا باللفظ؟ أو بيعا اعتبارا بالمعنى؟ الأصح الثالث.

وعبر صاحب التتمة والبحر عن المسألة بأن يقول: وهبتك بألف أو هذا لك بألف.

فإما وهبتك بألف فظاهر وأما هذا لك بألف؛ فلم أجده في غير كلامهما والذي يظهر أن هذا لا تعارض فيه بين اللفظ والمعنى؛ فإن لفظ هذا لك صالح لأن يكون بطريق البيع كصلاحيته لأن يكون بالهبة وقوله بعده: "بألف" صريح في معنى البيع.

فالذي يظهر القطع بأن هذا بيعن غير أن لفظه هذا يحتمل أن يكون كناية في البيع؛ فلا يطرق هذا خلاف في كونه بيعا إلا من قبل الخلاف في انعقاده بالكنايات.

ومنها بعتك بلا ثمن أو لا ثمن لي عليك؛ فقال: اشتريت وقبضه فليس بيعا، وفي انعقاده هبة قولا تعارض اللفظ والمعنى، وفي كونه مضمونا على القابض وجهان ذكره الرافعي في باب السلم وحذف الوالد رحمه الله في "شرح المنهاج" صورة ولا ثمن لي عليك.

قلت: ويظهر أن التهافت في بلا ثمن أقوى منه في ولا ثمن لي عليك؛ فإن جعل في الأولى عدم الثمن عوضا، وعدم الثمن لا يكون عوضا؛ بخلاف ولا ثمن لي عليك، فإن غايته نفي الثمن لا جعل النفي عوضا.

ولو قال قائل: هذا الجار والمجرور وحده تهافت، لا قضية أن عدم الثمن ثمن، لم يبعد.

واقتصر الإمام في "النهاية" قبيل كتاب السلم على تصوير المسألة بأن يقول: على أن لا ثمن لي عليك.

وهذه صيغة ثالثة يظهر أنها بين الصيغتين؛ فهي فوق قوله: ولا ثمن لي عليك، للتصريح باشتراط نفي الثمن ودون بلا ثمن، لما في تلك من جعل عدم الثمن ثمنا.

ولك هنا أن تبحث عن أن المفسد في قولنا: بلا ثمن هل هو نفي الثمن أو عدم ذكره؟

وبأرشق من هذه العبارة هل عدم ذكر الثمن أو ذكر عدم الثمن بحثا ينبني عليه الفروع عقيبه؟

ص: 177

ومنها: إذ قال: بعتك ولم يتعرض للثمن بنفي ولا إثبات؛ فيظهر.

إن قلنا: المفسدة -في الفروع قبله- عدم الثمن [لأن] الفساد فيه وفي هذا سواء.

وإن قلنا: المفسد جعل العدم ثمنا؛ ففساد هذا دون فساد ذاك، مع اشتراك الكل في الفساد.

فإن قلت: لا ضرورة لي -مع اشتراكهما في الفساد- إلى هذا التدقيق لانتفاء الجدوى فيه.

قلت: له فائدة؛ فإنا إن قلنا: هما في الفساد سواء؛ فيظهر أن يتخرج في كونه هبة الخلاف الأول بعينه، وبذلك صرح صاحب التتمة فقال: إذا بعتك -ولم يذكر ثمنا- فإن راعينا المعنى انعقد هبة، وإن راعينا اللفظ فهو بيع فاسد، ويظهر أن يجري الخلاف فيه في الضمان كما يجري في الأول، وإن قلنا: الأول أفسد ونعني بكونه أفسد أن انتفاء صفة البيع عنه أوضح، وثبوت الهبة أولى.

وهذه طريقة الإمام في "النهاية"، وتبعه الرافعي فقال: بعدما حكى في بعتك بلا ثمن هل يكون هبة؟ قولين، وهل يكون مضمونا؟ وجهين:

ما نصه: ولو قال بعت هذا -ولم يتعرض للثمن أصلا- لم يكن ذلك تمليكا، والمقبوض مضمون، ومنهم من طرد فيه الوجهين. انتهى.

وصرح الإمام -في النهاية- بالاتفاق على أن لا يكون تمليكا. إذا عرفت هذا فلا خلاف عندهما في أن عدم التعرض للثمن لا يقتضي تمليكا كما لا يقتضي بيعا؛ بخلاف نفيه.

وبهذا يعلم أن قول النووي في "الروضة" في بعتك -مجردا- ليس تمليكا على المذهب -مستدرك- فإنه إن أشار بقوله: إلى خلاف فليس الخلاف في الرافعي، ولا تقتضيه طريقته؛ لأنها تقتضي التفرقة بين بعتك -المطلق- وبعتك المقيد بنفي الثمن.

وأما صاحب التتمة فحكى الخلاف لما اقتضته طريقته من استواء الصورتين. والفرق يؤخذ مما ذكره الإمام من أنه إذا نفي الثمن فقد رضي بحظه، وهذه قرينة الهبة، ومن ثم جرى الوجهان في أنه هل يكون مضمونا على قابضه.

