المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في مباحث نختم بها الكلام على قاعدة النية لتشبثها بأذيالها - الأشباه والنظائر - السبكي - جـ ١

[تاج الدين ابن السبكي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌القول في مباحث نختم بها الكلام على قاعدة النية لتشبثها بأذيالها

وجزم به ابن عبد السلام في القواعد- إن الأذان لا يحتاج إلى نية، ووقوف عرفة أولى منه بعدم الاحتياج.

أما المتروك: كترك الزنا وغيره فلا يحتاج إلى نية البتة لمجرد القصد ولا غيره بل يحصل اجتناب المنهي بكونها لم توجد وإن لم يقصد شيئا، ولا يتعرض بأن من خطرت المعصية بباله ونوى الكف عنها يثاب، فدل أن للنية مدخلا في [الثواب] 1 ثم على نية التقرب والكف الذي هو فصل يتردد بين الأصلين. إزالة النجاسة شابهت الأذان من حيث أنها نعل، وترك من حيث أنها قريب من التروك وغلبت هذه المشابهة، فلا يفتقر إلى النية، خلافا لابن سريج وأبي سهل الصعلوكي: حيث اشترطاها إلا في الاستنجاء بالحجر.

نقل هذا الاستثناء عنهما صاحب التتمة وادعى نفي الخلاف فيه

1 في ب للتوقف.

ص: 60

‌القول في مباحث نختم بها الكلام على قاعدة النية لتشبثها بأذيالها

المباحثة الأولى.

هل يشترط لتحقيق النية وصحتها – قدرة الناوي على المنوي وإمكان حصوله أولا يشترط؟ فيه نظر واحتمال مستمد من مسائل:

منها: لو تبع العبد، أو الزوجة أو [الجندي] 1 مالك أمره في السفر، ولا يعرف مقصده ونووا مسافة القصر قال في المنهاج2 قصر الجندي دونهما –يعني فيما قبل المرحلتين وكذا ذكر في الروضة3؛ إلا أنه قال قبل ذلك: لو نوى العبد أو الزوجة أو [الجيش] 4 ولم ينو السيد ولا الزوج ولا الأمير- فأقوى الوجهين أن لهم القصر، وظاهره في الجيش يخالف ما ذكره في الجندي.

قال الشيخ الإمام والدي [رحمه الله] 5 والذي يقتضيه الفقه أن الجندي الخارج

1 سقط في ب.

2 مغني المحتاج 1/ 268.

3 ج1 ص386. شرح المهذب 4/ 333.

4 سقط في ب.

5 سقط في أ.

ص: 60

مع أمير يجب عليه طاعته كالخارج للقتال، حكمه حكم العبد والزوجة؛ فليحمل لفظ الجيش عليه؛ وإلا فهو مستقل لا تابع.

ومنها: لو نوى بوضوئه استباحة صلاة لا يمكن فعلها كما إذا نوى أول السنة صلاة العيد، ومن بالشام الطواف بمكة؛ ففي ارتفاع حدثه خلاف حكاه في الأولى الروياني في تلخيصه عن والده وفي الثانية بعض الشارحين. وقربه من الخلاف فيمن يحرم بالظهر قبل الزوال.

ومنها: نية الإمام [الإمامة] ذكر الشيخ أبو محمد في التبصرة.. أن كمال نية الإمام أن ينوي أداء الظهر مثلا ويقول بقلبه إماما.

وعن تعليق الحسين في باب صفة الصلاة أن الإمام لا ينوي الجماعة لأنه لا يقتدي بأحد حتى ينويها.

قلت: وهذا فيه نظر؛ فإن الجماعة تحصل للمقتدي والمتقدى به، وقال أبو إسحاق: ينويها، وعن البيان1: لا تصح نية الإمامة عند الإحرام؛ لأنه لا يكون ذاكرًا لها؛ إذ ليس بإمام حتى يأتم به غيره فإن أراد أنه وعد لا نية،

قلت: والأرجح ما ذكره أبو إسحاق، واقتضاء كلام الشيخ أبي محمد من أنه يصح، بل ينبغي نية الإمام لمن وثق بالجماعة خلفه، دون من لا يثق، وكونه لا يصير إماما إلا بعد الاقتداء صحيح.

غير أن المنوي أبدًا كذلك لا يكون إلا بعد انعقاد النية؛ فإنه لا يكون مصليا حتى يتم نيته.

فإن [قيل] 2 لكن إذا نوى بعقله كونه مصليا، ولا كذلك كونه إماما لتوقفه على

1 العمراني وهو الإمام يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن يحيى أبو الخير العمراني اليماني ولد سنة تسع وثمانين وأربعمائة كان شيخ الشافعية ببلاد اليمن وكان إماما زاهدا ورعا عالما خيرا مشهور الاسم بعيد الصيت عارفا بالفقه وأصوله والكلام والنحو من أعرف أهل الأرض بتصانيف الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في الفقه والأصول والخلاف ويحفظ المهذب عن ظهر قلب توفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ابن قاضي شهبة 1/ 327 ابن السبكي 4/ 24، مرآة الجنان 3/ 318، شذرات الذهب 4/ 185، هداية العارفين 2/ 250.

2 في أقلت.

ص: 61

المقتضى.. قلت: إذا غلب على الظن حصوله كفى ذلك، وليس من الوعد في شيء بل هو نية جازمة تشهد العادة بوقوعه.

ومنها: وهو نظيرها، نقل الحافظ محب الدين الطبري في شرح التنبيه: "عن محمد بن علي التهامي من فقهاء اليمن أنه نقل أن من صلى سنة الجمعة المتقدمة عليها، ينوي [بها] 1 سنة الظهر.

قال لأنه: ليس على ثقة من استكمال شرائط الجمعة. قال التهامي: فأما نحن فننوي بها سنة الجمعة، لأن الغالب حصولها.

وقيل: ينوي بها سنة فرض الوقت، قال الطبري شارح التنبيه: ولا يتجه غيره قلت: الذي لا يتجه غيره أن ينوي سنة الجمعة، [ولا مبالاة بما يعرض من عدم حصولها إلا أن يكون في مكان يغلب فيه وبتقديره أقول: يصح أيضا أن ينوي سنة الجمعة] 2 ولا يلزم من ذلك وقوع الجمعة، كما ينوي سنة الظهر وإن أمكن ألا يصليه؛ بل نحن نستحب سنة الظهر لمن في نيته معصية الله بتركها، وينوي مع ذلك سنة الظهر هذا الذي يظهر.

المباحثة الثانية:

هل يشترط لصحة النية كون المحل قابلا لما نواه الناوي؟

يظهر ذلك في مسائل:

منها: إذا نوى المسافر الإقامة في موضع لا يصلح لها كالمفازة، فأظهر القولين انقطاع السفر.

ومنها: إذا نوى الإقامة وهو سائر، ولم تؤثر هذه النية؛ لأن السير يكذبها، وبذلك صرح النووي في شرح المهذب وأشار إليه الرافعي –كما قلناه- في الترشيح.

المباحثة الثالثة:

هل من شرط تحقق النية الجزم بمتعلقها؟ فيه نظر واحتمال.

والأقوى الاشتراط، ويشهد له مسائل.

منها: لو شك في الحدث بعد يقين الطهارة فتوضأ احتياطا ثم تبين الحدث أعاد

1 سقط في ب.

2 سقط في ب.

ص: 62

على الصحيح، لكونه توضأ مترددا. وقد زالت الضرورة بالتيقن.

ولو تيقن الحدث شك في الطهارة فتوضأ ثم بان محدثا أجزأه قطعا؛ لأن الأصل بقاء الحدث فلا يضر التردد معه.

