المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

الفصل: ‌القول في المناكحات:

قال: "ويورث بالولاء من طرف واحد- وقد يتفق من طرفين بأن يعتق حربي عبده الحربي، ثم يقهر سيده على نفسه؛ فإذا أعتقه ثبت الولاء من الطرفين] .

فائدة: قال البندنيجي: "الحقوق ثلاثة أضرب:

حق يثبت لجميع الورثة وإذا عفوا إلا واحدا ثبت له، وهو القذف والشفعة والغنيمة. قلت: والولاية على اللقيط على الصحيح.

وحق يثبت للجماعة -على الاشتراك- والكل حصته أولا: وهو المال.

وحق يثبت على الاشتراك ويسقط بعفو البعض وهو القصاص.

ص: 367

‌القول في المناكحات:

قلت: القول في ربع المناكحات

قاعدة: "النكاح لا يفسد بفساد الصداق"1.

وفيه مسائل:

منها: لو وكل في نكاح امرأة وسمى مهرا؛ فزاد الوكيل، قال إمام الحرمين قبيل باب الخلع في المرض: اختيار الشيخ أن النكاح لا ينعقد، وقال بعض الأصحاب: ينعقد والرجوع إلى مهر المثل، والحكم بالانعقاد بعيد في هذا الطرف". انتهى.

وأظنه يعني بالشيخ -هنا- القفال؛ ففي كلامه -هنا- ما يشير إليه، وذكر صاحب البيان المسألة في باب ما يصح به النكاح، وقال: قال الصيمري:

"قال شيخ من أصحابنا: يبطل النكاح، والصحيح أنه يصح ولها مهر مثلها" انتهى.

وفي الرافعي -قبيل الفصل السادس: فيما يجب على الولي -ولو وكل رجلا بقبول نكاح امرأة وسمى مهرا، لم يصح القبول بما زاد عليه.

قاعدة: كل عضو حرم النظر إليه، حرم مسه بطريق أولى2 ويستثنى:

الطبيب -إذا اجتاج إلى المس دون النظر؛ فإنه لا يباح له إلا ما احتاج إليه.

وفرج الزوجة -فمسه جائز قطعا، وفي نظر الزوج إليه الخلاف المعروف وقد استدركه الوالد رحمه الله وحمل القاعدة على أن المراد الاجتناب، والوالد لم يذكر الطبيب "فلتحمل القاعدة أيضا على أن المراد ما عدا الضرورات.

قاعدة: من حرم نكاحها على التأبيد -بسبب مباح لحرمتها- فهي محرم يجوز

1 الأشباه والنظائر للسيوطي "477".

2 السيوطي "475"، المنثور 3/ 114.

ص: 367

النظر إليها ويختلي بها ولا تنقض الوضوء واحترزنا بالحرمة عن الملاعنة.

ويستثنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلسن من المحارم كما دل عليه كلام الرافعي في الظهار، وصرح به غيره.

قاعدة: داعية الطبع تجزئ عن تكليف الشرع "وبعضهم يقول": الوازع الطبيعي مغن عن الإيجاب الشرعي "وعبر الشيخ الإمام" رحمه الله عن القاعدة في كتاب النكاح بأن "الإنسان يحال على طبعه ما لم يقم مانع".

ومن ثم لم يرتب الشارع على شرب البول والدم وأكل العذرة والقيء -حدا اكتفاء بنفرة الطباع عنها، بخلاف الخمر والزنا والسرقة لقيام بواعثها؛ فلولا الحد لعمت مفاسدها.

[وفي] 1 القاعدة مسائل؛

منها: لا يجب القسم بين النساء.

ومنها: لا يجب على الرجل وطء زوجته، وشذ القول بوجوب الوطأة الأولى لتقرير المهر، وقضاء الوطأة في القسم فيما إذا دخل في نوبة واحدة ووطئها، أما المولى2: فواجبه أحد الأمرين من الوطء أو الطلاق.

ومنها: إقرار الفاسق -على نفسه- مقبول؛ لأن الطبع يزعه عن الكذب فيما يضر بنفسه أو ماله أو غرضه.

ومنها: عدم اشتراط العدالة في ولاية النكاح على وجه اختاره كثير من أصحابنا، منهم الشيخ عز الدين، محتجا بأن الوازع الطبعي يزع عن التقصير في حق الولي عليه.

ومنها: عدم وجوب الحد بوطء الميتة -وهو الأصح- قالوا: "لأنه مما ينفر عنه الطبع، وما ينفر عنه الطبع لا يحتاج إلى الزجر عنه.

ومنها: ليس النكاح من فروض الكفايات خلافا لبعض الأصحاب، ومستندا هذا الوجه النظر إلى بقاء النسل، وقد رده الشيخ الإمام بهذه القاعدة، وقال: "في النفوس من الشهوة ما يبعثها على ذلك، فلا حاجة إلى إيجابه3 والإنسان يحال على طبعه ما لم

1 وفي "ب" ومن.

2 في "ب" الولي.

3 في "ب" فلا حاجة إلى إيجابه من القواعد.

ص: 368

يقم مانع "ثم مال الشيخ الإمام إلى قتل أهل قطر رغبوا عن سنة النكاح وإن لم يكن واجبا.

قاعدة: "لا يزوج مسلم كافرة" إلا في مسائل:

منها: كافرة لا ولي لها مناسب؛ فيزوجها الحاكم بالحكم؛ لأن الكافرة والمسلمة مستويان في الحكم1.

قاعدة: قال الإمام -في الكلام على تقديم الطعام للضيف في الوليمة -"ليس في الشرع إباحة تقضي إلى اللزوم إلا النكاح؛ فإنا قد نختار أن المعقود عليه -في النكاح- ليس مملوكا؛ إنما هو مستباح فيستحق" انتهى.

ذكره ردا على والده في تصحيحه أن الضيف لا يملك، وأن الوجوه المحكية -في أنه بماذا يملك؟ وجوه في أن الإباحة هل تلزم حتى لا يكون للمضيف رجوع؟ قال الإمام:"وهذا لا بأس به" قال: "ولكن الأصح أن الإباحة لا تنتهي إلى اللزوم ما لم يفت المستباح". ثم ذكر هذه القاعدة.

قلت: وقد يضم إلى النكاح الصور التي تلزم فيها العارية؛ فإنها إباحة تفضي إلى اللزوم، ثم نبحث عن قوله "تقضي إلى اللزوم".

هل معناه: إلى لزومها -في نفسها- على المبيع؛ فإن المرأة يلزمها يدل البضع المستباح حق، والمعير -في الصور المشار إليه- يلزمه أيضا حكم العارية؟

أو معناه: تفضي إلى اللزوم من جهة المستبيح فإن الزوج تلزمه لوازم النكاح -من المهر وغيره- ولذلك قال البغوي: "حتى يكون الشيء غير واجب ويقتضي واجبا -كالنكاح- يقتضي النفقة والمهر".

ذكره في الكلام على ركعتي الطواف، وعلى هذا فيضم إلى النكاح إعارة الدلو لاستقاء المحدث الماء، والسترة للعاري في الصلاة؛ فإنه يلزمه2 قبولهما على الأصح.

أو معناه اللزوم الطرفين؛ حتى لا يجوز للمبيح الرجوع ولا للمستبيح الرد؟ وعلى هذا يضم إلى النكاح إعارة الدلو والرشاء، وللمعير العوض -كما صرح به

1 انظر الاعتناء القاعدة التاسعة عشرة من كتاب النكاح.

2 في "ب" يلزم.

ص: 369

القاضي الحسين؛ حيث قال: "يتعين عليه الإعارة، كما يتعين على المستعير ويجب"، وعلى هذا لا يتم رد الإمام على والده؛ فإنه -وإن منع المضيف من الرجوع- فلا سبيل له إلى القول بأن الإنسان المضاف يتعين عليه القبول والأكل.

ثم هذا منه -والحالة هذه- قول بأن النكاح من العقود اللازمة من الطرفين، وهو ما ادعاه النووي، وقال:"يمكن الزوج من رفعه كتمكن المشتري من إزالة الملك بالبيع" والمعروف -في المذهب- أن النكاح عقد جائز، وحكى ابن الصباغ -في كتاب الوكالة- وجهين في أنه لازم أو جائز.

قاعدة: "إتيان القبل والدبر سواء في الأحكام"1:

إلا في مسائل:

منها: الحل ومنها: الإحصان2، فإنه فضيلة لا تنال برذيلة.

ولا تحصل به فيئة الإيلاء، ولا ينفي العنة ولا يبطل استنطاق البكر وأما النسب، فاختلفت فيه عبارة الرافعي.

ومنها: حلف لا يطأ زوجته؛ فوطئها في الدبر قال الإمام: "والذي أراه الحنث" نقله الرافعي في الإيلاء، وحكى الغزالي في الفتاوى -ورجح عدم الحنث3.

1 روضة الطالبين 7/ 120-204، البيجرمي على الإقناع 3/ 449.

2 وصورته أن يتزوج رجل بامرأة فيطأها في دبرها دون فرجها ثم يطلقها وإذا زنا بامرأة بعد ذلك وجب الجلد دون الرجم.

3 ومنها الدم الخارج من الدبر لا يكون حيضا بخلاف القبل.

ومنها: لا يثبت به نسب وصورته أن يطأ رجل امرأة في دبرها فقط، ثم أتت بولد لم يثبت به نسب على الصحيح.

ومنها: إذا وطئ البالغ الجارية المبيعة في دبرها لا يكون فسخا.

ومنها: عدم الكفارة في وطء الدبر في أيام رمضان بإفساد الصوم من غير خلاف رجلا كان أو امرأة ذكره ابن الرفعة في مطلبه في كتاب الصيام.

ومنها: إذا وطئها في دبرها بعد طهرها ثم طلقها لا يكون رجعيا.

ومنها: أنه لا يجب بالوطء في الدبر المسمى للزوجة على وجه الصحيح خلافه.

ومنها: أنه لا يجوز رؤية الدبر بخلاف القبل للزوج وعند النظر إلى فرج الزانيين وعند الشهادة على الولادة.

ومنها: أن مس الدبر لا ينقض الوضوء على القديم بخلاف القبل.

ومنها: أن الزوج يحد بوطء زوجته في دبرها على وجه ويعزر على الصحيح. =

ص: 370

قاعدة: "فرقة النكاح -قببل الدخول-[إذا] 1 كانت بسبب من جهة الزوج -كطلاقه وإسلامه وردته- سقط نصف المهر، وإن كان من جهتها كإسلامها وردتها -سقط جميع المهر".

والناس يستشكلون على هذا الفسخ بالعيب قبل الدخول؛ فإنه يسقط جميع المهر -سواء فسخ هو بعيبها، أم فسخت هي بعيبه؛ لأنها هي المختارة، قال النووي "في روؤس المسائل"، وهذه مشكلة، وهذا الإشكال قوي فإن الفسخ بالعيب إما أن يغلب فيه جانب الفاسخ، أو جانب من به العيب، وعلى التقديرين لا يسقط جميع المهر بكل حال؛ وإنما يسقط كله في حال وبعضه في حال.

ثم أجاب النووي رحمه الله: بأن مقتضى الفسوخ تراد العوضين من الجانبين، وقد رد عليها الزوج بضعها بكماله، فيرد عليه المهر بكماله.

وأما الطلاق -فإنما بقي لها فيه نصف المهر؛ لأنه ليس فسخا؛ وإنما [هو] 2 تصرف في الملك.

وأما وجوب النصف بإسلامه وردته، فلشبهه الطلاق من حيث إيذائها وكسرها بذلك من غير سبب من جهتها؛ فوجب النصف جبرا لذلك. بخلاف الفسخ؛ فإنها إن فسخت فهي المختارة، فلم يحصل لها أذى، بل حصل لها سرور بتحصيل غرضها وإن فسخ الزوج فهي سببه؛ فالأذى حصل بسببها. انتهى: وهو مأخوذ من كلام الشيخ -عز الدين ابن عبد السلام: وبقي ما إذا كان الفسخ بسببهما جميعا -كردتهما معا والخلع الواقع بينهما، والصحيح فيهما التشطير.

وأما إذا كان لا من جهة واحدة منهما -وهي مسألة ابن الحداد والقفال- ولم

= ومنها: عدم العدة بوطء في الدبر فقط.

ومنها: العنين إذا وطئ زوجته في دبرها فقط لم يسقط خيارها.

ومنها: عدم وجوب غسلها بخروج مني الزوج من دبرها بعد غسلها من الوطء في دبرها.

ومنها: عدم إثبات طهارة بالوطء في الدبر.

ومنها: عدم إفساد الحج بالوطء في الدبر والصحيح التسوية.

ومنها: شرط عدم الوطء في القبل في صلب العقد فإنه يفسره بخلاف الدبر.

1 في "ب" أن.

2 سقط من "ب".

ص: 371

يذكرها الرافعي في باب الصداق عند الكلام في التشطير، وابن الحداد يقول فيها بالسقوط دائما، والقفال يقول بالتشطير.

وفيها صور:

منها: إذا أسلم أبو الصغيرة فتبعته فانفسخ النكاح. قال ابن الحداد "يسقط"، وقال القفال:"يتشطر". كذلك نص عليه في شرح الفروع، ونقله الشيخ أبو علي الإمام عن بعض الأصحاب، ولم يصرحا بذكر القفال وهو عجيب.

وكذلك حكى ابن الرفعة الخلاف في باب الصداق من "الكفاية" غير مذكور فيه القفال.

ومقتضى كلام الرافعي الجزم بقول ابن الحداد في هذه؛ إذ قال في باب المتعة فيما إذا وقع إسلامها تبعا؛ فإنه لا متعة جعل ذلك فرقة كائنة من جهتها، ولكن [رجح] 1 فيما إذا ورث زوجته أو بعضها -عدم سقوط المهر، وصرح بمخالفة ابن الحداد فيه وهو يقتضي إيجابه الشطر؛ كذا قاله في كتاب النكاح قبل فصل الدوريات، وقد تكلمت على المسألة ونظائرها -مبسوطا- في الطبقات في ترجمة ابن الحداد، فلنلخص هنا إن شاء الله.

قاعدة: قال الرافعي في باب نكاح المشركات: "ذكر الأصحاب عبارة جامعة؛ فقالوا: الرق والحرية إذا تبدل أحدهما بالآخرة؛ فإن بقي من العدد المعلق بكل واحد -من الزائل والطارئ- شيء، أثر الطارئ وكان الثابت العدد المعلق به -زائدا كان أو ناقصا- وإن لم يبق منهما جميعا، لم يؤثر الطارئ، ولم يغير حكما.

ذكر ذلك فيما إذا كان تحت الكافر إماء؛ فأسلم معه اثنان ثم عتق ثم أسلم الباقيات؛ فإنه ليس له إلا اختيار اثنتين، وإن أسلمت واحدة عتق ثم أسلم2 الباقيات؛ فله اختيار أربع.

والفرق: أنه إذا لم يسلم معه [إلا] 3 واحدة، لم يكمل عدد العبيد؛ فإذا عتق فله استيفاء ما للآخر، بخلاف ما إذا أسلمت اثنتان.

قال: وشبهوا الصورتين بما إذا طلق العبد امرأته طلقتين ثم عتق. لم يملك بالعتق

1 في "ب" راجح.

2 في "ب" اسملت.

3 سقط في "ب".

ص: 372

طلقة ثالثة، بخلاف ما لو طلقة [واحدة] 1 ثم عتق. ربما إذا أعتقت الأمة في عدة الطلاق -قبل [استكمال] 2 قرءين؛ فإنهما تكمل ثلاثة أقراء.

"وإن [أعتقت] 3 -بعد تمامها- لم يلزمها شيء".

كذا قال الرافعي، والصحيح -عنده وعند غيره- أن الطلاق إن كان بائنا، لم تكمل ثلاثة أقراء؛ بل تكتفي بقرءين.

وعلى هذا الأصل قال ابن الحداد: لو طلق الذمي زوجته طلقتين ثم التحق بدار الحرب ناقضا للعهد فسبي واسترق ونكح تلك المرأة بإذن مالكه، يملك عليها طلقة؛ لأنه بقي من العدد الزائل شيء ولم يبق من العدد الطارئ شيء فلم يؤثر الطارئ.

ولو كان قد طلقها طلقة؛ فإذا نكحها، لا يملك عليها [إلا] 4 طلقة؛ لأنه [قد] 5 بقي من العدد الزائل طلقتان، ومن العدد الطاريء طلقة، فكان الثابت حكم الطارئ -وهو الرق هنا- والصحيح عند الأصحاب.

غير أن الشيخ أبا علي استدرك على ابن الحداد اشتراطه لحاق الذمي بدار الحرب؛ لأن استرقاقه ليس موقوفا على ذلك؛ فإنه6 قد يفعل ما ينقض العهد ويسترق -وإن لم يلحق بدار الحرب- أو لعله يرى أن من نقض عهده بغير قتال يرد إلى مأمنه، وهو أحد القولين.

والاعتراض سهل؛ فإن ابن الحداد لم يذكر اللحوق بدار الحرب على سبيل التقييد للمسألة؛ بل لكونه الغالب في الوقوع. إذا عرفت هذا، فهذه القاعدة يستثنى منها مسائل:

منها: العبد إذا زنى فأقيم عليه بعض الحد وبقيت عليه عشرة، ثم عتق؛ فإنه لا يقام عليه تمام حد الأحرار، بل تمام الخمسين فقط.

ومنها: الذمي إذا زنى، فأقيم عليه أربعون أيضا، ثم التحق بدار الحرب [ثم استرق] 7 فإنه لا يكمل عليه حد الأحرار، بل حد العبيد وقياس القاعدة تكميل حد الأحرار.

قلت: [كذا] 8 نص القاضي الحسين، ونقل ابن الرفعة عنه ذلك نقل الموافق

1 سقط في "ب".

2 في "ب" كمال.

3 في "ب" عتقت.

4 سقط في "ب".

5 سقط في "ب".

6 في "ب" لأنه.

7 سقط في "ب".

8 سقط في "ب".

ص: 373

له، ولا يتجه هذا الثاني إلا على القول بأن الذمي إذا زنى ثم أسلم يحد، وهو رأي أبي ثور والذي نص عليه الشافعي -كما نقل النووي عن ابن المنذر أنه يسقط عند الحد بالإسلام، ورأيت الدارمي حكى في "الاستذكار" في المسألة وجهين في باب حد الذميين "إذا كان يسقط بتمامه؛ فالذي يظهر أن سقوط ما بقي منه أولى، وأحرى".

ومنها: إذا نكح أمة وقلنا: إن لها نصف ما للحرة من الثلاث أو السبع في حق الزفاف -فعتقت بعدما بات عندها ليلتين؛ فإنه لا يكمل لها ما للحرة -ذكره الرافعي في باب عشرة النساء.

ومنها: لو عتقت الأمة المطلقة في عدة الطلاق البائن، تكمل عدة أمة، لا عدة حرة- على الجديد الصحيح.

فائدة: "كل من وطيء أمة بغير ملك يمين -عالما بأنها أمة- فولده منها رقيق إلا في مسألة واحدة: وهي: العربي إذا تزوج أمة -على القول بأن العرب لا يسترقون.

فائدة: كل امرأة تدعي عنه زوجها، تسمع دعواها إلا الأمة إذا كان زوجها حرا؛ لأنها لو سمعت لبطل خوف العنت، فيبطل النكاح؛ فكان سماع الدعوى فيه مؤديا إلى سقوط النكاح المؤدي إلى سقوطها، فأثبتنا النكاح وأسقطنا الدعوى.

فائدة: كل امرأة علق زوجها طلاقها على صفة؛ فلها أن تحاكمه في وجود تلك الصفة ووقع الطلاق بها "إلا الصورة المتقدمة -وهي الأمة المزوجة بحر علق طلاقها على كونه عنينا؛ فليس لها أن تحاكمه؛ إذ لو حققت دعواها، خرجت من الزوجية؛ فلا يصح يمينه بطلاقها، ولا دعواها -ذكره الجرجاني في المعاياة والروياني في الفروق.

قاعدة: قال صاحب البيان: "كل موضع حكمنا فيه بالفرقة بين الزوجين؛ فذاك فسخ لا طلاق". وينتقض بما إذا توافق الزوجان على أن العاقد والشهود فسقة؛ فإن الفرقة تحصل بينهما، والأصح أنها فرقة طلاق.

قاعدة: "كل زوجة جمعها من زوجها -في الشرك- الإسلام، وهي بحيث يحل ابتداء نكاحها، أقرت، وإن كان بحيث لا يحل له ابتداؤه، لا تقر".

قاعدة: قال الغزالي "كل من بها عذر طبعي أو شرعي لا تستحق القسم" واستثنى الرتقاء، فلها عذر طبعي وهي تستحقه.

ص: 374

قاعدة: قال الأصحاب في باب الصداق: الزيادة المتصلة تتبع الأصل إلا في الصداق. ومعنى ذلك: أنه إذا ثبت الرجوع في عين فزيدت زيادة متصلة -كالسمن وتعلم القرآن والحرفة- لم تمنع تلك الزيادة الاستقلال بالرجوع، كما إذا أفلس المشتري بالثمن؛ فإن البائع يرجع في المبيع بزيادته المتصلة، وكذا الواهب في الموهوب والمشتري إذا رد المبيع بعيب، يرجع في العوض مع الزيادة المتصلة [ولا] 1 كذلك الصداق؛ فإن الزيادة المتصلة فيه تمنع استقلال الزوج بالرجوع حيث ثبت له الرجوع في نصف الصداق، ويثبت لها الخيار؛ فإن أبت تجبر، ويعدل الزوج إلى نصف القيمة من غير تلك الزيادة، وإن سمحت أجبر على القول على الصحيح؛ فصار الصداق مستثنى من قولهم:"إن الزيادة المتصلة تتبع الأصل".

قلت: ويستثنى أيضا -على وجه- الهبة المطلقة إذا قلنا: تقتضى الثواب فلم يثب، وكان للواهب الرجوع بدون الزيادة المنفصلة وكذا المتصلة -على وجه- فيبذل الموهوب له القيمة، ويمسك الموهوب، والأصح خلافه جريا على القاعدة.

ويستثنى أيضا -على ما ذكر الدارمي في الاستذكار -اللقطة بعد التملك، إذا جاء صاحبها وقد زادت زيادة غير متميزة؛ فإنه ذكر أن له الخيار بين إعطائها زائدة أو القيمة.

لكن هذا غريب، والمجزوم به -في كتب الرافعي والنووي وابن الرفعة والشيخ الإمام رحمهم الله تعالى- أن الزيادة المتصلة تتبع اللقطة.

قاعدة: "الوطء لا يخلو عن عقر أو عقوبة".

واستثنى الروياني في "الفروق" ثلاث مسائل:

إحداها: إذا زوج عبده [بأمة2 بعد إذن وليه]3.

والثانية: إذا فرضت المرأة بضعها في دار الحرب ثم أسلما، فدخل بها وهما يعتقدان أن [لا] 4 مهر.

والثالثة: المحجور بالسفه إذا تزوج بغير إذن وليه ووطئ5؛ فلا شيء عليه بالوطء على الأصح، كما لو اشترى سلعة من عالم بحاله.

وفي القديم: لها مهر مثلها بعد فك الحجر عنه، جعله كالجناية.

1 سقط في "ب".

2 في "ب" بأمته.

3 سقط في "ب".

4 في "ب" إلا.

5 في "ب" ونظر.

ص: 375

قلت: [وقد] 1 قيد النووي -في فتاويه- المسألة بما إذا تزوج رشيدة، أما إذا تزوج سفيهة، قال:"فيجب" ولم أر هذا القيد في غير فتاويه، وقد أهمل الروياني مسائل:

منها: وطء النبي صلى الله عليه وسلم فمن خصائصه عليه أفضل الصلاة والسلام أنه لا يجب عليه المهر -وإن كان العقد بلفظ الهبة.

ومنها: إذا أعتق المريض أمته -وهي ثلثه- وتزوج بها، ومات، وطالبت بالمهر؛ فيجب لها منه بسقط ما عتق، ويبطل النكاح بخروجها عن كونها الثلث؛ فإن الاعتبار بالثلث بعد وفاء الدين.

وإذا لم تخرج من الثلث [رق] 2 بعضها، وحينئذ لا يصح تزويجها للحر فأما إذا أعتقت عن المهر، فيصح النكاح.

ومنها: إذا استرق الكافر مسلما وجعله صداق امرأته وأقبضها إياه ثم أسلما، فإن الحر ينتزع من قهرها، وجنح الرافعي -في بحثه إلى أنه لا يجب مهر [مثل]3.

ومنها: إذا وطئ المسلم حربية بشبهة؛ فلا عقوبة؛ إذ لا إثم ولا عقر.

ومنها: إذا وطئ ميتة بشبهة؛ فلا عقوبة للشبهة ولا مهر.

قاعدة: كل حيض يحرم الطلاق. ويستثنى مسائل:

منها: حيض الحامل -على القول- أنها تحيض وهو الأصح فإن طلاقها فيه لا يحرم، لعدم التأدية إلى طول العدة.

قال الرافعي: عن إسحاق "أنها كانت ترى الدم -وجعلناه حيضًا- فقال لها: أنت طالق للسنة، لا يقع عليها الطلاق حتى تطهر".

قال: وعلى هذا فللحامل حال بدعة كما للحائل.

قلت: [وإذا] 4 تم هذا كان طلاق الحائض الحاصل بدعيا عند أبي إسحاق، وبه صرح صاحب المهذب وغيره من النقلة عن أبي إسحاق، وتبعهم في الروضة؛ فإن كان الحامل له تصريح صاحب المهذب فحسن -لكنه خروج عن نظم الرافعي- فإنه لم يصرح بهذا؛ وإنما قاله فيمن قال أنت طالق للسنة": "ولعل ذلك لأن لفظ السنة محمول -عند الإطلاق- على المتعارف في الشرع -وهو غير حائض- وحيض الحامل

1 سقط في "ب".

2 في "ب" ردت.

3 سقط في "ب".

4 في "ب" زاد.

ص: 376

صورة نادرة لا يشملها الإطلاق1، ولا يكون مراده منه؛ فلست2 على ثقة3 بأن4 أبا إسحاق رحمه الله يحرم الطلاق في حيض الحامل من هذا النظم الذي نظمه الرافعي؛ إنما يحمل لفظ السنة على ما وراء5 الحيض.

وإذا عرفت هذا؛ فقول الرافعي: "حال بدعة" لا يتجه، إلا أن يكون6 أبو إسحاق يحرم طلاق7، الحامل، ولم ينقل عنه ما يقتضي ذلك، لما ذكرت.

ومنها: إذا قال: أنت طالق في آخر حيضك فالأصح أنه سني -مع وقوعه في الحيض".

فائدة: قال الرافعي -في [باب] 8 القسم والنشوز -"اجتماع الحرة والأمة إنما يتصور بأن ينكح حرة على أمة"، وكذلك السبب الثاني في تجدد النكاح؛ حيث: قال لا يتصور إلا في العبد؛ فإن له أن يدخل الأمة على الحرة" وتبعه النووي.

والحصر غير مسلم، فالأصح الجواز فيمن تحته حرة لا تعفه -كالرتقاء [والقرناء]9.

قاعدة: من باب التعليق بالشروط -لا تختص بالطلاق؛ غير أن الطلاق أمس بذكرها، لكثرة التعليق فيه -الطلاق لا يقبل الإيقاع10 بالشرط وإن قبل الوقوع الشرط. أي التعليق على شرط.

وهو عكس البيع ونحوه -فإنه يقبل الإيقاع بالشرط، ولا يقبل التعليق على شرط- بدليل أنه لو قال: بعتك على أنه كذب صح، ولو قال: إن كان كاتبا فقد بعتكه فهو باطل -على ما جزم به ابن أبي الدم- وخرج فيه ابن الرفعة وجهين من الوجهين في "إن كانت المولودة لي بنتا فقد زوجتكها"، وهذه القاعدة أشار إليها الغزالي -في كتاب الخلع- حيث قال:"الطلاق لا يقبل الشرط قال ابن الرفعة": معناه -لا يقبل الشرط في الوقوع وإن قبله في الإيقاع- والفرق بينهما يتضح بالمثال؛ فإنه لو قال: أنت طالق بشرط أن لا تدخلي الدار أو على أن لا تدخلي الدار، وقع في الحال -وإن لم يوجد ذلك، ولو

1 في "ب" الطلاق.

2 في "ب" فليست.

3 في "ب" يقين.

4 في "ب" فإن.

5 في "ب" ورد.

6 في "ب" كان.

7 في "ب" زيادة "الحائض".

8 سقط في ب.

9 سقط في "ب".

10 في "ب" زيادة "بلا بالشرط".

ص: 377

قال: أنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل "انتهى".

والغزالي رحمه الله توصل بذلك إلى قوله: "في قول الزوج: أنت طالق على أن لي عليك كذا -أنه يكون رجعيا" قال: "لأن الشرط في الطلاق- يلغو إذا لم يكن من قضاياه، كما إذا قال: أنت طالق على أن لا أتزوج بعدك؛ فإما ذهابه إلى كونه رجعيًا فالصحيح خلافه.

وأما معنى قوله: "الشرط في الطلاق يلغو" فما ذكرناه عن ابن الرفعة، والحاصل: أن الطلاق -بعد وقوفه- لا يقف على شرط؛ لأن وقوفه عن الوقوع مع وقوعه محال، وهذا بخلاف ما لو نجز الوكالة وعلق التصرف على شرط فهو توكيل صحيح، وهو إيقاع عقد بشرط؛ فمثل هذا لا يكون في الطلاق؛ فإن المرأة لا تكون مطلقة ثم يكون طلاقها الواقع واقعًا على شرط.