فمن قائل بالضمان، لأنه في حكم بيع فاسد، ومن قائل بعدمه ووجهه الإمام بأن

ص: 178

البائع رضي بحظه وبنى الأمر عليه؛ فصار القبض قبض وديعة ولم يجزما على الصحيح عند الإمام والرافعي وغيرهما فيما إذا سكت عن الثمن بل كان الصحيح أنه كان مضمونا.

وقد بان لك بهذا فائدة التردد في أن الفساد هل هو مستمد من عدم الثمن أو من ذكر عدم الثمن لبناء الضمان عليه.

ويمكن أن يقال: بعتك بلا ثمن لا انعقاد له في البياعات أصلا؛ وإنما هو متردد بين الهبة واللغو. ومن ثم لا يضمن على قابضه، وإلى ذلك الإشارة بقول الإمام؛ لأنه في حكم بيع فاسد ولم يقل أنه بيع فاسد.

وأما بعتك إذا تجرد عن الثمن فينعقد بيعا فاسدا ومن ثم يكون مضمونا. وبهذا يظهر لك أن جانب الهبة في بعتك بلا ثمن أرجح منه في بعتك المجرد عن ذكر الثمن؛ لأن قوله بلا ثمن قرينة أنه يجوز بلفظه بعتك عن ملكتك، خلاف بعتك مجردا؛ فإنه لا قرينة [تصحبه]1.

نعم: قد يقال بعتك بلا ثمن حاصله الهبة بشرط الثواب؛ فيتخرج فساده وإن كان هبة أيضا -على طريقة من يقول إن الهبة إذا بقي فيها الثواب تفسد بناء على أن مطلقها [يقتضيه] 2 وإن شرط انتفائه شرط ينافي مقتضى العقد، لكن المذهب خلافه.

وهنا بحث لم يبرح يختلج في ذهني، وهو أن المقتضي للملك في وقولنا بعتك بدرهم صيغة الإيجاب مع ذكر الثمن فيكونان [جزء علة]3.

وهذا يرشد إليه عد الأصحاب الثمن ركنا أو صيغة الإيجاب وحدها -والثمن شرط- وهذا أقرب عندي.

ويتخرج على هذا السكوت عن ذكر الثمن يكون على الأول مقتضيا للإبطال وأن الكلام لغو، وعلى الثاني يكون فاقد شرط؛ فيمكن أن يقال: إنه بيع فاسد ويفرق هنا بين الفاسد والباطل كما يفرق بين الخلع والكتابة ونحوهما.

وقد يتخرج عليه أيضا -على الأول- أن بلا ثمن رافع؛ لأن المقتضى بعتك- بمجردها- لا الثمن؛ إذ الثمن شرط لا شطر، فيجيء ما قاله الرافعي، وإن قلنا: إنه ركن

1 في "ب" لصحته.

2 في "ب" تقتضيه.

3 في "ب" جرى عليه.

ص: 179

فليس برافع، إذ لم يوجد شيء حتى يرتفع بنفي الثمن.

وقد بتخرج عليه أيضا فرع لم أجده منقولا، وهو ما إذا قال المشتري: قلبت عقب قول البائع: بعتك مع قوله بدرهم.

فإن قلنا: الثمن ركن فلا يصح؛ لأن الشرط في القبول أن يكون عقب الإيجاب ولا يتم الإيجاب إلا بذكر الثمن.

وإن قلنا: شرط، فيحتمل أن يقال: بالصحة؛ لأن القبول وجد بعد تمام الإيجاب، ولا يضر مقارنة القبول للشرط.

وقد يتخرج عليه أيضا الفرع المنقول عن صاحب الذخائر فيما إذا تلفظا بالثمن ولكن نويا أن يحتمل.

قلت:

ومنها: مسألة الاستيجاب إذا قال: بعني؛ فقال بعتك؛ فالصحيح الصحة؛ لأن الطلب والاستدعاء مثل صريح اللفظ والبطلان يخرج من اعتبار اللفظ دون المعنى، كذا قال صاحب التتمة، قال: فإن اللفظ الموضوع للعقد لم يوجد، قلت: وفيه نظر.

ومنها: إذا قال: بعتك إن شئت صح نظرا إلى المعنى؛ فإنه لو لم يشأ لم يشتر، وقيل: يبطل، للفظ التعليق.

ومنها: قال القاضي أبو سعد الهروي في "الإشراف"، لو قال بعتك هذه الدار على أن لك نصفها صح كما لو قال: إلا نصفها، لأن التخصيص كالاستثناء. نقول: جاءني القوم وما جاءني زيد كما تقول: إلا زيدا.

وقال محمد بن الحسن1: لا يصح لأنه قابل الدار بجميع الثمن على أن له نصفها، ففيه تناقض.

قال القاضي أبو سعد: هذا محتمل.