ومنها: لو نسي صلاة من الخمس فصلى الخمس ثم علم المنسية. قال النووي: لم أر فيه شيئا قال: ويحتمل أن يكون على الوجهين أي في المسألة قبلها ويحتمل القطع بعدم الإعادة وهو الأظهر.

ومنها: تيمم لفائتة ظنها عليه أو لفائتة الظهر فكانت العصر لم يصح.

[ومنها: لو اقتدى بخنثى ثم بان بعد الفراغ كونها رجلا عاد في الأصح]1.

ومنها: لو نوى يوم الشك صوم غد إن كان من رمضان، فاعتقد كونه منه بشهادة أو استصحاب جاز.

ومنها: لو نذر صيام يوم قدوم زيد فبان بعلامة قدومه في الغد جاز تبييت الصوم له على قول.

ومنها: لو قال: اعتقت هذا العبد عن كفارة يميني إن حنث فبان أنه حنث، عتق عن الكفارة، وإلا فلا.

ولو قال: إن حلفت وحنث فبان حالفا. فعن البغوي ينبغي أن لا يجزيه لأنه شك في اليمين.

وفي الصورة السابقة، الشك في الحنث، والتكفير قبل الحنث جائز.

تنبيه: اعلم أنا لا يشترط في الجزم حصول القطع؛ بل يكفي ظن غالب لا اعتبار مع بالاحتمال.

ومن ثم يقولن: النية إذا اعتضدت بأصل لا يضرها التردد، بذلك صرح قوم منهم الوالد في شرح المنهاج في باب صلاة المسافر، ومثلوا له بالنية في آخر يوم من رمضان، وبما لو نوى المسافر مقصدا يقصر فيه، ثم نوى أنه إن وجد غريمه رجع، فلا يضره وله القصر على الصحيح.

1 سقط في ب.

ص: 63

ومن مسائلها: ما نقله النووي عن الدارمي1. وذكره الوالد في كتاب الصوم لو تيقن الحدث وشك في الطهارة وتوضأ.

وقال: إن كنت محدثا فهذا لرفعه وإلا فتبرد صح.

ولو كان متطهرا وشك في الحدث فتوضأ، وقال ذلك لم يصح عملا بالأصل في المسألتين. ولو شك في دخول وقت الصلاة فقال عنها: إن كان دخل وإلا فنافلة لم يجزه. وإن كانت [عليه] 2 صلاة وشك في أدائها فقال عنها: إن كانت وإلا فنافلة أجزأه. ولو أحرم يوم الثلاثين من رمضان. وهو شك فقال إن كان من رمضان فإحرامي بعمرة، وإن كان من شوال فبحج فكان شوالا، كان حجا صحيحا.

وذكر من أمثلة أخرى في شرح المنهاج.

المباحثة الرابعة:

في تحقيق النية وصحتها بتعيين نوع من متعلقها تردد يجري في صور.

منها: لو نرى رفع بعض الأحداث فأصح الأوجه صحة وضوئه مطلقا، وعللوه بأن الحدث لا يتجزأ؛ فإذا ارتفع ابعض ارتفع الكل، والغسل الواقع عن واحد واقع عن الكل.

فإن قلت: قياس هذا أنه إذا وطأ امرأتين واغتسل من الجنابة، وحلف أنه لم يغتسل عن الثانية يحنث، وفي الرافعي في آخر الباب الأول من الطلاق أنه لا يحنث.

قلت: كان مأخذه أن الغسل كائن.

أما عن الحدث الأسبق –واستتبع رفعه رفع ما بعده- وأما عن مطلق الحدث الذي [هو] 3 قدر مشترك بين الأول والثاني؛ فلم يكن لخصوص الثاني به تعلق، وهذا فيما إذا اتحد جنس الحدثين.

1 محمد بن عبد الواحد بن محمد بن عمر بن ميمون الإمام أبو الفرج الدارمي البغدادي نزيل دمشق تفقه على أبي الحسن الأردبيلي وعلى الشيخ أبي حامد الإسفراييني وكان إماما بارعا مدققا قال الخطيب: هو أحد الفقهاء موصوف بالذكاء وحسن الفقه والحساب والكلام في دقائق المسائل ولد في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وتوفي بدمشق في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.

تاريخ بغداد 2/ 363، والأنساب 5/ 279، ابن السبكي 3/ 77، الشيرازي ص107، ابن قاضي شهبة 1/ 234.

2 سقط من ب.

3 سقط من ب.

ص: 64

أما إذا اختلف كالمرأة الجنب الحائض تغتسل، وقد كانت حلفت لا تغتسل من الجنابة؛ ففي شرح التلخيص للشيخ أبي علي1 قبل كتاب الزكاة، إن نوت الاغتسال عنهما حنثت، أو عن الحيض وحده لم تحنث وإن أجزأ غسلها عنهما حنثت. قال: ورجح القفال الحنث ثم ما ذكرناه فيما إذا نوى رفع بعض الأحداث محله إذا كان الحدث المنوي رفعه واقعا منه؛ وإلا فيمتنع من المتعمد في الصحيح لا من الغالط وفاقا.

ومنها: لو نوى بوضوئه استباحه صلاة بعينها ولم ينو غيرها صح على ما جزم به الرافعي في باب الوضوء. وحكى فيه وجها في كتاب الظهار، وإن بقي غيرها فأوجه مشهورة أصحها الصحة أيضا.

ومنها: يصح تخصيص الفريضة بالنية من ذي الضرورة، وفي النافلة إن نوى غيرها الوجوه.

ومنها: يصح تفريق النية على أعضاء الوضوء في الأصح.

ومنها: لو نوت الذمية بغسلها حل وطء زوجها المسلم استباحت به كل ما توقف على الغسل على أصح الأوجه.

المباحثة الخامسة:

اعتراض النية لصراع الألفاظ هل يبطل صراحتها ويرفع حكمها عند الإطلاق؟ قد كنا قدمنا كلام الإمام رحمه الله في الأساليب وقلنا إن الكلام يستدعي الكلام فيما يدين المرء فيه وما لا يدين وما يقبل منه في ظاهر الحكم وما لا يقبل.

ولا شك أن ما لا يقبل ظاهرا. ولا يدين فيه باطنا لا يبطل صراحة اللفظ، بل وجود النية الصارفة عن الصراحة وعدمها بالنسبة إليه سواء؛ وإنما الكلام فيما يقبل ظاهر أو يدين فيه، وقد يدعي أن النية صرفت الصراحة عن قضيتها ولنذكر كلام الأصحاب في التديين؛ فإنه أشكل علي بحيث لم أتحصل منه على شيء فأقول: قال الفوراني في

1 الحسين بن شعيب بن محمد بن الحسين أبو علي السنجي المروزي عالم تلك البلاد في زمانه تفقه بأبي بكر القفال والشيخ أبي حامد الإسفراييني ببغداد وله تعليقة جمع فيها بين مذهب العراقيين والخراسانيين.

توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وقيل سنة ثلاثين، وقيل نيف وثلاثين ودفن إلى جانب أستاذه القفال. وفيات الأعيان 1/ 401، البداية والنهاية 12/ 257 ابن قاضي شهبة 1/ 207.

ص: 65

الإبانة: الأصل أن كل من أفصح بشيء، وقيل فإذا نواه قبل فيما بينه وبين الله دون الحكم.

وقال القاضي الحسين في التعليقة: كل ما لو وصله باللفظ نطقا انتظم معه وإن شق؛ فإذا ضمنه اللفظ بينه إن ادعاه لنفسه دين فيما بينه وبين الله ولم يصدق في الحكم، وإن كان على نفسه صدق في الحكم.

وقريب منه قول تلميذه البغوي في التهذيب كل ما لو وصله باللفظ نطقا دين في الحكم؛ فإذا نواه بقلبه لا يدين في الحكم فيما له، ويدين في الباطن؛ إلا في الاستثناء؛ فإنه لو قال: أنت طالق ووصل به إن شاء الله -نطقا- لا يقع ولا نوى الاستثناء بقلبه لا يدين في الباطن.