تنبيه: ما ذكرناه -من توجيه قول الغزالي: "الطلاق [لا يقبل] 1 الشرط في الإيقاع لكن في الوقوع والبيع عكسه" -وهو أقصى ما ذكر المفسرون لكلامه، ومنهم الوالد رحمه الله؛ غير أنه قال:"لا يلزم من هذا ما قصده الغزالي من جعل -طلقتك على أن لي عليك ألفا- رجعيا؛ فإنه إذا أوقع الطلاق [مع] 2 هذا الشرط -لم يوقعه مطلقا، فلا يقع رجعيا؛ بل يقع كما أوقعه -على جهة المعاوضة- وهذه الصيغة صالحة لأن تستعمل في المعاوضة بخلاف ما إذا ذكرها شرطا مجردا -من غير معاوضة".

قلت: وهذا حق، ويدل على أنه لو قال: بعتك على أن تعطيني عشرة، صح البيع -كما صرح به الرافعي في الباب الثاني من كتاب الصداق- فنزل قوله:"على أن تعطيني" منزلة باء العوضية؛ فكذلك ينبغي أن ينزل هنا ذلك، وعبارة الغزالي -في باب الخلع أوائل الباب الثالث- "والطلاق لا يقبل الشرط" انتهى، وفي حواشيه- وأظنه من كلام ابن الصلاح الشرط على قسمين: شرط تعليقي، وشرط إلزامي، فالطلاق يقبل التعليق والعوض، ولا يقبل الشرط الإلزامي، بخلاف البيع؛ فإنه لا يقبل التعليق، ويقبل الشرط الإلزامي، كقوله: بعتك هذا العبد بشرط أنه كاتب". انتهى.

1 سقط في "ب".

2 في "ب""من".

ص: 378

فائدة تتعلق بهذا:

قال شيخ الإسلام -عز الدين عبد عبد السلام- في مجموع له ما نصه: مسألة الأفعال على قسمين:

منها: ما يقبل الشرط والتعليق عليه كالصوم على رأي الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ فإنه يقبل الشرط، بأن يشرع في الصوم ويقول: إن أبطلته بطل -والتعليق عليه- بأن يقول: إن فعلت كذا فعلي صوم. ومنها ما لا يقبل التعليق ويقبل الشرط وهو البيع فييع ويقول لي الخيار ثلاثًا ولا يقبل "إن جاء فلان فقد بعتك"؛ لأن هذا الشرط أثبته الله تعالى في أصل البيع فحصل باشتراطه.

والطلاق عكس هذا -يقبل التعليق ولا يقبل الشرط- كما لو قال أنت طالق على أن عليك ألفا؛ فإنه لا يلزمها شيء.

ومنها: ما لا يقبل الشرط ولا التعليق عليه.

أما الشرط: فإذا تزوجها على أن لا نفقة لها؛ فإن الشرط يسقط. وأما التعليق: فإن يقول: إذا جاء فلان فقد تزوجتك.

قاعدة: ذكرها ابن القاص في تليخصه، فتبعه عليها الشيخ أبو حامد في "الرونق" والمحاملي في "اللباب" والروياني في "الفروق"، والجرجاني في "المعاياة" وأكثر من صنف في هذا النوع كل من علق طلاقه بصفة، لم يقع طلاقه -ذاك المعلق- من غير وجود الصفة إلا في أربع مسائل:

إحداها: أن يقول -لحامل أو صغيرة أو آيسة أنت طالق للسنة أو للبدعة فيلزمه [من ساعته] 1 لأن لا سنة لهن ولا بدعة، قال ابن القاص:"هذا نص قوله" قلت: يعني حكم المسألة؛ إلا أن الشافعي رضي الله عنه نص -هنا- على أن الطلاق معلق وأنه وقع بدون الصفة؛ فإن ذلك لم يتقدم أحد به ابن القاص فيما أحسب، وستعرف ما فيه.

فائدة: "كل رجعية يجوز رجعتها في عدتها" قال الجرجاني: "إلا واحدة، وهي رجعية وطئها المطلق في عدتها -وقد بقي عليها قرء واحد- فإنه يجب عليها استئناف العدة ثلاثة أقراء، ويجوز مراجعتها في القرء الأول، لأنه بقية عدة الطلاق، ولا يجوز مراجعتها في القرءين الأخيرين، لأنها عدة الوطء -بالشبهة- لا عدة الطلاق".

1 سقط في "ب".

ص: 379

قلت: ولا يصح هذا الاستثناء؛ لأنها في القرءين الأخيرين غير رجعية، إذ قد حصلت البينونة بانقضاء القرء الثالث، ولكن تصوير "رجعية لا يجوز رجعتها في عدتها" بقي الرجعية الحامل من مطلقها، إذا وطئت بشبهة فإن الزوج ليس له رجعتها في مدة اجتماع الوطء بها -كذا قال الروياني فيما نقله الرافعي عنه- قال:"لأنها حينئذ خارجة عن عدة الأول، وفراش لغيره؛ فلا تصح الرجعة في تلك الحالة، واستدركه على إطلاق الأصحاب "أن للزوج رجعتها قبل الوضع".

قاعدة: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام"1.

وهذا رواه جابر الجعفي "حديثا" -وجابر ضعيف- عن الشعبي عن ابن مسعود، وهو منقطع -قاله البيهقي- والأمر كما قال: وعورض -أيضا- بما رواه ابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر "لا يحرم الحرام الحلال".

وليس بمعارض؛ لأن المحكوم به -في الأول- إعطاء الحلال حكم الحرام تغايبا واحتياطا، ولا صيرورته -في نفسه- حراما، ومن ثم لو اشتبهت منكوحته بأجنبيات محظورات لم تحل، وإذا أكل الكلب المعلم من الصيد -في موضعه- فالصحيح يحرم، لحديث عدي بن حاتم2، ورجح الجمهور التحريم فيما إذا أصاب صيدا وغاب ثم وجده ميتا -وليس فيه أثر غير سهمه ورجح النووي الحل.

وشذ عن القاعدة مسائل:

منها: إذا رمى سهما إلى طائر فجرحه ووقع ثم وجد ميتا؛ فإنه يحل.

ومنها: إذا كان الثوب منسوجًا من حرير وكتان وكانا على السواء؛ فإنه حلال في الأصح.

ومنها: إذا اختلط ملكه بملك غيره وعسر التمييز، كما إذا اختلطت حمامة واحدة

1 تقدمت هذه القاعدة برمتها قبل قاعدة سد الذرائع.

2 إنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله تعالى فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتله ولم يأكل منه فكله وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل.

البخاري 1/ 279 في الوضوء حديث "175" وفي 9/ 609 في الذبائح والصيد حديث "5483" وفي 9/ 610 "5484""5486" ومسلم 3/ 1531 في الصيد والذبائح "6/ 1929".

ص: 380

بحماماته؛ فله أن يأكل -بالاجتهاد- واحدة واحدة حتى تبقى واحدة كما لو اختلطت ثمرة الغير بثمره.

والذي حكاه الروياني "أنه ليس له أن يأكل واحدة منها حتى يصالح ذلك الغير أو يقاسمه" هذا لفظ الروضة، والذي أعتقده

أن اختلاط ثم الغير بثمره يطرقه الخلاف في الحمام.

قاعدة: "من جهل حرمة شيء مما يجب فيه الحد أو العقوبة، وفعله، لم يحد وإن علم الحرمة وجهل الحد والعقوبة، حد، أو عوقب"، ومن ثم وجب الحد على من شرب الخمر عالما بتحريمها جاهلًا وجوب الحد دون من شربها يظنها خلا أو يعرفها خمرا ولكن يحسبها حلالًا -إذا كان مثله ممن يجهل ذلك.

وظهر ضعف سؤال من قال: "كيف لا يخرج الشافعية -في وجوب القصاص في المثقل- وجهين، إقامة لخلاف أبي حنيفة "رحمه الله" فيه مقام الشبهات الدارئة للحدود" كما أن لهم وجها أن وطء المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن لا يوجب الحد -وإن علم التحريم- لما روي عن عطاء بن أبي رباح من تجويز إعارة الجواري والوطء بالإذن".

قال هذا السائل: "فاعتبار خلاف أبي حنيفة أولى من اعتبار خلاف عطاء".

وهذا سؤال: ساقط، يظهر ضعفه بتأمل لفظ القاعدة؛ فإن هذا الوجه -على ضعفه- إنما قال:"خلاف عطاء شبهة، لقوله "بالحل لا بالحرمة -مع سقوط الحد، وهو حق [وإليه أشار أبو سعد الهروي بقوله في غوامض الحكومات الصحيح من مذهبنا أن الشبهة العاملة في درء الحد، تنشأ عن قوة تقابل الأدلة، لا عن مجرد اختلاف أهل العلم" انتهى]1.

وأبو حنيفة لم يقل بحل القتل بالمثقل، ولا يقول بذلك أحد؛ وإنما قال بسقوط القصاص، فكان القائل بالمثقل عالما بالحرمة جاهلا بالعقوبة؛ فلا ينفعه جهله بها، بخلاف الجاهل بالحرمة -من أصلها- ولو أثر الجهل بالحرمة حتى في الضمانات التي أصلها على أن لا يفرق الحال فيها بين العلم والجهل -فلم يؤثر التعزير فيها- مع العلم بالتحريم.

1 سقط من "أ" والمثبت من "ب".

ص: 381

قال الأصحاب -في غاصب أمر غيره بإتلاف المغصوب أو إحراقه ونحوهما؛ ففعله جاهلا بأنه غاصب- "أن المذهب القطع باستقرار الضمان على المتلف وأنه لا يخرج على القولين في الأكل من الغاصب؛ لأن ما فعل هذا حرام، بخلاف الأكل، ولا أثر للتعزير مع التحريم".

وشذ عن القاعدة مسائل:

منها: إذا قتل من يعتقد عدم مكافأته، كحر يقتل عبدا، أو مسلم يقتل ذميا ثم تقوم البينة بأنه كان قد أعتق، أو أسلم؛ فلا قصاص عليه -على قول.

ومنها: وطئ جارية ظنها مشتركة بينه وبين غيره؛ فإذا هي غير مشتركة وقلنا بالصحيح -وهو أنه لا يجب الحد بوطء المشتركة- فهل يجب الحد هنا؟ تردد فيه الإمام، ورجح النووي وجوبه؛ لأنه علم التحريم فكان من حقه الامتناع.

ومنها: إذا وطأ الجارية مشتريها بشراء فاسد - لكون الثمن خمرا أو لاشتمال العقد على شرط فاسد- فلا حد؛ لاختلاف العلماء في حصول الملك بالبيع الفاسد؛ مع أنه لم يبح أحد الوطء فيه ومن ثم استشكل الإمام عدم الحد.

ومنها: لو باد أحد ابني المقتول وقتل الجاني بغير الإذن الآخر، قبل عفوه؛ فالأظهر لا يجب القصاص للشبهة، والأصح أن الشبهة كونه صاحب حق في المستوفي. وقيل: قول بعض علماء المدينة: "أن انفراد كل من الورثة جائز"، والقول الثاني: إنه يجب القصاص؛ فعلى هذا يقع الاستثناء، فإن بعض علماء المدينة قال: بالحل كما عرفت، ثم لم يعتبر خلافه.

ضابط مسائل الخلع:

فإن منها ما يقع الطلاق فيه بالمسمى.

ومنها: ما يقع بمهر المثل.

ومنها: ما يقع رجعيًا.

ومنها: ما لا يقع أصلًا.

قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله: "فالذي يقع الطلاق فيه بالمسمى أن يكون الصيغة والعوض صحيحين". والذي يقع بمهر المثل: أن تكون الصيغة صحيحة والفساد في العوض، والذي يقع رجعيًا: هو الذي يكون الفساد فيه من جهة الصيغة ويكون الطلاق فيه من جهة الزوج منجزًا.

ص: 382

والذي لا يقع: هو الذي يكون الطلاق فيه معلقًا ولم يوجد شرطه.

قاعدتان: عزاهما الرافعي -في كتاب الظهار- إلى الأئمة فذكر أنهم قالوا: "ما يقبل التعليق -من التصرفات- يصح إضافته إلى بعض محل التصرف" وأخصر من ذلك قول الغزالي في "الوجيز": "ما يقبل التعليق يكمل مبعضه قالوا: وما لا يقبله لا يصح إضافته إلى بعض المحل".

فمن مسائل القاعدة الأولى:

الطلاق والعتق:

ومنها: الحج فإن تعليقه بحاضر يصح؛ كقوله: أحرمت كإحرام زيد، وكذا بمستقبل بأن يقول: إذا أحرم فأنا محرم، أو إذا طلقت الشمس -على وجه مال الرافعي إلى ترجيحه؛ حيث قال:"وقياس تجويز تعليق أصل الإحرام بإحرام الغير، تجويزه"؛ ولكن نازعه الشيخ الإمام، وقال: قوله "أنا محرم كإحرام زيد لا تعليق فيه بحاضر ولا مستقبل، بل جازم بإحرام بصفة إنما التعليق بالحاضر أن يقول: إن كان محرما فقد أحرمت، وهو لا يصح".

قلت: وهو حسن، وبتمامه لا تدخل المسألة فيما نحن فيه، إذا لم يكن لنا حج معلق؛ غير أن الأصحاب يلقبون مسألة -الإحرام بإحرام زيد- مسألة تعليق الإحرام، وكأنهم يعنون أن المعلق خصوص الإحرام، لا عمومه فلذلك صح العموم، والذي نقله الشيخ الإمام رحمه الله عمومه لا خصوصه؛ فلذلك قال:"لو كان تعليقا لما صح"، وبيان ذلك أن إذا قال: أحرمت بإحرام زيد؛ فهو كما قال الشيخ الإمام- جازم بأصل الإحرام لكنه -كما قال الأصحاب- معلق، لخصوص كونه بإحرام زيد، وهو كما فصل علي "كرم الله وجهه"، ولذلك يقول الأصحاب -فيما إذا لم يكن ذلك الغير محرما أنه ينعقد أصل الإحرام، وما ذاك إلا لأنه لا تعليق فيه، وبهذا صرح القاضي أبو الطيب، في "التعليقة"؛ حيث حكى وجهين فيما إذا علق الإحرام بطلوع الشمس ثم قال:"ويفارق قوله: إحراما كإحرام زيد؛ لأن أصل الإحرام انعقد في الحال؛ وإنما علق صفة على شرط يوجد في ثاني الحال، فلم يضره" انتهى.

وإذا تجلى لك ذلك علمت أنه لا إحرام معلق كما حاوله الشيخ الإمام، بل صفة فيه -كما قررناه- لكن كلام الرافعي صريح في تسميته تعليقا وسبقه جماعة -منهم

ص: 383

صاحب البحر؛ فسوى بين أنا محرم غدًا أو أحرمت كإحرام زيد، ثم قال صاحب البحر:"وعلى هذا قال أصحابنا: لو قال أحرمت يوما أو يومين، صح وانعقد مطلقا كالطلاق، ولو قال: أحرمت بنصف نسك انعقد كامل كما لو قال: أنت طالق بنصف طلقة".

ونقل النووي هذا في "شرح المهذب"، وقال:"إن فيه نظرًا، وأنه ينبغي ألا ينعقد؛ لأن الحج من باب العبادات، والنية الجازمة من شرطها، بخلاف الطلاق، لبنائه على الغلبة والسراية وقبول [الأخطار] 1 والتعليق". فإن قلت -معترضا على النووي- لو كان كما ادعيت من أنه لا بد فيه من نية جازمة، لما قبل التعليق، وقد قال الأصحاب: بأنه يقبله، وأنت من جملتهم إذا صححت قول المرء:"أحرمت كإحرام زيد"، وسميته تعليق الإحرام، وبذلك صرح صاحب التتمة؛ حيث قال:"إذا صح تعليقه بإحرام الغير صح تعليقه بالشرط كالإطلاق"2.

قلت: لا مخلص عن هذا الاعتراض إلا بما قال الشيخ الإمام من أنه لا تعليق في قولنا: أحرمت كإحرام زيد وقضية هذا [أن] 3 لا يصح قوله: أحرمت بنصف نسك- وإليه أشار النووي، وقول الروياني -إنه يصح- جاز على أصله من أن -أحرمت كإحرام زيد- تعليق، والقاعدة أن ما قبل التعليق بصح إضافته إلى بعض محله.

قال الأصحاب: ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا مسألة واحدة، وهي: الإيلاء يقبل التعليق -مع كونه لا يصح إضافته إلى بعض ذلك المحل إلا الفرج4.

قال القاضي شرف الدين البارزي5: والوصية يصح تعليقها ولا يصح أن تضاف إلى المحل.

قلت: وثالثة: وهي التدبير يصح تعليقه؛ بل لا يكون إلا كذلك، ولو قال: دبرت يدك أو رجلك لم يصح -على أحد الوجهين.

وأما القاعدة الثانية: وهي أن ما لا يقبل التعليق لا تصح إضافته إلى بعض ذلك المحل كالنكاح والرجعة؛ فيستثنى منها مسائل:

منها: الكفالة لا يصح تعليقها ويصح إضافتها إلى بعض المحل على الأصح فيهما [وينعكس على وجه] 6 فيما لو اتحد العامل.

1 في "ب" الاحتكار.

2 في "ب" الإطلاق.

3 سقط في "ب".

4 في ب "للفرج".

5 في ب زيادة "وثانية وهي".

6 سقط في "ب".

ص: 384

ومنها: القذف لا يعلق؛ فلو قال: [إذا1] دخلت الدار فأنت زان لم يكن قاذفا، ولو قال: زنا قبلك أو دبرك كان قاذفا.

ومنها: تعليق الفسخ غير جائز -ذكروه في نكاح المشرك، ولو اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيبا وقلنا: لا يفرد المعيب بالرد فرده كان ردا لهما على أحد الوجهين.

ومنها: لا يصح تعليق الرجوع، في التدبير -إن قلنا: يرجع القول كما جزم به الرافعي، ولو قال: أرجعت في رأسك ففي كونه رجوعًا في جميعه وجهان في الحاوي.

قاعدة: قال القفال رحمه الله: كل كفارة سببها معصية؛ فهي على الفور وهذا وإن أطلقه القفال إطلاقا -ففيه خلاف سيحكيه هو نفسه؛ فإنا سنحكي عنه وجهين:

نقول: إنهما جاريان في كل كفارة وجبت بعدوان، بل ليس هو جاريا على الصحيح، في كل الصور؛ إذ صريح كلام الرافعي -في موضع من الظهار أن كفارة الظهار على التراخي والظهار معصية.

وقد يدفع هذا بأن السبب هو العود أو مجموعهما -على الخلاف في ذلك والعود ليس بحرام غير أن هذا إن اعتذر به عن كفارة الظهار، فما الاعتذار عن بقية الكفارات؟

وظاهر كلام الرافعي أن الكل على التراخي؛ إذ قال في الموسر لا يجد الرقبة: "ليس له العدول إلى الصوم في كفارة القتل واليمين والجماع في نهار رمضان، بل يصبر" قال: "لأن الكفارة على التراخي" قال "وفي كفارة الظهار وجهان: لتضرره بفوات الاستمتاع" وللشيخ الإمام الوالد رحمه الله بحث نفيس ذكره في تفسير سورة2 المجادلة عند ذكر هذه القاعدة.

ومن فروع القاعدة ما قرره الرافعي في كتاب الصداق من أنه "لا يجوز لولي الصبي أن يعتق عن من ماله في كفارة القتل"؛ فإن ذلك قد يوجه بأنه لا معصية من الصبي، فلا فورية؛ فلا يعتق الولي، ويؤيده قول الرافعي -أيضا- في الحج فيما إذا وجبت الفدية على الصبي، أنه ليس للولي أن يكفر عنه بالمال؛ لأنه غير متعين -على القول بجواز افتدائه بالصوم- لكن الذي صرح به القاضي الحسين في [كتاب] 3 الوصية والبندنيجي في الأيمان، واقتضته عبارة الإمام واقتصر عليه الرافعي والنووي في

1 في "ب" إن.

2 سقط في "أ" المثبت من "ب".

3 سقط من "ب".

ص: 385

باب كفارة القتل أن الولي يعتق عنهما وبذلك يحصل في جواز تكفير الولي من [مال] 1 الصبي بالعتق خلاف، قال ابن الرفعة:"قد يجري في المجنون، وقد يقال: لا؛ بل يقطع بالجواز إذا كان جنونه مطبقا؛ لأنه ليس له غاية تنتظر بخلاف الصبي "قال": والأشبه إن كان القتل منها في صورة الخطأ منع الإخراج في الحال، لعدم الفورية، وإن كان في صورة العمد -وقلنا أنه كان لخطأ- فكذلك، وإن قلنا: كالعمد فيخرج منه خلاف على أن ذلك يجب على الفور أم لا؟ كما هو مذكور في كتاب الحج".

قلت: حاصل كلام ابن الرفعة أنه إذا كانت الكفارة على التراخي تمنع الولي من الكفارة في العتق، وهذا فيه نظر [إذ] 2 لا يلزم من عدمه الفورية وجوب التأخير؛ بل المبادرة -حينئذ- قد يقال: أنها أولى كما في كل واجب على التراخي، وكما يجوز له أن يوفي دينه، وإن لم يطالب صاحب الدين بالوفاء، وقلنا: والحالة هذه -أنه لا يجب إلا بالطلب طلبا لبراءة ذمته؛ فالذي أراه جواز إعتاق الولي من مال الصبي في الحال -وإن كان في صورة الخطأ.

ومنها: لو أفسد الحج ووجب القضاء؛ فالأصح أنه على الفور، قال القفال:"والوجهان جاريان في كل كفارة وجبت بعدوان" قال: والكفارة بلا عدوان على التراخي قطعا....

قاعدة: "لا يجوز للمسلم أن يدفع مالا إلى الكفار المحاربين".

قال الشيخ أبو حامد: "إلا في ثلاث صور".

قلت: وهي أكثر.

منها3: إذا أحاط العدو بالمسلمين، وفيهم ضعف عن مقاومتهم.

ومنها: إذا كان في يد الكفار أسرى من المسلمين؛ فيجوز افتداؤهم منهم بالمال، قال الروياني: وفي وجوبه وجهان: أصلهما المضطر إلى الميتة. هل يجوز له الأكل، أو يجب؟

قلت: إن كان محل الوجهين في الآحاد فهو غريب، والمجزوم به -في الرافعي والروضة وغيرهما- أن فداء الأسير مستحب، وإن كان الإمام فأغرب وأغرب بل الوجه الجزم بالوجوب، والتخريج على أكل الميتة ضعيف؛ فإن فوات نفس المضطر -

1 في "أ" مسائل.

2 في "ب" فإن.

3 في "ب" فمنها.

ص: 386

على الإيمان -أسهل في نظر الشرع من بقاء المؤمن تحت ذل الأسر في أيدي الكفار؛ ولا سيما من يخشى عليه فتنة الدين.

ومنها: لو قال الأسير للكافر: أطلقني على كذا ففعل، أو قال الكافر افتد نفسك بكذا ففعل، لزمه ما التزم.

ومنها: إذا جاءت امرأة -من الكفار- مسلمة في زمن الهدنة وكانت مزوجة فيهم؛ فإن الإمام يغرم مهرها -على قول ضعيف- والصحيح خلافه.

ومنها: مسألة العلج1؛ فإن قال كافر للإمام: أدلك على قلعة كذا على أن تعطيني منها كذا؛ فعاقده على ذلك جاز.

قاعدة: ذكرها القاضي الحسين، وتبعه كثير من الخراسانيين منهم الغزالي في كتاب الكفارات، والرافعي في باب الردة ما يصير المسلم به كافرا إذا جحده -يصير الكافر به مسلما إذا اعتقده.

قال القاضي: "إلا في مسألة وهي: اليهودي إذا قال: عيسى رسول الله صلى الله عليه وسلم [فإنا لا نحكم] 2 بإسلامه؛ لأن قومًا من الكفار -وهم النصارى- يقولون به، والمسلم إذا جحد نبوة عيسى، كفر.

قلت: وفي مسألة اليهودي قول أنه إذا أقر برسالة عيسى عليه السلام يجبر على الإسلام؛ لأن المسلم لو جحد رسالته كفر -حكاه الرافعي عن نقل البغوي، وقد جزم البغوي -قبله- بأن اليهودي لا يحكم بإسلامه -وإن قال: لا إله إلا الله- حتى يقر بأن محمدا رسول الله، ونقله عنه الرافعي.

واعلم أن قول النصراني -الذي يعتقد أن رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة: محمد رسول الله كقول اليهودي: لا إله إلا الله.

فائدة: من ملك العفو عن القصاص في النفس، ملك العفو عن المال إلا أن يثبت القصاص دون المال؛ وذلك في مسائل، ولك أن تقول: لا يثبت قصاص يمتنع الانتقال عنه إلى المال إلا في مسائل حصرها الجرجاني في أربع [مسائل]3.

منها: إذا قطع يدي رجل فاقتص منه فيهما ثم سرى القطع إلى النفس؛ فليس له بعد ذلك إلا القتل، ولا دية له.

1 في "ب" الصلح.

2 في "ب" فإنه لا يحكم.

3 سقط في "ب".

ص: 387

ومنها: إذا كان لرجل عبدان فقتل أحدهما الآخر، فللسيد أن يقتله، وليس له العفو على مال؛ إذ لا يثبت له عليه [مال] 1 إلا في الكتابة.

ومنها: قطع يهودي يدي مسلم فاقتص منه فيهما ثم سرت إلى نفس المسلم؛ فلوليه أن يقتص من اليهودي، وليس له أن يعفو على مال -على الأصح- لأنه قد أخذ يدي اليهودي بإزاء يديه؛ فلم يبق له شيء من الدية وكالمسألة الأولى وفي الوجه الآخر له ثلثا الدية؛ لأنه يثبت له دية المسلم، وقد أخذ يدي يهودي، فقيمتهما ثلث الدية، قيبقى الثلثان.

قلت: هذا الوجه هو الذي صححه الرافعي والنووي.

ومنها: أن تقطع امرأة يدي رجل فيقتص منها فيهما ثم يسري القطع إلى نفسه، فلوليه أن يقتص منها، وليس له أن يعفو على مال في الأصح عند الجرجاني "وصحح الرافعي والنووي أن له نصف الدية".

هذا ما استثناه الجرجاني ولا يخفى أنه في الصورة الأولى يثبت له أن يعفو على الدية؛ ولكنه اختار القصاص، فسقطت الدية، ولم يعد لما صارت الجناية نفسًا. ويمكن أن يصور2 قصاص ثبت ولا دية معه بالكلية فيما إذا قطع يدي شخص ثم حز رقبته؛ فحز الرقبة موجب القصاص دون الدية؛ لأنها ثبتت بقطع اليدين، فلما صارت الجنابة نفسا سقطت.

ثم اعلم أن وراء ما ذكر الجرجاني صورًا.

منها: إذا قتل المرتد مرتدًا فإن القصاص واجب -على الأصح- وفي الدية وجهان: أرجحهما -على ما اقتضاه إيراد الرافعي عدم الوجوب.

ومنها: إذا قتل ذمي مرتدا؛ فالأظهر القصاص وعلى القول بوجوبه فلا دية على الأصح.

ومنها: العبد المرهون إذا جنى على طرف سيده، فلسيده القصاص، والصحيح أنه ليس له العفو على مال؛ لأن السيد لا يثبت له على عبده مال، وقال ابن سريج:"له العفو على المال ويتوصل به إلى فك الرهن".

وهنا سؤال حسن نتوصل إلى ذكره بذكر مسألة ترشد إليه فتقول: إذا باع أحد

1 سقط في "ب".

2 في "ب" زيادة "قصاص".

ص: 388

الشركاء نصيبه من العقار لأحدهم -كما إذا كان العقار بين ثلاثة أنفس أثلاث- فباع أحدهم نصيبه من أحد شريكيه فللآخر أخذ السدس فقط كما لو كان المشترى أجنبيًا هذا هو الصحيح، وقال ابن سريج: "له أخذ جميع الثلث، لأنا لو جعلنا للمشتري أن يأخذ بالشفعة كان1 له أن يأخذ من نفسه ملك نفسه.

فإن قلت: كيف قال الأصحاب -هنا- بأن له أن يأخذ من نفسه وقالوا في الرهن: لا يثبت له دين على عبده، وكيف عكس ابن سريج؟ قلت: لم يقل الأصحاب -هنا- "إن له أن يأخذ من نفسه"؛ وإنما له دفع الشريك عن الأخذ عن نفسه؛ لأن الشفعة إنما ثبتت لدفع الضرر، ولو أخذه الشريك لتضرر، ودفعه الضرر عن نفسه فالأخذ ممكن وهناك يلزم ثبوت المال له على ملكه، وهو مستحيل، وابن سريج عكس، وهو على طريقه واضح لأنه يقول -في الشفعة: أنه يلزم منه أن يأخذ من نفسه -[على] 2 [تصويره] 3 هو فلذلك منع وأما في الجناية؛ فلأنه لو لم يثبت له ذلك الأذى إلى حصول المحذور وهو فوات حق الجناية بالكلية، ويقدم المرتهن.

قاعدة: قال الإمام في كتاب الصداق في الكلام على التفويض "ومن الأقيسة الجلية الكلية في قواعد الشرع أن من تملك إسقاط العوض بعد ثبوته له، إذا سقط على إتلاف المعوض كان تسليطه عليه متضمنا إسقاط العوض".