1 أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني مولى لبني شيبان مات بالري سنة سبع وثمانين ومائة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة حضر مجلس أبي حنيفة سنتين ثم تفقه على أبي يوسف وصنف الكتب الكثيرة ونشر علم أبي حنيفة قال الشافعي رحمه الله حملت من علم محمد وقر بعير، وقال أيضا ما رأيت أحدا يسأل مسألة فيها نظر إلا وتبينت في وجهه الكراهة إلا محمد بن الحسن الشيرازي ص135، الجواهر المضيئة 2/ 42، ابن خلكان 3/ 324، العبر 1/ 302.

ص: 180

قلت: كان الأول ينظر إلى المعنى؛ فإنه نزل صيغة الشرط -وهي قوله على أن لك نصفها- بمنزلة الاستثناء لاشتراكهما في أن كلا منهما تخصيص. والثاني ينظر إلى اللفظ.

واعلم أني وجدت في غير نسخة -كما رأيت على أن لك نصفها، ولك أن تقول قوله: على أن لك نصفها لا يقتضي تخصيصا؛ وإنما هو ذكر لبعض أفراد الجملة، فهو كذكر بعض أفراد العام وذلك لأنه إذا كانت للمشتري كلها فقد كان له نصفها، فلا يقتضي هذا تبقية النصف للبائع إلا على القول بمفهوم اللقب والاعتبار به؛ ألا ترى أنهم قالوا في باب العتق إذا قال لعبديه: إذا جاء الغد وأحدكما في ملكي فهو حر فجاء الغد وهما في ملكه عتق أحدهما.

مع أن مفهوم أحدكما أن يكون هو بمفرده ولم ينظر إليه وهذا أوضح من أن يسشهد عليه.

وقوله: "إنه بمنزلة الاستثناء" يقتضي أنه يبقى للبائع التصرف فلعل الصيغة على أن لي نصفها.

وكذلك نقله الوالد في أوائل البيع من "شرح المنهاج" عن القاضي أبي سعد مع أن إحدى النسخ التي وقفت عليها من الإشراف هي نسخة والدي ولم أقل فيها إلا ما نقلت، ولعل الشيخ الإمام حرر النقل عنه فليكن الأمر على ما نقله، هو ويحمل أمر ما وقفت عليه من النسخ على غلط الناسخ.

وبالجملة: يشهد للصحة مسألة بعتك عشرة آصع كل صاع بدرهم على أن أزيدك صاعا أو على أن أنقصك صاعا.

ومنها: لو قال: أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد فليس يسلم قطعا، ولا ينعقد بيعا على أصح القولين عند المشايخ الثلاثة، لاختلاف اللفظ.

والثاني ينعقد بيعا نظرا إلى المعنى.

ومنها: اشتريت منك ثوبا صفته كذا وكذا بهذه الدراهم فقال: بعتك ففيه وجهان: اختلف المشايخ الثلاثة في أرجحهما. فزعم الشيخان -الرافعي والنووي- أنه ينعقد

ص: 181

بيعا اعتبارا باللفظ، وزعم الشيخ الإمام أنه ينعقد سلما نظرا إلى المعنى، واللفظ لا يعارضه؛ لأن كل سلم بيع.

ومنها: إذا قال لمن عليه الدين: وهبته منك؛ ففي اشتراط القبول وجهان:

أحدهما: أنه يشترط اعتبارا بلفظ الهبة.

والثاني: عدم اشتراطه؛ فإن معناه الإبراء.

وصححه الرافعي في كتاب الصداق، وذكر الخلاف في باب الهبة- من غير ترجيح وبناه على اللفظ والمعنى.

ونظير المسألة الصلح من ألف في الذمة على خمسمائة في الذمة أيضا؛ فالأصح الصحة، ثم قال الرافعي: الأظهر اشتراط القبول وقد يقال: إنه مخالف لما صحح في نظيره من الهبة.

وذهب الشيخ الإمام رحمه الله بعد ما حكى ما ذكرته من كلام الرافعي إلى أنا إن اعتبرنا اللفظ اشترط القبول في الصلح والهبة، وإن اعتبرنا المعنى اشترط في الهبة دون الصلح.

ومنها: قال أبو سعد الهروي: أعتقه عني بألف، بيع في وجه، وعتق بعوض في وجه.

فائدته: أنت حر غدا على ألف.

إن قلنا: بيع، فسد، ويجب قيمة العبد.

وإن قلنا: عتق بعوض، صح، ويجب المسمى.

قلت: وهذه مسألة غريبة، وقد تبعه في ذكرها -على هذا الوجه- القاضي شريح الروياني في أدب القضاء.

ومنها: أوصى لأجنبي بزائد على الثلث، وأجاز الوارث وقلنا الإجازة ابتداء عطية فلم تتقيد الإجازة بلفظ الإجازة؟ فيه وجهان، ووجه المنع أن الإجازة تشير إلى أمر سابق.

وما سبق باطل، قال الغزالي: وهذا التقدير ينبني على أن النظر إلى الألفاظ أو إلى المقاصد؟

ص: 182

ومنها: إذ قال خالعتك ولم يذكر عوضا.