وقال الرافعي يحكي عن القاضي الحسين: إن لما يبديه الشخص ويدعيه من النية مع ما أطلقه من اللفظ أربع مراتب.

إحداها: أن يرفع ما صرح به اللفظ، كما إذا قال: أنت طالق ثم قال: أردت طلاقا لا يقع عليك، أو قال: لم أرد إيقاع فلا مبالاة بما يقوله لا في الظاهر، ولا في التديين في الباطن.

والثانية: أن يكون ما يبديه مقيدا لما تلفظ به مطلقا. كما إذا قال أنت طلاق، ثم قال: أردت عند دخول الدار. ومجيء الشهر، فلا يقبل ظاهرا وفي التديين خلاف.

والثالثة: أن يرجح ما يدعيه إلى تخصيص عموم؛ فهذا يدين فيه وفي القبول ظاهرا خلاف.

والرابعة: أن يكون اللفظ محتملا للطلاق من غير شيوع وظهور فيه وفي هذه الدرجة يعمل فيها بموجب النية.

وحكى صاحب الذخائر هذا عن القاضي وقال: إن الغزالي استحسنه إلا في قبول تخصيص العموم من غير دليل.

قال الرافعي: وفي كلام الأئمة ضبط آخر، قالوا ينظر في [التفسير] 1 على

1 في "ب" التغيير.

ص: 66

خلاف ظاهر اللفظ إن كان بحيث لو وصل باللفظ نطقا لما انتظم الكلام؛ فإنه لا يقبل في الظاهر. ولا يدين وإن انتظم وقبل في الحكم؛ فإذا نواه لا يقبل ويدين.

مثال الأول: أردت طلاقا لا يقع عليك.

ومثال الثاني: أردت عن وثاقي، أو إن دخلت الدار.

قلت: وهذا الضابط هو الذي قدمناه عن البغوي والقاضي وغيرهما، وقريب منه كلام الإمام في النهاية، ومنعني عن حكايته طوله، وكذلك منعني خشية التطويل عن حكاية كلام بقية الأصحاب، مع اجتماع الكثير من كتبهم عندي، ولله الحمد، وقال صاحب الذخائر: إذا ادعى ما يزيل اللفظ عن ظاهره فالضابط أنه إن ناقض اللفظ عن ظاهره فالضابط أنه إن ناقض اللفظ لم يقبل حكما، ولم يدن؛ وإلا فإن ساواه في الظهور قبل ظاهرا وباطنا. وإن كان للفظ إشعار به -كطالق عن وثاق دين ولم يقبل في الحكم. وإن لم يشعر به ولكن كان لو نطق به لانتظم الكلام مع وحسن، كما او ادعى تعليق الطلاق -بالنية- على شرط، ففي قبوله حكما خلاف. وليقع الاقتصار على ما نقلت من كلام الأصحاب، وستعرف ما يرد على كل منها من الفروع، وأنا أعدد الفروع ثم اذكر ما لعله يتيسر نقله لي من الضبط.

الفرع الأول:

إذا قال: أنت طالق، ثم قال: أردت –إن دخلت الدار أو إذا جاء رأس الشهر، أو قال: أنت طالق، ثم قال: أردت إن شاء الله.

فقال القفال، والغزالي: يدين، وهذا هو ظاهر كلام الإمام في النهاية.

قال الرافعي: والمشهور في كتب كبراء المذهب أنه لا يدين في قوله: أردت إن شاء الله، ويدين في قوله: أردت عن وثاق أو إن دخلت الدار وإن شاء زيد.

قال: وفرقوا بين قوله: أردت إن شاء الله، وبين سائر الصور بأن التعليق بمشيئة الله يرفع حكم الطلاق جملة؛ فلا بد فيه اللفظ.

والتعليق بالدخول لا يرفع الحكم جملة، ولكن يخصصه بحال دون حال.

قوله: من وثاق. تأويل. وصرف اللفظ من معنى إلى معنى. فكفت في النية وإن كانت ضعيفة. وشبهوا ذلك بأن الفسخ لما كان رافعا للحكم. لم يجز إلا باللفظ.

ص: 67

والتخصيص يحوز بالقياس كما يجوز باللفظ. انتهى.

واختار أخي الشيخ بهاء الدين أبو حامد -أطال الله بقاءه ما عليه القفال والإمام الغزالي من التديين في قوله: أردت إن شاء الله.

[وقد] 1 ذكروا في الإكراه ما يقتضي التسوية بين التعليق على مشيئة الله وغيره.

قلت: كأنه يشير إلى قولهم: إن ورى المكره بأن قال أردت بقولي: طلقت فاطمة غير زوجتي، أو نوى الطلاق من الوثاق، أو قال في نفسه: إن شاء الله لم يقع الطلاق. وهذا قد يقال: إنه مخصوص بحالة الإكراه، لكونها قرينة تصدقه في إرادة إن شاء الله، وقد قالوا هناك: إنه إذا ادعى التورية صدق ظاهرا في كل ما يدين فيه عند الطواعية، وظاهر هذا أن تصديقه في قوله: أردت إن شاء الله مبني على هذا الخلاف في أنه هل يدين؟ وأقول: قد يقال: إنه يدين في مسألة الإكراه، وإن لم يدن في غيرها لوضوح الفرق.

الفرع الثاني:

إذا قال: أردت طلاقا لا يقع عليك، أطلق الأصحاب أنه لا يدين، قال الإمام: لأنه لو اتصل بالكلام ظاهرا لما انتظم وكان متهما فيما لا يجرد العاقل القصد إلى نظم مثله، قال: فلا طريق إلا الإلغاء ظاهرا وباطنا.

وقال أخي الشيخ بها الدين: ينبغي أن يختص هذا بما إذا أراد حقيقة الطلاق، أما إذا قصد الطلاق من الوثاق أو غيره فينبغي أن يصح.

قلت: هذا لا شك فيه، وعليه ينبني كلام الإمام؛ فإن التهافت إنما جاء من قبل تناقض اللفظ، ومع إرادة حقيقة الطلاق اللغوي لا تهافت.

نعم هو متهافت سواء أراد حقيقة الطلاق الشرعي أو أطلق؛ لأن الإطلاق محمول على الشرعي.

وعلى صورتين يحمل كلام الأصحاب، أما صورة قصد الطلاق من الوثاق فلم يريدوها بهذا الكلام، وقد صرحوا بها بمفردها. وأنه يدين فيها.

على أن لقائل أن يقول: قوله: لا يقع عليك إلا يصح أن يوصف به طلاق الوثاق لأن الموصوف بالوقوع وعدمه ما يقع تارة ولا يقع أخرى؛ وذلك هو الطلاق الشرعي لا

1 في ب وقال: وقد.

ص: 68

اللغوي؛ فقد يقال: اللفظ متهافت وإن قصد المعنى اللغوي لأن قوله: لا يقع عليك ينافي المعنى اللغوي؛ فليس كما إذا أطلق قوله: أنت طالق ثم قال: أردت عن وثاق، فالأظهر أنه لا يقبل قوله: أردت عن وثاق لا ظاهرا ولا باطنا في الحالات الثلاث لتهافته ونقض آخره لأوله.

الفرع الثالث تخصيص العام:

قال أكثر الأصحاب: لا يقبل في الظاهر ولكن يدين، وتأولوا نص الشافعي الدال على أنه يقبل ظاهرا وقال بعضهم: يقبل؛ لأن استعمال العام في الخاص شائع مشهور. وصورة المسألة المنصوصة أن تقول له امرأته: طلقني فيقول: كل امرأة لي طالق ويعزل السائلة بالنية.

