الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القواعد الخمس:
وليقع الابتداء بالقواعد الخمس التي أشرنا إليها هنا ثم نعقبها بما نورده واحدة بعد واحدة.
القاعدة الأولى: اليقين لا يرفع بالشك
اليقين لا يرفع بالشك 1 ولا يخفي أنه لا شك 2 مع اليقين ولكن المراد استصحاب الأصل المتيقن لا يزيله شك طارئ عليه. فقل إن شئت: الأصل بقاء ما كان على ما كان، أو: الاستصحاب حجة. ومن ثم كان القول قول نافي الوطء غالبا 3. ولم يكن على المانع 4 في المناظرة دليل.
1 والأصل فيها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه، أخرج فيه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" رواه مسلم من حديث أبي هريرة وأصله في الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"، وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وابن عباس وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أو أربعا؟ فليطرح الشك ولبين ما استيقن"، وروى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر: واحدة صلى أو اثنتين؟ فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن: صلى اثنتين أم ثلاثا؟ فليبن على اثنتين، فإن لم يدر: أثلاثا صلى أم أربعا؟ فليبن على ثلاث وليسجد سجدتين قبل أن يسلم".
اعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر.
2 والمراد بالشك لغةً: مطلق التردد. وفي اصطلاح الأصوليين تساوي الطرفين فإن رجح كان ظنا والمرجوح وهما وأما عند الفقهاء فزعم النووي أنه كاللغة في سائر الأبواب لا فرق بين المساوي والراجح وهذا إنما قالوه في الأحداث وقد فرقوا في مواضع كثيرة بينهما.
منها: في باب الإيلاء لو قيد بمستبعد الحصول في أربعة أشهر كنزول عيسى صلى الله عليه وسلم فحول وإن ظن حصوله قبلها فليس بحول قطعا وإن شك فوجهان أصحهما كذلك.
ومنها: ما سبق في الحياة المستقرة شك في المذبوح هل فيه حياة بعد الذبح حرم للشك في المبيح وإن غلب على ظنه بقاؤها حلت.
ومنها: في باب القضاء بالعلم لم يجعلوا للتساوي أثرا أو اعتبروا الظن المؤكد وكذلك في الصيد إذا توارد عليه اثنان في بعض صورة.
ومنها: في الأكل من مال الغير إذا غلب على ظنه الرضا جاز وإن شك فلا ومثله وجوب ركوب البحر في الحج إن غلبت السلامة وإن شك فلا ومثله في المرض والمخوف إذا غلب على ظنه كونه مخوفا نفد التصرف من الثلث وإن شككنا في كونه مخوفا لم ينفذ إلا بقول أهل الخبرة.
ومنها: قالوا في كتاب الطلاق أنه لا يقع بالشك فأرادوا به الطرف المرجوح ولهذا قال الرافعي في باب الاعتكاف: قولهم: لا يقع الطلاق بالشك مسلم ولكنه يقع بالظن الغالب المنثور 2/ 255.
3 الأشباه والنظائر للسيوطي ص 57.
4 والممانعة امتناع السائل عن قبول ما أوجبه المعلل من غير دليل.
فإن عارض الأصل ظاهر1 فقيل: قولان دائما. وقيل غالبا. وقيل أصحهما اعتماد الأصل دائما. وقيل غالبا والتحقيق الأخذ بأقوى الظنين ومن ثم فصول.
فصل:
يرجح الأصل جزما إن عارضه احتمال مجرد، وذلك في مسائل منها:
احتمال حدث من تيقن الطهر بمجرد مضي الزمان2.
ومنها: من أحرم بالعمرة ثم بالحج وشكَّ، هل كان أحرم بالحج قبل طواف العمرة، فيكون صحيحا، أو بعده فيكون باطلا فإنه يحكم بصحته3. قال الماوردي4: لأن الأصل جواز الإحرام بالحج حتى يتيقن أنه كان بعده5. قال6: وهو كمن تزوج وأحرم ولم يدر هل أحرم قبل تزوجه أو بعده.
قال الشافعي رضي الله عنه: يصح تزوجه.
قلت ونقله ابن القطان7 في فروعه عن النص أيضا فيمن وكل رجلا في الزواج
1 ويعبر الأصحاب تارة بالأصل والظاهر وتارة بالأصل والغالب وفهم بعضهم التغاير وأن المراد بالغالب ما يغلب على الظن من غير مشاهدة.
2 المنثور للزركشي 1/ 313، الأشباه والنظائر للسيوطي ص64.
3 الأشباه والنظائر ص52.
4 علي بن محمد بن حبيب القاضي أبو الحسن الماوردي البصري أحد أئمة أصحاب الوجوه قال الخطيب: كان ثقة من وجوه الفقهاء الشافعيين وله تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه وفي غير ذلك. قال ابن خيرون: كان رجلًا عظيمَ القدر متقدما عند السلطان. أحد الأئمة له التصانيف الحسان في كل فن من العلم توفي ربيع الأول سنة وخمسين وأربعمائة.