ولذلك نقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتله، فقتله، لم يلزم القاتل للمالك -الآذن- عوضًا، وكذلك إذا قال للجاني اقطع يدي، فإذا قطعها، لم يلزم عوضًا.

ذكرها توجيها لقول القاضي: إن المفوضة إذا قالت لزوجها: طأني ولا مهر عليك، أنه لا يمتنع أن نقول: إذا وطئها لا يجب المهر "قال: وخرج القاضي -هذا- على قول الشافعي فيما إذا قال [الراهن للمرتهن] 4 أذنت لك في جماع هذه الجارية المرهونة، فواقعها ظانا الحل، فلا مهر".

قلت: وليقع النظر -هنا- في مسائل.

منها: ذهب الإمام فيما إذا خفر الغاصب بئرًا ومنعه المالك من طمها أن منعه ليس رضا بها، وخالفه المتولي. وهي قضية هذه القاعدة.

1 في ب "لكان".

2 في ب زيادة "على ما".

3 في "ب" يصوره.

4 في ب "تقديم وتأخير".

ص: 389

ومنها: لو أذن أحد الشريكين للآخر في وطء الجارية المشتركة، لم يمتنع المهر- مع أنه سلطه على إتلاف المعوض.

قلت: هذه تستثنى من القاعدة -مع ما فيها من أن المأذون فيه ليس محض حق الإذن.

قاعدة:

"الاعتبار في تصرفات الكفار باعتقادنا لا باعتقادهم".

خلافا لمالك رحمه الله وبعض أصحابنا -كما تدل عليه فروعهم، وجزم الوالد رحمه الله في كتاب كشف الغمة بالأول، وقال:[لا] 1 يثبت لنا قط في مسألة من المسائل -أن اعتقادهم يؤثر في حل ولا حرمة ولا ملك ولا عدم ملك "قال": وقد نص الشافعي والأصحاب [رضي الله عنهم] 2- على الكتابي لو ذبح حيوانًا يرى تحريمه -كالإبل- ونحن نرى حله، جاز لنا أكله؛ خلافا لمالك:"قال": وهذا مما يدل على أنه لا اعتبار باعتقاده أصلا قال: وتردد العلماء في أن ذلك يكون حراما عليهم -لا بشرعهم- بل يكونهم لم يؤمنوا، أو لا يكون [حراما] 3 عليهم؛ لأنه قد نسخ قال: وكلام الشافعي [رضي الله عنه] 4 يقتضي الثاني، وأطال الشيخ الإمام في تقرير القاعدة. وعلى القاعدة يتخرج مسائل:

منها: إذا أتانا الذمي بما نتيقن أنه من ثمن خمر عن الجزية، قال مالك رحمه الله: يؤخذ، وقال أصحابنا: لا يؤخذ، وحكوا وجهين فيما إذا كان لمسلم على ذمي دين؛ فباع الذمي خمرا بحضرته، وقبض ثمنها ودفعه إلى المسلم عن دينه، هل يجبر على قبوله؟ أصحهما عند المشايخ الثلاثة -الرافعي والنووي والوالد "رحمهم الله" -أنه لا يجبر؛ بل لا يجوز له القبول، [قال الوالد رحمه الله ورأيته منصوصًا في "الأم"] 5 قال: وقطع به الغزالي وجعل محل الوجهين إذا قال: إنها من ثمن خمر؛ لأنه قد يكذب "قال الشيخ الإمام والصواب إثبات الوجهين"، ثم جعل الشيخ الإمام الوجهين خلافًا في أنه هل تملك تلك الدراهم، وقال:"الأصح أن ثمن خمر لا يملك ولا يجوز قبوله، وينبغي إجراء الوجهين في الذمي يحضر ثمن الخمر عن الجزية".

ومنها: إذا ذبح الكافر حيوانا وفتش كبده [فوجده] 6 ممنوا، أي ملصوق الكبد

1 في ب "لم".

2 سقط في "ب".

3 في ب "محرما".

4 سقط في "ب".

5 سقط في ب.

6 في ب "فوجد".

ص: 390

بالأضلاع. قال مالك: يحرم لكونه حراما عندهم، وقال أصحابنا: لا يحرم.

ومنها: لو غصب ذمي ذمية واتخذها زوجة -وهم يعتقدون غصبها نكاحًا- لم يقر؛ لأن على الإمام دفع قهر بعضهم بعضا، بخلاف الحربي والمستأمن، فإن الصحيح التقرير؛ إذ ليس فيه إلا إقامة الفعل مقام القول، بأشبه سائر وجوه الفساد.

وقال القفال: "لا يقر؛ إذ لا عقد" وقول القفال -هذا- أقرب إلى هذه القاعدة.

ومنها: لا فرق عندنا -في حل ذبائح أهل الكتاب- بين ما اعتقدوا إباحته كالبقر والغنم أو تحريمه كالإبل، خلافًا لمالك رحمه الله.

وقد قدمنا للمسألة ولا بين من يعتقد من اليهود أن عزيرًا ابن الله ومن النصارى أن المسيح ابن الله أو لا كما قال الأكثرون من أصحابنا فيما نقل الماوردي، وحكى وجهًا آخر -أنه لا تحل ذبائحهم قال:"وهو الأظهر عندي، وبه أقول؛ لأن هؤلاء كالمرتدين فيما بين اليهود والنصارى وليس هذا من أصل دينهم الحق".

ويستثنى من القاعدة مسائل:

منها: نكح مشركة مفوضة، وهم يعتقدون أن لا مهر للمفوضة بحال ثم أسلما فلا مهر -وإن كان إسلامها قبل الدخول؛ لأنه استحق وطا بلا مهر.

قاعدة:

المماثلة في القصاص مرعية بمعنى أن من قتل بفعل من الأفعال؛ فولي الدم بالخيار بين أن يستوفي بالسيف أو بمثل فعله وهذه قاعدة بالغ أصحابنا في المحافظة عليها؛ بحيث انتهوا إلى أن قالوا إنا إذا قلنا يستوفي القصاص في الجائفة؛ فلو قال أجيفة ثم أعفو عنه إن لم يمت لم يمكن؛ وإنما يمكن إذا قال أجفته ثم أحز رقبته، وهذا مشهور في المذهب رأيت الشافعي رضي الله عنه عليه في الأم ففيها قبل ولاة القصاص ما نصه قال الشافعي: رضي الله عنه، ولوكانت المسألة بحالها فجرحه جائفة مع قطع يديه ورجليه؛ فمات فقال ورثته فجرحه جائفة ولا نقتله لم يتركوا؛ وذلك أنهم إنما يتركون إذا قالوا نقتله بما يقاد منه في [الجناية]1. أما ما لا يقاد فلا يتركون وإياه انتهى.

وكذلك هو في مختصر المزني قال الشافعي رضي الله عنه: ولو أجافه أو قطع ذراعه فمات كان لوليه أن يفعل مثل ذلك على أن يقتله. وأما على أن لا يقتله فلا يترك وإياه انتهى وأنت إذا وقفت

1 سقط في "ب".

ص: 391

على هذين النصين وتصفحت كتب الأصحاب وتعاليق المشايخ، ثم رأيت الرافعي قد اقتصر على عزو المسألة إلى تهذيب البغوي قضيت العجب من ذلك.

وإذا عرفت هذا فيستثنى من القاعدة مسائل ضابطها أن تؤدي المماثلة إلى محذور شرعي.

منها: القتل باللواط الأصح يستوفي بالسيف لا بخشبة [تشبه] 1 الذكر.

ومنها: الخمر كذلك.

ومنها: السحر.

ومنها: البول.

ومنها: إذا قتله بسيف مسموم بقيت ويمنع من الغسل والدفن؛ ففي القصاص بمثله احتمال وجهين للماوردي.

ومنها: إذا شهد أربعة على محصن بالزنا فرجم، ثم رجعوا أو واحد منهم؛ فهل يرجم الراجع أو يتعين السيف أو رجمه فيه وجهان؛ حكاهما القاضي الحسين في باب حد الزنا.

ومنها: إذا ذبح كالبهائم فهل يفعل به مثل ذلك ذكرت في كتابي التوشيخ أن الماوردي في الحاوي وغيره اقتضى إطلاقهم عدم ذلك لما فيه من هتك الحرمة، وأنه محمول [عندي] 2 على ما إذا لم يكن الجاني قد فعل ذلك. أما إذا فعله فالمماثلة جائزة، وأقول الآن يحتمل تخريج وجهين في ذلك فيما إذا قتله بمسموم ويمنع من الغسل والدفن لمعارضة حق الله تعالى؛ فإن هتك الحرمة حق الله وقد نهى الشرع عن المثلة لذلك.

قاعدة:

من لا مدخل له في الجناية لا [مطالب] 3 بجناية جانيها إلا في فرعين لا أحفظ لهما ثالثًا.

أحدهما: العاقلة في ضمان الدية؛ غير أن الدعوى بالدية الواجبة عليهم تكون على الجاني لا عليهم ثم هم مطالبون بعد ثبوتها على الجاني كذا رأيته مصرحًا به في كتاب أدب القضاء لابن القاص في باب صفة اليمين على البت وهو مقتضى قول الرافعي في أثناء النظر الثاني في القسامة من باب دعوى الدم؛ حيث قال: وإذا أقسم السيد فإن كانت الدعوى على حر أخذ الدية من ماله في الحال إن ادعى العمد المحض وإن ادعى الخطأ

1 سقط في "ب".

2 في "ب" عندي محمول.

3 في "ب" يطالب.

ص: 392

أو شبه العمد أخذها من عاقتله في ثلاث سنين. انتهى.

فجعل الدعوى على الجاني والمطالبة مختلفة؛ فإن قلت: قد قال الرافعي بعد ذلك بنحو ورقتين مطلق القتل لا يفيد مطالبة القاتل؛ بل لا بد من ثبوت العمدية ولا مطالبة العاقلة بل لا بد من ثبوت كونه خطأ أو شبه عمد.

قلت: كلامه هذا في المطالبة بالواجب ليستوفي منه وهناك في المدعى عليه ويشبه أن يخرج مسألة الدعوى على أن الدية تجب على الجاني ابتداء ثم تحملها العاقلة أوعلى العاقلة ابتداء وفي ذلك وجهان.

قال الرافعي: ويقال قولان.

قلت: وإنما جعلهما الرافعي وجهين لما حكاه عن الإمام من قوله ليس تردد القول مأخوذًا من نص صاحب المذهب؛ ولكنه مستقي من تصاريف كلامه في التفريعات، قال الإمام في النهاية ونظيره كثير؛ فإن النقل تارة لفظا وتارة من جهة المعنى والاستنباط انتهى.

وقال ابن الرفعة: بل هما منصوصان في الأم ثم قال الإمام، وقد قدمنا مثل هذا التردد في زكاة الفطر إذا أداها الغير عن الغير وأشرنا إلى قريب منه في كفارة الوقاع في نهار رمضان تفريعًا على أجد القولين.

قلت: وفي تفاريع حلق الحلال رأس المحرم تردد في مثل ذلك الفرع الثاني على قول هو الحلال أو الحرام يحلق رأس المحرم والمحلوق نائم أو مغمي عليه أو مكره؛ فأصح القولين أن الفدية على الحالق والثاني على المحلوق؛ لأنه المرتفق به وعلى هذا فقد طولب بجناية ما لا مدخل له فيها.

أما الصبي المحرم بإذن الولي إذا قتل صيدا فإن الضمان على الولي في الأصح؛ ولكن ذلك لأن الولي مدخلا حيث أذن ولو صح إيراد هذه الصورة لكان أولى منها السيد بأمره عبده [الأعجمي] 1 بقتل شخص والعبد يجني في يد سيده حيث يطالب سيده

1 في "ب" الأعمى.

ص: 393

بأحد الأمرين من الفداء أو تسليمه في الجناية والمكره يكره إنسانًا على القتل ومسائل المتسبب مع المباشر كلها.

قاعدة:

قال الجرجاني كل قتل مضمون بأخذ ديته مضمون بالكفارة وكل قتل غير مضمون لا [يؤخذ]1.

قاعدة:

ذكرها الرافعي في الجراح في مسألة المبادرة، وفي باب حد الزنا أيضا:

كل جهة صححها بعض العلماء وحكم بحل الوطء بها؛ فالظاهر أنه لا حد على الواطيء بتلك الجهة، وإن كان لا يعتقد الحل.

وهذه القاعدة ذكرها الإمام أيضا في النهاية في فصل جمع فيه تفاصيل المذهب في الشبهات المؤثرة في دفع الحدود؛ فقال ما نصه: القاعدة المعتمدة في المذهب أن كل جهة صار إلى تصحيحها والحكم بإفضائها إلى الإباحة صائر من أئمة الشريعة؛ فإذا حصل الوطء بها فالمذهب انتفاء الحد وإن كان المقدم عليها لا يرى استحلال الوطء بتلك الجهة انتهى.

وقد أورد الرافعي في باب الزنا أن المذهب وجوب الحد على المرتهن إذا وطئ الجارية المرهونة بإذن الراهن [وقد] 2 يعتقد التحريم والمحكي عن عطاء في هذه الصورة الإباحة.

قال الرافعي فقياس هذه القاعدة أن يجعل خلافه شبهة دارئة للحد [وكأنهم يصححوا] 3 النقل عنه، وإن قيل انعقد الإجماع بعده؛ فهذا قد ذكر مثله في نكاح المتعة فيلزم أن يحكم بوجوب الحد انتهى ملخصًا.

وقد ذكر ابن الرفعة في الكفاية والشيخ الإمام في باب الرهن من شرح المهذب أن النقل لم يصرح عن عطاء زاد الشيخ الإمام، ولو صح فليس بشبهة لضعفه، قال: والحد لا يدرأ بالمذهب؛ وإنما يدرأ بما يتمسك به أهل المذاهب من الأدلة وليس لعطاء متمسك انتهى.

قلت: وهو حق وإن كان ظاهره يخدش في القاعدة؛ إذ يقال ليس كل جهة حللها بعض العلماء بشبهة بل كل جهة كان لمستند القائل بحلها بعض القوة، وهذا هو

1 في "ب" يوجد.

2 في "ب" وهو.

3 في "ب" لم يصححوا.

ص: 394

الصواب فالمأخذ الضعيف لا يلتفت إليه، وقد سبق الإمام رحمه الله في النهاية الشيخ الإمام إلى هذا؛ فقال بعد أن ذكر ما نقلناه عنه في هذه القاعدة وبعد أن حكى قولًا للشافعي أن الوطء في المتعة ممن لا يستحله يوجب الحد.

وقال: إنه قريب من [القديم] 1 في الأملاك المقترنة بالأساليب المحرمة ما نصه والتثريب عندنا أن كل عقد ليس فساده من المظنونات، وإن عزي إلى بعض الأئمة؛ فيجري هذا القول فيه ونكاح المتعة منه؛ فإن الذي استمر عليه مذاهب علماء الأمة أن نكاح المتعة أبيح، ثم نسخ، وقد قيل رجع ابن عباس عما ينسب إليه من إباحته وكل عقد لا يمكن القطع بفساده ويلحق الكلام فيه بالمظنونات؛ فهو شبهة لدرء الحد كمذهب أبي حنيفة في نكاح بلا ولي، ومذهب مالك في انعقاده بغير شهود ولا يجري القول الذي ذكرناه في هذا الصنف انتهى.

وحاصله أن المخالف في أمر مظنون يعتبر مخالفته والمخالف في أمر مقطوع أو مقارب للقطع لا يعتبر خلافه، وينبغي أن يكون الضابط ما ينقض فيه قضاء القاضي؛ فكل ما لا ينقض يكون عذرًا، وكل ما ينقض لا يكون عذرًا، وأما قول الرافعي إنه قيل: انعفد الإجماع بعد عطاء؛ فقد قيل مثله في نكاح المتعة بن ابن عباس؛ فأنى يستويان وعطاء لم يثبت النقل عنه وابن عباس ثبت عنه؛ ولكن قيل رجع والأصل عدم رجوعه فاعتبار خلافه مستمر على الأصل.

وأما عطاء فالأخذ بقوله أخذ بما لم يثبت، ودل الاتفاق بعده على عدمه فتأمل ذلك، فيه يندفع كلام الرافعي، وأيضًا فمتمسك ابن عباس على الجملة أقوى من متمسك عطاء أو أقل ضعفًا؛ فلا يلزم من عدم اعتبار الأضعف عدم اعتبار الضعيف، وهذا مستمد من قول الشيخ الإمام الحد لا يدرأ بالمذاهب إلى آخره. ومن مسائل القاعدة.

إذا نكح مجوسية أو وثنية قال البغوي: وجب الحد، وقال الروياني في جمع الجوامع:[ومودع البدائع] 2 لا حد فإن في نكاحها خلاف.

قال الرافعي: وهذا هو القياس إذا تحقق الخلاف قال ابن الرفعة: وكأنه فهم أن ما أشار إليه الروياني من الخلاف بين الأئمة لا بين أصحابنا، وليس الأمر كذلك؛ لأن بعض أصحابنا جوز نكاح المجوسية.

1 في "ب" المنقول القديم.

2 سقط في "ب".

ص: 395

قلت: ما أدري من أين له أن الرافعي فهم أن الخلاف بين الأئمة [لا بين أصحابنا] 1، وليس في الكلام ما يرشد إليه، وكأن ابن الرفعة استبعد أن يكون الرافعي فهم أن الخلاف بين أصحابنا، ثم يقال معه بوجوب الحد؛ فإن الخلاف المذهبي أقوى من الخلاف غير المذهبي، وهذا غير لازم؛ بل قد يكون خلاف مذهبي في غاية السقوط والأقوال الشاذة، قد تكون في المذهب كما قد تكون خارجة، وممن ذهب إلى أن للحاكم أن يزوج الحرة المجوسية من أصحابنا القدماء الإمام أبو بكر الفارسي صاحب عيون المسائل؛ نقله أو عاصم العبادي في الطبقات.

قاعدة:

من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة عزر، كذا قال صاحب التنبيه وتبعه الرافعي والنووي وغيرهما، ولم يشترط الماوردي والغزالي ابتغاء الكفارة وتبعهما صاحب التعجيز.

وقد اشتملت هذه القاعدة على ثلاث دعاوى؛ إحداها تعزير ذي المعصية التي لا حد فيها ولا كفارة، ويستثنى من ذلك مسائل:

منها: ما لا يفيد فيه إلا الضرب المبرح على ما حكاه الإمام عن المحققين؛ قال: لأن الضرب بالمبرح مهلك فلا سبيل إليه وغيره لا يفيد؛ فلا يفعل وجرى في الروضة على هذا، وحذف بحثا للرافعي صحيحًا أرى أنه عمدة المذهب، وهو أنه يشبه أن يضرب ضربًا غير مبرح إقامة لضرورة الواجب وإن لم يفد.

قلت: ويشابه قول المحققين ما نقله الرافعي عن الإمام فيمن قتل نحيفًا بضربات تقتل مثله غالبًا وتيقنًا أو ظنا ظنًا مؤكدًا أن الجاني في جسمه وقوته لا يهلك بتلك الضربات أن الوجه القطع بأنه لا يضرب تلك الضربات؛ لأنها لا تقتله وإنما يراعي المماثلة إذا توقعنا حصول الاقتصاص بذلك الطريق فيعدل إلى السيف هنا ابتداء، وكذلك يشابهه ما قال صاحب التتمة من أن موضع الخلاف في أنا هل ابتداء استعمال خشبة فيمن قتل باللواط فيما إذا كان موته متوقعًا من المقابلة بمثل ما فعل. أما إذا لم نتوقع وكان موت المجني عليه لطفولية ونحوها فلا معنى للمقابلة.

ومنها: قال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: إن الأولياء لا يعزرون على الصغائر بل تقال عثراتهم وتستر زلاتهم.

1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".

ص: 396

ومنها: وهو يشهد لما قاله ابن عبد السلام ما رأيته في الشامل لابن الصباغ في باب جامع السير فيما إذا كتب بعض المسلمين إلى المشركين بخبر الإمام أن الشافعي رضي الله عنه، قال: إن كان فاعل هذا من ذوي الهيئات عذر ولم يعزر لحديث حاطب بن أبي بلتعة.

منها: حكى ابن الرفعة وجهًا أن قاذف ولده لا يعزر.

ومنها: من وطئ امرأته في دبرها؛ فإنه لا يعزر في أول مرة؛ فإن عاد عزر نص عليه الشافعي رضي الله عنه وذكره صاحب التهذيب والروياني.

ومنها: قال القاضي أبو حامد المروزي فيمن دخل من أهل القوة الحمى الذي حماه الإمام؛ فرعى ما شيته أنه لا يعزر مع كونه عاصيًا.

ومنها: على وجه إذا وطئ السيد المكاتبة لا يعزر وإن علم التحريم.

ومنها: ما أطلقوا أن الزكاة يجب دفعها إلى الإمام الجائر بعد طلبه بلا خلاف، وإنه إذا غلها من الجائر لم يعزر؛

فيجمع من الإطلاقين أنه يعزر على هذه المعصية؛ لكن الوالد رحمه الله يقول: إن أوجبنا الدفع بعد الطلب فغلها ينبغي أن يعزر.

الدعوى الثانية: أن متى كان في المعصية حد أو كفارة ينتفي التعزير، وهذه تستثنى منها مسائل:

منها: من أتى بهيمة في رمضان؛ فإنه يجب عليه مع القضاء العقوبة والكفارة؛ ذكره صاحب التهذيب والعقوبة هي التعزير؛ لأن الصحيح أنه لا حد على واطئ البهيمة.

ومنها: الجماع في نهار رمضان؛ فإن فيه مع الكفارة التعزير، قال ابن يونس في شرح التعجيز وعبارته يعزر المفطر ولو المفكر. انتهى.

وأرى أنه أخذه مما حكيناه عن صاحب التهذيب.

ومنها: اليمين الغموس يجب فيها التعزير في الكفارة؛ قاله شيخ الإسلام: عز الدين ابن عبد السلام في القواعد، والشيخ تقي الدين ابن الصلاح في فتاويه، قال ابن عبد السلام: لجرأته على ربه والكفارة لمخالفة موجب اليمين، وإن كان مباحًا أو مندوبًا.

قلت: فالاستثناء حاصل بكل حال.

منها: قال ابن عبد السلام أيضا من زنا بأمة في جوف الكعبة وهو صائم معتكف

ص: 397

محرم أثم1، ولزمه العتق والبدنة والحد للزنا والتعزير لقطع الرحم وانتهاك حرمة الكعبة.

ومنها: قال ابن الصباغ في أوائل الجراح كل مكان قلنا لا يجب فيه القصاص؛ فإن القائل يعزر ويلزمه البدل والكفارة.

ومنها: قال الفوراني بقطع يد السارق ويعزر أيضًا قال مجلي في الذخائر؛ فإن أراد بالتعزير تعليق يده في عنقه فحسن أو غيره فمنفرد به.

قلت: وإن أراد تعليق اليد فقد يقال هو تتمة الحد لا تعزير كما هو وجه في حسم اليد المقطوعة بالزيت المغلي.

ومنها: قال ابن داود في شرح المختصر إذا قتل الرجل من زنا يأهله في الحالة التي هو فيها زان لم يعزر، وإن اقتات على الإمام بل يعزر لأن الغيظ والحمية حمله عليه.

قلت: ونقل الخطابي في معالم السنن أن الشافعي رضي الله عنه نص على أنه يحل له قتله والحالة هذه فيما بينه وبين الله تعالى، وإن كان يقاد به في الحكم؛ فعلى هذا استثناء [غير الأول]2.

ومنها: [غير ما تقدم] 3 والكلام فيه كالكلام في هذه الصورة إذا استوفى ولي الدم القصاص بغير إذن الإمام لم يعزر على وجه قال ابن الرفعة لعل مأخذه تجويز الاستبداد.

قلت: وقد ثبت في التوشيح أن الأمر كذلك فلا استثناء.

ومنها: الزيادة على أربعن في الخمر إلى ثمانين تعزير على الصحيح والأربعون حد فاجتمعا.

ومنها: نص الشافعي رضي الله عنه كما حكاه ابن الرفعة في حواشي الكفاية أن الأب يجب عليه بقتل ابنه الدية والكفارة والعقوبة.

قلت: وإليه أشار ابن الصباغ بقوله الذي حكيناه عنه إن كل مكان لا يجب فيه القصاص يعزر القاتل ويلزمه البدل والكفارة.

تنبيه: عرفناك أن الماوردي والغزالي لم يذكرا الكفارة وعبارة المارودي التعزير تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود وقريب منها عبارة الغزالي في البسيط فلا يرد

1 في "أ""ب" أثم سنة وستة أيام.

2 سقط في "ب".

3 سقط في "ب".

ص: 398

عليهما ما أوردناه على غيرهما من الصور التي اجتمع فيها التعزير والكفارة ثم من ذكر الكفارة لا أدري هل يقتصر القول عليها أو يعمم كل غرم؛ فيقول لا تعزير مع الغرم كفارة كان أو غيرها.

هذا هو الأظهر فيما أفهمه ويرد حينئذ أيضًا مع ما قدمناه من أفطر عاصيًا في رمضان بغير الجماع؛ فإن عليه مع القضاء والتعزير الفدية على أصح الوجهين؛ كذا قال البغوي في التهذيب قال: لأنها لما وجبت على المرضعة مع كونها معذورة فإنه يجب على غير المعذور أولى انتهى.

والصحيح عند الرافعي والنووي والوالد رحمهم الله أن الفدية لا تجب؛ فلا إيراد إلا على ما صحيح البغوي؛ فإنه جمع بين الفدية والتعزير ولكن الفدية غير الكفارة.

قاعدة:

قال بعض أصحابنا من يحد [بقذف] 1 الغير يقتل بقتله ومن لا فلا.

قاعدة:

فيما جمع من فتاوى القفال وغيره أن سقوط حد القذف عن القاذف وعدم حد الزنا على المقذوف لا يجتمعان إلا في مسألتين.

إحداهما: إذا أقام القاذف بينة على زنا المقذوفة وأقامت هي بينة أنها عذراء.

والثانية إذا أقام شاهدين على إقرار المقذوف بالزنا، وقلنا الإقرار بالزنا لا يثبت بشاهدين؛ ففي سقوط الحد عن القاذف [وجهين] 2 والظاهر سقوطه قال الرافعي: وكان المراد ما سوى صورة التلا عن؛ فإن الزوجين إذا تلاعنا اندفع الحدان.

ولو أقام البينة على إقرار المقذوف بالزنا سقط عنه الحد؛ فلو رجع المقذوف عن الإقرار سقط عنه حد الزنا ولا يقبل رجوعه في حق القاذف، ولا يلزم وهذه مسألة أخرى اجتمع فيها سقوط حد القذف عن القاذف وعدم الحد على المقذوف.

قال النووي مراد القفال لا يسقط حد القذف. [عن القاذف وعدم الحد على المقذوف] 3 مع أنه لا يحكم بوجوب حد الزنا إلا في المسألتين؛ فلا يراد عليه الأخيرتان؛ لأنه وجب فيهما حد الزنا ثم سقط بلعانهما أو بالرجوع، ولهذا قال وعدم حد الزنا على المقذوف ولم يقل وسقوط حد الزنا، كما قال وسقوط حد القذف؛ فالحاصل أنه لا يسقط حد القذف ويمتنع حد الزنا إلا في مسألتين ولا يسقط حد القذف وحد الزنا إلا في أربع.

1 في "ب" تقتل.

2 في "ب" وجهان.

3 سقط في "ب".

ص: 399

والمراد السقوط يحكم الشرع لا بعفوه ونحوه قلت: وقد دقق النووي في جوابه إلا أن لمعترض أن يقول الصورة الأولى من صورتي القفال وجب فيها حد الزنا ثم سقط؛ فهي وزان صورتي الرافعي ثم بتقدير أن مراده ما ذكره النووي؛ فرد ما إذا قذفه وطالبه المقذوف بالحد فادعى أن المقذوف زنا وطلب يمينه، وقلنا بالصحيح أن يحلف فنكل فحلف القاذف؛ فإنه يسقط حد القذف ولا يجب حد الزنا على المقذوف، ولذا لو قذف من لا وارث له على قول. ولك أن تقول للرافعي لم اقتصرت على ما ذكرت من الصورتين مع وجدان ما ذكر فيما إذا شهد عليه أربعة بالزنا؛ ولكنهم فسقه بفسق مجتهد فيه وكذا المقطوع به على الأصح عند صاحب العدة، وكذا لو ارتد المقذوف أو سرق بعد القذف على خلاف فيهما وغير ذلك.

قاعدة:

قال بعض أصحابنا كل وطء يعصي الله تعالى به يبطل الحصانة وما لا فلا وحكاه القاضي الحسين طريقة في المذهب؛ ولكنه منقوض بصور.

منها: لو كان المقذوف مفعولًا به في دبره لم تبطل حصانته على ما حكاه الرافعي عن التهذيب؛ ولكن ذكر أنه أعني صاحب التهذيب رأى أنه يبطل به لوجوب الحد عليه. قلت: وقد حكى القاضي الحسين في باب الشهادة على الحدود وجهين في ذلك.

قاعدة:

من وجب عليه القصاص في النفس إذا فات لموت وله تركة انتقل جميع الدية إلى تركته.

قال الجرجاني: إلا في مسألتين. لا يجب في إحداهما شيء، ويجب في الأخرى نصف الدية؛ فأما الأولى فهي إذا قطع يدي رجل فسرى إلى النفس فقطعه [ولي المقتول ولم يمت فإن] 1 له قتله، وإن مات فلا شيء في تركته؛ لأنه لما مات فإن المحل ثبت له دية واحدة، وقد أخذ يدين بقيمتهما.