والخلاف في القبول ظاهرا جار وإن لم توجد قرينة تصدقه؛ غير أن الأظهر عند القفال والمعتبر عدم القبول ظاهرا إن لم تكن قرينة والقبول إن كانت، وهو ما صححه في المنهاج وعن القاضي الحسين: الفرق بين أن يقول: كل امرأة لي طالق -ويعزل بعضهن بالنية، وأن يقول: نسائي. وقال: إذا قال نسائي طوالق، ثم قال كنت عزلت ثلاثا بالنية، [لا] 1 يقبل؛ لأن اسم النساء لا يقع على الواحدة. ولو قال عزلت واحدة، يقبل وذكر تفريعا على هذا وجهين فيما لو عزل اثنتين.

وحكوا وجهين فيما إذا قال: أربعتكن طوالق، وقال نويت إلا فلانة، هل يدين؟ ففي وجه يدين كما لو قال: نسائي طوالق وعزل واحدة بالنية وفي وجه لا يدين؛ لأن لفظ الثلاثة والأربعة نص في العدد المعلوم واستعمالها في بعض العدد غير معهود، بخلاف استعمال لفظ العام في الخاص فإنه معهود.

قال القاضي أبو الطيب الطبري: [لو] 2 قال: فلانة وفلانة وفلانة طوالق ثم قال: كنت عزلت فلانة بالنية، لم يقبل لأنه رفع لما نص عليه، ونسخ، وليس بتخصيص عموم. وسكت عليه الرافعي والنووي.

قلت: وهو ظاهر، وأظهر منه أن يقول: فلانة طالق وفلانة طالق وفلانة طالق؛ إلا فلانة فإن هذه جمل متعاطفة وليس العطف فيها للمفردات، والاستثناء فيها مستغرق ولو

1 في ب لم.

2 في ب فلو.

ص: 69

قال: أنت طالق ثلاثا ثم قال: أردت إلا واحدة لم يدن على الصحيح؛ لأنه نص في العدد.

والحاصل: أن العام قد تكون دلالته على المخرج بالنية ضعيفة، وقد تكون قوية، وبقدر ضعفها يظهر التديين، وتترقى إلى القبول ظاهرا، وبقدر قوتها يظهر عدم القبول ظاهرا وتترقى إلى عدم التديين.

فأضعف الألفاظ كل امرأة لي طالق، وأقوى الألفاظ فلانة، وفلانة، وفلانة طوالق إلا فلانة وبينهما أربعتكن طوالق، فإنه فوق كل امرأة لي ونسائي من حيث أنه اسم عدد؛ فهو نص في مسماه، ودون فلانة وفلانة وفلانة لواحدة، مدلول كل واحد من الألفاظ ولا يقال: الكل تخصيص العموم. فبين العمومات [تفاوت] 1 كثير إن سلم أن الأعداد عامة.

الفرع الرابع: تقييد المطلق

مثل إن أكلت خبزا أو تمرا فأنت طالق. ثم يفسر بنوع خاص، قال الرافعي: إن الخلاف في القبول ظاهر في مسألة كل امرأة لي طالق. المتقدمة، أجرى فيه.

قلت: ذاك تخصيص عام وهذا تقييد مطلق، والأشبه أن يجري في هذا الخلاف في أردت إن دخلت الدار وإن كلمت زيدا، ثم يقول: أردت شهرا، وأي الأمرين أولى بالقبول بعيد تقييد المطلق، أو تخصيص العام.

ظاهر كلام الإمام في النهاية أن تخصيص العام أولى؛ فإنه قال: حمل اللفظ الصالح للعموم على الخصوص من تأويل اللفظ على بعض مقتضياته.

وانتهى الأمر في تردد الألفاظ بين العموم والخصوص إلى نفي طائفة من العلماء صيغة مجردة ظاهرة في العموم. وهذا لاعتقادهم تردد الألفاظ في هذين المعنيين.

قلت: وهذا ظاهر على القول بإنكار صيغ العموم، أما على مذهب الفقهاء في إثبات الصيغ فقد تعكس ويقال: تقييد المطلق لا يزيل شيئا من مدلول اللفظ؛ فيكون أجدر بالقبول، بخلاف تخصيص العام، غير أن نص الشافعي –رضي الله عنه يشهد

1 في ب تقارب.

ص: 70

للأول؛ فإن الإمام إنما جعل تخصيص العام أولى توصلا إلى الفرق في مسألتي النص، وأنا أذكرهما، وأتكلم عليهما. فأقول: نص الشافعي –رضي الله عنه على أنه إذا قال: أنت طالق ثم قال: أضمرت إن دخلت الدار، لم يقبل منه ظاهرا، وفي التديين وجهان، قال الإمام: أقيسهما أنه لا يدين. قلت: [وقد تقدم] 1 قول الرافعي: أن كبراء المذهب على ترجيح التديين، ثم ذكر الإمام أن الخلاف جار فيما إذا قال: أضمرت إلى شهر أو ما جرى هذا المجرى من تأقيت أو تعليق، ثم ذكر بعد ما حكى خلاف التديين أن –الشافعي نص على أنه إذا قال لامرأته: إن كلمت زيدا، ثم قال: أردت إن كلمته شهرا، لا يقع الطلاق باطنا بعد الشهر. والحاصل أن نص الشافعي يدل على أنه إذا نوى إن دخلت الدار لا يدين وإذا نوى إلى شهر يدين ففرق بين الزمان والمكان فهل من فارق ظاهر؟

كلام جماعة أنه لا فرق، ومنهم القاضي مجلى؛ فإنه حكى الوجهين في التديين في إن دخلت الدار، ثم ذكر نص الشافعي فيما إذا قال: أردت إلى شهر، وقال هذا الفرع مثل الفرع قبله، وهو إذا نوى التعليق فإن فيه وجهين كذلك ينبغي ها هنا. ومنهم الرافعي كما سنعرف.

وألم الإمام –رحمه الله بفرق، فقال: وللفقيه أدنى نظر في هذا فإن قول القائل: إن كلمت زيدا متعلق بالأزمان –على العموم- ظاهر، بخلاف إن دخلت الدار فإن اللفظ لا يدل على القيد.

وتبعه الغزالي؛ حيث قال: اللفظ كالعام في الأزمان فإذا قال: أردت شهرا فكأنه خصص العام.

قال الرافعي: وقد يقال: هذا بمثله، فيقال: اللفظ عام في الأحوال إلا أنه خصصه بحال دخول الدار.

قلت: وقد تضعف المقابلة، ويقال: أليس قد نبه الإمام على أن اللفظ لا ينبيء عن الأحوال؛ وإنما ينبيء عن الأزمان. فكيف يقال له بعد ذلك اللفظ عام في الأحوال؟ نعم لمنازع أن ينازع في دلالة اللفظ على الزمان.

1 سقط من ب.

ص: 71

فإنه قوله: أنت طالق لفظ لا عموم فيه لا بالنسبة إلى الأحوال ولا الأزمان، وما هو إلا مطلق قيد في إن دخلت الدار بالأحوال، وفي إلى شهر بالأزمان.

الفرع الخامس:

قال: أنت طالق، ثم قال: أردت طلاقا عن وثاق، وكان يحل وثاقها طرد الغزالي فيه الوجهين فيما لو قال نسائي طوالق وعزل اثنتين بالنية. هل يقبل ظاهرا؟ وقال: الظاهر القبول.

قال الرافعي: وفيما إذا لم توجد القرينة أشار في سائر كتبه إلى أنه لا يجيء فيه التديين. الخلاف المذكور فيما إذا قال: أردت إن دخلت الدار، وفرق بأن قوله: أنت طالق وإن خصصه الشرع برفع قيد النكاح؛ ولكنه كالمجمل المبهم من حيث اللغة. يحتمل أن يكون من الوثاق وغيره فالتفسير بيان للمبهم.