ابن السبكي 3/ 303، ابن قاضي شهبة 2/ 230، شذرات الذهب 3/ 285، مرآة الجنان 3/ 72.
5 الأشباه والنظائر للسيوطي ص52.
6 الأشباه والنظائر ص52، المنثور للزركشي 2/ 261.
7 أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن ابن القطان البغدادي آخر أصحاب ابن سريج وفاة. درس ببغداد وأخذ عنه العلماء، وقال الخطيب البغدادي: وهو من كبراء الشافعيين وله مصنفات في أصول الفقه وفروعه. مات في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. طبقات الفقهاء للشيرازي ص92، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 124، وابن هداية الله ص27، وشذرات الذهب 3/ 28، وفيات الأعيان 1/ 53.
ثم لم يدر أكان أوقع عقد النكاح بعدما أحرم أو قبله. قال: نص الشافعي أنه صحيح وذكر ابن القاص1 في تلخيصه: أنه لا يزال اليقين بالشك في الطهارة إلا في مسألة واحدة. وهو أن يقول: توضأت وأحدثت ولا أدري أيهما قدمت.
فيقال له: قدم وهمك على الأمرين فإن كنت محدثا قبلهما فأنت الآن متطهر، وإن كنت متطهرا فأنت الآن محدث2.
قال الروياني3 في البحر: وهذا في الحقيقة بناء على اليقين أيضا لا على الشك، لأنه أخذ بيقين ما قبل الأمرين قال: وهو كما لو أقام رجل البينة بأن فلانا استوفى منه جميع حقه. ثم أقام المشهود عليه بينة بأن المشهود له أقر له بألف؛ فإنه لا يتثبت لجواز أن يكون ذلك قبل الاستيفاء، وفي المسألة وجه آخر أنه يعمل بما قبل الأمرين، فإن كان طاهرا فطاهر، أو محدثا فمحدث. ومنهم من أوجب الوضوء احتياطا.
قلت: والأوجُهُ مشهورة في المذاهب.
قال النووي4: والثالث هو الصحيح عند جماعات من محققي أصحابنا5.
1 أحمد بن أبي أحمد الطبري أبو العباس ابن القاص أحد أئمة المذهب أخذ الفقه عن ابن سريج وتفقه عليه أهل طبرستان وقال الشيخ أبو إسحاق كان من أئمة أصحابنا صنف التصانيف الكثيرة توفي رحمه الله في طرسوس سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
ابن قاضي شهبة 1/ 106، الشيرازي ص91، وفيات الأعيان 1/ 51، طبقات الشافعية لابن السبكي 2/ 103، البداية والنهاية 11/ 219.
2 الأشباه والنظائر للسيوطي ص52.
3 عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد بن أحمد قاضي القضاة فخر الإسلام أبو المحاسن الروياني الطبري صاحب البحر وغيره، وكانت له الوجاهة والرئاسة والقبول التام عند الملوك فمن دونها، أخذ عن والده وجده، وُلد رحمه الله في ذي الحجة سنة خمس عشرة وأربعمائة واستشهد بجامع آمل عند ارتفاع النهار بعد فراغه من الإملاء يوم الجمعة حادي عشر المحرم وقيل اثنتين وقيل سنة إحدى وخمسمائة قتله الباطنية لعنهم الله تعالى.
4 يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام الحافظ الفقيه الزاهد أحد أعلام الإسلام محيي الدين أبو زكريا الحزامي النووي الدمشقي، وُلد في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة وصنف المصنفات النافعة، مات رحمه الله ببلدة نوى بعدما زار القدس والخليل في رجب سنة سبع وسبعين وستمائة ودُفن بها.
ابن قاضي شهبة 2/ 153، ابن السبكي 5/ 165، البداية والنهاية 13/ 287، النجوم الزاهرة 7/ 278، شذرات الذهب 5/ 354.
5 شرح المهذب 2/ 65، الاعتناء في الفرق والاستثناء "تحقيقنا"، حلية العلماء 1/ 156.
قال: وفي المسألة وجه رابع: أنه يعمل بغلبة الظن1.
قلت: وسيأتي عن ابن القاص ما استثناه من قاعدة اليقين لا يرفع بالشك وذاك استثناء من أصل القاعدة وهذا من خصوصها في الطهارات.
فصل
ويرجح الأصل على الأصح أن استند الاحتمال إلى سبب ضعيف وذلك في مسائل2؛ منها: ثياب مدمني الخمر3، والمقبرة المنبوشة4 وطين الشوارع5.
ومنها: دعوى المرأة الإصابة بعد الاتفاق على الخلوة.
ومنها: دعوى المديون لا في مقابلة مال الإعسار6.
ومنها: وجوب فطرة العبد الغائب المحتمل الموت.
ومنها: عدم زواج امرأة المفقود.
ومنها: تصديق الغاصب في قوله: لم يكن العبد المغصوب كاتبا.
ومنها: إذا تمعطت فأرة في بئر وطرحت، ولكن غلب على الظن أنه لا يخلو كل دلو عن شيء من النجاسة.
قال الرافعي: فجواز الاستعمال على قولي: الأصل والغالب.