والثانية إذا قطع يد رجل؛ فاقتص منه فسرى القطع إلى نفس المقطوع أولًا، ثم سرى إلى نفس الجاني؛ فإنه لو كان باقيًا لكان يقتص منه وقد ثبت في [تركته] 2 نصف الدية؛ لأنه قد استوفى منه يدا بقيمة نصف الدية.

فائدة:

كل ولي القصاص إذا عفا وثبت له المال كان المال له دون غيره.

1 سقط في "ب".

2 في "أ" يده.

ص: 400

قال الجرجاني إلا في مسألة واحدة.

وهي أن يجني رجل على عبد ويعتق العبد بعد الجناية، ثم تسري إلى نفسه وأرش الجناية مثل دية حر أو أكثر؛ فإن ولي العبد بالخيار بين أن يقتص أو يعفو وإذا اختار المال كان لسيده دونه؛ لأن الجناية وجدت في ملكه ووجب الأرش حال الجناية، ثم لما سرت إلى النفس، وكان له من الأرش مثل دية النفس لم يجب على القاتل أكثر من دية واحدة؛ فكان ذلك للسيد.

فائدة:

كسر العظم موجب الحكومة قال الجرجاني في المعاياة والروياني في الفروق إلا في ثلاث مسائل؛ فإنه يجب فيها أرش [مقدار] 1 مقدر.

أحدها: كسر الترقوة أو الضلع؛ فإنه يجب فيه جمل على قول.

والثانية كسر ظاهر السن دون سنخة ففيه خمس من الإبل والثالثة من هشم ولم يوضح؛ فعليه عشر من الإبل على أحد الوجهين؛ لأن دية الهاشمة إنما زيدت على دية الموضحة للهشم، وقد وجد فيه مثل هذين الوجهين والذي أعتقد أن لفظ عشر من الإبل وفي الوجه الثاني تجب الحكومة.

قلت: وجه الحكومة معروف ووجه عشر من الإبل. [لا أعرفه والصحيح المنصوص أن في الهاشمة بلا إيضاح خمسا من الإبل] 2؛ وإنما القول فيما3 إذا نقل العظم من غير إيضاح؛ فالواجب الحكومة أو عشر من الإبل في كتاب المعاياة والفروق غلط من الناسخ صوابه خمس والكلام يستقيم معه.

فائدة:

لا يجب قذف الزوجة إلا في مسألة واحدة إذا ولدت ولدا اعتقده من الزنا.

قاعدة:

فيما ينقض فيه قضاء القاضي وما لا ينقض، وقد تكلم فيها الأصوليون والفقهاء بما لا نطيل شرحه وحلول الإمام في النهاية ضبطه بضابط غير معروف تفاصيله في غاية العسر؛ فقال: كل مسألة يتعلق القول فيها بالقطع؛ فمن حاد عن مدرك الصواب نقض عليه حكمه، وكل مسألة لا مستند لها من قاطع؛ فإذا جرى حكم الحاكم فيها بمذهب وهو في محل التحري ومساق الظن؛ فلا نقض قال: ثم حقيقة القول في هذا يستدعي الإحاطة بمدارك القطع ولا مطمع في الخوض فيها إلا على قدر الحاجة. وذكر ما لا

1 سقط في "ب".

2 سقط في "ب".

3 في "ب" وإنما القول بالعشر.

ص: 401

تطيل به ونقتصر على كلام نفيس تلقفناه من أنفاس ذلك الحبر العالم الشيخ الإمام رضي الله عن وأرضاه، وجمعنا في الجنة وإياه على موائد فضله بمحضر من نبيه صلى الله عليه وسلم ومرأى ومسمع، وقد ذكرناه1 في شرح المنهاج البيضاوي؛ وحاصله أن العلم بعد الحكم بمقارنة ما يقطع بتقديمه على مستند الحكم موجب لنقضه والعلم بمقارنة ما يظن تقديمه فيه وجهان: ومقارنة ما يمنع الحكم بالشيء ومقابلة يوجب التوقف فيه للشيخ الإمام رحمه الله فيه احتمالان، وبيان هذا القول أن الحاكم إذا حكم، ثم انقدح له ما لو كان مقارنا لمنع الحكم؛ فهو على أقسام أحدها أن يكون أمرًا متجددًا لم يكن حالة الحكم مثاله أن يباع مال يتيم بقيمته لحاجة ويحكم بصحة البيع، ثم تغلوا فترتفع قيمته فلا اعتبار لهذا؛ لأن الشرط البيع بالقيمة ذلك الوقت لا بعده. قلت: فما قولكم فيمن أجر على يتيم أو آخر وقفًا بمقتضى قيمته في الحالة الراهنة وحكم بها الحاكم، ثم ارتفعت في أثناء المدة هل ينقض وينفسخ، وإن قلتم بذلك فقد نقضتم بأمر متجدد؛ وذلك هو مقتضى فتيا ابن الصلاح فيمن استأجر شابًا بأجره مثله، ثم تغيرت الأحوال وطرأت أسباب توجب زيادة أجرة المثل أنه يتبين بطلان العقد.

قلت: الصواب أنه لا ينقض، وقد أفتى النووي بخلاف ما أفتى به ابن الصلاح وكلامه في المنهاج صريح في ذلك؛ حيث قال: وإذا أجر الناظر فزادت الأجرة في المدة وأظهر طالب الزيادة لم يفسخ العقد في الأصح.

فإن قلت: قد استدل ابن الصلاح بأن الشاهد لم يصب في شهادته؛ لأن تقويم المنافع في مدة ممتدة إنما يصح إذا استمرت الحال الموجودة حالة التقويم. أما إذا لم يستمر فيتبين أن المقوم لها لم يطابق تقويمه المقوم قال وليس هذا التقويم السلع الحاضرة.

قلت التحقيق أن القيمة إن لم تتغير ولكن ظهر طالب بالزيادة؛ فلم يتبين بطلان شهادة الشاهد والقول بانفساخ العقد ضعيف لا وجه له إلا قول من يقول: إن القيمة ما تنتهي إليه الرغبات وهو شيء حكاه ابن أبي الدم وجهًا ليس في كلام ابن الصلاح في هذه الحالة وإن تغيرت، وفيها تكلم ابن الصلاح فالإجارة صحيحة إلى وقت التغير، وكذا بعد التغير فيما أعتقده، ويحتمل على بعد أن يقال طرآن الارتفاع كأمر حادث في العين

1 في "ب" ذكر.

ص: 402

المستأجرة؛ فوجب الفسخ أو الانفساخ، ثم في انعطافه على ما مضى ما في الفسخ بعروض خلل في المعقود عليه، وبتقدير أن يعتقد ما قاله ابن الصلاح؛ فليس هذا أمرًا متجددًا؛ بل عنده أنه يتبين خطأ الشهود.

الثاني أن يحكم باجتهاده لدليل أو أمارة ثم يظهر له دليل وأمارة أرجح من الأول، ولا ينتهي ظهوره إلى ظهور النص فلا اعتبار به أيضًا وإن كان لو قارن لوجب الحكم به لأن الحكم بالراجح وإن كان واجبًا لكن الرجحان حاصل الآن، ولا ندري لو حصل ذلك الاحتمال عنده حالة الحكم هل كان يكون عنده راجحًا أو مرجوحًا، والاعتبار إنما هو بالرجحان حال الحكم ولا يلزم من الرجحان في وقت الرجحان في غيره لتفاوت الظنون بحسب الأوقات وأما اعتقاد الرجحان؛ فقد يكون في وقت قطعا رجحان أمر عنده في الماضي وهو من الأمور الوجدانية ليس مما نحن فيه نعم سيأتي قسم منه.

الثالث أن يظهر دليل أو أمارة تساوي الأول فبطريق [الأولى] 1 لا اعتبار به، وإن كان لو قارن لمنع الحكم.

الرابع أن يظهر أمر لو قارن لمنع ظنًا لا قطعًا كبينة الداخل؛ فإن في تقديمها على بينة الخارج خلافًا؛ فهو أمر مظنون مجتهد فيه ولكن الحاكم الذي يراه اجتهادًا أو تقليدًا قاطع بظنه ووجوب العمل به؛ فلو قارن لوجب الحكم به وهو يعلم من نفسه أنه؛ إنما يحكم به فإذا حكم للخارج معتقدا أنه لا بينة للداخل، ثم حلت البينة؛ فقد ظهر أمر لو قارن لمنع ظنا والظن السابق معلوم الآن، وهذا هو اعتقاد الصواب الذي أشرنا إليه من من قبل، وقد اختلف أصحابنا ها هنا في النقض على أوجه أصحها عند الرافعي والنووي والوالد رحمهم الله النقض؛ لأن هذا الحاكم الذي عنده أن بينة الداخل مقدمة لما حكم للخارج لعدم علمه ببينة الداخل كان كالحاكم بالاجتهاد مع وجود النص فكما ينقض بظهور النص ينقض بذلك؛ لأنه عالم بظنه وبأنه إنما حكم معتقدا عدم بينة الخارج؛ فهو قاطع بما كان يمنعه من الحكم لو قارن ووجه عدم النقض أن تقديم بينة ذي اليد ليس مقطوعا به كالنص؛ وإنما هو أمر اجتهادي فالنقض به كنقض الاجتهاد بالاجتهاد وهذا هو الذي قال القاضي الحسين إنه الذي استقر عليه رأيه بعدما أشكلت عليه المسألة وتردد فيها نيفًا وعشرين سنة.

والوجه الثالث في المسألة التفصيل بين ما قبل التسليم وبعده لتأكد الحكم

1 في "ب" الأول.

ص: 403

بالتسليم وصورة المسألة كما بيناه إذا علم أنه إنما حكم للخارج بناء على عدم بينة الداخل؛ فإن احتمل أنه حكم بها بناء على تقديم بينة الخارج، وكان من أهل الترجيح، أو أشكل الحال فالأصح لا ينقض.

الخامس أن يظهر معارض محض من غير مرجح كما إذا حكم للخارج ببينة، ثم جاءت بينة لخارج آخر فهذه البينة لو قارنت لمنعت الحكم للتعارض؛ فإذا ظهرت بعد الحكم فلوالدي رحمه الله احتمالان:

أحدهما: أن يقال إنه لظهور الأمارة المساوية فلا ينقض به قطعًا ومال إلى ترجيحه قال كما لا يحكم إلا بمستند؛ [فلا] 1 ينقض إلا بمستند.

والثاني: وذكرت في شرح المنهاج أنه الأرجح عندي أنها ليست كالأمارة المساوية لأن مساواة تلك مظنونة، ويجوز أن تضعف في وقت آخر ويستمر رجحان الأمارة المحكوم بها لعدم الوثوق بالظن، ويجوز أنها لو ظهرت له وقت الحكم لكانت مرجوحة غير مساوية.

وأما البينة إذا عارضت أخرى بمساواتها معلومة مأنوس منها من الترجيح؛ فلا يبقى لاحتمال استمرار ذلك الحكم أو غيره فيرد الأمر إلى ما كان عليه قبل ظهور الحكم، ونقف لقطعنا [باستواء] الجانبين بخلاف الأمارات التي لا يوثق بحال الظنون فيها فإنه لو لم يمض الحكم فيها [أدى] 3 إلى عدم استمرار الأحكام وأن لا يحكم بشيء قلت: وقد وجدت هذين الاحتمالين قولين من مخرجات ابن سريج؛ إذ نقل الرافعي في أواخر باب الدعاوى والبينات فيما إذا قال السيد لعبده إن قتلت فأنت حر وتنازع [بعده] 4 العبد والوارث هل مات مقتولا أو حتف أنفه وأقام العبد بينة أنه قتل في رمضان فحكم القاضي بها، ثم شهد شهود أنه مات في شوال عن ابن سريج تخريج قولين في نقض الحكم وتنزيله منزلة ما لو شهدت البينات معًا، وشبه ذلك ما إذا بان فسق الشهود وقد يرى هذا التشبيه إلى ترجيح النقض ويصير الأمر على ما كان عليه قبل الحكم واقتضى ظاهر كلامه أن المسألة فيها نزاع بين ابن الصلاح والوالد رحمهما الله وهي ملك، واحتيج إلى بيعه على يتيم فقامت بينة بأن قيمته مائة وخمسون فبيع بها وحكم بصحة البيع ثم قامت بينة أخرى أن قيمته حينئذ مائتان [فقال] 5 ابن الصلاح بعد التمهل أياما إنه ينقض

1 في "ب" لا.

2 في "ب" غير واضحة.

3 في "ب" وأتى.

4 سقط في "ب".

5 في "ب" قال.

ص: 404

الحكم ويشبهه بما قطع به صاحب المهذب من أنه لو حكم للخارج على صاحب اليد ببينة.

فإن الحكم ينقض، وقال الوالد رحمه الله لا ينقض وصنف في المسألة كتابًا سماه المعارضة في البينة المتعارضة، وذكر أن هذا ليس كمسألة صاحب المهذب؛ فإن النقض هناك لمعارضة بينة راجحة ولا يلزم من النقض بالأرجح النقض بالمثل وبينة ذي اليد فيها احتمال أن يكون النقض بها لترجحها باليد أو باليد لترجحها بها أو بمجموعها، وعلى كل من التقادير الثلاثة لا تكون العلة موجودة في المسألة التي قاسها ابن الصلاح فقياسها عليها غير صحيح لعدم الاشتراك في العلة على هذه التقدير الثلاثة وهذا فرق صحيح، وقد قدمنا في ومسألة صاحب المهذب ثلاثة أوجه:

ولا شك فيما ذكره الشيخ الإمام؛ غير أني أعجب من عدم إلمامه بهذين القولين اللذين خرجهما ابن سريج وهما عين مسألته، ومسألة ابن الصلاح وأعجب من ابن الصلاح أيضًا في ذلك وهما نص مسألته؛ فليعجب من حبرين كبيرين بين وفاتهما فوق المائة سنة ترددت بينهما مسألة وأداراها في دوريتهما وتمهلا فيها أيامًا وهي مسطورة في الرافعي لم يقنع فيها بوجهين؛ بل بقولين خرجهما شيخ المذهب فلهما دائران في الوجود بقريب من خمسمائة سنة الأمر السادس أن يظهر نص أو إجماع أو قياس بخلافه فينقض الحكم؛ لأن ذلك مقطوع به فلم ينقضه بظن؛ وإنما نقضه بالدليل القاطع على تقديم النص والإجماع والقياس الجلي على الاجتهاد؛ فهو أمر لو قارن العلم به لوجب تقديمه قطعًا فلذلك نقض به وما ذكرناه من النقض عند مخالفة القياس الجلي ذكره الفقهاء وعزاه الغزالي في المستصفى إليهم، ثم قال: فإن أرادوا به ما هو في معنى الأصل مما يقطع به؛ فهو صحيح وإن أرادوا به قياسًا مظنونًا مع كونه جليًا فلا وجه له؛ إذ لا فرق بين ظن وظن وهذا في تبين خطأ سنذكرها. قلت: وجزم الشيخ الإمام في مخالف ليس على الإطلاق بل لا بد أن يكون الظن المستند إليه ظنا محكمًا كذا صرح به الرافعي، ولعله أشار بالظن المحكم إلى ما قاله الإمام في النهاية أنه إذا خالف خبرًا صحيحًا نقله الآحاد أو قياسًا جليًا؛ فقد يفضي الأمر إلى النقض وذكر ما حاصله فيما فهمته عنه أن خبر الواحد إن لم يقبل التأويل أو كان تأويله في مقام التأويلات البعيدة التي لا مبالاة بها؛ فالحاكم بخلافه ينقض حكمه ومثل لذلك مخالف حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه وخيار المجلس والمصراة والعرايا. قلت: والذي أقوله أن مخالف خبر الواحد إن

ص: 405

كان ممن يرى تقديمه على القياس فالنقض عليه ظاهر؛ وإلا فينبغي أن ينظر في القياس الذي حكم به فإن كان بحيث لا يقدم هو عليه خبر الواحد فلا وجه للنقض، وقد يجمع هذا كله قول الشيخ الإمام النص، ويقال: لا نص إلا فيما لا يقبل التأويل ولا يعارضه قياس يكون مقدمًا عليه عند من حكم به، وأما مخالف القياس الجلي؛ فإن كان ممن يعتقده حجة، وكان الظن المستتار منه أقوى مما حكم به؛ فلا شك في النقض ولعل هذه الصورة هي مراد من ينقض في القياس الجلي، ولذلك شرط الرافعي أن يكون الظن المستتار منه محكمًا، وإن كان ممن ينكر القياس رأسًا فأتكلم عليه في فصل يخصه.

فائدة:

كان الشيخ الإمام رحمه الله يقول وذكره في كتاب المعارضة إنما ينقض لتبين خطأ به والحاكم منصوب؛ لأن يحكم بحكم الشرع وأحكام الشرع منوطة بأسباب تتعلق بوجودها ووجودها يثبت عند الحاكم بطريق شرعي والخطأ لا يعدو هذه المواطن الثلاثة:

أحدها: أن يكون في الحكم الشرعي بأن يكون حكم بخلاف النص أو الإجماع أو القياس الجلي فينقض لتحقق الخلل في الحكم، وليس معنى النقض الحل بعد العقد بل الحكم ببطلان الحكم المتقدم وبيان أنه لم يقع صحيحًا؛ لأنه ليس بحكم الشرع والحاكم ثابت الشرع؛ فلا يصح منه الحكم بغير حكمه ولفظة نقض الحكم هنا متمكنة؛ لأن المقصود إبطال ذات الحكم الذي وقع.

الثاني: أن يحصل الحكم على سبب غير موجود، ويظن القاضي وجوده بينة زور ونحوها؛ فإذا انكشف ذلك ينقض في بعض المواضع بالإجماع وفي بعضها وفي بعضها بخلاف فيه والخطأ هنا في السبب ووضع الحكم في غير متمكنة؛ فإنا لم ننقض الحكم في ذاته لخطأ به؛ وإنما نقضناه عن ذلك المحل وأخرجنا المحل عنه فالخطأ في السبب لا في الحكم والمخطئ هنا هو الشاهد لا الحاكم، وللحاكم نوع من الخطأ وهو ظنه وجود السبب الحاصل بالبينة.

الثالث: أن يكون الخلل في الطريق كما إذا حكم بشهادة كافرين؛ فإذا تبين ذلك ينقض سواء كان المشهود به صحيحا أم لا؛ لأن المعتبر من الحكم ما كان بطريقه الشرعي؛ فإذا كان بغير طريقه فقد حصل الخطأ في الطريق فينقضه والخطأ هنا من القاضي في اعتقاد عدالة الشهود، وقد يكون ذلك مرتبًا على بينة التزكية، وقد يكون على ظنه إذا عدلهم بعلمه ولفظة النقض هنا [كهي] 1 قبله وإن كان الفقهاء أطلقوا النقض على الجميع وهو الصحيح ولو حكم

1 سقط في "ب".

ص: 406

بشهادة فاسقين اعتقد عدالتهما نقض على الصحيح كالكافرين، وقيل: لأنه إنما يتبين بطريق ظني فيصير كنقض الاجتهاد بالاجتهاد وقريب منه ما ذكرناه في النقض ببينة الداخل، ولو بان دليل ظني معارض لدليل حكمه؛ فلا التفات إليه قطعًا؛ لأنه اجتهاد غير مستقر بل يجوز أن يصير الراجح مرجوحًا والمرجوح راجحًا، ولو بان تعارض بينتين من غير ترجيح فيحتمل أن يقال هو معارض الدليلين، ويحتمل أن يقال تعارضهما مستقر عند من لا يرى الترجيح في البينات وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه فيقطع بالاستواء المانع من ابتداء الحكم، وقد تلخص أنه متى بان الخطأ قطعا نقض قطعًا أو ظنا؛ ففي بينة الداخل مع الخارج ينقض في الأصح وفي الدليلين لا ينقض والفرق أن الظن في اليد مقطوع به فهو اعتقاد رجحان، وفي الدليلين رجحان اعتقاد وليس مقطوعًا به ولو لم يتبين الخطأ؛ بل التعارض المجرد عن القطع والظن كقيام بينة بعد الحكم بخلاف البينة التي ترتب عليها الحكم؛ فقد تقدم أن الراجح عند الشيخ الإمام من احتمالين وجدناهما قولين عدم النقض لعدم تبين الخطأ قال: وكيف ينقض حكم محتمل الصواب وحين صدر كان عن مستند.

تنبيه: كل هذا إذا قضى بمستند ثم ظهر له الخلل إما في المستند أو في المقضي به أو الطريق أما إذا قضى على جهل؛ فالخلل هنا في الحاكم لا في الحكم. قال الشيخ الإمام رضي الله عنه: فمن حكم بغير علم نقض حكمه وإن صادف الحق وهو أحد القاضيين اللذين في النار بشهادة الحديث؛ كذا ذكره في شرح المنهاج قبيل باب ما يحرم من النكاح عند الكلام فيما إذا أعتق أمته في مرض موته ثم تزوجها واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم ورجل حكم للناس على جهل، وذكره أيضًا في كتاب المعارضة، وقال لفظة النقض هنا متمكنة أيضًا كما هي فيما إذا ظهر الخلل في نفس الحكم؛ لأن المقصود إبطال فعل الحاكم وتبقية الأمر في الحكم على ما كان عليه حتى يصدر ذلك الحكم من أهله كما يبطل تصرف من ليس بوكيل. قلت: بل أبلغ فإن تصرف من ليس بوكيل ربما جاء فيه قولي الفضولي؛ [فهذا] 1 لا يطرقه خلاف الفضولي؛ فإنه إنما حكم على أنه ثابت الشرع ولسانه لسان الشرع فإذا لم يكن كذلك لم يكن من الشرع في شيء فلا نفاذ له، وقد قال في التنبيه وإن كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء تنقض أحكامه كلها أصاب فيها أو أخطأ. فإن قلت فقد اختلف الأصحاب فيمن اشتبه عليه ماء طاهر بنجس فتوضأ

1 في "ب" وهذا.

ص: 407

بأحدهما من غير اجتهاد، ثم بان أن ما توضأ به هو الطاهر فاختيار الشيخ أبي إسحاق وجماعة منهم النووي أنه لا يصح وضوءه لتلاعبه، وهذا يوافق ما ذكرتم من النقض وإن صادف الحق لكن اختيار ابن الصباغ والغزالي أنه يصح، كما لو أدى دينه بما يشك فيه ثم تبين أنه ملكه وهذا يخدش في النقض. قلت: كلا فإن حكم الحاكم لا يناسب تصرف الإنسان في نفسه؛ لأن ذلك يسنده إلى الشرع وهذا كاذب مخطئ حيث أقدم على جهل فما كل من حكم بحق محقا؛ بل إنما يكون محقا إذا كان قد حكم عن علم كما شهد به الحديث، ومن ثم ينقض قضاء من لا يصلح، وإن صادف الحق والصور ثلاث تصرف الشخص على غيره، وينبغي أن يكون عن علم وأحق الناس بذلك الحكام، ثم الأولياء على درجاتهم وسيأتي من كلام الغزالي فيمن زوج بناء؛ على أنه حاكم فبان أنه أب أنه لا يصح والصورة الثانية تصرفه على نفسه في مكان يضر فيه الشك وهو الأول ومن ثم أنه على هذين الوجهين اللذين حكينا فيهما خلاف الشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ لو صلى قبل البيان، ثم تبين بعد الصلاة لم تصح الصلاة للشك. والثالثة تصرفه على نفسه لا في مكان يضر فيه الشك كمن باع مال أبيه على ظن أنه حي؛ فإذا هو ميت فلا يضر ومن الخلل في الحاكم أيضًا ما لو وليت القضاء امرأة ففي قضائها وجهان حكاهما الروياني في البحر عن حكاية جده، وأن الإصطخري ذهب إلى النقض.

فائدة:

كل ما ذكرناه فيما إذا بان له بعد الحكم ما لو كان مقارنًا لمنع وأوقف عن الحكم بما حكم أو أوجب1 الحكم بضد ما حكم؛ فإن بان له دليل آخر موافق للدليل الأول [لفقدانه النص ثم وجد النص كما حكم به، وإما أن لا يكون كذلك كما إذا بان له بعد الحكم بقياس صحيح؛ بحيث لو كان موجودًا عنده عن الحكم بالأول لاستند إليه لا إلى ذلك الدليل، وهذا كما إذا حكم بقياس صحيح] 2؛ فينبغي أن يقال إنه لم يظهر معه خطأ الأول؛ فإما أنه يكون الثاني قياس آخر فإن كان الأول فهي المسألة التي وقعت بمدينة أصبهان في حدود السبعين وأربعمائة حكم حاكم في حادثة باجتهاده ولم يعلم بالنص فيها، ثم ألقاه كما حكم به فاستفتى شيخ الشافعية بأصبهان في ذلك الزمان وهو أبو بكر محمد بن ثابت الخجندي فأفتى بأن الحكم نافذ واستفتى أبا نصر بن الصباغ فأفتى بأنه ينفذ من حين وجود النص كذا نقل ولد أخيه أبو منصور في الفتاوي التي جمعها من كلام عمه المعروفة بفتاوي صاحب الشامل ابن الصباغ وهي مسألة غريبة لم أجدها في

1 في "ب" إذا وجب.

2 سقط في "ب".

ص: 408

غير هذه الفتاوي والذي يترجح عندي ما قاله الخجندي؛ فإنه لما أعياه النص جاز له العمل باجتهاده؛ فإذا صادف الصواب كان نافذا وكان وجود النص سعادة وتوفيقا، ويحتمل أن يقال لا ينفذ أصلًا [لأنه يتبين] 1 أن القياس فاسد الاعتبار؛ إذ لا قياس مع النص لكن هذا ضعيف؛ فإن فساد اعتبار القياس إنما يكون لو كان على خلاف النص، أما إذا كان على وفاته، وكان ارتكابه لفقدان النص وقت الاحتياج إليه فلا محذور فيه ولا يظهر في هذه المسألة غير هذين الاحتمالين قول الخجندي وهو الأرجح وهذا الاحتمال، وأما قول ابن الصباغ ينفذ من حين وجود النص؛ فإن أراد أن الحاكم إذا وجد النص جدد الحكم بمقتضاه ليكون مستندا إليه؛ فهو قريب وإن أراد أنه ينفذ من غير حكم متجدد ويكون قبله فاسدا فلا وجه له، والذي أراه في مثل هذا ما قاله الخجندي، وأن الحاكم يجدد حكما بمثل الحكم الأول ولا ينقض الأول وسيأتي من كلام الوالد رحمه الله ما يؤيد هذا، وإن كان الثاني؛ فهذا لا ضرر فيه وسواء كان القياس الذي ظهر له ثانيًا أجلى وأوضح من الأول أم لم يكن؛ فإنه لا يزيد الحال إلا تأكيدًا والفرق بين هذا وما قبله أن هناك ظهر ما لو علمه وقت الحكم لما استند إليه، وأما هنا وإن كان أجلى فليس بلازم أن يكون استناده إليه ولا هو بمتيقن أنه يكون أجلى وقت الحكم؛ لأن الجلاء قد يختلف باختلاف الأوقات هذا كله إذا لم يظهر خطأ الأول وإن ظهر أن الأول خطأ فهذه الحادثة وقعت في زمان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله، وسأذكر كلامه فيها بعد ما أقول قد يقال إن هذا لم يقض على جهل؛ لأنه إنما قضى حين قضى به بما ظنه مستندًا، ولم يقض بباطل لأن هذا الذي ظهر له نفي عنده اعتقاد أن الحق كما قضى به وإن لم يكن بالدليل الذي قضى به ورأيت لابن الرفعة ترددًا في ذلك قال لأنه ليس من باب العقود التي يعتمد الظنون وإن بان الأمر بخلافه قال وهذا بخلاف ما إذا أذنت لحاكم في تزويجها بناء على أنه لا ولي لها إلا الحاكم فبان أنها ابنته لصلبه؛ فإنه يصح لوجوده من أهله من ظن الصحة هذا كلام ابن الرفعة وأقول الأرجح النقض؛ لأن هذا المستند إذا لم يكن عند الحكم حاضرا وقد بان بطلان ذلك المستند فما كان أقدم إلا بغير مستند وكأنه أقدم على جهل أو بغير علم وبهذا صرح الشيخ الإمام رحمه الله في كتاب النكاح من شرح المنهاج عند الكلام على مسألة ابن الحداد في الأمة المعتقة في المرض هل لوليها تزويجها بعد تردد كان منه في ذلك ذكره في المسألة المعروفة بوقف الطيفاء وهي حادثة من حوادث باب الوقف استفتى فيها قديما وأطال

1 في "ب" لأتبين.

ص: 409

عليها الكلام وكان فيها حاكم حنبلي حكم مستندا إلى ما ظنه مستندا في مذهبه فبين الشيخ الإمام أنه أخطأ على مذهبه، وأنه لا مستند فيما ذكره ثم تبين له مستندًا غير ما ذكره يصح التمسك به قال بعد فراغ التقرير منه ما نصه بقي نظر آخر وهو أن الحاكم الحنبلي إذا لم يستند إلى ذلك؛ ولكن استند إلى ما ذكره أصحابه وقد ذكرنا أنه لا دليل فيه هل يكون موافقة حكمه لما ذكرناه من الدليل مانعًا من نقضه أو لا هذا محتمل والأقرب أنه لا يصلح أن يكون مانعا؛ فإن من شرط صحة الحكم الاستناد إلى دليل صحيح فإن وجدنا اسجال الحاكم مطلقا غير مستند إلى سبب ووجدنا دليلًا صحيحًا لم يكن لنا نقضه ويحسن الظن به، ونعتقد أنه استند إلى ما ظهر لنا من الدليل أو إلى دليل مثله وإن بين المستند ورأيناه غير صالح ولا تشهد [قواعد] 1 الشريعة [بصحته] 2؛ فينبغي أن ينقض ويحكم حكما مستندا إلى دليل صحيح لكن أرى من باب المصلحة أن لا ينقض، وينفذ لئلا يجسر الناس على نقض أحكام الحكام ويجعل التنفيذ كأنه حكم منشئ مستقل ولو حكم الحاكم المنفذ بحكم مبتدأ موافق لحكم الأول وبقي الأول على حاله كان أولى وأجمع للمصالح والله أعلم. انتهى.