وأما التقييدات فليس لمجرد اللفظ دلالة عليها، والحاصل أنه يدين وإن لم تكن قرينة وفي وجه حكاه الغزالي في أول كتاب الإيمان والقاضي مجلي في "الذخائر" في هذا المكان أنه لا يدين، ويقع باطنا وجمعها القاضي مجلى أوجها.

أحدهما: أنه يدين وإن لم تكن قرينة.

والثاني: لا يدين.

والثالث: يدين. ولكن يقبل ظاهرا.

والرابع: الفرق بين أن تكون قرينة؛ فيقبل ظاهرا. ولا تكون فلا يقبل وأن يدين كذا يتحصل من كلامه.

الفرع السادس:

لو قال: أنت طالق ثلاثا للسنة، ثم قال: نويت تفريق الثلاث على الأقراء، لم يقبل قوله في الظاهر؛ لأن اللفظ يقتضي وقوع الكل في الحال إن كانت طاهرة. والوقوع كما ظهرت إن كانت في الحال حيضًا، ولا سنة في التفريق، وليس من اللفظ إشعار بما يدينه.

قال في التتمة: إلا إذا كان الرجل ممن يعتقد تحريم الجمع في قرء واحد، فيقبل قوله في الظاهر، لأن تفسيره مستمر على اعتقاده.

ص: 72

وحكى الحناطي –وجها مطلقا- أنه يقبل قوله في الظاهر والمنصوص والمشهور الأول.

هذه العبارة الرافعي في الشرح الكبير وفي الشرح الصغير ذكر معنى ذلك ملخصًا، [وما] 1 نقله عن التتمة رأيته فيها، وعبارته: فأما إذا كان الرجل ممن يعتقد تحريم جمع الطلقات في قرء واحد فيصدق في الحكم لاعتبار اعتقاده، وأنه لا يقصد ارتكاب محظور في دينه. وهذا كما قال الشافعي في مسافر كان يصلى صلاة مقصورة خلف إمام مسافر؛ فقام الإمام إلى الثالثة؛ فإن علم أن الإمام ساه لا يتابعه وإنما يتصور ذلك فيمن يعتقد وجوب القصر، فينبني الحكم على اعتقاده فكذلك هاهنا. انتهى.

ولو قال: أنت طالق ثلاثا ولم يقل: للسنة ثم فسر بالتفريق على الإقراء -كذلك- لا يقبل في الظاهر، لأنه يؤخر ما يقتضي اللفظ تنجيزه.

هذا كلام الرافعي وصاحب التتمة وأكثر الأصحاب ولم يذكروا هذه المسألة وهي ما إذا طلق ثلاثا؛ وإنما ذكرها إمام الحرمين ومن تبعه.

والذي ذكره جماهير الأصحاب المسألة المنصوصة، وهي ما إذا قيد بالنسة فهل تطرق هذه المسألة ما استثناه صاحب التتمة، وهو معتقد تحريم الجمع أو إنما تطرق تلك لقرينة قوله للسنة؟ يحتمل أن يقال بالأول، وتكون المسألتان سواء، يستثنى منهما معتقد تحريم الجمع، ويرشد إلى ذلك تعليل صاحب التتمة بأن اعتقاد القائل يستمر على ما فسر به؛ فإن هذا لا يختلف الحال فيه بين أن يقيد السنة أو لا يقيد.

ويحتمل -وهو الأظهر- أن يقال بالثاني؛ فإن اعتقاده دل عليه من لفظه قوله للسنة. بخلاف ما إذا أطلق.

وصاحب التتمة لم يذكر هذه المسألة؛ فما ندري لو ذكرها ما كان يصنع.

والرافعي –رحمه الله أدى الأمانة في نقله فلم يذكر ما استثناه صاحب التتمة إلا في المواضع الذي استثناه منه؟ لا في الصورة الثانية، كذلك فعل في الشرحين وفي المحرر.

وعبارة المحرر: ولو قال: أنت طالق ثلاثا للسنة ثم فسر بالتفريق على الأقراء لم

1 سقط من ب.

ص: 73

يقبل إلا إذا كان القائل ممن يعتقد تحريم الجمع في قرء واحد، وكذا لو اقتصر على قوله ثلاثا. ثم فسر بالتفريق لا يقبل. انتهى.

ويعني بقوله في الثانية عدم القبول مطلقا ممن يعتقد تحريم الجمع ومن لا يعتقد لأن الأصحاب أطلقوا عدم القبول هنا كما أطلقوا في الأول، وما قيده صاحب التتمة إلا في الأولى، فبقيت الثانية على إطلاقها.

إذا عرفت هذا فاعلم أن النووي –رحمه الله قدم في اختصاره من كلام المحرر. فأخر، فأوهم أن القبول من معتقد تحريم الجمع يشمل الصورتين؛ فقال في "المنهاج"، ولو قال: أنت طالق ثلاثا أو ثلاثا للسنة، وفسر بتفريقها على الأقراء لم يقبل إلا ممن يعتقد تحريم الجمع.

وسل القاضي شرف الدين البارزي1 في التمييز من هذا فإن عبارته: "لم يقبل إلا في الثانية" فيمن يعتقد تحريم الجمع فلله دره؟

ومن أهم ما ينبه عليه هنا أن هذا الاستثناء الذي ذكره صاحب التتمة وهو كالمنفرد به –وإن اختص بقوله: أنت طالق ثلاثا للسنة؛ فهل الأمر على ما ذكره، أو الراجح خلافه؟ ولا يستدل بسكوت الرافعي والنووي عليه على أنه الراجح عندهما. هذا موضع نظر قد يدل كلام كثير منهم على أنه لا فرق بين معتقد تحريم الجمع وغيره؛ فإن صاحب الحاوي قال بعدما ذكر أن أنت طالق ثلاثا للسنة توجب وقوعهن معا عندنا خلافا لأبي حنيفة ومالك؛ فعلى هذا لو قال: أردت محتمل وهو يخالف الظاهر، فلا يقبل منه في الحكم. وتبعه صاحب البحر وجماعة منهم صاحب البيان وعبارة البيان: فإن قال: أردت السنة، على مذهب مالك وأبي حنيفة، أنه يقع في كل قرء طلقة لم تقبل في الحكم. وقال الإمام رحمه الله في النهاية: لو قال أنت طالق ثلاثا، وزعم أنه أراد التفريق على الإقراء؛ فهذا لا يقبل ظاهرا، وهل يدين؟ يلتحق

1 شرف الدين هبة الله الجدهني بن البارزي الحموي كان إماما راسخا في العلم صالحا خيرا محبا للعلم ونشره محسنا إلى أهله ولد بسادس شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة بحماة له المصنفات العديدة المشهورة وصارت إليه الرحلة وتوفي بها في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ابن السبكي 6/ 248، الاسنوي 1/ 135، الدرر الكامنة 4/ 401.

ص: 74

بما لو زعم أنه أضمر تأقيتا أو تعليقا، وإن قال: أنت طالق ثلاثا للسنة، ثم زعم أنه نوى التفريق؛ فالظاهر إلحاق هذا بما إذا أضمر تأقيتا أو تعليقا كما ذكرناه، ولا يتغير الحكم بتقييد الثلاث بالسنة، فإن هذا اللفظ في استعمال اللغة لا يقتضي تفريقا، وإذا إردنا لفظ السنة إلى موجب الشريعة فقد قدمنا من مذهب الشافعي أن السنة والبدعة لا معلق لهما بالجمع والتفريق. انتهى.