خرجها القاضي أبو سعد على القاعدة، وحكى فيها قولين أحدهما: لا شيء.

والثاني: أنه خلع فاسد، ويجب المهر.

قال: وفيه وجه، أنه طلاق رجعي.

قلت: الصحيح أن صراحة الخلع تعتمد ذكر المال؛ فإن لم يذكره فهو كناية ووقع في كلام المنهاج النووي ما يوهم تصحيح أنه يجب مهر المثل، وهو مؤول كما ثبت في التوشيح، والقول بأنه رجعي غريب.

قال القاضي أبو سعد: وكذا لو قال خذها مضاربة؛ ففي قول إبضاع فلا يجب أجر مثل، وفي قول: مضاربة فاسدة فيستحقه.

ومنها: الرجعة بلفظ النكاح، فيه خلاف خرجه القاضي أبو سعد، على القاعدة.

ومنها: الأصح أن بيع البائع المبيع قبل قبضه كبيعه لغيره؛ فيكون باطلا ويحل الوجهين فيما إذا باعه بغير جنس الثمن أو بزيادة أو نقص أو تفاوت صفة؛ وإلا فهو إقالة بلفظ البيع.

قال صاحب التتمة: وخرجه الشيخ الإمام رحمه الله على أن النظر لصيغ العقود أو لمعانيها، قال: ثم رأيت التخريج للقاضي الحسين قال: إن اعتبرنا اللفظ؛ فعلى الوجهين وإن اعتبرنا المعنى فإقالة.

ومنها: إذا قال: استأجرتك لتعهد نخيلي بكذا من ثمرتها.

فوجهان: أحدهما: أنه يصح مساقاة نظرا إلى المعنى، وأصحهما: إجارة فاسدة نظرا إلى اللفظ وعد وجود شرط الإجارة؛ لأن الثمرة، المعدومة لا تصلح أن تكون كذا بدراهم معلومة فوجهان.

أحدهما: يصح إجارة نظر إلى المعنى.

وأصحهما: أنها مساقاة فاسدة نظرا إلى اللفظ وعدم وجود شرط المساقاة؛ إذ من شرطها أن لا تكون بدراهم.

ص: 183

ومنها: قدمنا أنه إذا وهب بشرط ثواب معلوم كان بيعا على الصحيح اعتبارا بالمعنى، ثم وفي الشيخ الإمام بتمام التشبيه فصحح أنه يثبت فيه الخياران: المجلس والشرط، وأنه يجوز للولي أن يهب مال الصبي بشرط معلوم، وقال: إن ذلك هو الذي تقتضيه قواعد المذهب.

وقال الرافعي والنووي: لا يثبت الخيار؛ لأنه لا يسمى بيعا، ولا يهب الولي مال الصبي بشرطه؛ لأن الهبة لا يقصدها بها العوض.

كذا ذكره في البيع والحجر. وفي كتاب الهبة فإن ثبت الخيار؛ فليكن المعتمد ما ذكره في باب الهبة من ثبوت الخيار وفاء بتمام التشبيه، واعتماد على ما ارتضاه الوالد رحمه الله؛ فإن الراجح عنده ثبوت الخيارين، وصحة هبة الولي مال الصبي بشرط الثواب.

غير أن سؤالا، وهو أنه في باب الشفعة فيما إذا وهب مطلقا، وقلنا: المطلقة تقتضي الثواب.

ذكر أن الرافعي صحح ثبوته الشفعة، وأنه صحح أن له يأخذ قبل القبض أيضا؛ لأنه صار بيعا، وتبعه النووي.

وهذا منهما اعتبارا للمعنى، عكس ما فعلاه، في إثبات الخيار في الهبة بشرط الثواب؛ فإنهما اعتبر اللفظ.

ثم قال الوالد: في باب الشفعة في هاتين المسألتين "إن في تصحيح الرافعي نظرا، وإن الأولى النظر إلى جانب اللفظ هنا عكس ما فعله في مسألة الخيار.

وليس لك أن تقول: الشفعة على خلاف القواعد؛ فاقتصرنا على مورد النص وهو فيما كان بيعا أو نحوه في اللفظ والمعنى لأنا نقول أيضا: إثبات الخيار على خلاف القواعد، وقد أثبتناه في الهبة ذات الثواب اعتبارا بالمعنى؛ فإما أن يعتبر المعنى في الوضعين أو يترك فيهما وأما التفرقة فلا تبين.

وجواب هذا السؤال: أن الوالد إنما يعتبر المعنى. إذا اقترن بلفظ الهبة شرط الثواب فإن ذكره يشبه ذكر السبب؛ فتعين كون لفظ الهبة باب مناب لفظ البيع، ولا كذلك إذا

ص: 184

لم يصرح به، [ولذلك] 1 وافق في الهبة المصرح فيها باشتراط الثواب على ثبوت الشفعة فيها؛ وإنما منع الشفعة في المطلقة.

وإن قلنا [بمقتضى] 2 الثواب فليست المطلقة، وإن قلنا يقتضي الثواب بمنزلة المذكور فيها الشرط فإنه قرينة العوضية.