نقلته من خطه.

وأما من ظهر ابنه الحاكم؛ فقد قال الغزالي في الفتاوى الأظهر فيها البطلان؛ لأن الرضا معتبر في هذه التصرفات والألفاظ تراد للدلالة على الرضا ولا يدل اللفظ على الرضا في هذه الصورة. انتهى.

ولك أن تمنع كون اللفظ يدل على الرضا في هذه الصورة؛ فإن الجهل بها لا ينافي الرضا بمطلق النكاح من هذا الزوج بهذا العاقد وما ذكره شبيه بقوله فيما إذا قال الغاصب لمالك العبد المغصوب اعتقه؛ فاعتقه جاهلًا وما ذكره فيما إذا قال لامرأته أنت طالق وهو يجهل أنها امرأته؛ فإن له بحثًا في أن الطلاق لا يقع بنزع إلى هذا المأخذ والأصح فيهما النفوذ ويقرب من المسائل ما لو خطب زيد إلى قوم وعمرو إلى آخرين، ثم جاء زيد إلى الآخرين وعمرو إلى الأولين وزوج كل فريق من جاءه، وقد قال ابن القطان فيما نقله الرافعي: أن المسألة وقعت في أيام ابن الشايب ببغداد فأفتى الفقهاء بصحة النكاحين؛ فإن قلت: فليكن الأرجح في [مسألة] 3 الغزالي صحة النكاح لما ذكرتم من المسائل. قلت: قد خطر لي هذا ثم توقفت لأن العاقد في مسألة الغزالي القاضي وهو مطلوب بالاحتياط فوق ما يطلب في سائر الأولياء. [مأمور أن لا يقدم على

1 سقط في "ب".

2 في "ب" لصحته.

3 سقط في "ب".

ص: 410

عقد إلا عن بصيرة بينة، وكذلك لا يعقد بمستورين بخلاف سائر الأولياء] 1 على كلام في ذلك؛ فيقول ينبغي البطلان فيه، كما قاله الغزالي؛ لأن لسانه لسان الشرع بخلاف سائر الأولياء.

تنبيه: قدمنا أنه لا نقض في المسائل الاجتهادية المختلف فيها؛ فهل يلحق بها ما يقع للناس من حوادث ليس فيها خلاف للمتقدمين؛ وإنما فيها آراء تتجاذب قد كان يقع في الذهن أنها مثل الأول فلا ينقض [فيه] 2؛ ولكن قال الشيخ الإمام رضي الله عنه ومن خطه نقلت في المسألة التي أشرت إليها؛ إنما يطلق المختلف فيه على ما فيه خلاف لمن تقدم، وأما ما يقع لنا من صور المسائل وتتجاذب الآراء فيها فلا يقال: إنها من المختلف فيه؛ بل ينبغي أن ينظر فيها فإن اتضح دليل عليها اتبع؛ وإلا فلا وإن حكم حاكم منها بحكم ولم يكن عليه دليل ينبغي جواز بعضه، وإن كان عليه دليل لم ينقض. انتهى.

ومن خطه نقلت وقد تستغرب هذا ولا غرابة فيه؛ بل الأمر إن شاء الله كما قال، وعليه تحمل أقضية صدرت من شريح وغيره نقضها علي وغيره في مسائل لم يكن يقدم فيها خلاف ولا عليها دلالة قاطعة.

فائدة:

إذا استثنيت ما به ينقض الحكم قيبادر إلى تدارك ما كان من حقوق الله تعالى، وأما حقوق الآدميين فهل عليه تعريف الخصمين ليترافعا إليه فينقض الحكم عن ابن سريج: لا وعن سائر الأصحاب الوجوب قلت: ويشبه أن يقال إن بان الخطأ في الحكم نفسه وجب رفعا لليد العادية، ولا يكون فيه خلاف وإن بان في الطريق؛ فهو موضع النزاع وهذا كله إذا بان ما يوقف عن الحكم أو يوجب الحكم بالضد؛ فإن بان خطأ دليل الأول مع ظهور دليل يوافقه ونفي اعتقاد إلى محكوم3؛ حتى وإن بان بطلان الطريق فلا ينبغي أن يجب الإعلام لعدم فائدته، ولو ترك الخلاف على هذه الأحوال لم يكن به بأس.

تنبيه: الصور التي اختلف فيها الأصحاب في النقض فيها قيل إنها تقرب من ستين صورة ونحن نعد ما حصرنا منها.

فمنها: لو قضى قاض بصحة نكاح المفقود زوجها قال الرافعي: فالأشهر وهو ظاهر النص أنه ينقض [والثاني المنع] 4، قال القاضي الروياني وهو الصحيح [وقرب] 5 من

1 سقط في "ب".

2 سقط في "ب".

3 في "ب" محكوم به.

4 سقط في "ب".

5 في "ب" قريب.

ص: 411

هذا الخلاف الخلاف في نقض حكم من قضى بحصول الفرقة في اللعان بأكثر الكلمات الخمس أو سقوط الحد عمن نكح أمة ووطئها. قلت: وقرب من هذا الخلاف يعني الروياني، وقد وقفت على كلامه في البحر، وعزا ذلك إلى القفال؛ فقال: قال القفال: عد أصحابنا مسائل ينقض الحكم فيها.

منها: حكم من قال أكثر اللعان يقوم مقام الكل وإن زوج الأمة لا يلاعن لنفي الولد، وأن لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف، وأن من تزوج بأمة ووطئها مع العلم بتحريمها لا بحد، وأن النكاح بغير ولي جائر والحكم شهادة الفاسق والحكم بجواز بيع أم الولد والحكم بأن لا تقبل شهادة القاذف [العاصي] 1 بعد التوبة؛ لأن الخطأ ظاهر في هذه المسائل بدليل قاطع ونص الشافعي رضي الله عنه على نقض الحكم في مسألة واحدة، وهي الحكم بصحة نكاح المفقود ومن أصحابنا من قال لا ينفذ حكمه في شيء من هذه المسائل؛ لأن الخطأ فيها ظهر بقياس الشبه، وهذا هو الصحيح والنص في مسألة المفقود غريب، ولعله ذكره تعليقا للقول فيه لا اعتقادًا. انتهى.

كلام البحر ملخصًا قال الرافعي:

ومنها: قضاء الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا بالتنفيذ الذي يجوزه، وفي ذكاة الجنين قيل: إنه منقوض لظهور الأخبار وبعدها عن التأويلات التي يدعونها، وكذلك في القتل بالمثقل؛ لأنه على خلاف القياس الجلي في عصمة النفوس، وهذا ما أورده الإمام الغزالي وبمثله أجاب محققون في الحكم بصحة النكاح بلا ولي وفي بيع أم الولد. وثبوت حرمة الرضاع بعد الحولين وصحة النكاح بشهادة الفاسقين من غير إعلان ونكاح الشغار ونكاح المتعة، وفي الحكم بقتل المسلم بالذمي وبأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف وبحرمان التوارث بين المسلم والكافر وترد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب على ما ذهب إليه ابن أبي ليلى ومن الأصحاب من منع [البعض] 2، وقال: هي مسائل اجتهادية والأدلة فيها متقاربة، قال القاضي الروياني وهو الصحيح، وكذلك ذكره القاضي ابن كج في الحكم ببطلان خيار المجلس وينقض قضاء من حكم بالاستحسان الفاسد. انتهى كلام الرافعي [ملخصًا.

وفي الروضة نظيره وأنت تراه لم يجزم بغير النقض بالحكم لنقض بالاستحسان الفاسد] 3، ولا أدري ماذا يعني به فإن كل

1 سقط في "ب".

2 في "ب" النقض.

3 سقط في "ب".

ص: 412

استحسان عندنا فاسد وليس كل استحسان ينقض فيه القضاء؛ فيحتاج هذا إلى [تحرير] 1، ولعله يشير إلى مبالغاتهم في الاستحسان، وليس للرافعي تصريح بتصحيح النقض أو عدمه ولا للنووي ولا للشيخ الإمام في شيء من هذه المسائل؛ غير أن الشيخ الإمام صحح في مسألة النكاح بلا ولي النقض، وقال أنا أستحي أن يدفع إلى نكاح صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله، ثم أقره على الصحة وهذا يتعدى إلى ما كانت الأخبار واردة فيه وورودها في النكاح بلا ولي، وقال الرافعي في القصاص في قتل المسلم بالذمي أن الوجه عدم النقض، وقد رأيت السمائل التي ذكرها الرافعي وعزا إلى الروياني فصحح عدم النقض فيها ولس في كلام الروياني منها إلا ما حكيته لك، ولا يلزم من النقض في بعض النقض في بعض آخر؛ بل لا بد من النظر في كل فرع بخصوصه ومن المسائل المختلف في البعض فيها [أيضا] 2، لو قضى القاضي بأن يقاد الولد بولده قال ابن كج ينقض حكمه؛ قال الرافعي: وليكن هذا في الموضع الذي يساعد فيه ذلك، قال ابن الرفعة يعني لأنه خلاف الإجماع قال ولو كان كذلك لم يحتج ابن كج إلى التنبيه عليه. قلت: كيف لا يحتاج إلى التنبيه عليه وقد عمم ابن كج وعزاه، ثم ليس انتفاء خلاف مال موجبًا لثبوت الإجماع؛ ففي ذهني أن من العلماء من يقتل الوالد بالولد مطلقا فليحرر ذلك ويحتمل أنه ينقض من قضى به، وعندي أن ابن كج إنما أراد القضاء بالموضع الذي يحالف فيه مالك؛ فإنه ذكر قبله مسألة أبي حنيفة في قتل الحر بالعبد، وذكر أنه لا ينقض ثم ذكر أن القضاء بقتل الوالد بالولد ينقض فما أرى إلا أنه رأى قوة خلاف أبي حنيفة وضعف خلاف مالك في هاتين المسألتين فلم ينقض في تلك ونقض في هذه وفي هذا وأعود إلى ما قاله ابن الرفعة والأرجح عندي عدم النقض فيهما، وإليه أشار الرافعي بل لم يقم عندي إلى الآن دليل على النقض في شيء من صور الخلاف القوي الجائزة وغاية الأمر أنها خالفت صريح3 الآحاد؛ بل وفيها ما خالف مستفيض الأخبار وإنما قلت الخلاف القوي الجائز لأحترز عن الضعف الذي لا يجوز الإقدام عليه؛ فإنه لا اعتبار به ولا مقابلة وذلك مثل من قضى بأن الطلاق الثلاث لا يقع كما هو محكي عن الشيعة أو بعضهم؛ فإن هذا الحكم ينقض على الصحيح عند أصحابنا كما ذكره الروياني في البحر في أوائل كتاب الطلاق، وحكى أن بعض أصحابنا [كما ذكره الروياني في البحر] 4 قال لا ينقض وهذا ضعيف لأن

1 في "ب" التحرير.

2 سقط في "ب".

3 في "ب" صريح أخبار.

4 سقط في "ب".

ص: 413

المسألة إجماع ولا اعتبار بالخلاف الحادث قال الروياني وعلى النقيض؛ فإذا وطئها لزمه الحد ولم يثبت نسب ولا عدة وهو اختيار الإمام والذي انتهى كلام الروياني وما اختاره والده هو الحق، وحكى الروياني في كتاب القصاص عن حكاية والده وجهين فيما لو وليت القضاء امرأة هل تنقض أحكامها، وأن الإصطخري قال بالنقض وهذا خلل في القاضي لا في المقضي به فإن قلت فلم قلتم بنقض حكم من حكم بخلاف خبر الواحد. قلت: الذي أعتقده وعليه دل كلام الغزالي في الأصول أن ذلك مخصوص بمن لم يطلع عليه وقضى بقياس لا يقوى على معارضته، وأما من اطلع على خبر الواحد وزعم له معارضًا ولو قياسًا وزعم أن القياس مقدم على خبر الواحد كما هو شهير في الأصور؛ فكيف ينقض قضاؤه وإن كنا لا نصوبه ابتداء لكن تخطئتنا له [ليست] 1 إلا بالاجتهاد والقول بنقض الحكم بخلاف خبر الواحد؛ [إنما هو في خبر الواحد] 2 المثير ظنًّا محكمًا [فالمنقوض في أخبار الآحاد ما خالف ظنا محكما] 3 ناشئا عنها لا ما خالفها مطلقا؛ كذا اقتضاه كلام الرافعي وهو الظاهر، ويلزم من نقض فيما ذكرناه من الصور أن ينقض الحكم ببطلان الأوقاف لشهرة صحتها بين الصحابة والعصر الأول وإن نقض الحكم ببطلان بيع المدبر لمخالفته الحديث الصحيح في بيع النبي صلى الله عليه وسلم مدبرًا في دين كان على صاحبه؛ فلينقض في هذه الصورة وبيع الخمر من الذمي لمنابذته الأحاديث الصحيحة في النهي عن بيع الخمر، وإن قال النهي يوجب الصحة أو لا يقتضي الفساد؛ فلم لا صححه من مسلم وإن حاول فرقًا فهو على ضعفه زاد بصحيح الحديث، ومن ثم قال الربا لا يجري في دار الحرب بين مسلمين لم يهاجرا ولا في الحفنة والحفنتين من الطعام وأدلة الكتاب والسنة تردهما، وأن النبيذ يحل منه ما لا يسكر وإن البائع ليس أحق بسلعته عند الفلس وبيع المصراة ومنع الفسخ بعيوب النكاح وإسقاط الحد في إباحة الجواري، وأن الجماع من غير إنزال لا يوجب الغسل، وأن الحامل المتوفي عنها زوجها لا تنقضي عدتها بوضع الحمل، وأن ربا الفضل مع القبض [في التصرف4 جائز، وأن الوقف يباع إذا تخرب وأنه يناقل به وإن كان عامرًا إلى غير ذلك من مسائل عن أبي حنيفة أكثرها والبقية عن غيره

1 سقط في "ب".

2 سقط في "ب".

3 سقط في "ب".

4 من قوله في التصرف جائز إلى قوله فإن قوله فإن قلنا لا يحل ولم يجز الطلب: سقط في ب.

ص: 414

من العلماء لا أقول بالنقض فيها؛ وإنما أقول تلزم من نقض في تلك أن ينقض فيها ولعله يلتزمه فإني لم أجد عنه خلافه كما لم أجد وفاقه.

فائدة: إنما ذكر القفال وغيره من أصحابنا هذه المسائل التي قيل بالنقض فيها عندما بلغهم أن الحنفية قالوا ينقض قضاء الشافعي في الحكم بشاهد ويمين وبالقرعة بين العبيد في العتق وبحل متروك التسمية عمدًا وبالبداية في القسامة بيمين المدعي؛ فقال أصحابنا قلتم فيما حكي عنكم لا ينقض حكم مخالف نص الكتاب والسنة والقياس الحق إذا لم يكن مجمعًا عليه، ثم نقضتم موافق السنن الصريحة والأقيسة الصحيحة؛ فمن عد بربا ممن ينقض الحم بشاهد ويمين والقرعة بين العبيد ونحوهما مع صفة الحديث فيه، ثم يحكم بالنكاح بلا ولي ونحوه منابذة لصريح نطق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن العجائب إنكار ما وردت به السنة من القرعة من إثبات حل الوطء بشاهدي زور يعلم الزوج الثاني أنهما شاهدا زور.

ومنها: قول الخصوم إذا منع الذمي دينارا من الجزية انتقض عهده، ولو جاهر بسب الله أو بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه أو حرق المصاحف وخرب المساجد أنه لا ينتقض.

ومنها قولهم يباح القرآن بالعجمية ولا يروى الحديث بالمعنى على ما ذكر بعضهم.

ومنها: إسقاطهم الحد عن من استأجر امرأة لرضاع ولده فزنا بها أو استأجرها ليزني بها وإيجابهم الحد على من وطئ امرأة في الظلمة يظنها امرأته فظهرت أجنبية.

ومنها: منعهم السنة الثابتة في إلحاق النسب بالعتاقة مع إلحاقهم نسب ولد امرأة تزوجها وهي بالمشرق ممن هو بأقصى المغرب وبينهما من المسافة ما لا يقطعها النسر، وقال: تزوجت فلانة وهي طالق ثلاثًا عقب القبول، ثم جاءت بولد فقالت هو منه.

ومنها: إلحاقهم الولد في هذه الصورة مع قولهم ما ذكرناه فائدة قولنا ينقض القضاء المخالف للظن المحكم من خبر الواحد وحمل قياس ونحوهما يشمل كل ما كانت بشبهة الحاكم فيه ضعيفة، وفيه مسائل لم يصرح بها الأصحاب فنذكرها.

منها: جزم الشيخ في باب الإجازة من شرح المنهاج بنقض حكم من حكم ببيع الموقوف إذا انهدم، كما هو قول الحنابلة أو عوده إلى ورثة الواقف كما هو قول محمد بن الحسن بها.

ص: 415

تنبيه: ما لا ينقض هل يمضي وينفذ أم يعرض عنه فيه خلاف حكاه المحاملي وجماعة قولين وطائفة أخرون منهم الرافعي وجهين، والعمل على التنفيذ وهو ما رجحه الرافعي، وكان الشيخ الإمام يتوقف فيه ثم استقر رأيه على ما حكيناه عنه في كتاب ترشيح التوشيح.

خاتمة: ما لا ينقض قضاء القاضي فيه إذا حكم به لمن لا يعتقده هل يحل باطنًا وجهان حكاهما الأصحاب فيما إذا قضى الحنفي بشفعة الإمام رحمهم الله فيها تصريح بتصحيح في كتبهم المشهورة، وقد ذكرها الرافعي في كتاب الشفعة وفي كتاب القضاء وفي باب الدعاوى، وفي باب دعوى الدم والقسامة وفي كتاب موجبات الضمان، وعزا الشيخ الإمام في باب الشفعة من شرح المنهاج تصحيح الحل إلى القفال وأبي عاصم والبغوي وأكثر الفقهاء وتصحيح التحريم إلى الأستاذ أبي إسحاق والإمام الغزالي والأصوليين؛ قلت: والرافعي لم ينسب صريحا إلى الأكثر شيئًا؛ حتى يقال: إنه عليه بل نسب الحل إلى جماعة والتحريم إلى ما ذكرنا وقال في باب القسامة ميل الأئمة إلى ثبوت الحل باطنا، وكذلك قال في أثناء كتاب الدعاوي ميل الأكثرين إلى الحل باطنا وغاية ما يؤخذ من ذلك ميل الرافعي إلى الحل، وقد يؤخذ منق قوله من باب موجبات الضمان ميله إلى التحريم؛ فإنه قال وصرحوا بأن خلاف جار في كل ما اتصل بحكم من المسائل الاجتهادية؛ فإن قلنا لا يحل لم يجز الطلب] ؛ وإلا فلا بأس بالتخيير بين البيع عليه وإجباره على البيع وهو حينئذ إكراه بحق، وقد سكت الشيخ الإمام في كتاب البيع على قول القاضي أبي الطيب وغيره إن شاء القاضي باع وإن شاء عزر وحبس إلى أن يبيع وذهب ابن الرفعة إلى أنه إذا لم يثبت عند القاضي ملك [المفلس] 1 للأعيان بالبينة؛ وإلا اكتفينا باليد فيظهر أن يجبره على البيع بنفسه أو بوكيله لتعينه طريقًا إلى إيصال الحقوق [إلى أربابها] 2 ورده الشيخ الإمام بأنه [إن] 3 لم يجز للقاضي البيع؛ فكيف يجوز له الإجبار والإجبار حكم صريح بخلاف الفعل، وليس المفلس مطلق التصرف حتى نقول نجبره على وفاء الدين من حيث الجملة وهو يبيع بل هو محجور.

فائدة:

ذكرها الإمام في باب التفليس حاصلها أنه ليس كل ما يجوز للشاهد أن يشهد به يجوز للحاكم أن يحكم به؛ فإن الشاهد قد بني على ظن لا يبني على مثله

1 في "ب" الفلس.

2 في "ب" لأربابها.

3 في "ب" إذا.

ص: 416

الحاكم صونا لمنصبه عن التهمة، ولأن الحكم لما فيه من الإلزام وإنهاء الأمر أشد الشهادة؛ هذا أقوله تفقها من عندي، والذي ذكره الإمام رحمه الله في الشهادة بالإعسار والأملاك والتعديل وحصر الميراث أنها أمور لا يمكن استنادها إلى اليقين؛ فإن في الإعسار [هنا] 1 لا سبيل معه إلى العلم اليقيني وغاية التعديل [هي] 2 الأسباب الخارجة والأملاك بناء الأمر على ظواهر يضعها العلماء من اليد والتصرف، ثم قال فكأنا نشترط استناد الشهادة إلى اليقين فيما يمكن اليقين [منه] 3 كالأقوال والأفعال التي تتعلق بها الحواس، ثم قال ومن لطيف الكلام في ذلك أن كل ما تستند الشهادة فيه إلى اليقين لو علمه القاضي بنفسه اختلف القول في جواز قضائه بعلمه، ولو انتهى القاضي فيما [أعلم] 4 فيه إلى منتهى يشهد فيه كالأصول التي ذكرناها؛ فلا يحل له القضاء، وإن كان يحل له أن يشهد بما أحاط به وظهر عنده فليتأمل الناظر هذا؛ فإنه من أسرار القضاء انتهى وتكلم عليه الشيخ الإمام رحمه الله في شرح المهذب كلامًا طويلًا حاصله بعد ما استشكله، وقال لم لا يحكم القاضي في الإعسار والملك والميراث بعلمه كما يحكم بالتعديل، وأجاب بأن التعديل حكم بأن المعدل مقبول القول على كل أحد فأشبه الرواية: أما [الإعسار والميراث] 5 والملك فأحكام على أشخاص معينين بما لا ينتهي إلى اليقين؛ فقويت التهمة فيه فلو فرضنا انتهاءه إلى اليقين خرج على القضاء بالعلم، ولا أظن الإمام يخالف في ذلك؛ وإنما كلامه فيما لا ينتهي إلى اليقين قلت: بل بذلك صرح حيث قال: هذه أمور لا يمكن استنادها إلى اليقين؛ وإنما الشيخ الإمام ينازعه في امتناع استنادها إلى اليقين، ويقول قد يتفق ذلك قال: والصواب ما ذكره الإمام من عدم تخريج الإعسار ونحوه على القضاء بالعلم؛ فإن ذلك [في] 6 العلم المقطوع، ولا يلزم أن يطرق الظن واستدل عليه بعكسه قال؛ فإنهم قالوا إذا منعنا القضاء بالعل؛ فكان سبب العلم تواترًا جاز على أحد الوجهين لعدم التهمة، ثم قال في أخر كلامه بعد ما ذكر أن قضية كلام الرافعي تخريج القضاء بالعم في الإعسار والملك والميراث على الخلاف أنه المختار عنده، وقد يقال بين تصويب الشيخ الإمام كلام الإمام7 واختياره كلام الرافعي ثانيا [مباينة] 8 فالجواب أنه لا يمنع طروق الخلاف؛ وإنما عند أن الخلاف في القضاء

1 في "ب" سقط.

2 في "ب" ففي.

3 في "ب" فيه.

4 في "ب" لا علم.

5 في "ب" الميراث والإعسار.

6 في "ب" من.

7 في "ب" الإمام أولا.

8 في "ب" مناقاة.

ص: 417

باليقين أقوى من الخلاف في القضاء بالإعسار فليتأمل كلامه.

تنبيه: فيما حكيناه من كلام الإمام إشارة إلى أن المعنى بالعلم في قول الأصحاب هل يقتضي1 بعلمه اليقين لا الظن المؤكد؛ وذلك يرد على الرافعي؛ حيث قال إن الأئمة مثلوا القضاء بالعلم الذي هو محل القولين مما إذا ادعى عليه مالا، وقد رآه أقرضه أو سمعه أقر بمال ومعلوم أن رؤية الإقراض وسماع الإقرار لا يفيد اليقين بثبوت المحكوم به وقت الحكم؛ فيدل على أن ليس المراد بالعلم اليقين بل الظن المؤكد، وقد رد الشيخ الإمام رحمه الله2 على الرافعي، وقال: ليس كذلك بل المراد باليقين يقين السبب الذي به الحكم وهو الإقراض أو الإقرار، ولو ظنهما ظنا مؤكدا لم يحكم بلا خلاف. وأما استصحاب حكم السبب إلى وقت القضاء [قضى] 3 في جميع الحجج، ولا يقال فيه ظن، وإن كان ظنًّا في الحقيقة بالمحكوم به وقت القضاء؛ إلا أن الفقهاء لا يريدون ذلك.

قلت: ولذلك يقولون في اليقين لا [يرتفع] 4 بالشك ومعلوم أنه لا شك مع اليقين القاطع؛ فلو عنوا باليقين القاطع لم صح أن يعتقدوا مجامعته للشك قال الشيخ الإمام ومتى أخذنا بعموم كلام الرافعي في الاكتفاء بالظن المؤكد ورد عليه قول الإمام: إنه لا يحكم بذلك في الإعسار والميراث والملك والصواب ما قاله الإمام؛ فإنه لا يلزم من اختلاف القول في القضاء بالعلم المقطوع أن يختلف في الظن لأنه ينضم إلى التهمة ضعف المدرك وقد ذكروا في عكسه إذا قلنا يمتنع القضاء بالعلم؛ فكان سبب العلم تواترًا يجوز على أحد الوجهين لعدم التهمة وما ذاك إلا؛ لأنه إذا قوي المدرك وانتشر ضعفت التهمة وعكسه إذا ضعف المدرك قويت التهمة؛ فلا يحكم به ثم ذكر قضاء القاضي في التقويم ببصره [في] 5 نفسه وميل الرافعي إلى جريان الخلاف فيه، وإن الإمام قال فيه بالمنع على خلاف ما ظن به الرافعي، ثم قال [انتظم] 6 كلام الإمام على قاعدة واحدة يعني في منع القضاء بالظن في الإعسار والميراث والملك والتقويم [ثم] 7 قال: والرافعي رجح في التقويم الحكم بالعلم ولم يتعرض للإعسار، ويلزمه أن يقول بذلك فيه وإذا قال به فيه؛ ففي الملك وحصر الورثة أولى. أما الملك فلاعتماده أسبابا ظاهرة ولهذا لا يشترط

1 في "ب" يقضي القاضي.

2 سقط في "ب".

3 في "ب" فصحيح.

4 في "ب" يرفع.

5 سقط في "ب".

6 في "ب" انتظر.

7 سقط في "ب".

ص: 418

فيه الخبرة الباطنة. وأما حصر الورثة لأن الحكم للوارث المعين لا ظن فيه وبقي غيره معتضدا بالأصل فعضد ذلك ما عند الحاكم، وقد صرح الماوردي في الملك بأنه يجوز للقاضي وتردد في الشاهد وفرق بأن الشاهد؛ إنما يعتمد العلم والقاضي يبني على الحجة وهذا مخالف لكلام الإمام ومساعد [لكلام] 1 الرافعي، وقد ينحل من ذلك صورا أحدها [الحكم] 2 بالعلم اليقيني المحسوس الحاصل وقت القضاء.

والثانية: علم سبب متقدم كإقراض وسماع إقرار لم يعلم ارتفاعه وهاتان فيهما القولان.

الصورة الثالثة: الحكم بالعلم الحاصل بالتواتر قيل على القولين وقيل يقطع بالجواز.

والرابعة: الحكم بالتعديل المذهب الجواز، وقيل على الخلاف. والخامسة: الإعسار، قال الإمام: لا يحكم بالعلم فيه وقياس قول الرافعي وهو المختار. السادسة: الملك وحصر الورثة كلام الإمام يقتضي أنه كالإعسار قال الشيخ الإمام، وينبغي أن يكون أولى منه بإجراء القولين.

السابعة: التقويم الأشبه عند الرافعي أنه على القولين، والذي يظهر من اختيار الإمام أنه كالإعسار.

الثامنة: يعتمد العلم3 فيه [به] 4، وليس من القضاء بالعلم في شيء التاسعة الجرح يعتمد العلم فيه قطعًا. انتهى كلام الشيخ مختصرا.

وأقول: إذا كان سياق الرافعي يقتضي أن الإعسار على الخلاف، وهو الذي صرح [به] 5 الشيخ الإمام باختياره أخيرًا؛ فقد [انضم] 6 كلامه على قاعدة واحدة غير أن المعنى بالعلم عند الإمام اليقين؛ فمن ثم منع الإعسار والتقويم والميراث والملك وعند الرافعي غلبة الظن؛ فمن ثم جوزها والشيخ الإمام وافق الإمام في أن المعنى بالعلم اليقين ونازعه في كون هذه الأمور لا تفضي إليه، وقال [وإن] أفضت إليه فهي من مسائل القضاء بالعلم هذا كلامه أولا ثم مال آخرا إلى

1 سقط في "ب".

2 سقط في "ب".

3 في "ب" اللون يعتمد.

4 سقط في "ب".

5 سقط في "ب".

6 في "ب" انتظم.

7 في "ب" إن.