وفيه دلالة على أن قوله "للسنة" لا يزيد على قوله "ثلاثا" إذا تجرد عن ذلك سببا، وأنه لا يختلف باختلاف المذاهب؛ وذلك ظاهر عبارة من قدمناه غير أن الذي في كلام الحاوي والبحر والبيان أنه إذا قال: أردت على مذهب أبي حنيفة ومالك فيظهر أن الصورة أن يكون القائل شافعيا أو ساذجا لا يعرف المسألة، ويحمل على مذهب الشافعي، وبذلك صرح في "التتمة" قال: إذا كان ممن لا يعتقد تحرم الجمع أن كان جاهلا بالحكم لم يقبل قوله ظاهرا، وصورة الجهل بالحكم وإن لم يصرح بها الرافعي فقد شملها إطلاقه؛ حيث لم يستثن إلا معتقد تحريم الجمع.

والصورة الثانية: فيمن يعتقد تحريم الجمع وهو مسألة صاحب التتمة.

والثالثة: لا يعتقد أن تحريم الجمع، وهي مسألة الحاوي، ومن ذكرناه، وقد صرحوا فيها بعد القبول فيحتمل أن لا يقبلوا أيضا ممن تعتقد التحريم، ويخالفوا صاحب التتمة فيما ذكره، وهو ما دل عليه قول الإمام أن اللفظ مردود إلى موجب الشريعة ولا تعلق للسنة بالجمع والتفريق، ويحتمل أن يقبلوا من معتقد الجمع وأن لم يقبلوا ممن لا يعتقد إذا قال: طلقت على مذهب من يعتقد هذا موقع نظر.

وبالجملة الذي يظهر لي الآن ما قاله صاحب التتمة من قبول ذلك ممن يعتقد تحريم الجمع، والذي يظهر لي أيضا تخصيصه بما إذا قال للسنة وعدم القبول فيما إذا أطلق، وهل يدين في الصوتين؟ فيه وجهان: أصحهما نعم.

الفرع السابع:

إذا قال لامرأته وأجنبية: إحداكما طالق ثم قال، أردت الأجنبية قبل في الحكم؛ لأن الاسم يتناولهما تناولا واحدا. نص عليه الشافعي في باب إباحة الطلاق.

ص: 75

الفرع الثامن:

إذا كان له امرأة اسمها عمرة؛ فقال: عمرة طالق، وقال: أردت الأجنبية المسماة بهذا الاسم؛ فقيل يقبل في الحكم وعليه القاضي أبو الطيب، وقيل لا يقبل لأن ظاهر اللفظ الزوجة بخلاف إحداكما؛ فإن اللفظ نص في كل واحدة منهما ويدين بلا خلاف.

الفرع التاسع:

إذا كان اسم امرأته طالقا، واسم عبده حرا، فناداهما باسمهما، فإن قصد النداء، لم يقع أو الإيقاع وقع، وإن أطلق فوجهان.

الفرع العاشر:

تلفظ بالطلاق وادعى أنه لم يقصده؛ بل سبق لسانه إليه، كأن أراد أن يقول: طلبتك فقال: طلقتك، قال أصحابنا: لا يقبل في الظاهر.

الفرع الحادي عشر:

قال: أنت طالق، ثم قال: أردت غيرها فسبق لساني إليها، قال الأصحاب. يدين ولا يقبل في الحكم.

الفرع الثاني عشر:

لابن الحداد: إذا كان له امرأتان زينب وحفصة، فقال: يا زينب فأجابته حفصة، فقال: أنت طالق.

فصل 1:

إذا احتطت بما أوردته من الفروع وعرضته على الضوابط السابقة. عرفت ما يرد منها عليه وقد رأيت الشيخ الأخ بهاء الدين -أحسن الله إليه- ذكر أكثرها، ونازع في حكم الوارد منها، وقال ما ذكر من الضوابط أقربا إلى الصحة، وما ذكروه من عدم التديين في هذه الصور فيه نظر.

1 سقط في ب.

ص: 76

والذي نختاره أن يقال: المحال التي يسأل فيها عن التديين؛ إما أن تشتمل على مجاز أو تخصيص عام أو تقييد مطلق أو لا؛ فإن لم يكن فيها تجوز ولا تخصيص ولا تقييد فلا يدين، وإن كان فيها إحداها دين، ثم اندفع في ذكر فروع هذه الأشياء، ثم نازع القاضي حسين في تفريقه بين كل امرأة لي طالق، ونسائي طوالق، وقال: لا فرق بينهما، ولا نظر إلى صراحة لفظ كل في العموم وظهور لفظ النساء.

قلت: وهذا محتمل، يحتمل أن يسلم له، ومحتمل أن يقال: بل لا يلزم من التديين في العام الظاهر التديين في العام النص.

ثم رجح أنه يدين في أنت طالق ثلاثا إذا قال: أردت إلا واحدة وقال: صراحة العدد لا تمنع التصريح بالاستثناء.

قلت: وفيه نظر فليس المأخذ عدم جواز الاستثناء حتى يقال ذلك؛ بل الاستثناء من الأعداد جائز على المذهب المختار. وإنما المأخذ أن لفظ العدد إذا لم يصحبه الاستثناء كان دليلا على أنه لم يخرج منه شيء والحكم تعلق بلفظه فلا يدين فيه.

ثم نازع في أربعتكن طوالق إلا فلانة، وهو كالمسألة قبله، وقال الاستثناء من الخير وهو جمع.

ولك أن تقول: لا فرق بين أن يكون الاستثناء من الخبر أو من المبتدأ على ما نقول: فالكل تخصيص، لما تقدم.

والذي يظهر أن الاستثناء من المبتدأ لا من الخبر.

والمعنى: أربعتكن إلا فلانة طوالق، ومثل هذا الفصل يغتفر بين المستثنى والمستثنى منه، ولا طائل تحت تحرير هذا المقام، ثم اختار فيما إذا قال: أردت إن شاء الله أنه يدين.

وهذا فيه نظر؛ فإن لفظ طالق تجرد، والحكم معلق به؛ فلا يظهر للإرادة عمل معه إذا لم يصحبها لفظ، يشبه أن يلتفت هذا على إن شاء الله، هل يرفع شيئا انعقد، أو يمنع الانعقاد بالكلية؟

ثم قال قولهم1: في كل زوجة لي طالق عند معاتبتها إياه بنكاح جديد. ينبغي أن

1 في ب ثم قال قوم قولهم.

ص: 77

يحمل على ما إذا كانت له زوجة غير المعاتبة وإن لم تكن غيرها وأراد الاستثناء؛ فينبغي أن يقع عليها إذا أراد الإخراج.

قلت: وهذا نزاع جيد، وتبقى المسألة حينئذ كمسألة كل زوجة غيرك طالق إذا لم يكن له غيرها.

وهي مسألة القاضي الحسين وغيره وسنذكرها في قواعد.

فإن قلت: هل من ضابط عندك لما يدين فيه؟

قلت: يختلج في ذهني أن يقال: اللفظ الصادر ممن لم يهذ في كلامه ولم يحك كلام غيره؛ بل كان كلامه صادرا عن نفسه مستعملا في معناه، يعد من كلام ذوي الفكر والروية إن كان الشارع ربط الحكم به لم يدن فيه أصلا. وإن كان الشارع إنما علق الحكم به لشرط آخر ضمه إليه من نية أو غيرها دين فيه مطلقا، ثم إن كان ذلك الشرط مما يظهر بقرينة أو غيرها انتفاؤه قبل منه في الحكم، أو وجوده لم يقبل، وإن تردد فهو موضع الخلاف وعلى هذا تستمر المسائل كلها.