قاعدة: الفرض أفضل من النفل3.

قال صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه تعالى: "وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي من أداء ما افترضته عليه

" الحديث4.

قال الشافعي رضي الله عنه: إن الله لما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من وحيه وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم من طاعته، افترض عليه أشياء خففها عن خلقه ليزيده بها إن شاء الله قربة إليه.

وبين الشافعي: قدس الله روحه -حكمة الافتراض الدالة على أنه أعلى درجة. من سائر المطلوبات. قال الإمام في أوائل النكاح، قال الأئمة خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيجاب أشياء لتعظيم ثوابه، فإن ثواب الفرائض تزيد على ثواب المندوبات.

قال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله لا يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء فرائضهم". وقال صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: "عبدي إد ما افترضت عليك تكن أعبد الناس وانته عما نهيتك تكن أورع الناس وارض بما قسمت لك تكن أغنى الناس وتوكل علي تكن أكفأ الناس".

وقال بعض علمائنا: الفريضة يزيد ثوابها على ثواب النفل بسبعين درجة وتمسكوا بما رواه سلمان الفارسي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضان، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى

1 وفي "ب" ولكذلك.

2 في "ب" تقتضي.

3 الأشباه للسيوطي ص145.

وقالوا:

الفرض أفضل من تطوع عابد

حتى ولو قد جاء منه بأكثر

إلا التطهر قبل وقت وابتدا

للسلام كذاك إبراء معسر

4 البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه 11/ 340 في كتاب الرقاق/ باب التواضع "6502".

ص: 185

سبعين فريضة فيما سواه1؛ فقابل النفل فيه بالفرض في غيره، وقابل الفرض فيه بسبعين فرضا في غيره فأشعر هذا بأن الفرض يزيد على النفل بسبعين درجة من طريق الفحوى. انتهى كلام الإمام في النهاية.

فإما حديث "لا يتقرب المتقربون

"؛ ففي صحيح البخاري، وأما حديث عبدي أد ما افترضته عليك. [فعلى] 2 حفظي أن شيئا منه في سنن ابن ماجة، وأما حديث سلمان فرواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في شعب الإيمان، وقوله: فأشعر بأن الفرض يزيد بسبعين لعل مراده بالسبعين في الحديث العدد الكبير، وذكر لفظ السبعين مبالغة لا للتقييد بالعدد [الخاص] 3، ومن ثم قال الإمام: يزيد بالسبعين ولولا ذلك لقال تسع وستين وقوله: "أشعر من جهة الفحوى" لم يتبين لي وجه هذا الإشعار.

فصل:

إذا عرفت أن الفرض أفضل من النفل. وأحب إلى الله منه وأكثر أجرا؛ فاعلم أن هذا أصل مطرد، إذ لا سبيل إلى نقضه بشيء من الصور لأننا إذا حكمنا على ماهية بأنها خير من ماهية أخرى -كقولنا: الرجل خير من المرأة وليس الذكر كالأنثى- لم يمكن أن تفضلها الأخرى بشيء من تلك الحيثية؛ لأنها لو فضلتها من تلك الحيثية لكان ذلك خلطا؛ فإن الرجل إذا فضل المرأة -من حيث إنه رجل لم يمكن أن تفضله المرأة من حيث أنها غير رجل، وإلا لتكاذبت القضيتان وهذا بديهي، نعم قد تفضل امرأة ما رجلا ما من جهة غير الذكورة والأنوثة، والقصد بهذا [التقرير] 4 أنه شاع أنه يستثنى من هذه القاعدة ثلاثة فروع:

أحدها: إبراء المعسر؛ فإنه أفضل من إنظاره، إنظاره واجب، وإبراؤه مستحب.

والثاني: الابتداء بالسلام فإنه سنة والرد واجب، والابتداء أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم:

1 أخرجه ابن خزيمة وقال وإن صح الخبر.

أخرجه البيهقي في الشعب، 3/ 305 في كتاب فضائل شهر رمضان حديث "3608".

وقال الحافظ ابن حجر مداره على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.

2 في "ب" ففي.

3 في "أ" الحامل والمثبت من "ب".

4 في "ب" التقدير.

ص: 186

"وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام1.

وحكى القاضي حسين في "التعليقة" وجهين في أن الابتداء أفضل أو الجواب، كذا نقل الشيخ برهان الدين في باب صفة الصلاة.

والثالث: قال ابن عبد السلام: صلاة نافلة واحدة أفضل من إحدى الخمس الواجب فعلها على من ترك واحدة منها ونسي عينها.

فأما الأول: فكنت أسمع الشيخ الإمام رحمه الله يقول: في الانفصال عنه الإبراء يشتمل على الإنظار اشتمال الأخص على الأعم لكونه تأخيرا للمطالبة فلم يفضل ندب واجبا؛ وإنما فضل واجب -وهو الإنظار الذي تضمنه الإبراء. وزيادة وهو خصوص الإبراء- واجبا آخر. وهو مجرد الإنظار.