ص: 419

ترجيح الحكم فيها بالعلم فلا يتبين [في] 1 جريان كلامه على قاعدة واحدة فليتأمل ذلك.

قاعدة:

الأموال الضائعة يقبضها القاضي حفظًا لها على أربابها قال الأصحاب، ثم إما أن يبقيها، وأما أن يبيعها ويحفظ ثمنها وله حفظها معزولة عن أمثالها في بيت المال، [وله] 2 أن يخلطها بمثلها فإذا ظهر المالك غرم له من بيت المال، وهذه القاعدة هي مأخذ الأصحاب في إيجابهم على القاضي قبول اللقطة إذا دفعها إليه الملتقط وإن كان قد اختار التملك ثم بدا له، وقد يورد على هذه القاعدة ما رواه البخاري تعليقًا ومسلم متصلا من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق مطروحة؛ فقال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها.

فسمعت الشيخ الإمام رحمه الله يقول سمعت شيخنا الدمياطي يقول: سمعت قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز يقول كيف يقولون الإمام يأخذ المال الضائع للحفظ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذهما وأجاب بعض الناس بأنه إنما نفى في الحديث الأكل، وقد يكون أخذها قال الشيخ الإمام.

وأنا أقول: إنما يأخذ الإمام المال الضائع الذي صاحبه متطلع له أما ما يعرض عنه فيترك لكل من يريد أخذه فاندفع السؤال. قلت: ومن ثم لم يجب في اللقطة تعريف ما انتهى [إليه] 3 في القلة إلى حد يسقط تموله كحبة حنطة وحاول الرافعي تخريج وجه فيه ونازعه ابن الرفعة والشيخ الإمام، وقد عرفت أن هذه المسألة التي نبه عليها الشيخ الإمام في الحديث مستثناة من القاعدة؛ فإن قلت فقد أوجبوا على الملتقط تعريف القليل وبالغ الشيخ الإمام؛ فأوجب تعريفه سنة ولم يكتف بزمان يظن أن فاقده يعرض عنه غالبًا، وذكر أن اكتفاء الرافعي والنووي به مخالف لمشهور المذهب؛ فكيف استثنى من القاعدة ما لا يوافق أصله.

قلت: الحقير الذي أوجب الشيخ الإمام تعريفه سنة والرافعي والنووي زمنًا يظن إعراض صاحبه عنه هو ما لم ينته في القلة إلى حد يسقط تموله كما عرفناك ليس في المنتهى إلى ذلك إلا محاولة الرافعي لتخريج وجه فيه لم يوافقه عليه لا ابن الرفعة ولا الشيخ الإمام، وانظر إلى قول الرافعي والنووي يظن إعراض صاحبه؛ فإن فيه إشارة إلى أن ما كان الظن حاصلًا فيه قبل التعريف لا فائدة في تعريفه ولا يعرف؛ فقد ظهر استثناء الحقير الذي يغلب على الظن إعراض صاحبه عنه من

1 في "ب" لي.

2 سقط في "ب".

3 سقط في "ب".

ص: 420

القاعدة فلا يأخذه القاضي للحفظ ولا يعرفه الملتقط إذا التقطه؛ بل لو أخذه للاستبداد به، ثم تردد الشيخ في أنه [هل] 1 يملك بمجرد الأخذ كالاحتطاب أو بقصد [التمليك] 2، قال والظاهر الثاني وفي أنه إذا لم يقصده هل يخرج عن ملك مالكه، قال: والظاهر بقاؤه حينئذ يدخل في معنى اللقطة؛ لكنها لا تعرف، قلت: وبقيت مسائل أخر تستثنى من3 القاعدة.

منها: إذا أقر لمنكر فأصح الأوجه أنه يترك في يد المقر كما كان، ثم اختلف في وجهه؛ فقيل: لأن يده تشعر بالملك ظاهرًا وقد عارض الإقرار الظاهري إنكار المنكر فسقط، وقيل: لأنا لا نعرف مالكه، ونراه في يد المقر فهو أولى الناس بحفظه وجمع الرافعي في الشرح بين العلتين والأظهر منهما العلة الثانية ويتخرج عليهما أن يد المقر بعد ذلك عليه هل هي يد ملك أو يد استحفاظ [والأول] 4 قضية كلام صاحب المهذب، قال ابن الرفعة: والأشبه الثاني لأن المقر ادعاه لنفسه لم يقبل عند الإمام والغزالي فعدم الحكم له [به] 5 عند عدم الدعوى أولى قلت: نحن لم نقل أنه يحكم له به؛ وإنما قلنا يبقى في يده يد ملك وفرق بين ذلك والحكم به فتأمله، ثم على وجه الاستحفاظ يكون مستثنى من القاعدة؛ فإنه مال لم يعرف مالكه ولم يقبضه القاضي بل تركه في يد المقر وفي المسألة تتمة نذكرها قريبا في أخر الفرع عقيبها.

ومنها: على وجه قال الشيخ أبو محمد موضع الخلاف فيمن أقر لمنكر ما إذا قال صاحب اليد هذا لفلان وكذبه، أما إذا قال صاحب اليد للقاضي في يدي مال لا أعرف مالكه؛ فالوجه القطع بأن القاضي يتولى حفظه وأبعد بعضهم فلم يجوز انتزاعه هنا أيضًا كذا نقل الرافعي هنا وقال في باب دعوى الدم فيمن في يده مال حكم له به؛ فقال إنه مغصوب إن عين صاحبه انتزع منه، وإن لم يعين فهو مال ضائع وفي مثله خلاف مشهور، وقال في باب الدعاوي أن من في يده مال لو قال هو لرجل لا أعرفه ولا أسميه أن الأصح أنه لا ينتزع من يده، وقال في باب الكتابة فيما إذا أتى المكاتب بالنجوم؛ فقال السيد هذا حرام وحلف المكاتب أجبرنا السيد [القول] 6 إنه إن لم يكن عين مالكها7 لم

1 سقط في "ب".

2 في "ب" التملك.

3 في "ب" من هذه القاعدة.

4 في "ب" والأولى.

5 سقط في "ب".

6 في "ب" القبول.

7 في "ب" مالكا.

ص: 421

ينتزع من يده على الصحيح؛ فانظر هذه المواضع وتلقف منها ما يستثنى من هذه القاعدة والجمع بين ما قيل في الأبواب الثلاثة وما حكي عن الشيخ [أبي] 1 محمد في الإقرار أن المقر في الأبواب الثلاثة محكوم عليه؛ فإقراره بمجهول على خلاف الحكم مع تهمته فيه لا يسمع بخلاف مسألة الشيخ أبي محمد؛ فإنه ليس متهما هناك.

ومنها: إذا كان المال الضائع في ذمة إنسان بأن جاء إلى القاضي، وقال في ذمتي مال لا أعرف مالكه فقياس المذهب أنه لا ينزع ولا ينقل من الذمة إلى الضمان نعم يجيء على طريقة الشيخ الإمام التي نقلها عن النص وصححها وهي أن للآحاد انتزاع المغصوب أنه ينزع، والحالة هذه والذي أراه في المغصوب ومن في يده مال ضائع أنه إن خشي من بقائه في يده أو ذمته هلاكه انتزع، ولا يضر انقلابه من الضمان إلى الأمانة لهذا الغرض وإلا فلا ويبقى على الحكم الضمان؛ فليجتهد الحاكم فيما هذا شأنه وأقول هذا أيضًا فيما إذا أقر لمنكر، وقلنا يبقى في يد المقر استحفاظًا؛ فأقول إنما يبقى في يد المأمون على مثله والمشهور في مسألة [الإنذار] 2 للمنكر أن محل الخلاف إذا كان المقر به عينًا، أما إذا كان دينًا؛ فلا يؤخذ بلا خلاف وذكر ابن يونس في شرح التنبيه أنه لا فرق بين العين والدين، وقد تحرر ما ذكرناه مسألة مستثناة من القاعدة على المذهب وهي الدين وعلى وجه، وهي مسألة الشيخ أبي محمد وهو الوجه الذي أشار إليه الرافعي3 وأبعد بعضهم، وعلى الأرجح وهي العين المقر بها لمنكر إذا قلنا يترك في يده الاستحفاظ، وقد ذكرنا أن طريقة الاستحفاظ هي الأرجح؛ فإن قلت: رجحان طريقة الاستحفاظ على رأي الإمام والغزالي واضح؛ فإنهما يقولان لو رجع المقر له عن الإنكار وصدق المقر قبل وسلم المال إليه؛ ولكن الأصح عند الرافعي والنووي عدم تسليمه إليه، وأنه إنما يسلم إليه على الوجه البعيد القائل بأنه يجبر المقر له على القبول، وعلى هذا فكيف يرجح قول الاستحفاظ قلت: أما قول الرافعي والنووي أنه إنما يسلم إليه على الوجه البعيد؛ فقال الشيخ الإمام فيه نظر؛ إذ لا حاجة إلى الرجوع حينئذ قال، وينبغي أن يقال: إن قلنا يترك في يده ملكا؛ فهو إبطال الإقرار فلا يسلم إليه، وإن قلنا استحفاظًا فلا يمتنع تسليمه للمقر له إذا رجع، ولا يختص ذلك بالتفريع على الوجه البعيد، قال: والصحيح أن الخلاف في قبول رجوع المقر له مطلق من غير بناء، والأظهر منه عند الرافعي عدم القبول

1 في "ب" أبو.

2 في "ب" الإقرار.

3 في "ب" الرافعي بقوله.

ص: 422

هذا ملخص كلام الشيخ الإمام وهو حق، وليس [له] 1 فيه كما ترى موافقة الرافعي على تصحيح عدم القبول ولا تصريح بمخالفة، وأقول إذا كان الأرجح التبقية استحفاظًا؛ فالذي يظهر ترجيح القبول لا سيما إذا ادعى أنه كان غالطا وبين للغلط وجهًا محتملًا ولا يؤاخذ بتكذيبه السابق، كما أنه يقبل رجوع المقر نفسه على الأصح إذا قال كنت غالطًا كما في الوسيط والمحرر والمنهاج؛ بل وإن لم يقل كنت غالطًا كما في الشرح الكبير والشرح الصغير [ورجح] 2 الشيخ الإمام، وقال: ينبغي إسقاط قيد الغلط من المحرر والمنهاج أو يقال: إنه لا مفهوم له؛ فقد ظهر أن الأرجح على قول الاستحفاظ القبول هذا إذا صدق المقر له بعد ما كذب. أما عكسه إذا كذب بعد ما صدق؛ فلم أجده مسطورًا، وقد يقال فيه إن تكذيبه بعد انفصال الخصومة غير معتبر لكنه بمنزلة الإقرار بما في يده لمجهول؛ فيأخذه القاضي على ما [قال] 3 الشيخ أبو محمد أو تبقيته في يده هذا إن أنكر كونه لنفسه، ولم يقر بأنه لمعين؛ فإن أقر به للذي أقر له فهو إقرار لمنكر فيبقى في يده على الأصح، وقد يقال لا يبقى في يده هنا قطعًا سواء أقر به لمن أقر له أولا أو لمجهول؛ لأنا عرفنا سبب وضع يده وقد زال بإقراره؛ فأما أن يعيده إلى من أقر أولا أو [ينزعه] 4 القاضي قطعًا، وأقول الذي يظهر هنا أن القاضي [ينزعه] 5 قطعًا ولا يبقيه في يده لما ذكرت من أنه عرف سبب وضع يده، وهو إقرار الأول له مع تصديقه وقد زال تصديقه ولا يعيده إلى الأول؛ لأنا إنما نبقيه في يده عند الإنكار أما بعد الاعتراف ورفع يده؛ فلا نعيده إليه لأن في الإعادة إليه حكما بثبوت يده، ولا وجه للحكم بذلك مع كونه مقرًّا للغير، وهذا بخلاف التبقية عنده ابتداء؛ فإنها ليست بحكم له، وإن قلنا اليد يد ملك كما بيناه آنفًا ورددنا به [كلام] 6 ابن الرفعة فتأمله، وكل هذا إذا لم أجده مسطورًا أو أخص منه ما وقع عندي في المحاكمات شخص أقر بعقار لآخر ملكًا، وصدقه المقر له، ثم مات فعاد المقر يدعي على وارثه بذلك العقار، ويقول: إنما أقررت به لمورثك مكرها، ولم يثبت الإكراه لكن كان من جواب الوارث أنه وقف؛ فقلت: إن كان المورث قد أحدث الوقفية بعدما ثبت له [المالكية] 7 فذاك؛ وإلا فهل هذا من الوارث تكذيب للمقر لأنه يقول هي

1 سقط في "ب".

2 في "ب" ورجحه.

3 في "ب" قاله.

4 في "ب" ينتزعه.

5 في "ب" ينتزعه.

6 في "ب" بحث.

7 في "ب" الملكية.

ص: 423

ملك مورثك، [ونقول] 1 بل وقف وكلام الوارث منزلة منزلة2 المورث؛ فيصير مكذبًا بعد التصديق فيعود المقر، ويقول قد أكذبتني في إقراري لك بالمليكة فلتبق يدي على ما أقررت به، ولا تنزع كمن كذب المقر ابتداء [وليس] 3 بتكذيب؛ لأن المورث قد صدقه وانفصلت الخصومة؛ فلا يعود [يدعي] 4 الوارث الوقفية هذا موضع نظر واحتمال5 قاعدة ليس كلما لا [معه] 6 الحالكم إذا وقع يجيب إليه أو بإذن فيه إذا طلب، ومن ثم فروع منها الأصح أنه لا يجيب الشركاء إذا طلبوا قسمة ما لا تبطل منفعته بالكلية إذا كسر فروع منها الأصح أنه لا يجيب الشركاء إذا طلبوا قسمة ما لا تبطل منفعته بالكلية إذا كسر كالسيف؛ ولكن إذا اقتسموا بأنفسهم لم يمنعهم بخلاف ما تبطل منفعته بالكلية كالجوهرة النفسية.

ومنها: قال الشيخ الإمام الوالد [رحمه الله لا] 7 يجوز للحاكم الإجابة إلى بناء ما استهدم من الكنائس ولا الإذن فيه، وكاد يدعي الإجماع على ذلك وإن كان لا يمنع عند إعادة ما استهدم من كنيسة قديمة على الخلاف فيه.

ومنها: على القول بأن المشرك إذا انتقل إلى دين يقر أهله عليه لا يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه قال الأصحاب لا يقال له: أسلم أو عد إلى ما كنت8؛ بل يقال: له أسلم؛ فإن عاد إلى غيره تركناه أصل يرد إليه قاعدة الكفارات من العبادات جابر [وزاجر] 9 والمعنى بالجابر ما يجبر مصلحة فاتت ويستدركها؛ فهو داخل في جلب المصالح والمعنى بالزاجر ما يمنع من ارتكاب مفسدة. أما محرمة أو مكرهة أو مصورة10 بصورة المحرم؛ فإنه رب مفسدة انتفى التكليف فيها لعدم العلم ونحوه ولم يخرجها انتفاء التكليف عن كونها مفسدة كما إن قتل غير المستحق دمه مفسدة، وإن جاء من قبل [الخاطيء] الذي لا تكليف عليه؛ فإذا الزواجر من [قبيل] 12 درء المفاسد فيكون الزاجر أعم من الجابر؛ لأن درء [الفساد] 13 أعم من جلب المصالح كما ذكرنا في

1 في "ب" وهو يقول.

2 في "ب" منزل منزلة كلام المورث.

3 في "ب" أو ليس.

4 في "ب" بدعوى.

5 في "ب" واحتمال منها.

6 في "ب" يمنعه.

7 سقط في "ب".

8 في "ب" ما كنت عليه.

9 في "ب" وزادوا.

10 في "ب" مقصورة.

11 في "ب" الحناطي.

12 في "ب" قبل.

13 في "ب" المفاسد.

ص: 424

أول الكتاب؛ غير أنا إذا قابلنا درء [الفاسد] 1 بجلب المصالح أو الرواجر بالجوابر؛ فإنما يعني به ما هو من الزواجر مقصور على درء المفسدة، وليس بجالب للمصلحة إذا عرفت هذا؛ فقد اختلف في الكفارات أهي من الجوابر أو الزواجر؛ فقال كثيرون: إنها جوابر لما فات من حق الله [تعالى بدليل] 2 وجوبها على حافر البئر والنائم ونحوهما، ولأنها عبادات للنية فيها مدخل؛ فلا تشبه الحدود والتعزيرات التي هي زواجر محضة وقال أخرون بل هي زواجر عن الفعل التي وضعت بإزائه، أما لفاعله أن يقع في مثله أو لغيره أن يفعل [مثل] 3 فعله، وإذا جريت على هذا الأصل وصح لك أن إيجاب الكفارة في قتل العمد واليمين الغموس أحق منه في إيجابها في قتل الخطأ وغير الغموس؛ سواء قلنا الكفارات زواجر أم جوابر؛ لأن [الزجر والجبر] 4 فيهما أولى منه في غيرهما غير أن الخصوم يتعلقون بشيئين أحدهما: أن المعصية ربما ترقت على حد التكفير لغلظها في نفسها، ولو استدل لهم مستدل بقوله تعالى: قاعدة [كل ما] 5 شرط في الراوي والشاهد؛ فهو معتبر عند الأداء لا عند التحمل إلا في مسائل:

منها: الشهادة في النكاح؛ فإن الشروط معتبرة عند التحمل أيضًا لتوقف انعقاد العقد على حضور عدلين فإن قلت أليس يكفي حضور مستورين على الأصح. قلت: لأن [ظاهرهما] 6 العدالة ولو تبين خلافها فالنكاح باطل على المذهب.

ومنها: على قول ضعيف الصبي إذا تحمل الرواية فبلغ؛ فأدى لا يقبل وهذا في الرواية، أما لو تحمل الشهادة فبلغ؛ فأدى فلا نعرف خلافًا في قبول شهادته بل لو أداها في الصبا فرد، ثم أعادها بعد البلوغ قبلت قطعًا.

ومنها: إذا وكله في البيع واشترط عليه الإشهاد.

ومنها: إذا وكله في قضاء دين فقضاه في غيبة الموكل، وجب عليه الإشهاد؛ ولكن الأصح الاكتفاء بشاهدين ظاهرهما العدالة أو بشاهد واحد فالاستثناء على وجه. وكذا إذا وكله في الإيداع. فأودع ولم يشهد لم يضمن على الصحيح.

ومنها....

قاعدة:

مستند الشاهد إن كان إخفاؤه يورث ريبة تعين ذكره، فلا تقبل الشهادة إلا

1 في "ب" المفاسد.

2 سقط في "ب".

3 في "ب" مثله.

4 تقديم وتأخير.

5 في "ب" كلما.

6 في "ب" ظاهرها.

ص: 425

بذكره، وإن كان ذكره يورث ريبة تعين إخفاؤه فتردد الشهادة عند ذكره. وإن لم يتعلق ريبة [لا] 1 يذكره ولا بإخفائه لم يضر واحد منهما، وإن تردد النظر في أنه هل يورث ريبة؟ اختلف فيه، وقد تطلب قرينة تدفع الريبة من موافقة مذاهب الشاهد للحاكم وفقهه ونحو ذلك.

فما يورث إخفاؤه ريبة؛ الجرح فلا يخفي اختلفا المجتهدين في أسبابه، ثم اشتباه كثير منها على كثير من الناس، فمن ثم لم يقبل إلا مفسرا2.

ومنها: إذا أخبره ثقة بنجاسة الماء أو شهد به شاهدان لم يقبل ما لم يتبين السبب؛ إلا إذا كان المخبر أو الشاهد فقيها موافقًا في المذهب.

ومنها: الشهادة باستحقاق الشفعة لا بد فيها من بيان السبب.

ومنها: الشهادة بأنه وارثه.

ومنها: الشهادة بالردة على ما صححه الشيخ الإمام الوالد وهو الصحيح الذي اقتضى بصحته كلام الرافعي والنووي -وإن كانا رجحًا الاكتفاء لإطلاق تصحيحه في باب الردة.

ومنها: الشهادة بانتقال الملك أصح الأوجه لا بد من بيان سبب الانتقال.

والثالث: الفرق بين الفقيهين الموافقين وغيرهما.

ومنها: لو شهد أن بينهما رضاعًا محرمًا.

ضابط الاستفاضة:

اقتضى كلام أقوام أنها خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب. وعليه دل كلام الرافعي في بعض المواضع؛ فعلى هذا هل هي التواتر بعينه.

واقتضى كلام قوم أنها دونه، مع القطع بأنها فوق الظن المجرد، وهذا ما اقتضاه كلام الرافعي في كتاب الشهادات في مستند علم الشاهد؛ إذ حكى فيها أوجها أصحها "أنه خبر جمع كثير مع العلم أو الظن القوي بقولهم ويؤمن

1 سقط في "ب".

2 وأجاز أهل العلم التخريج صونا للشريعة ودفعا عنها.

3 قال الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} .

ص: 426

تواطؤهم على الكذب؛ غير أن لك أن تقول: إنما يؤمن التواطؤ على الكذب عند اليقين، وهذا نحو كلامه في كتاب القضاء؛ إذ جعل فيه المستفيض دون المعلوم.

والذي يظهر أن المستفيض قد يكون معلومًا وقد يكون مظنونًا قويًا؛ غير أنه إذا انتهى إلى العلم كان متواترًا، فإذا هو أعم من التواتر، وإذا لم ينته إلى العلم فقد يعمل به وقد لا يعمل به؛ لأنا نتطلب في بعض الأماكن مستفيضًا انتهى إلى درجة العلم، وسيظهر لك ذلك.

وإذا عرفت هذا فنقول: قال أصحابنا: لا تقبل الشهادة بالاستفاضة إلا في مسائل الموت والنسب. ولو من الأم، على الأصح، والوقف والنكاح والولاء وولاية الوالي وعزلة الرضاع، وتضرر الزوجة، والصدقات والإسلام والكفر والرشد والسفه، والحمل، والولادة والوصايا، والحرية، وشراب قديم معروف بقوم، واللوث وكذا الغصب -ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية وهو ظاهر، والدين وهو على وجه حكاه الهروي في الأشراف.

ومنها: التعديل والجرح.

وهنا فوائد: أحدها: نقل الرافعي عن العدة أنه لو استفاض فسق الشاهد بين الناس؛ فلا حاجة إلى البحث والسؤال وينزل المستفيض منزلة المعلوم.

وسكت على هذا في الفصل الرابع في التزكية في كتاب القضاء، ثم بعد ورقتين -ذكر أنه إذا استفاض الفسق وانتشر جاز الجرح به، فيما حكى ابن الصباغ وصاحب التهذيب وغيرهما.

قلت: وليست هذه مسألة العدة؛ فتلك في أن الاستفاضة بفسقه تدفع بها شهادته، أما إنشاء الحكم به: فهو مسألة ابن الصباغ وصاحب التهذيب وليتنبه فيها لأمرين.

أحدهما: أنهما وغيرهما لم يجوزوا -ولا واحد منهم- الجرح بمجرد الشياع والانتشار؛ بل لا بد -معهما- من حصول العلم، وبذلك صرح الماوردي والبندنيجي، وإليه أشار -أيضا- ابن الصباغ وصاحب التهذيب.

أما إذا لم يفد العلم اليقين؛ فلا يجوز اعتماده وهتك أعراض الناس به، قال ابن الرفعة: وبهذا صرح الغزالي تبعًا للإمام في مكان آخر قال: وهو الحق، لأنه مما يمكن.

ص: 427

الوقوف عليه، وليس من شأنه -إذا وقع- أن تتناوله الألسن على مرور الزمان؛ فلا يقنع فيه بما لا يحصل العلم من الاستفاضة، قال: ولهذا حكي عن الشيخ أبي حامد أنه قال: السماع من الواحد والعشرة لا يجوز الشهادة به؛ لأنه لا يصير به علما، وإن كان من مذهبه الاكتفاء في الاستفاضة بالسماع من عدلين.

قلت: وكذلك قال صاحب البحر: وإنما لم يقيده الرافعي بالعلم؛ لأنه ذكر عقيبه أنه لا يجوز الجرح بناء على خبر الواحد والعدد اليسير، وملعوم أنه لو اكتفى بالظن لاكتفى بالواحد، أو بالظن القوي لاكتفى بالعدد اليسير.

وفي المهذب أنا اكتفينا بقول أصحاب المسائل جاز للواحد منهم أن يعتمد فيما يشهد عند القاضي من الجرح والتعديل على قول واحد إذا سكنت نفسه إليه.

وهو مأخوذ من الماوردي؛ لكنه مفروض في أصحاب المسائل، ثم هو غير موافق عليه وما ذكره الشيخ أبو حامد وغيره في غير أصحاب المسائل؛ فهذا أحد الأمرين.

والثاني: أنه مخصوص بالشاهد إذا استفاض عنه فسقه.

أما الحاكم لو استفاض فسقه؛ فهل للشاهد أن يشهد به؛ فهذا لم أره مسطورًا، والذي أعتقده أنه لا يجوز؛ لأن الكلام بالبهتان في أرباب الولايات كثير، وتقضي العادة بأنه لا يستفاد منه علم؛ بل ولا ظن قوي.

الفائدة الثانية:

هذا كله في استفاضة لها أصل؛ لأن هذا في معنى المتسفيض، ونعني بما له أصل ما ينتهي الحال فيه إلى عدول معينين يخبرون عن مشاهدة أدنى عددهم -كما علمت- أحد عشر، ولا يكتفي بمجرد شياع لا يعرف أصله، وإليه الإشارة بقول الرافعي: لا يجوز الجرح بناء على خبر الواحد والعدد اليسير، نعم له أن يشهد على شهادته بشرط الشهادة على الشهادة. انتهى.

وهو صحيح، ذكره أكثر الأصحاب؛ غير أن الرافعي لم يعين مقدار العدد اليسير، وقد قدمنا عن الشيخ أبي حامد وصاحب البحر أنهما قالا: لا تكفي العشرة؛ فحينئذ [أقل ما يكفي] 1 أقل جموع الكثرة وهو أحد عشر فليتنبه لذلك؛ فمن زعم استفاضة بدون هذا العدد فهو جاهل.

الثالثة: الاستفاضة -على ما فهمت عن الأصحاب- غير السماع، والسماع هو

1 سقط من "أ" والمثبت من "ب".

ص: 428

الذي وقع في لفظ الشافعي رضي الله عنه، والمراد به التواتر.

الرابعة: شرط العمل بالاستفاضة أن لا تعارض باستفاضة مثلها؛ فإن عورض بطل حكمه لأنا إن شرطنا العلم في الاستفاضة فالمعارضة تدل على أنه لا استفاضة من الجانبين؛ لأن القاطعين لا يتعارضان.

وإن قلنا: يكتفي فيها بالظن الغالب؛ فعند المعارضة ليس الظن المستفاد من إحدى الاستفاضتين بأولى من مقابهما، وهذا مما لا يتصور فيه خلاف.

قاعدة:

[من قبلت روايته أو شهادة في شيء] 1؛ فهل يكتفي بإطلاقه القول في ذلك أو يكلف بيان السبب؟

التحقيق أنه لا يكلف [بيان السبب] 2 فيما لا تشتبه طرقه، ويختلف فيه المجتهدون3، وهل يكلف فيما اشتبهت طرقه واختلف المجتهدون فيها طلبًا للاحتياط ودرءًا لاحتمال يخالف اجتهاد الشاهد والمشهود عنده واحتمال بناء الشاهد شهادته على ظن ليس هو عند المشهود عنده كما هو عنده أو لا يكلف اكتفاء بأن الجاهل بما هذا شأنه لا يقبل خبره، ولا شهادته في ذلك؟

وإذا كان عالما فهو يدري أين يضع قوله أو يكلف عدم ذكره لئلا يورث ذكره إياه ريبة.

هذه احتمالات ثلاثة، والتحقيق فيها الاختلاف باختلاف الصور.

فمنها: الشهادة بالجرح والتعديل، والصحيح لا بد من بيان سبب الجرح دون التعديل.

ومنها: ما إذا أخبره ثقة بنجاسة الماء أو شهد به شاهدان لم يقبل ما لم يبين السبب؛ إلا إذا كان المخبر أو الشاهد فقيها موافقًا في المذهب.

ومنها: لو شهد باستحقاقه الشفعة فلا بد من بيان السبب.

[ومنها لو شهد بأنه وارثه لا بد من بيان السبب]4.

ومنها: لو شهد بالردة. رجح الرافعي والنووي القبول مع الإطلاق، واقتضى كلامهما -في مواضع- أنه لا بد من بيان السبب، وهو الصحيح عند الشيخ الإمام وإياه يصحح ويستشكل ما وراءه.

1 تقديم وتأخير.

2 سقط في "ب".

3 في "أ" ويختلف فيه المجتهدين والمثبت من "ب".

4 سقط في "أ" والمثبت من "ب".

ص: 429

ومنها: لو شهد بالموضحة الأصح القبول، وقال القاضي الحسين:"لا بد من التعرض لإيضاح العظم"، وتردد فيما إذا كان الشاهد فقيهًا وعلم القاضي أنه لا يطلق لفظ الموضحة إلا على ما يوضح العظم.

ومنها: إذا شهدا بانتقال الملك إلى زيد ولم يبينا سبب الانتقال؛ فأصح الأوجه عدم القبول، والثالث: إن كانا فقيهين موافقين فلا حاجة إلى بيان السبب.

ومنها: إذا شهدا أن حاكمًا حكم بكذا ولم يعيناه فالأصح القبول.

ومنها: إذا شهدا أن بينهما رضاعًا محرمًا؛ ففي الاحتياج إلى السبب وجهان:

الأكثر لا يحتاج، وتوسط الرافعي....