مثال: ما ربط الشارع الحكم به غير ناظر إلى أمر وراءه. "أنت طالق"، في أصل الطلاق؛ فإن هذا لفظ جعله الشارع -إذا صدر عن زوج معتبر اللفظ أوقع الطلقة، فنية المشيئة لا ترفع حكم هذا اللفظ؛ لأنه وإن علق بالمشيئة فالشارع ما ربط الحكم هنا بنيته. بل بوجود هذا اللفظ مجردا فحيث وجد مجردا عمل عمله باطنا وظاهرا.

المباحثة السادسة 1:

في كشف الغطاء -عن موارد النية في العقود والفسوخ فنقول: الصريح لا يحتاج إلى نية- والكناية تحتاج، وهذه في الحقيقة قاعدتان.

أما قولنا: الصريح لا يحتاج إلى نية، فمتفق عليه؛ لكن وقع في كلام بعض الأصحاب ألفاظ قد يتوهم أنها تخدش ذلك.

منها: قول الغزالي: لا بد من قصد لفظ الطلاق لمعنى الطلاق ومراده قصد اللفظ لكونه يفيد المعنى ليخرج سبق اللسان ونحوه، ولم يرد قصد نفس المعنى؛ فإن ذلك لا يشترط إلا في الكتابة.

1 في ب الخامسة.

ص: 78

كذا حرر الشيخ الإمام وقال: المعنى في قصد اللفظ ليفيد المعنى ليس مقصود ابتداء، وفي كونه مقصودا بالتبع والاستلزام نظر، وهذا بخلاف المعنى إذا قصد الابتداء.

رأيت في كلام الإمام "في النهاية" في باب لغو اليمين ما يزيد هذا التقرير.

ومنها: قول النووي في "المنهاج" في الوقف: تصدقت فقط ليس بصريح؛ إلا أن نوى أن يضيف إلى جهة عامة وينوي؛ فإنه كالتصريح في أنه عند الإضافة إلى جهة عامة صريح بشرط النية، وهذا يجب تأويله؛ فلا صريح يحتاج إلى النية وقد تكلمنا عليه في كتاب التوشيح.

ومنها: المكره على الطلاق إذا قصد الإيقاع فالأصح يقع، وعلى هذا قد يقال: صارت نيته شرطا في عمل اللفظ الصريح عمله.

وجواب هذا أن اللفظ في هذه الحالة غير صريح، ومن ثم قيل: صريح لفظ الطلاق عند الإكراه كناية.

وأنا أقول قصد الإيقاع ينافي مجيء اللفظ على وجه الإكراه فعمل اللفظ عمله غير متأثر بالنية، والنية لم تفد إلا خروجه عن كونه صدر بإكراه.

ومنها: وهو أغربها ما رأيته في البحر للروياني في كتاب الظهار نقلا عن مختصر البويطي أن الشافعي رحمه الله ذكر فيه أنه قيل: إن من صرح بالطلاق أن الظهار أو العتق ولم تكن له نية لا يلزمه فيما بينه وبين الله طلاق ولا ظهار ولا عتق. وأن مالكا خالف في ذلك، وأن الشافعي لم يعترض على شيء من القولين، وأن الظاهر أنه قصد تخريجه على قولين، قال الروياني: وهذا غريب حكاه القاضي الطبري.

قلت: لا شك في غرابة القول باشتراط النية في الصريح، وبتقدير ثبوته فالمراد كما صرح به الروياني اشتراطها للوقوع في نفس الأمر فيما بين العبد وربه أما في الحكم فيقع جزما.

فتم قولنا: الصريح لا يحتاج إلى نية ولم ترد هذه الصور نقدا لأنا إنما نتكلم في الحكم لا في نفس الأمر، وهذا بتقدير صحة هذا القول، والصحيح المعروف خلافه، وأن الله تعالى ربط هذه الأحكام بهذه الألفاظ إذا صدرت عن قصد من معتبر الكلام.

ص: 79

ومنها: إذا قال البائع: بعتك فقال المشتري اشتريت قاصدا باشتريت -ابتداء كلام لا جواب بعت لم ينعقد البيع؛ بل شرط كونه جوابا عدم قصد الابتداء وفي اشتراط قصد الجواب تردد لإمام الحرمين؛ فعلى اشتراطه قد يقال: هذا صريح شرط فيه القصد.

والجواب: إنه لم يشترط القصد في نفس اللفظ الصريح، بل في وضعه موضعه من الجواب. فتأمل ذلك.

ومنها: إذا قال أنا منك طالق، وسيأتي عليها الكلام في المسائل الخلافيات والتحقيق أنه لا صراحة فيها؛ فالنية جاءت من قبل الكناية.

ومنها: إذا لقن كلمة الطلاق بلغة لا يعرفها فذكرها. وقال: لم أعلم أن معناها قطع النكاح، ولكن نويت بها الطلاق. قالوا: لا يقع. كما لو خاطبها بكلمة لا معنى لها.

فقد يقال: هذا عجيب؟ لفظ أريد به معناه، من قادر على التصرف معتمد العبارة. ثم لا يعتد مع صراحته؟

والجواب: أن جهله بكونها موضوعة لذلك مخرج لها عن كونها [كلاما] 1، وهو قريب من القصد الذي اعتبره الغزالي في الصريح، ومن ثم لو قال العجمي: أنت طالق. وقال: أردت بهذه اللفظة معناها بالعربية لم يقع على الأصح.

ومنها: [إذا] 2 قال: أريد أن أقر بما ليس علي لفلان على ألف، قال أبو عاصم: لا يكون إقرارا، ولا يلزمه شيء، وخالفه صاحب التتمة.

فعلى قول أبي عاصم: هذا صريح لم يعمل عمله؛ بل انصرف بما قدم من الكلام. والجواب أن تقديم الكلام عند هذا القائل قرينة أن اللفظ يجوز به واستعمل في غير موضعه، ثم ما قاله غير متجه.

ومثل هذا ما نقله الرافعي من المتولي: أنه لو نسب إلى فعل شيء كالزنا واللواط فقال: من فعل مثل [هذا] 3 فامرأته طالق وكان قد فعله لم يقع طلاقه لأنه لم يوقع طلاقا؛ وإنما غرضه ذم من يفعله.

1 في ب كلامنا.

2 في ب لو.

3 سقط في ب.

ص: 80

ومنها: لو قيل لمن يسمى زيدا: يا زيد؛ فقال امرأة زيد طالق طلقت امرأته قيل: لا تطلق إلا أن يريد نفسه فعلى هذا قد يقال هذا صريح لم يؤثر. وجوابه أن هذا الاسم ليس منحصرا فيه؛ فكيف يتعين تنزيله عليه، ولا شاهد له؛ إلا القرينة التي لا انضباط لها، وكذلك لو كان اسم ابنته فاطمة فقال: زوجتك فاطمة ولم يقل: ابنتي، لم يصح، لكثرة الفواطم؛ إلا على بحث مجلى، ومن ثم أقول: إن لو كان [الاسم] 1 مما عرف منه أن يغضبه ذكره فلا يقع طلاقه جزما؛ فلو عرف أن يغضب من لفظ الجاهل مثلا وكان الجاهل لقبا عليه، فنودي به، فقال: امرأة الجاهل طالق، لم يقع عندي جزما، لأن مثل هذا إنما يعني به أني لست بجاهل، ثم تحقق هذا بأن امرأة الجاهل طالق. يعني: ولا كذلك امرأتي. ومثله لو كان اسم ابنته فاطمة. فقال: زوجتك فاطمة ولم يقل ابنتي ولكن نواها فإنه يصح عند العراقيين.

فصل:

اضطراب كلام المحقيين في معنى الصريح بعد قولهم: إنه اللفظ الموضوع لمعنى لا يفهم منه غيره عند الإطلاق، واشتهر أنه ما تكرر وروده في الكتاب، كالطلاق والبيع أو السنة، أو على ألسنة حملة الشرع كالخلع، أما ما شاع على لسان العامة مثل حلال الله علي حرام؛ ففي صراحته خلاف.