وقد يقال: الإنظار هو تأخير الطلب مع بقاء العلقة والإبراء زوال العلقة وهما قسمان لا يشمل أحدهما الآخر؛ فينبغي أن يقال في التقرير: إن الإبراء محصل لمقصود الإنظار وزيادة.

وهذا كله بتقدير تسليم أن الإبراء أفضل، وغاية ما استدل عليه. بقوله تعالى:{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وهذا يحتمل أن يكون افتتاح كلام فلا يكون دليلا على أن الإبراء أفضل.

ويتطرق من هذا إلى أن الإنظار أفضل، لشدة ما يناله المنظر من ألم الصبر مع شوق القلب، وهذا فضل ليس في الإبراء الذي انقطع فيه اليأس؛ فحصلت فيه واحدة من الحيثية ليست في الإنظار، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أنظر معسرا كان له بكل

1 متفق عليه من رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أخرجه البخاري 10/ 492 في كتاب الأدب باب الهجرة حديث "6077" ومسلم 4/ 1984 في كتاب البر/ باب تحريم الهجر حديث 25/ 2560.

وحديث أبي أمامة أيضا مشيرا إلى هذا، قال صلى الله عليه وسلم:"إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام". أخرجه أحمد في المسند 5/ 254 ضمن مسند أبي أمامة رضي الله عنه وأبو داود في السنن 4/ 451 في الأدب/ باب فضل من بدأ السلام "5197" والترمذي 5/ 56 في كتاب الاستئذان باب فضل الذي يبدأ بالسلام "2694"، وقال هنا حديث، قال محمد أبو فروة الرهاوي مقارب الحديث إلا أن ابنه محمد بن يزيد يروي عنه مناكير.

ص: 187

يوم صدقة"؛ فانظر كيف وزع أجره على الأيام تكثر بكثرتها، وتقل بقلتها -ولعل سره ما أبديناه، فالمنظر كل يوم ينال عوضا جديدا، ولا يخفى أن هذا لا يقع بالإبراء؛ فإن أجره- وإن كان أوفر- يستعقبه وينتهي بنهاية. ولست أستطيع أن أقول: الإنظار أفضل على الإطلاق؛ وإنما قلت ما قلت على حد سبق درهم دينارا أو سبق درهم مائة ألف كما سأبحث عنه إن شاء الله تعالى فينظر إلى ما حررته من البحث فإنه محتاج إلى مزيد تحرير.

وأما الابتداء السلام؛ فليس في الحديث أن الابتداء خير من الجواب، بل إن المبتديء خير من المجيب، وهذا لأن المبتديء فعل حسنة وتسبب إلى فعل حسنة وهي الجواب مع ما دل عليه الابتداء من حسن طوبة المتبدئ وترك ما يكرهه الشارع من الهجر والجفاء؛ فإن الحديث ورد في المسلمين يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا فكان المبتديء خيرا من حيث إنه مبتديء ترك ما كرهه الشارع من التقاطع لا من حيث إنه مسلم. واعلم أن للقرافي في كتاب الفروق كلاما على هذه القاعدة يقبل المؤاخذة.

فمنه: أنه اعترض على تقدم الواجب على المندوب بجمع [المطر]1.

قال فإنه يلزم منه تقديم المندوب فإن المندوب الجماعة فسقط من أجلها الوقت الواجب رعاية لتحصلها وكذلك الجمع بعرفة ثم قال المندوب قسمان ما قصرت مصلحته عن الواجب وهو الغالب وما كانت مصلحته أعظم كالتصدق بدينار أعظم أجرا من التصدق بدرهم، وقد يستوي مصلحتهما فيكون الواجب أكثر ثوابا كالفاتحة في الصلاة وخارجها، ودينار الزكاة أعظم من دينار الصدقة، ثم قال: والمندوبات التي قدمها الشارع على الواجبات فسبع صور إبراء المعسر على إنظاره، وصلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ2 وصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام3 مع أن الجماعة غير واجبة، والصلاة فيه غير واجبة وصلاة في

1 سقط في "أ".

2 بسبع وعشرين درجة كما ورد بذلك الحديث.

انظر البخاري 2/ 131 في الأذان/ باب فضل صلاة الجماعة حديث "645" ومسلم 1/ 450 في المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة "249/ 650".

3 البخاري 3/ 63 في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة حديث "1190" ومسلم 2/ 1012 في الحج/ باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة "505/ 1394".

ص: 188

المسجد الحرام كذلك وفي المسجد الأقصى بخمس مائة، وصلاة بسواك أفضل من سبعين بلا سواك1، والخشوع في الصلاة مندوب، وفي الصحيح2:"لا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة" قال بعض العلماء: إنما أمر بعدم الإفراط في السعي لئلا يذهب خشوعه إذا أتى إليها فأمر بالسكينة وإن فاتته الجمعة.