قاعدة:

الشيء الذي لا ينضبط أسباب الاطلاع عليه إذا أثارت أسباب معرفته لبعض العارفين بها ظنًّا يسوغ له الشهادة بمقتضى ذلك الظن -لم يجز أن يصرح به في شهادته؛ لأن ذكرى إياه بين يدي الحاكم قد يورث الحاكم ريبة؛ إذ من الجائز أن لا يتبين عند الحاكم الظن الذي أثاره عند الشاهد، لا سيما وقد يقوم عند الشاهد إشارات تقصر عنها العبارات، ومن ثم قالوا فيما يشهد فيه بالاستفاضة: أن الشاهد [لو] 1 صرح بأن مستندة الاستفاضة لم يقبل؛ لأنه أضعف قوله بذكر مستنده.

وفي القاعدة مسائل:

منها: ما ذكرناه من أن الشاهد فيما يشه به فيه بالاستفاضة لا يذكر مستنده.

قاعدة:

ذكر بعضهم أن أصل قاعدة مذهبنا "أن اللهو واللعب أصلهما على الإباحة خلافًا لمالك".

وهذه العبارة لا أعرف أحدًا -من الأصحاب- قالها؛ ولكنها قضية أن أصول الأشياء على عدم التحريم.

فائدة: قال الجرجاني في "المعاياة" والروياني في "الفروق": ليس أم ولد يمتنع السيد من وطئها من غير تعلق حق زوج بها إلا في مسألتين.

إحداهما: أن يشتري أخته من الرضاع ويطأها جاهلًا بالتحريم ويحبلها؛ فإنها تصير أم ولد، ويمنع من وطئها للتحريم القائم بينهما بالرضاع.

قلت: ولا حاجة إلى تقييد التصوير بأخوة الرضاع؛ بل لو اشترى أخته من النسب

1 في "ب" إذا.

ص: 430

ووطئها بشبهة صارت أم ولد، وحرمة الوطء قائمة بل وطئها لا بشبهة صارت أم ولد أيضًا، وصار الولد حرًّا نسيبا، وإن وجب التعزير على الأظهر والحد على قول، وصيرورتها أم ولد وولدها نسيبًّا على كل من القولين.

كذا جزم به الرافعي في [عتق] 1 أمهات الأولاد؛ ولكنه في باب حد الزنا- جعل ذلك طريقة مرجوحة؛ فقال: فإن قلنا: لا حد ثبت النسب والمصاهرة؛ وإلا فلا، وقيل يثبت النسب وتصير الجارية أم ولد بلا خلاف. انتهى.

قالا: والثانية: أن يكون لكافر أم ولد فتسلم؛ فإنه يمنع من وطئها إلى أن يسلم.

قلت: وبقيت ثالثة: إذا وطئ الأب أم ولد ابنه بشبهة حرمت على الابن على التأبيد ولم تحل للأب بحال.

فائدة:

ليس من لا يضمن شخصًا؛ ولكن يضمن طرفه إلا السيد مع مكاتبه إن قتله لم يضمنه، وإن قطع طرفه ضمنه....

قاعدة:

قال صاحب التنبيه: "لا يصح الدعوى بمجهول إلا في الوصية".

وهذه القاعدة صحيحة، وقد طردها القاضي الحسين، ومنع الدعوى بالمجهول في الوصية أيضًا؛ ولكن الصحيح خلافه، لئلا يضيع حقه؛ إذ لا طريق له غيرها وقول القاضي: يعين قدرًا ويدعي أن الموصي أراده -كيف يستقيم

والغرض أنه أوصى بمجهول.

وقد تورد -أيضا- الشعفة؛ فإن الشيخ الإمام رجح الدعوى بحقها، وإن لم يعين للثمن قدرًا ولا ادعى المشتري به علما، وذكرا أن قضية كلامهم تأباه.

قلت: وصرح بمنعه القاضي أبو سعد في "الأشراف"، وبتقدير جوازه -على [مثال] 2 الشيخ الإمام- فالمدعي به ليس بمجهول لأنه حق الشفعة؛ إنما المجهول شرطه وهو الوقوع بثمن معين.

وكذلك قد يورد ما إذا ادعى رب المال في المساقاة -على العامل- خيانة لا لقصد تغريمه بل لرفع يده؛ ففي سماعها مجهولة وجهان في "الحاوي" قال الشيخ الإمام -في باب المساقاة: "أصحهما سماعها" قال: "وليس ذلك من مواضع المستثناة في سماع الدعوى بالمجهول؛ لأن هذا إنما هو دعوى خيانة، [وهو] 3 أمر معلوم، فيختلف

1 في "ب" غير.

2 في "ب" على ما قال.

3 في "ب" وهي.

ص: 431

عليه، أو تقام به البينة. وإن شارك الدعوى بالمجهول في الصورة.

وضم بعضهم -إلى الوصية- الإقرار؛ فإن الدعوى -بالإقرار بمجهول- صحيحة على الصحيح.

ولك أن تقول: المجهول في الإقرار ليس مجهولًا من كل وجه، ومن ثم يقول:"التحرير" في هذا الضابط "إن المجهول من الحقوق- ضربان"؛ ضرب لا يكون ثابتا؛ وإنما يطلب ثبوته، وبعبارة أخرى نقول: يكون ثبوته موقوفا على تعيينه، والمطلوب من الحاكم [تعيينه] 1 وبعبارة ثالثة: نقول: يطلب من الحاكم إنشاء تقديره فتسمع الدعوى به -مع الجهالة- بلا خلاف. وليس مما نحن فيه؛ وذلك كالمتعة والحكومة والمفروض للزوجة.

وضرب يكون [ناشئًا] 2 -لا يحتاج إلى إنشاء الحاكم إثباته ولا في تعيينه وهو ثلاثة:

الأول: المجهول في نفس الأمر وهو المبهم كالوصية بمجهول.

الثاني: المجهول عند المدعي؛ ولكنه [معلوم] 3 في نفس الأمر. وهو الإقرار بالمجهول والصحيح التحاقه بالأول.

الثالث: أن يكون معلوما عند المدعي؛ غير أنه يجهله على الحاكم ولا يبينه له؛ فهذا هو الذي لا تصح الدعوى به، ولا يستثنى منه شيء.

قاعدة:

"لا تصح الدعوى إلا من مطلق التصرف"

قاعدة: "قال الشيخ أبو علي رضي الله عنه: "كل ما صحت إقامة البينة به صحت الدعوى به".

ونقضها ابن أبي الدم بصور تكلم عليها الشيخ الإمام في باب الإقرار من شرح المنهاج.

قاعدة:

"كل دعوى يشترط فيها أن يكون متعلقة بشخص معين".

وفي وجه يستثنى الدم فإذا قال: قتله أحدهم -وهم جمع يمكن اجتماعهم على قتله- حلفهم الحاكم. وصححه الغزالي في الوجيز.

والأصح -في المنهاج والروضة المعزو في الشرح الكبير إلى تصحيح صاحب

1 سقط في "ب".

2 في "أ" ناشئًا والمثبت من "ب".

3 سقط في "ب".

ص: 432

التهذيب -أن القاضي لا يجيبه. قال الرافعي: ولم يورد جماعة من الأصحاب غيره.

وحاول ابن الرفعة موافقة الغزالي على تصحيح الأول؛ فقال في "المطلب": ومأخذ الخلاف يشبه الخلاف في الدعوى المردودة للحاجة كما إذا دفع ثوبًا قيمته خمسة ليبيعه بعشرة، ولم يدر هل باعه [أو تلف] 1 أو هو باق، وقد نقل الغزالي عن القاضي أن القضاة اصطلحوا على قبول هذه الدعوى، وقضية التشبيه أن يكون الأمر هنا كذلك فلا جزم. قال في الوجيز:"إنه الصحيح"، وهو يوافق قول ابن الحداد إذا أبهم الإيلاء بين امرأتين وحضرتا طالبتين للفيئة أو الطلاق تسمع منهما -مع إبهام المستحقة -ويعضده اتفاق الأصحاب- على سماع الدعوى-مجهولة- بالوصية؛ لأنه لو لم تصح الدعوى مع الجهالة لأدى ذلك -في الغالب- إلى ضياع حقه؛ وذلك موجود في القتل.

قلت: ولا يخفى على ابن الرفعة أن الإبهام فيما ذكره من الصور ليس هو في المدعى عليه حتى يشابه ما نحن فيه؛ وإنما هو في مسألة الثوب في المدعى به وكذلك في مسألة الوصية -الدعوى بمجهول لا على مجهول، وفي مسألة الإيلاء الإبهام في المدعي نفسه؛ فإن الدعوى -في الحقيقة- من أحدهما وهو مبهمة- لا منهما ولا من معينة.

ولكن كأنه يشير إلى أنه لا فرق بين الجهل بالمدعي -كالمرأتين- والمدعى به كالثوب، والمجهول الموصى به والفيئة أو [الطلاق] 2 -اللتين يطلب في الإيلاء إحداهما -والمدعى عليه كمسألة الدم.

وكان أوضح من استشهاد ابن الرفعة -التصحيح مع الإبهام بما ذكره- أن يستشهد بقول الرافعي في طرق اللوث: "لو قال: القاتل أحدهم -ولا أعرفه- لم يمكن الولي من القسامة، وله أن يحلفهم؛ فإن نكلوا بأجمعهم فأراد أن يحلف واحد منهم....

المسألة.

فإن جزمه بأن له تحليفهم يقتضي صحة الدعوى؛ لأن التحليف فرعها ومن هذا يؤخذ أن الرافعي -في مسألتنا هذه؛ إما أن يكون موافقًا للغزالي على ما صححه، أو لا تصحيح له في المسألة.

وإن في إطلاق النووي التصحيح -في أصل الروضة- نظر [ولم يحمل] 3

1 في "ب" باعه وتلف.

2 في "ب" الإطلاق.

3 في "ب" أو لم يحمل.

ص: 433

النووي على ذلك إلا قول الرافعي: "إنه لم يورد جماعة من الأصحاب غيره"، عزوا تصحيحه إلى صاحب التهذيب.

في هذه المسألة نتبيهات:

أحدها: أن الغزالي جعل -في الوسيط- محل الوجهين في أنه هل تسمع الدعوى على واحد منهم -من أحد العشر مثلًا؟

وجعل الإمام رحمه الله محلها في التحليف؛ إذ قال: "ولو أشار إلى جمع محصورين، وقال: أعلم أن قاتل أبي فيكم وأحلفكم واحدًا [واحد] 1، هل له ذلك؟ على وجهين مشهورين.

أحدهما: ليس له ذلك؛ فإن اليمين [مرتب] 2 على الدعوى، وإذا لم تتعلق الدعوى -الجارية- بالتحليف، لم ينتظم تحليفه.

والثاني: يحلفهم؛ لأنه يتطرق به إلى إظهار غرضه. قال ابن الرفعة.

وهذا الإيراد قد يفهم أن الدعوى لا تسمع جزمًا؛ وإنما الخلاف في طلب اليمين؛ وذلك أمر لا يعقل؛ فلذلك نصب الغزالي الخلاف في الدعوى.

قلت: وإيراد الرافعي ومن بعده -إلى منهاج النووي- جار على قضية ما أورده الإمام؛ فليتأمل.

وهذه عبارة المنهاج: فلو قال: قتله أحدهم لم يحلفهم القاضي في الأصح، وقول ابن الرفعة: إن اليمين من غير دعوى لا يعقل، يعني في الخصومات؛ وإلا فالشافعي يحلف رب المال إذا اتهمه في الزكاة، ومسائل كثيرة يقع التحليف فيها من غير دعوى؛ ولكن ابن الرفعة إنما أراد التحليف في الخصومة عند الحكام، ولا يرد عليه ما قدمناه فيما إذا قال:"القاتل أحدهم"، ولا أعرفه حيث ذكرنا أن له التحليف؛ فإن ذلك التحليف ليس إلا بعد الدعوى.

نعم لو كان الرافعي صحح أن الدعوى غير مسموعة، ثم قال: إن له التحليف لأورد على ابن الرفعة لو أشكل على الرافعي، والحق أنه لا يورد [اليمين] 3، وأن اليمين من غير دعوى في الخصومة غير معقولة -كما ذكر ابن الرفعة.

لكن ذلك أن تقول: سلمنا أن التحليف من غير دعوى غير معقول؛ لكن الدعوى من غير تحليف معقولة، كالدعوى على قيم اليتيم، وسائر المسائل التي يقبل قول المرء

1 في "ب" واحدًا فواحدًا.

2 في "ب" تترتب.

3 سقط في "ب".

ص: 434

من غير يمين؛ فإن يدعي عليه، ثم لا تؤول تلك الدعوى إلى يمين، فما مستند الغزالي في وضعه الوجهين في سماع الدعوى.

الثاني: قال الغزالي -في الوسيط- لكنهم لو نكلوا جميعًا أشكل اليمين المردودة على الدعوى المبهمة. انتهى.

ولم يذكره الرافعي في "الشرح" ولم يبين ابن الرفعة في "المطلب" حال هذا الكلام، وكان ذلك لوضوحه عنده.

وحاصله: أن النكول يقتضي اليمين المردودة، ولا سبيل إليها هنا؛ لأنه لم يعرف عين القاتل ليحلف أنه هو؛ فأورد الغزالي هذا الإشكال على ما يصحح سماع الدعوى المبهمة -ولعله- من أجله- لم يفصح في "الوسيط" بتصحيحها، وإن كان في "الوجيز" صححها.

وأنا أقول: هذا الإشكال مندفع.

أما إن قلنا: بأن النكول في القسامة لا يقتضي رد اليمين -وهو وجه مفرغ على القول باقتضاء القسامة في القصاص [فواضح] 1؛ إذ ليس كل نكول -والحالة هذه- مقتضيًا لرد اليمين.

وإما إن قلنا بالرد -وهو الصحيح- فأقول: لا رد هنا ولا إشكال؛ فرب ناكل لا ترتد اليمين -بعد نكوله- على المدعي؛ ألا ترى أن ولي الصبي إذا ادعى له بشيء، وطلب يمين المدعي به ونكل؛ فإن الولي لا يحلف.

فإن قلت: لأنا ننتظر بلوغ الصبي فنحلفه، ولا كذلك فيما نحن فيه.

قلت: بل ننتظر أيضًا أنه يعين القاتل ثم يحلف، ونقول له: عين من اتهمت واحلف.

فإن قلت: لو عينه [كان] 2 مجددًا دعوى غير تلك الدعوى، والتحليف -حينئذ- فيها لا في تلك.

قلت: بل يحلف في تلك الدعوى بعينهما، ولا يكلف دعوى مجددة؛ لأن التعيين لا ينافي الإبهام، كما أن الإطلاق لا ينافي التفصيل.

والصحيح المنصوص أنه إذا أطلق الدعوى يستفصله القاضي ولا يعرض عنه بل

1 في "ب" واضح.

2 في "ب" لكان.

ص: 435

يقول: أعمدًا قتلته أم خطأً؟ أمنفردًا أم يشاركا لغيره؛ فدل أنه لا منافاة، ولو نافى التعيين والتفصيل الإبهام والإطلاق. لم يسمعها لمناقضة الدعوى الثانية للأولى.

الثالث: الخلاف في الدعوى المبهمة يجري في دعوى -الغصب والإتلاف والسرقة وأخذ الضالة- على أحد الرجلين أو الثلاثة، ولا يجري في دعوى القرض والبيع وسائر المعاملات، وقيل: يجري فيها أيضًا، وقيل: بل هو مقصور على دعوى الدم؛ [فهي] 1 ثلاث طرق.

قاعدة: ذكرها الإمام في "النهاية" في باب القسامة: كل يمين لا يمين بعدها في مراتب الخصومات فالنكول عنها هل يبطل حق الناكل؟

فيه خلاف، ومن ثم إذا ردت اليمين على المدعي فامتنع؛ فيسأله القاضي عن سبب امتناعه؛ فإن لم يتعلل بشيء، أو قال: لا أريد أن أحلف فهذا النكول يسقط حقه في اليمين، وهل يتمكن من استئناف الدعوى وتحليفه في مجلس آخر حتى إذا نكل حلف المدعي أو لا يتمكن من ذلك ولا ينفعه إلا البينة؟ فيه وجهان: قال العراقيون والهروي أبو سعد والروياني بالأول، وقال الإمام والغزالي والبغوي بالثاني؛ قال الرافعي: وهو أحسن وأصح لئلا تتكر الدعوى في القضية الواحدة.

قاعدة: ذكرها الإمام في باب الدعوى والقسامة قال الأصحاب: الأصل أن من نكل عن يمين في خصومته لا يحلف تلك اليمين -بعينها- في ذلك المقام من تلك الخصومة.

وهل يحلف في مقام آخر من تلك الخصومة مع اتحاد المقصود؟ فيه خلاف، ومن ثم لو علل المدعي امتناعه عن اليمين بعذر، ثم عاد بعد مدة ليحلف، مكن منه وإن [تعلل] 2 أو صرح بالنكول؛ فقال الغزالي والبغوي: يبطل حقه من الحلف. وليس له العود واستمر العراقيون على أن له العود.

فلو أقام شاهدًا واحدًا في دعوى مال ولم يحلف معه؛ فحلفنا المدعي عليه فنكل؛ فهل ترد اليمين على المدعي وقد امتنع عن اليمين مع الشاهد؟ فيه قولان:

وكذلك إذا لم يكن -في دعوى المال- شاهد فرددنا اليمين على المدعي بعد نكول المدعى عليه فنكل عن يمين الرد، ثم أقام شاهدًا وأراد أن يحلف مع شاهد فهل له ذلك؟ فيه قولان:

1 في "ب" فهو.

2 في "ب" وإن لم يعلل.

ص: 436

قاعدة:

ذكرها الإمام [في النهاية] 1 في باب دعوى الدم، وقال: إنها ضابط تمس الحاجة إلى ذكره "كل نكول يتعلق به حق حلف حالف بعد النكول إذا طهر فلا عود من الناكل".

ومن ثم إذا أراد المدعي عليه -بعد الامتناع- أن يعود فيحلف؛ فإن كان بعد أن حكم القاضي بأنه ناكل أو قال المدعي: احلف لم يكن له الحلف، وإن أقبل عليه ليحلفه ولم يقل له -بعد- احلف، فوجهان.

وإن لم يكن "شيء من ذلك؛ فله الحلف؛ حتى لو هرب المدعي عليه قبل أن يحكم القاضي بأنه ناكل وقبل عرض اليمين على المدعي، لم يكن للمدعي أن يحلف اليمين المردودة، وكان للمدعي عليه أن يحلف إذا عاد.

قاعدة:

لا يقضي بالنكول واستثنى مسائل:

منها: الصبي يستأسر ويوجد قد أنبت ويدعي الاستعجال بالدواء، ونقول الإنبات علامة البلوغ؛ فيحلف، فإن نكل جاز قتله.

منها: الذمي يسلم ويدعي أن إسلامه قبل السنة فلا جزية فيحلف فإن نكل أخذت منه ومن مات من غير وارث فادعى له الإمام بدين فنكل المديون، لزمه الدين.

ومنها: إذا ادعى رب المال أنه لا زكاة عليه ونكل، لزمته.

ومنها: إذا ادعى ولد المرتزق البلوغ لينزل في الديوان وحلف فنكل لم ينزل.

واعلم أنه لا يصح استثناء شيء من هذه الصور، وقد عد الجرجاني -في المعاياة- سبع مسائل وقال في أولها: "يحكم على الناكل بأصل الوجوب لا بالنكول؛ فأشار إلى أنه لم يقع بنكول. وهو الصواب.

قاعدة:

قال الرافعي رحمه الله في باب الدعوى والبينات: "الحالف كل من توجهت عليه دعوى صحيحة".

وقل قيل: من توجهت عليه دعوى لو أقر بمطلوبها ألزم به؛ فإذا أنكر حلف عليه وقبل منه، ولا بد من استثناء صور عن هذا الضابط. انتهى.

والعبارة الثانية -وهي قوله: "وقد قيل" إلى آخره- يحتمل شرحا للعبارة الأولى؛ لأن الدعوى الصحيحة هي التي لو أقر بمطلوبها ألزم به، وهذا ما فهمه الوالد رحمه الله، واستدل عليه بثلاثة أمور.

1 سقط في "ب".

ص: 437

أحدها: قوله "وقد"؛ فإنها ليست العبارة المألوفة في ذكر الخلاف.

والثاني: قوله: "عن هذا الضابط" وما قال الضبطين.

والثالث: اقتصاره -في "المحرر" قلتك وكذلك في الشرح الصغير- على العبارة الثانية؛ فلو كانت عنده ضعيفة لما اقتصر عليها.

ويحتمل أن يكون خلافا، وهذا ما فهمه النووي -إن كان في المنهاج اتبع المحرر، ويدل على أنه فهم ذلك قوله -في الروضة- وقيل:"كل من توجهت" إلى آخره؛ فحذف لفظ "قد" تصريحًا بالخلاف، ويؤيده أن الإمام ذكر -عن القاضي الحسين ضابطًا فيما يجري فيه التحليف، وحاصله أنه حكى وجهين:

أحدهما: أن حده أن يدعي حقا.

والثاني: أن ينفي دعوى ما لو أقر به ليقع إذا كان لا يؤدي إلى فساد احترازًا عن منع تحليف الشاهد والقاضي.

فلعل قول الرافعي: "وقد قيل" -إشارة إلى هذا الوجه الثاني.

ثم يستثنى مسائل لا تحليف فيها مع صحة الدعوى وكونها لو أقر بمطلوبها ألزم....

قاعدة:

قال الرافعي: "كل مكلف حنث في يمينه لزمته الكفارة حرًّا كان أو عبدا". قال ابن الرفعة -في المطلب- وكذا قاله الغزالي قلت: والرافعي أيضًا.

قال ابن الرفعة: ويطرقه سؤال؛ فإنه يقتضي اعتبار التكليف -حالة الحنث- في إيجاب الكفارة، ولا نعلم خلافًا فيمن خلف على عبده لا يدخل الدار فجن الحالف ثم دخل العبد، أنه يحنث، كما لو قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق فجن ثم دخلت، ثم لو كان ذلك معتبرًا لكان مخالفًا لقوله -أول الباب- "إن سبب وجوب الكفارة اليمين"؛ فإن السبب إذا وجد في حالة التكليف لا يقدح في العمل به وجود شرطه حال عدم التكليف.

والأصحاب حكوا قولين أو وجهين في أن الاعتبار في تعليق الطلاق والعتق بحالة التعليق -كما هو الصحيح- أو بحالة وجود الصفة، ولم يختلفوا فيما لو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر في حال جنون السيد، أنه يعتق -كما ستعرفه في التدبير، وما نحن فيه مثله.

ص: 438

نعم [يتجه] 1 ذلك على قول أبي حنيفة -الذي حكيناه وجهًا لبعض الأصحاب أن السبب الحنث"؛ فإذا وجد حال الجنون أمكن أن لا يؤثر، وكذلك إذا قلنا السبب اليمين والحنث.

والذي يظهر -أنا وإن قلنا وبذلك- فلا أثر له أيضًا؛ لأن إيجاب الكفارة- على هذا -من باب الوضع والإجبار كغرامة المتلفات وأروش الجنايات". انتهى.

قاعدة: "من حلف على فعل نفسه حلف من البت، وإن حلف على فعل غيره فإن كان على إثبات فكذلك، وإن كان على نفي حلف على نفي العلم.

قال الرافعي: وقد يختصر فيقال: اليمين على البت إلا أن يحلف على نفي فعل غيره.

ويستثنى مسائل ليس منها شيء -عند التأمل- يستثنى؛ وإنما ذكرناها لما يقع في الذهن من كونها مستثناة.

منها: لو ادعى على رجل أن عبدك جنى علي بما يوجب كذا؛ فأنكر فالأصح يحلف على البت؛ لأن عبده ماله، وفعله كفعله.

ولو ادعى أن بهيمتك أتلفت لي زرعًا أو غيره -حيث يجب الضمان- فأنكر حلف على البت؛ لأنه لا ذمة لها والمالك لا يضمن بفعل البهيمة؛ بل بتقصيره في فعلها، وهو أمر يتعلق بفعل الحالف.

ومنها: لو نصب البائع وكيلًا ليقبض الثمن ويسلم المبيع فقال له المشترى: إن موكلك أذن لي في تسليم المبيع، وترك حق الحبس -وأنت تعلم- فأحد القولين: إنه يحلف على البت، واختاره أبو زيد؛ لأنه يثبت لنفسه استحقاق اليد على المبيع.

وأقواهما -عند النووي- أنه يحلف على نفي العلم جريًا على القاعدة.

ومنها: لو مات عن ابن -في الظاهر- فقال آخر: أنا أخوك والميراث بيننا؛ فأنكر حلف على البت؛ لأن الأخوة رابطة بينهما؛ فهو حلف [لنفسه]2.

ولو طالب البائع بتسليم المبيع -فادعى حدوث عجز عنه وقال- للمشتري: أنت أعلم به؛ فأنكر، حلف على البت؛ لأنه يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه.

هكذا ذكر الصورتين ابن القاص ونازعه آخرون وقالوا: يحلف على نفي العلم وصححه النووي.

1 في "ب" يتحدد.

2 في "ب" في نفسه.

ص: 439

ومنها: ادعى -على الوارث- دينا على الميت؛ فأنكر الوارث العلم به، فأوجه

أصحها: يحلف على نفي العلم جريًا على القاعدة.

والثاني: على البت؛ لأن الظاهر اطلاعه عليه.

والثالث: الفرق بين تعهده حاضر أو غائبًا.

ومنها: إذا علق طلاقها على كون الطائر غرابًا؛ فادعت أنه كان غرابًا، وأنها طلقت؛ فعليه أن يحلف على البت، أنه لم يكن غرابًا، ولا يكفي أن يقول: لا أعلم كونه غرابًا أو نسيت الحال.

قال الرافعي: "ذكره الإمام، وفرق بينه وبين ما إذا علق طلاقها على دخولها ودخول غيرها، وأنكر حصوله؛ حيث يكون الحلف على نفي العلم بالدخول بأن الدخول -هناك- فعل الغير [والحلف على نفي الغير] 1 يكون على [نفي] 2 العلم، ونفي الغرابية ليس كذلك بل هو نفي صفة في الغير، ونفي الصفة كثبوتها في إمكان الاطلاع، وإذا كان الشيء مما يطلع عليه -في الجملة-[لم] 3 تغير القاعدة بأن يفرض بعذر أو عسر.

ولم يحك الغزالي -في الوسيط- وجه الفرق بل ذكر الحلف -على البت- في مسألة الغراب، وعلى نفي العلم في مسألة الدخول ثم قال: "هكذا قال إمامي وليس يتبين لي فرق بينهما أصلًا؛ بل ينبغي أن يقال -عليه- يمين جازمة، أو نكول في المسألتين جميعا.

ولم يحك الرافعي كلام الغزالي هذا كأنه اكتفى بما ذكره من الفرق.

وتكلم ابن أبي الدم -في كتاب أدب القضاء- على كلام الغزالي، وقال: من العجب توجه بالعجز عن الفرق بين المسألتين، وعندي الفرق بينهما ظاهرًا جدًّا، وذكر ما حاصله أن الدخول فعل الغير؛ فيحلف نافية على نفي العلم، وكون الطائر غرابًا ليس فعل الغير، بل هو تعليق على كون هذا الطائر المشاهد موصوفا بصفة كونه غرابا وإذا لم يكن تعليقا على فعل الغير، بل تحقق حقيقة كونه غرابًا حلف على من نفي تلك الصفة الحقيقية على البت بأن هذه الصفة لم توجد قال: "ونظير قوله: إن كان هذا الطائر غرابًا بعد مشاهدته والجهل بحقيقته تحقق دخول أحد.

1 سقط في "ب".

2 سقط في "ب".

3 سقط في "ب".

ص: 440

رجلين إلى الدار والجهل بعينه؛ فيقول: إن كان هذا الرجل الكائن في الدار زيدا فأنت طالق، فنافى كونه زيدًا -بخصوصه- يحلف على البت كنظيره في مسألة الغراب، ونظير مسألة الدخول من الغراب أن يعرف كون الواقف غرابًا، ثم يفقده ويجهل هل طار أو مات، وكان قد حلف على طيرانه؛ فالنافي لطيرانه هنا يحلف على نفي العلم "انتهى ملخصًا، [وهو حاصل ما ذكره الرافعي]1.

واعلم أن هذا الإمام الغزالي أجل قدرًا من أن يخفي عليه مثل هذا الفرق والإمام أبو المعالي أرفع مقدار من أن يفرق حيث لا فرق، والتمهل في النظر بين كلام هذين الحبرين أولى من المبادرة، وأرى أن....2.

قاعدة: قال ابن القاص تجب اليمين في كل حق لابن آدم إلا في أربعة مواضع.

قلت: ومراده أن من قبل قوله في شيء كان عليه اليمين إذا طلبت منه إلا في مسائل، ولعل تعبيره -بحق لابن آدم- أصح لما سنبينه.

ولنفتتح بالأربع التي ذكرها ابن القاص.

منها: القاضي إذا ادعى عليه -بعد العزل- الحكم بباطل، وادعى عليه بقيمة المتلف؛ فأنكر؛ فلا يمين عليه، قاله الشافعي رضي الله عنه أيضًا.

والشاهد إذا ادعى عليه أنه شهدًا زورًا. وادعى عليه قيمة المتلف؛ قاله ابن القاص تخريجًا.

ولو ادعى رجلان زوجية امرأة فأقرت لأحدهما ولم تحلف للآخر.

ولو ادعى عليه بشيء فقال: هو لولدي الصغير.