وأورد ابن الرفعة على هذا المشتهر قول ابن سريج أن قوله: لا أجامعك كناية في الإيلاء لا صريح فيه، مع شيوعه في لسان حملة الشرع، ولفظ المس المتكرر في القرآن لإرادة الجماع، والجديد أنه كناية فيه وفي لفظ الإمساك في الرجعة وجهان وهو [مما] 2 تكرر في القرآن، وأجاب مما لا يحضرني الآن.

واعترض الشيخ الإمام رحمه الله بعدما أورد ما ذكرناه أصلا واعتراضا وقال: الذي أقوله أنا إنها مراتب.

إحداها: ما تكرر قرآنا وسنة مع الشياع عند العلماء والعامة فهو صريح قطعا كلفظ الطلاق.

والثانية: المكرر غير الشائع، كلفظ الفراق والسراح فيه خلاف.

1 في ب للاسم.

2 في ب ما.

ص: 81

والثالثة: الوارد غير الشائع، وفيه أيضا خلاف كالاقتداء.

والرابعة: وروده دون ورود الثالة؛ ولكنه شائع على لسان حملة الشرع، كالخلع، فالمشهور أنه صريح، وقيل كناية.

محل كون الخلع صريحا؛ حيث ذكر المال على الأصح، وإلا فهو كناية على الأصح.

والخامسة: ما لم يرد ولم يشع عند العلماء؛ ولكن عند العامة وفيه أيضا خلاف.

قلت: والحاصل أن المأخذ ورود واشتهار عند الخاصة وعند العامة إذا اجتمعت فلاشك في الصراحة.

وإذا اختلف بتباين المراتب، ولا يخفي أن مراتب الورود تختلف وكذلك الاشتهار وربما تقابلت بعض الصفات ببعض، فزالت الضراحة، أو حصل خلاف.

وهنا فروع:

منها: جزم الرافعي بأن قول المتعاقدين: تخايرنا صريح في قطع الخيار، ولك أن تنازع في شياع ذلك عند أهل العرف في معنى قطع الخيار، والأقرب أنه شائع.

ومنها: لا خلابة -في الشرع- عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثا.

وهذا فيه نظر؛ فليس له من الشيوع ما للصرائح، بل لا شياع فيه، ولا اشتراط الخيار مدلوله لغة؛ إنما الخلابة في اللغة الخديعة وغاية متمسك الأصحاب [على] 1 حديث الذي كان يخدع في البياعات، ويحتمل كونه مخصوصا به؛ فهذا ما أتوقف.

ومنها: وليتك العقد، قالوا: صريح، ولك أن تنازع في شهرته شرعا وعرفا.

ومنها: حررتك، وأنت محرر، عدوهما من صرايح العتق ولا شيوع فيهما إنما الشيوع في نحو: أنت حر.

فصل:

قد يصحب الصريح قرائن تخرجه عن الصراحة، كما لو قال لمن يحل وثاقها أنت طالق، وقال أردت من وثاق.

قال الرافعي بحثا في الإقرار: اللفظ وإن كان صريحا في التصديق قد تنضم إليه

1 سقط في ب.

ص: 82

قرائن تصرفه عن موضعه إلى الاستهزاء والتكذيب ومن جملتها [الأداء والإبراد] 1 وتحريك الرأس الدال على شدة التعجب والإنكار، فيشبه أن يحمل قول الأصحاب إن صدقت وما في معناها. إقرار على غير هذه الحالة.

فأما إذا اجتمعت القرائن فلا يكون إقرارا، ويقال: فيه خلاف لتعارض اللفظ والقرينة كما لو قال لي عليك ألف فقال في الجواب مستهزئا لك على ألف فإن المتولي حكى فيه وجهين قال الشيخ الإمام رحمه اله الأقوى اتباع القرائن.

فصل:

وأما قولنا: إن الكناية تحتاج إلى النية فقد ينقض بقول ابن القاص في كتاب الطلاق من "التلخيص" لا تلزم الكنايات بغير نية إلا واحدة، أن يقال له طلقت؟ فيقول: نعم، أو هي، أو ما أشبه ذلك، ففيه قولان.

أحدهما: يلزمه وإن لم ينو طلاقا.

والثاني: لا يلزمه إلا بالنية. انتهى.

قلت: ومقتضى هذا أن يكون هذا كناية بلا خلاف وفي احتياجه إلى النية القولان، وهذا نظم عجيب، والمعروف في المذهب أن القولين في صراحته والأصح أنه صريح؛ فلم تسلم كناية عن الافتقار إلى النية.

الكلام في فعل يتنزل تارة منزلة الصريح، وتارة منزلة الكناية، وهو الإشارة قال الإمام في النهاية: بعد نقل المذهب في لعان الأخرس: الذي ينقدح في القياس أن كل مقصود لا يختص بصيغة فلا يمتنع إقامة الإشارة فيه مقام العبارة، وما يختص بصيغة فيغمض إعراب الإشارة عنه؛ ذكره بعدما قال: إنه يختلج في الصدر في تأدية كلمة اللعان بالإشارة إشكال؛ لا سيما إذا عينا لفظ الشهادة؛ لأن الإشارات لا ترشد إلى تفصيل الصيغ.

واعلم أنه رب مكان طلب الشارع في الإشارة دون غيرها؛ فليس هذا مما نحن فيه -ولا يغني عن الإشارة فيه سواها. وذلك كالإشارة بالمسبحة في التشهد إلى

1 سقط من ب.

ص: 83

التوحيد، ورد المصلي على المسلم بالإشارة، وإشارة من زحم على الحجر الأسود بالتقبيل وأنحاء ذلك.

ورب مكان أصل المطلوب فيه النطق فهل تغني فيه الإشارة ويكون كالصريح أو كالكناية؟ أو يختلف باختلاف حال المشير؟

فإن كان عاجزا عن النطق كالأخرس كانت منه معتبرة وإلا فلا: هذا موضع الكلام، والمشير اثنان: ناطق وأخرس أما الناطق ففيه مسائل.

منها: [لا تبطل] 1 صلاته بإشارته [المفهومة] 2 لأنها [لا تبطل] 3 بإشارة الأخرس فما ظنك بالناطق.

ومنها: لو أشار المحرم إلى صيد فصيد حرم عليه الأكل منه لحديث أبي قتادة: "هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها"؛ فلو أكل ففي لزوم الجزاء له قولان.

ومنها: الصلاة بالإيماء.

ومنها: أمان الكافر ينعقد بالإشارة المفهمة ولو من قادر على العبارة.

ومنها: الإشارة بالطلاق في كونها كناية وجهان: أظهرهما عند الرافعي لا.

ومنها: الإشارة إلى عدد، مثل: أن يقول: أنت طالق هكذا ويشير بإصبعين فتطلق طلقتين، أو بثلاث فتطلق ثلاثا إن كانت الإشارة مفهمة.

ومنها: في فروع التعليقات آخر الطلاق ذكر الرافعي فيما لو قال هؤلاء الأعبد الأربعة لفلان إلا هذا الواحد.

أن الغزالي قال: لا يقبل هذا لأن للإشارة أثرا ظاهرا في تثبيت الكلام وتقريره قال الرافعي: والظاهر صحته كما تقدم في الإقرار.

وأما الأخرس: فإشارته المفهمة في الصلاة لا تبطلها على الصحيح وهي كالنطق في البيع، والنكاح، والطلاق، والعتاق، والرجعة، واللعان، والقذف وسائر العقود ويصح منه الإسلام، وسائر العقود.

وفي شهادته وكونه قاضيا إن عقلت إشارته خلاف، ومن اعتقل لسانه فأوصى

1 في ب تبطل.

2 في ب المفهمة.

3 في ب تبطل.

ص: 84