قلت: ما ذكره في الجمع بالمطر غير مسلم؛ فليس الجمع أفضل -على القول به- وقوله: من المندوب ما مصلحته أعظم من مصلحة الواجب- فيه نظر، والمثال الذي ذكره ممنوع، فألف دينار لا يجزئ عن ردهم زكاة والله في الفرائض أسرار لا تنتهي العقول إليها ومن ثم منع الشافعي القيمة في الزكاة وفي الحديث "سبق درهم دينارا أو سبق درهم مائة ألف" دل على أن الأفضلية ليست بالكمية. وأما الصور السبع؛ فقد تقدم الكلام في إبراء المعسر.

1 أخرجه البيهقي من حديث فرج بن فضالة عن عروة بن رويم عن عمرة عن عائشة مرفوعا به، وقال: إنه غير قوي الإسناد، وساقه أيضا من طريق الواقدي عن عبد الله بن يحيى الأسلمي عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة مرفوعا بلفظ: الركعتان بعد السواك أحب إلي من سبعين ركعة قبل السواك، وضعفه أيضا الواقدي، وقد رواه من غير جهته الحارث بن أبي أسامة في مسنده من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود بلفظ: صلاة على أثر سواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك؛ بل أخرجه ابن خزيمة وغيره كأحمد والبزار والبيهقي من طريق ابن إسحاق قال: ذكر الزهري عن عروة بلفظ: فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفا وتوقف ابن خزيمة والبيهقي في صحته خوفا من أن يكون من تدليسات ابن إسحاق وأنه لم يسمعه من الزهري، لا سيما وقد قال الإمام أحمد أنه إذا قال: وذكره لم يسمعه وانتقد بذلك تصحيح الحاكم وهو قوله إنه على شرط مسلم، ولكن قد رواه معاوية عن الزهري، أخرجه البزار وأبو يعلى والبيهقي وجماعة وابن عدي في كامله، وفي معاوية ضعف أيضا قال البيهقي ويقال إن ابن إسحاق أخذه منه، ورواه أبو نعيم من حديث الحميدي عن سفيان عن منصور عن الزهري ورجاله ثقات، وفي الباب عن أبي هريرة عن ابن عدي في كامله بلفظ: صلاة في أثر سواك، أفضل من خمس وسبعين ركعة بغير سواك وعن ابن عباس عن أبي نعيم في السواك له بلفظ: لأن أصلي ركعتي بسواك أحب إلي من أن أصلي سبعين ركعة بغير سواك وسنده جيد وعن أنس وجابر وابن عمر. وكذا عن أم الدرداء وجبير بن نفير مرسلا، كما بينته في بعض التصانيف، وبعضها يعتضد ببعض، ولذا أورده الضياء في المختارة من جهة بعض هؤلاء، وقول ابن عبد البر في التمهيد عن ابن معين: إنه حديث باطل هو بالنسبة لما وقع له من طرقه.

5 متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

البخاري 2/ 390 في الجمعة/ باب المشي إلى الجمعة "908"، ومسلم 1/ 420-421 في المساجد/ باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة "151/ 602".

ص: 189

وأما صلاة الجماعة ففضلت صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة لما أثرت الجماعة في صفتها، ولم تفضل بخمس وعشرين فرضا ولئن فضلته بخمس وعشرين فرضا فما الأربع والعشرون في مقابلة الجماعة؛ بل في مقابلة ذات الجماعة، لما اشتملت عليه من جمع قلوب ومشي إلى المسجد غالبا وانتظار الصلاة والعبد لا يزال في صلاة ما دام ينتظر الصلاة1؛ فهناك صلوات في الحقيقة فما فضل إلا فرض فرضا لا نفل فرضا وكذلك بقوله في الصلاة في المساجد الثلاثة وفي الصلاة بسواك، هذا إن قلنا المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة

" المراد به الفرض، وهو قول الطحاوي من الحنفية.

ومذهبنا كما نقل النووي في شرح المهذب -أنه يعمم الفرض والنفل جميعا؛ فإن قلت: فليلزم حينئذ أن تكون نافلة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف فرض، فرجحت النافلة الفرض.

قلت: قد يكون الفرض في المسجد أفضل من الفرض في غيره، والنافلة فيه أفضل من النافلة في غيره، لا أن النفل أفضل من الفرض؛ لاختلاف النوع، وليس في الحديث صيغة تعميم للنوعين.

أو يقال: وهو الذي أعتقده: أن المضاعفة تحصل من حيث أنها في المسجد وقد يحصل للفرض من حيث أنه فرض فضل آخر، وإذا كان هناك وجهات لم يلزم تقديم النفل على الفرض.

فإن قلت: ذاك الفرض الآخر الذي يختص به الفرض كيف يوازي ألف صلاة ويزيد، قلت: لم يمتنع ذلك ولئن لم يوازه فليس يلزم من كثرة الثواب الأفضلية وهذا باب آخر يطول الشرح فيه.

وقد بحثت مرة أخرى مع الشيخ الإمام [الوالد] 2 رضي الله عنه في صلاة الظهر -بمني يوم النحر- إذا جعلنا "منى" خارجة عن حدود الحرم - أن تكون أفضل من صلاتها

1 متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.