هذه الأربع التي ذكرها ابن القاص، وحكى في الثالثة والرابعة قولًا قديمًا.

ومنها: لو قال: له شيء، ثم فسره بما لا يتمول -كقشر فستقة؛ فالصحيح يقبل قوله؛ ولكن بيمينه على القاعدة، ونص عليه الشافعي رضي الله عنه هنا وصرح به الشيخ الإمام، وحاول ابن الرفعة إثبات وجهين، ولم يتعرض الرافعي لذكر اليمين رأسًا.

ومنها: لو اختلف البائع والمشتري في عيب لا يمكن القول بقدمه كجراحة طرية، وقد جرى البيع والقبض من سنة؛ فالقول قول البائع في أنه حدث عنه عند المشتري بلا يمين.

1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".

2 بياض الأصل في أ، ب.

ص: 441

ولو كان مما لا يمكن حدوثه -كأصبع زائدة وقد جرى البيع أمس- فالقول قول المشتري في قدمه. كذا أطلقوه، وينبغي أن يكون بلا يمين على قياس الجراحة الطرية.

قلت: وكان عدم اليمين هنا؛ لأن التكليف بها عبث للعلم بمضمون الحال فكأنه لا حق للمدعي فيما ادعاه لا ظاهرًا ولا احتمالًا، ومن هنا استحسن قول ابن القاص:"يجب اليمين في كل حق لابن آدم"؛ فلا ينبغي أن يستثنى إلا [ما هو] 1 خارج من حق، ولو في الظاهر"....

قاعدة:

كل يمين قصد بها الدفع لا يستفاد بها الجلب، "وقد يقال": كل يمين كانت لدفع شيء [لا تكون] 2 لإثبات غيره. وفي القاعدة مسائل:

منها: إذا ادعى العنين أو المولى الوطء، وأنكرت المرأة فهو المصدق بيمينه؛ فإذا طلقها -بعد ذلك- وقال: هذا طلاق بعد المسيس؛ فإنكم صدقتموني أني وطئتها، وأراد الرجعة وهي على إنكار الوطء، قال ابن الحداد وأكثر الأصحاب. لا يمكن من الرجعة والقول قولها فإن يمينه في الوطء كانت لدفع الفسخ فلا يستجلب به الرجعة.

ومنها: إذا ادعى المودع تلف الوديعة عنده، وأنكر المودع التلف فصدقنا المودع المودع، وقال: قد صدقتموني في التلف عندي وهو الذي أوقعني في هذا الغرم؛ فإنا لا نمكنه من الرجوع، بل إذا حلف المودع على أن الوديعة لم تتلف عنده وهو خائن يستقر الضمان على المودع، ولا يلزم من تصديقه لدفع الضمان عن نفسه تصديقه لإثبات الغرم على غيره.

ومنها: لو وجدنا دارًا في يد اثنين ادعى أحدهما أنها له، والآخر أنها بينهما نصفين وصدقنا الثاني بيمينه؛ لأن اليد تشهد له، ثم باع مدعي الكل نصيبه من ثالث؛ فإن أراد الآخر أخذ بالشفعة وأنكر المشتري ملكه؛ فإنه يحتاج إلى البينة، ويمينه، في الخصومة مع الشريك، أفادت دفع ما يدعيه الشريك لا إثبات الملك له.

قد جمع الرافعي هذه النظائر في باب الإيلاء، وذكرها الشيخ أبو علي في شرح الفروع في باب الوكالة وزاد نظائر أخرى، ونحن نوردها فنقول:

ومنها: وكل رجلًا في البيع وقبض الثمن؛ فادعى الوكيل الإقباض وأنكره الموكل صدق الموكل بيمينه.

1 سقط في "ب".

2 سقط في "ب".

ص: 442

ولو خرج المبيع بعد ذلك مستحقًا ورجع الوكيل على المشتري بالثمن لم يكن للوكيل أن يرجع على الموكل بنظير الثمن بناء على مالك الثمن؛ لأن يمينه -تلك- كانت لدفع الغرم عنه؛ فلا تصلح لشغل ذمة الموكل، بل القول -الآن- قول الموكل في عدم القبض مع يمينه.

وهذا الفرع من مولدات ابن الحداد، وقد فرع عليه ما- نذكره عقيبه.

ومنها: إذا قال المشتري: العيب قديم وقال البائع: حادث؛ فصدقنا البائع بيمينه ثم جرى بعده الفسخ بتحالف وأخذ البائع يطالب المشتري بأرش العيب الذي أثبت حدوثه بيمينه، لم يكن له؛ لأن يمينه صلحت للدفع فلا تصلح لشغل ذمة الغير؛ بل للمشتري الحلف بأنه ليس بحادث الآن لدفع الأرش.

هذا تمام ما ذكره الشيخ الإمام أبو علي، وهذان الفرعان ذكرهما ابن الحداد، وكذلك الفرع الأول.

ومنها: قذف رجلًا فطالبه بحد القذف فطلب [القاذف] 1 يمينه على نفي كونه زانيًا فنكل ورد اليمين على القاذف؛ فحلف القاذف أنه زنى اندفع عند حد القذف ولم يجب على المقذوف حد الزنا سواء قلنا: يمين الرد كالإقرار أو كالبينة؛ لأن اليمين كانت لدفع حد القذف عنه لا لإثبات الزنا على المقذوف.

ومنها: ما في الرافعي عن فتاوى البغوي من أنه لو تزوجها بشرط البكارة فوجدها ثيبًا ثم اختلفا فقالت: كنت بكرا فاقتضني وقال: بل كنت ثيبًا؛ فالقول قولها بيمينها لدفع الفسخ وقوله لدفع كمال المهر.

ومنها: في مسألة الخياط الذي دفع إليه ثوبًا ليخيطه فخاطه قباء وقال للمالك؛ كذا أمرتني، وقال المالك: بل أمرتك بقميص.

إذا فرعنا أن القول قول الخياط فحلف فلا أرش عليه قطعًا ولا أجرة له على الأصح، وفي الوجه الآخر له الأجرة إتمامًا لتصديقه.

فإن قلت: لكن قالوا -تفريعًا على المذهب وهو أن القول قول المالك "أنه إذا حلف لا تلزمه الأجرة ويلزم الخياط أرش النقص على المذهب وقضية ما ذكرتموه أن لا يلزم الخياط أرش النقص.

1 زيادة يتم بها الكلام.

ص: 443

قلت: فرق الأصحاب بأن القطع يوجب الضمان ما لم يكن بإذن وهو غير موجب للأجرة إلا بإذن.

قاعدة:

"كل ما جاز للإنسان أن يشهد به جاز له أن يحلف عليه ولا ينعكس".

قاله الجرجاني والروياني، واستدلا بأن [باب] 1 اليمين أوسع إذ يحلف الفاسق والعبد ومن لا تقبل شهادته ثم لا يشهدون.

وفيه مسائل:

منها: إذا أخبره صادقان أن فلانًا قتل أباه أو غصب ماله جاز له أن يحلف ولا يشهد.

ومنها: لو رأى بخطه أن له دينًا على رجل أو أنه قضاه حقه؛ فله الحلف إذا قوي عنده ولا يشهد.

قاعدة:

"كل حر يقبل خبره تقبل شهادته".

قال الجرجاني: "إلا واحدا، وهو من أخرج القذف مخرج الشهادة ولم يتم العدد؛ فإنه ترد شهادته ويقبل خبره" وتبعه الروياني في كتاب الفروق وهو غريب لم أجده في غير كلامهما.

وقضية رد شهادته أنه يرد خبره أيضًا إلا أن يتوب. نعم المذهب أنه لا يشترط مدة الاستبراء ثم قولهما: "كل حر" إلى آخره لا ينتقض بالصبي؛ فإن الأصح أنه لا يقبل خبره كما لا تقبل شهادته.

فصل:

من الكلمات الدائرة -في الفقه والأصول- أن الجرح مقدم على التعديل.

لم يستثن أكثر الأصحاب من هذا إلا إذا قال المعدل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح؛ لكنه تاب منه وحسنت حالته. قالوا: فتقدم بينة التعديل لأن معها زيادة علم؛ لكنهم، وإن لم يصرحوا باستثناء عين هذه الصورة؛ فقد صرحوا بمأخذ المسألة [التي] 2 يدور معه حكم تقديم الجرح على التعديل، والتعديل على الجرح فإنهم قالوا -على اختلاف طبقاتهم: إن الجارح إنما قدم لما عنده من الزيادة على ما خفي على المعدل؛ وذلك لأن المعدل بيني على ما هو الأصل الظاهر من حال المسلم، والجارح اطلع على ما نسخ ذلك الأصل ونقل عنه.

1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".

2 في "ب" الذي.

ص: 444

وشبه ذلك جماعات -من متقدميهم القاضي الحسين ومن متأخريهم الرافعي- بما لو قامت بينة على الحق وبينة على الإبراء تقدم بينة الإبراء.

واستثنى القاضي الروياني -في البحر- من تقديم الجرح مسألة زعم أنه لا يستثنى سواها [وهي] 1 إذا جرحه اثنان في بلد، ثم انتقل إلى بلد آخر وزكاة اثنان، أو جرحه اثنان في سنة، ثم زكاه آخر في سنة فيقدم التعديل لزيادة العلم.

وهذه الصورة إن ضممتها إلى المسألة السابقة وجريت على ظواهر الفقه دون دقائقه بادرت إلى القول بأن الجرح مقدم إلا في مسألتين.

ثم لمانع أن يمنع كون الانتقال إلى بلد آخر يزيد علما؛ بل إن حصلت زيادة فهي بالمدة التي تخللت بين بلدي الجرح والتعديل فيحتمل صلاح حاله بعدها.

ولم يكن غرضنا من ذكر هذه [الصور] 2 إلا تعريفك أن المأخذ هو الذي عليه المعول، وكذلك اعتقاد الروياني، ولا بد أن يكون له قدوة في هذه المسألة أن مع التعديل في هذه المسألة زيادة علم قدم التعديل؛ فدل على أن الحكم دائر مع زيادة العلم.

وعند هذا نسمح بذكر ما اقتضاه النظر من تدقيق الفقه؛ فإن هذه المسألة مهمة كثيرة الوقوع -أعني تعارض الجرح والتعديل.

فأقول: فهما عن الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم واعتقاد أنه الصواب، وأسأل الله أن يحميني من الغلط فيه والوهم عليهم: لا يقدم إلا ما فيه زيادة علم فكل ما تضمن زيادة علم قدم -سواء الجرح والتعديل غير أنه لما كان الغالب على الجرح أنه ناقل وعلى التعديل أنه استصحاب أطلق القول بتقديم الجرح لذلك، ثم لم يطلق إطلاقا بل أشير فيه إلى العلة التي يدور معهما الحكم كما عرفت.

وصح باستثناء الصورتين اللتين نقلناهما. وليس الأمر مقصورا عليهما، ولا قول المعدل:"عرفت السبب الذي ذكره الجارح؛ لكنه تاب منه" بشرط؛ بل يكفي المعدل أن يخصم قول الجارح بعد اطلاعه عليه بأن يقول: هو عدل ولا يقدح فيه قول هذا الجارح، ويقبل هذا منه ويندفع به الجرح إذا كان ممن يعلم أن الجرح -عند الإطلاق- يقدم على التعديل ويحمل على واحد من أمور التوبة بما جرح به أو عداوة الجارح له

1 في "ب" قال وهي.

2 سقط في "ب".

ص: 445

المانعة من قبول قول عليه، أو اعتقاد أن الجارح واهم عليه أو كاذب وغير ذلك من الاحتمالات وهي كثيرة جدا.

والحاصل: أنه متى عرفنا أن المعدل لم يبين على الأصل بل على غيره قدمناه، فالدوران على الناقل وليس لخصوصية الجرح، ولا يستطيع أحد أن يقول -فيمن بجرح زيد لكونه سكر في اليوم الفلاني بدمشق وعارضهما شاهدان بأنه في اليوم المذكور كان بمصر: أن بينة الجرح تقدم، وهذا أوضح من أن يخفى.

وهنا ثلاث مسائل يضطر الناس إليها:

أحدها: لو شهد شاهدان أن هذا الجارح شهد زورا وكاذب فيما شهد به من الجرح، فالظاهر -عندي- أنه يكتفي بهذا ويندفع به الجرح، ولكن لا يتجرح به الجارح، وهذا توسط بين كلامين مطلقين لطائفتين من الأصحاب.

فإن قلت: فقد ذكر الرافعي -في جوامع أدب القضاء- أن شهادة الزور إنما تثبت بإقرار الشاهد، أو بيقين القاضي، بأن شهد أنه زنى بيوم كذا بالكوفة والقاضي رآه ذلك اليوم ببغداد، ولا يغني قيام البينة على أنه شهد زورا، فقد تكون هذه البينة بينة زور.

قلت: هذا موافق لما قلت من أنه لا ينجرح به الجارح، ولم يقل الرافعي ولا أحد -فيما علمت- أن الجرح يستمر، ولا يلتفت إلى الشاهد بأن الجارح شاهد زور، بل نص الشافعي رضي الله عنه يدل على أنه تثبت شهادة الزور بالبينة، إذ قال رضي الله عنه:"وإذا علم من رجل -بإقراره أو بينة- أنه شهد عنده بزور عزره" وعليه جرى جماهير المتقدمين من الأصحاب، وهي الطائفة التي أشرنا إلى أن إطلاقها يقتضي الاكتفاء بقوله: هذا شاهد زور ويجرح به الجارح، وتبعهم صاحب البيان.

لكن قال القاضي الحسين [في تعليقه] 1 في باب ما على القاضي في الخصوم والشهود "ولو شهد بأن ذينك الرجلين شهدا بالزور فالقاضي لا يسمع شهادتهما إلا أن يقولا يشهد أنهما أقرا أنهما شهدا بالزور".

وهذا القاضي رأس الطائفة التي قلنا: إن إطلاقها يقتضي رد هذا الكلام ولعل الرافعي جرى مع هذه الفرقة لكنهم لم يصرحوا بأن حكم الجرح يثبت معها وإنما أرادوا أن الشهادة لا تسمع لإثبات كون الشاهدين شهدا بالزور، ولعلها تحمل النص على ما إذا

1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".

ص: 446

شهدت البينة على إقراره بالتزوير كما ذكره القاضي الحسين. أو على بينة كشفت الحال كشفًا، ولم تطلق القول إطلاقًا، وأما أنها لا تدرأ عن الشهود عليه ما شهد عليه به -ولا ينبغي أن يرتاب في ذلك.

الثانية: وهي مما يؤيد التوسط الذي قلناه -قول الأصحاب: "الجرح لا يقبل إلا مفسرًا" يعنون لا يقبل لإثباته؛ وإلا فإذا أطلق الجارح جرحه، ولم يبين السبب توقفنا لأجله ولم نحكم بمقابله.

صرح به النووي في شرح مسلم وغيره، وهو دليل على قولنا فيمن شهد أنه شاهد زور أنه يتوقف في شهادته لأجلها ولم نحكم بأنه شاهد زور.

ورأيت في الإشراف -للقاضي أبي سعد الهروي: "أن الشاهد إذا قال أنا مجروح قبل قوله، وإن لم يفسر"؛ فهذه تستثنى من قولهم: "لا يقبل الجرح إلا مفسرا، وفيها -عندي- وقفة".

الثالثة: ليس كل عدل يقبل قوله في الجرح، وإن فسره بل ينبغي التفحص في أمره والكشف عما لعله بينه وبين المشهود عليه من عدواة أو منافسة تحمل إما على شهادة الزور أو على الظن بمجرد السماع -مع حب أذى المشهود عليه- أو غير ذلك من الأغراض التي كثرت في هذا الزمان.

وقد تكلمنا في كتابات الطبقات الكبرى في الطبقة الثانية في ترجمة أحمد بن صالح المصري1 -على هذا كلامًا حسنًا.

والحاصل: أن كلام النظير في النظير أو من يقاربه، وكذا من ينتمي إلى النظير يجب التوقف فيه جدًّا إلى أن يتضح غاية الاتضاح. وقد قال شيخ الإسلام تقي الدين

1 أحمد بن صالح المصري أبو جعفر الحافظ المعروف بابن الطبري، كان أبوه من أهل طبرستان، وروى عن عبد الله بن وهب وعنبسة بن خالد وابن عيينة وعبد الرزاق وغيرهم، روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي بواسطة، قال أبو نعيم: ما قدم علينا أحد أعلم بحديث أهل الحجاز منه، وقال أبو زرعة: سألني أحمد من خلفت بمصر، قلت أحمد بن صالح فسر بذكره وكان جامعًا يعرف الفقه والحديث والنحو، وقال: العجلي ثقة صاحب سنة، وقال أبو سعيد بن يونس ذكر النسائي فرماه وأساء الثناء عليه، وقال الخطيب احتج بأحمد جميع الأئمة إلا النسائي، ويقال: كان آفة أحمد الكبر ونال النسائي منه حفاء في مجلسه؛ فذلك السبب الذي أفسد الحال بينهما، قال أبو سعيد بن يونس: ولد بمصر سنة 175، وقال البخاري توفي في ذي القعدة سنة 248.

انظر: تهذيب التهذيب 1/ 39-40 ابن السبكي 2/ 6 وما بعدها.

ص: 447

ابن دقيق العيد1 أعراض الناس حفرة من حفر النار وقف عليها طائفتان من الناس -المحدثون والحكام".

واشترط الوالد رحمه الله في العدل أن يكون بريئًا عن الأغراض بحيث لا يحمله الهوى. ومن أهم ما يتعين الاعتناء به أمور العقائد؛ فلقد حملت كثيرًا من الناس على الوقيعة في كثير منهم؛ فإن اختلافها أوجب العداوة بين أهلها، لتعصب أرباب كل عقيدة لها، وفي أرباب الأهواء من يرى الكذب لنصر مذهبه؛ فليتق الله حاكم نصبه الله بين المسلمين في طائفة هذه عقيدتها.

وقد شهد حاكم -من كبار من يخالف عقائد الأشعرية- على أشعري بقضية يضحك السفهاء منها ويكذبها من يسمعها، وسئل الحاكم -سرًّا- أتعتقد صحة هذا؟ فقال: لا؛ ولكنه أشعري -[بتعصب على طائفتنا] 2-أردت أن أريح المسلمين منه.

وهذا الحاكم -بين تلك الطائفة- موصوف بالديانة، ومعنى الديانة -عندهم- التصلب في معتقدهم والتعصب له بأي طريق فرض من حق وباطل، وكل ما آل إلى نصره فهو حق عندهم، ولا مبالاة بسفك دماء المخالفين فضلًا عن أغراضهم وأموالهم.

والحاكم الغر إذا رأى أن المبتدع إذا لم يكفره تقبل شهادته على الأصح بين أن تقبل مطلقًا أو ترد مطلقًا على الخلاف.

وأنا أقول: محل التردد في شهادته على [أن] 3 لا يتوسم فيه أن له عليه غرضًا، وذلك يختلف باختلاف المشهود به وعليه؛ فليس المجسم أو الرافضي -مثلًا- إذا شهدا

1 محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبو الفتح ابن الشيخ القدوة العالم مجد الدين المنفلوطي المصري ابن دقيق العيد، ولد في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة تفقه على والده بقوص ثم على سلطان العلماء العز بن عبد السلام، قال الذهبي في معجمه، وقال قاضي القضاة بالديار المصرية وشيخها وعالمها الإمام العلامة الحافظ القدوة الورع شيخ العصر، كان علامة في المذهبين "الشافعي والمالكي" عارفًا بالحديث وفنوه سارت بمصنفاته الركبان، وقال السبكي: لم ندرك أحدًا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، وأنه أستاذ زمانه علمًا ودينًا، توفي في صغر سنة اثنتين وسبعمائة. ابن قاضي شهبة 2/ 229 - مرآة الجنان 4/ 236 - النجوم الزاهرة 8/ 206 - البدر الطالع 2/ 229 - شذرات الذهب 6/ 5 - الطالع السعيد 333.

2 سقط في "ب".

3 في "ب" من بدل أن.

ص: 448

بدرهم في ذمة بقال من عرض الخلق بمنزلتهما إذا شهدا على كبير من العلماء معروف بالرد على هاتين الطائفتين مثلًا

أنه شرب أو قذف1؛ إذ لا يستريب مجرب في أن هذه الشهادة -منهما- مردودة.

فإن كانت الشهادة -في مثل هذا- لم تقبل جزمًا، وليس هذا من تحري العدالة؛ بل هو رد لشهادة تحصل بمثلها الريبة.

ومن المهم أن أكثر المبتدعة لا يفحصون ببدعتهم ولا يتظاهرون، ولو واجههم الإنسان أكذبوه وعاداهم، ولكن الحاكم البصير لا يخفي عليه أهل العقائد فإن سيماهم في وجوههم.

فلا تحسب أني -إذا رددت شهادة المخالف في العقيدة على مخالفة بما يشبنه- أتوقف على أن يثبت عندي عقيدة الشاهد فهذا عسر جدًّا؛ بل اكتفى بغلبة الظن التي أجدها من نفسي، ثم الله يطلع على ضميري إذ ذاك، وهو المسؤول في التوفيق والهداية.

ومتى شهد -مثلًا حنبلي المذهب على شافعي معروف بنصرة مذهب الأشعري بأمر يشتبه في دينه، وأخذ الحاكم يتعلل ويقول من أي لي اختلافهما في العقيدة، وبتقديره من أين لي أنه تحمل عليه في الشهادة، وبتقديره فكيف -إذا رددته- أقبله في مكان آخر"؛ فهو أخر بعيد عن شريعة الإسلام لا يصلح أن يكون حاكمًا بين اثنين -بمجرد كونه حنبليًّا يغلب على الظن مخالفته لعقيدة الأشاعرة- لكثرة ذلك في الحنابلة. ومجرد ذلك -مع ما يعهد من بعضهم- يغلب على الظن تحمله.

ولا يلزم -من ردنا قوله من ظننا تحمله عليه- أنا نخرجه بالكلية ونرده مطلقًا؛ بل ندفعه حيث نتهمه كما ندفع الشاهد بالتهمة.

قاعدة في تحقيق العدالة:

اعلم أن بين التقوى والعدالة عمومًا وخصوصًا.

والتقوى: أن يطاع الله ولا يعصى.

وحقيقتها: التحرز بطاعة الله من عقوبته.

وأصلها: اتقاء الشرك ثم اتقاء المعاصي ثم اتقاء الشبهات ثم اتقاء الفضلات.

1 في "ب" زيادة مثلا.

ص: 449

وقد يكون الصبي متقيًّا إذا وفقه الله؛ فليس من شرط التحرز عن العقوبة أن يكون الشخص بحيث يقع فيها، وقد يتحرز الأمن. ثم قد يكون المتقي عدلًا وقد لا يكون.

قال الشيخ الإمام: "لأن اتقاء المعاصي -كبيرها وصغيرها- هو التقوى؛ فإذا اتقى الكبائر -وكان عدلًا- لم يقدح فيه إتيان الصغيرة؛ ولكنها تقدح في تقواه؛ فهذا عدل غير متق.

وقد يتقي ولا يكون عدلًا إذا لم يكن ذا هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة.

قال الشيخ الإمام رحمه الله: "وكل من العدالة والتقوى قد تكون للصبي -وإن لم نقبل شهادته؛ فالبلوغ شرط في قبول قوله لا في عدالته".

فإن قلت: ما المرضي في حد العدالة؟ فإنكم عقدتم القاعدة له.

قلت: قد قبل: إنها هيئة راسخة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة.

ونقضه الشيخ الإمام بأن "إن أريد -بالتقوى- تقوى المعاصي دخلت الصغائر وخرج مرتكبها -وإن لم يصر على العدالة. وإن أريد مطلق التقوى دخل من اتقى الشرك وارتكب الكبائر في العدالة وكلاهما غير صحيح".

قال: إلا أن يقال: إن الصغائر لا تقدح في إطلاق اسم التقوى لعسر التحرز عنها وكون المؤمن لا يسلم من الذنب الفينة بعد الفينة.

ثم قال الشيخ الإمام: لا بد عندي في العدالة من وصف آخر لم يتعرضوا إليه، وهو الاعتدال عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه عن اتباع هواه.

قال: فإن المتقي للكبائر والصغائر الملازم لطاعة الله وللمروءة قد يستمر على ذلك ما دام سالمًا من الهوى؛ فإذا غلبه هواه خرج عن الاعتدال وانحل عصام التقوى؛ فقال ما يهواه، وإبقاء هذا الوصف هو المقصود من العدل، -كما يشير إليه قوله تعالى:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 1، وقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 2؛ فكم من صالح لا شك في صلاحه من عصمته أن لا يحد، وفي نفسه أن لا يعصي؛ فإذا جرت عليه المقادير وغلب هواه قامت نفسه فانبعث منها ما لا يبقى مع الصلاح.

1 سورة الأنعام "152".

2 سورة البقرة "143".

ص: 450

فلا بد أن يمتحن الصالح حتى يعرف حاله في الرضا والغضب وعند الأغراض؛ فإذا استوى كلامه فهو العدل، وإلا؛ فليس بعدل وإن كان صالحًا قبل حصول ما يغيره.

فالعدالة: هيئة راسخة في النفس تحمل على الصدق في القول في الرضا والغضب، ويعرف ذلك باجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، وملازمة المروءة والاعتدال عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه عن اتباع هواه.

فقد رأيت من لا يقدم على ذنب فيما يعتقد، ثم يستر هواه على عقله أعاذنا الله من ذلك".

انتهى كلام الشيخ الإمام بنصه.

وأقول: يشترط -مع ذلك- أن لا يكون متلبسا -حال الشهادة- بمعصية، وإن كانت صغيرة تغتفر إذا لم يكن متلبسًا بها حال الشهادة.

وهذا لأن المعاصي -من حيث هي- منافية للعدالة؛ إلا أنا اغتفرنا الصغائر لقلة الصون عنها، ولا يقبل ذلك عند أداء الشهادة فلمنصب الشهادة أهبة تنافي المعاصي عنده.

وكان هذا للمحافظة على هذا المنصب؛ فإن من يتلبس بالمعصية حالة الشهادة كأنه لا مروءة له. وهذا الشرط قاله بعض أصحابنا بدليل.

مسائل:

منها: لو ادعى واحد على اثنين أنهما رهنا عنده عبدهما فزعم كل أنه لم يرهن نصيبه وأن شريكه رهن وشهد عليه؛ ففي قبول شهادته وجهان في الرافعي في باب الاختلاف في الرهن.

قال الشيخ أبو حامد: لا تقبل لأن المدعي يزعم أن كل واحد منهما كاذب ظالم في الجحود وطعن المشهود في الشاهد مانع من قبول شهادته، وقال الأكثرون تقبل لأنهما ربما نسيا وإن تعمدا فالكذبة الواحدة لا توجب الفسق كذا علله الرافعي واحتمال النسيان معنى صحيح، وأما قوله: لأن الكذبة الواحدة لا توجب الفسق فيقال له: هب أنها لا توجب فسقا لكنها توجب رد الشهادة لكونها معصية وقت الشهادة كما عرفت على أن صاحب البحر جزم في باب من تجوز شهادته، ومن لا تجوز بأنه لو كذب عن قصد ردت شهادته وإن لم يكن فيها بقوله ضرر. قيل: أو بهتان.

ص: 451

قال: لأن الكذب حرام بكل حال كان.

وقال القفال: إلا أن يقول ذلك على مذهب الكتاب والشعراء في المبالغة في الكلام.

ومنها قال: القاضي الحسين في كتاب الطهارة في الأواني إذا جلس شهود النكاح على حرير لم ينعقد النكاح بهم فقيل؛ لأنهم فسقة واعترض بأنهم لا يفسقون به لأنه ليس بكبيرة والأشبه أن يعلل بأنهم حال الشهادة ظهر منهم ما يضعف الوثوق بهم، وعلى هذا لا تقبل شهادة برشد لابس الحرير؛ إذ حاله يقتضي أنه ليس برشيد فليتجنب عن ذلك كله.

تنبيه: إذا تم هذا الشرط وهو عدم التلبس بالمعصية حال أداء الشهادة؛ فقد يقال إنه داخل في عدم المروءة وليس بشرط جديد.

تنبيه: قد يستأنس بهذا الشرط بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" فجعل لحالة الزنى رفعًا ليس لها عند الانفصال وأوضح. هذا في حديث آخر فقال صلى الله عليه وسلم

1 الحديث.

فصل:

إذا عرفت هذا علمت أن المعصية حال وقوعها من الفحش والوقع ما ليس لها عند الانفصال عنها ومن ثم يجيء الشرط الذي ذكرناه ولأجله أيضا مسائل.

منها: أن الكافر إذا صال يجب دفعه، ولا يجوز الاستسلام له ولو كان ذميًّا.

قال الإمام: في الذمي الوجه القطع بذلك؛ لأنه بصياله ناقد لعهده. فإن قلت: أليس من الأصحاب من يقول الذمة لا تنتقض بالقيل قلنا: ذاك وجه ضعيف، ثم لا حرمة بالذمة القتال والصيال. انتهى.

ففي قوله: لا حرمة للذمة حالة القتال ما ينبيء عن شدة رفع المعصية حال وقوعها.

ومنها: لو وجد رجلًا يزني بامرأته جاز له التعجيل بقتله، وقد قدمنا المسألة القواعد المطلقة عن الخاوي والبحر وغرضنا منها أن صاحبي الحاوي والبحر قالا يحوز التغليظ حال وقوع المعصية.

انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله:

أصول كلامية ينبني عليها فروع فقهية

1 بياض في الأصل "ب".

ص: 452