البخاري 2/ 131 في الأذان/ باب فضل صلاة الجماعة "647" وفي البيوع 4/ 338/ باب ما ذكر في الأسواق "2119" ومسلم 1/ 459 في كتاب المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة حديث "272/ 649"، و"274/ 649".

2 سقط في "ب".

ص: 190

وفي المسجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها "بمنى" يومئذ والاقتدار به أفضل أو في المسجد لأجل المضاعفة؟ فقال: بل في "منى" وإن لم تحصل بها المضاعفة؛ فإن في الاقتداء بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير ما يربو على المضاعفة.

فإن قلت: كيف تقولون في قوله صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي

" أنه يعم الفرض والنفل. وقد تطابقت الأصحاب ونص الحديث على أن نافلة المرء في بيته أفضل لم يستثن [إلا ما لا يتأتى] 1 إلا ما يستحب له في المسجد كالعيد ونحوه أو ما لا يتأتى إلا فيه كركعتي الطواف.

قلت: هذا من القبيل الأول: فلا يلزم من المضاعفة في المسجد أن يكون أفضل من البيت، والظاهر أنه ذو وجهتين، وبالوجهتين تتم المضاعفة في نافلة [المساجد] 2 وإن لم يوجد في فرائض غيرها.

وغاية الأمر أن يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل ولا يلزم من ذلك جعله أفضل؛ فإن للأفضل مزايا كما أن للمفضول مزية. وبذلك صرح الشيخ عز الدين بن عبد السلام؛ فقال: قد يقدم المفضول على الفاضل في بعض الصور، كتقديم الدعاء بين السجدتين على القراءة ولقد سألت الشيخ الإمام تغمده الله تعالى برحمته أو سئل. وأنا أسمع عن حديث "المتحابون في الله على منابر من نور تغبطهم الأنبياء

الحديث3 - كيف يغبط الأنبياء المتحابين وهم أرفع درجة؟

فقال: لعل هؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب، والأنبياء عليهم السلام لا بد أن يسألوا عن التبليغ، وهيبة الرب خطيرة؛ فحالهم وإن كان أرفع؛ إلا أنهم يغبطون السالم من هذا العبء لراحته، ولا يلزم أن يكون حال الراحة أفضل.

هذا حاصل كلامه.

ومما يدل على أن المفضول قد تكون له مزية ليست للفاضل حديث "من وافق

1 سقط في "ب".

2 في "ب" المسجد.

3 أخرجه أحمد من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه في المسند 5/ 239 والترمذي 4/ 597 في الزهد/ باب ما جاء في الحب في الله "2390" والطبراني في الكبير 20/ 88 "168" والحاكم في المستدرك 4/ 419-420 في كتاب الفتن/ باب المتحابون في الله.

ص: 191

تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه"1؛ فإن ظاهره يشمل الكبائر والصغائر: وحديث "الإسلام يهدم ما قبله، والحج يهد ما قبله والعمرة تهدم ما قبلها"2. جعل الحج والعمرة كالإسلام، والإسلام يهدم الكبائر والصغائر.

ويدل عليه حديث $"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"3، وليس ذلك في الصلاة وهي أفضل.

وهنا سؤال، وهو أنه قد ثبت أن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر4؛ فإذا كانت الفرائض لا تكفر الكبائر فكيف تكفرها سنة. وهي موافقة التأمين إذا وافق التأمين.

وقد أخذ شخص مرة يهول أمر هذا السؤال ويقول: كبائر الفرائض تصغر عن هذا5 التكفير وكبائر الجرائم تكفرها نافلة؟

والجواب: أن المكفر ليس التأمين الذي هو فعل المؤمن، بل وفاق الملائكة وليس ذلك إلى صنعه، بل فضل من الله، وعلامة على سعادة من وافق.

وقد أطلنا في هذا، فلنعد إلى الفرض.

وأما الإتيان إلى الصلاة بالسكينة.

فصل:

إذا عرفت أن الفرض أفضل من النفل؛ فهل هذا في كل فرض من الفرائض التي ابتدأ الله إيجابها دون التي وجبت بتسبب العبد؟

1 أخرجه البخاري 2/ 266 في الأذان/ باب جهر المأموم بالتأمين "782" وأحمد في المسند 2/ 233-270 في مسند أبي هريرة رضي الله عنه والسنائي في المجتبي من السنن 2/ 144 في الافتتاح/ باب جهر الإمام بآمين.

2 مسلم 1/ 112 في الإيمان/ باب كون الإسلام يهدم ما قبله "192/ 121".

3 متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه البخاري 3/ 382 في الحج/ باب فضل المبرور "1521" ومسلم 2/ 983 في الحج/ باب فضل الحج والعمرة حديث "438/ 1350".

4 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة 1/ 209 في الطهارة/ باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة حديث "16/ 233".

5 سقط في "ب".

ص: 192