ومنها: الجديد أن دم الحائل حيض؛ لأنه تردد بين كونه دم علة ودم جبلة. والأصل السلامة.
والقديم أنه دم فساد؛ لأن الظاهر أن الحامل لا تحيض.
ومنها: الأصح تصديق الغاصب إذا ادعى في المغصوب عيبا خلقيا كقوله: كان
1 المصادر السابقة.
2 وهذه المسائل مذكورة في الأشباه والنظائر للسيوطي ص65، والمنثور للزركشي 2/ 326.
3 وكذلك آوانيهم وكذا في ظهر اختلاطه بالنجاسة وعدم احتراسه منها، مسلما كان أو كافرا كما في شرح المهذب عن الإمام.
4 والمعنى بها كما قال الإمام وغيره التي جرى النبش في أطرافها والغالب على الظن انتشار النجاسة فيها.
5 وفي جميع ذلك قولان أصحهما الحكم بالطهارة استصحابا للأصل.
6 فيه وجهان أصحهما القول قوله؛ لأن الأصل العدم، والثاني لا؛ لأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئا.
أكمه1، وفي وجه المالك نظرًا إلى غلبة السلامة. وفي ثالث: يفرق بين ما تذر من العيوب وغيره.
ومنها: لو قال هذا ولدي من جاريتي هذه. عند الإمكان لحقه وهل يثبت كون الجارية أو ولد –لأن الظاهر- أولا لاحتمال أن يكون استولدها بالزوجية. فيه قولان: رجح الرافعي الثاني. قال: ولهما خروج على تقابل الأصل والظاهر.
ومنها: لو قال الراهن للمرتهن لم تقبض العين المرهونة عن الرهن، بل أعرتكها، وقال المرتهن بل عن الرهن، فالأصح أن القول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم اللزوم وعدم الإذن في القبض.
وقيل: قول المرتهن؛ لأن الظاهر أنه قبضه عن الرهن.
قلت: وأيضا فالأصل عدم العارية.
ومنها: تنازع المتبايعان في التفرق، وجاءا متساويين، فقال أحدهما أنا لم أفارقه فلي خيار المجلس. فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم التفرق كذا أطلق الأصحاب.
قال الرافعي2: وهو بين إن قصرت المدة. وأما إذا طالت فدوام الاجتماع خلاف
1 أو أعرج أو فاقد اليد، فوجهان أصحهما: القول قوله، ويمكن على الأصح المالك إقامة البينة، والثاني: تصديق المالك؛ لأن الغالب السلامة.
هذا بخلاف ما لو ادعى عيبًا حادثًا. فإن الأظهر تصديق المالك؛ لأن الأصل والغالب دوام السلامة، والثاني الغاصب؛ لأن الأصل براءة الذمة، فهذه الصورة تعارض فيها أصلان، واعتضد أحدهما بظاهر "وسيأتي في تعارض الأصلين"، ونظير ذلك: ما لو جنى على طرف، وزعم نقصه؛ فإنه ادعى عيبا خلقيا في عضو ظاهر صدق الجاني في الأظهر؛ لأن الأصل العدم، وبراءة الذمة، والمالك يمكنه إقامة البينة، وإن ادعى عيبا حادثا، أو أصليا في عضو باطن، فالأظهر: تصديق المجني عليه؛ لأن الأصل السلامة.
راجع الأشباه والنظائر ص66.
2 عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين بن الحسن الإمام العلامة إمام الدين أبو القاسم القزويني الرافعي صاحب الشرح المشهور وإليه يرجع عامة الفقهاء من أصحابنا في هذه الأعصار في غالب الأقاليم والأمصار، قال النووي: إنه كان من الصالحين المتمكنين وكانت له كرامات كثيرة ظاهرة.
قال ابن الصلاح: توفي في أواخر سنة ثلاث أو أوائل سنة أربع وعشرين وستمائة بقزوين وقال ابن خلكان توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وعمره نحو ست وستين.
طبقات الشافعية ابن السبكي 5/ 119، لابن قاضي شهبة 2/ 75، مرآة الجنان 4/ 56، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 264.
الظاهر. فلا يبعد تخريجه على تعارض الأصل والظاهر وتنازع ابن الرفعة1 والشيخ الإمام2 في كلام الرافعي هذا. فابن الرفعة أيَّده وقال: بل ينبغي القطع بقبول قول من يدعي اللزوم؛ لأنه الأصل في البيع. والشيخ الإمام أفسده. وقال: بل ما أطلقه الأصحاب هو الحق؛ طالت المدة أم قصرت وهو تخريج على الأصل والظاهر؛ لأنهما لما تعارضا تساقطا، وبقي معنا حق العاقد من الفسخ، وقد تحققنا تمكنه منه فيستصحبه ولا يرفعه بالشك، ونازع ابن الرفعة في قوله أيضا أن أصل البيع اللزوم، وقال: بل الأصل الجواز ولكن وضعه على اللزوم.
وأنا أقول: تمكن العاقد من الفسخ ناشئ من عدم التفرق الذي هو الأصل المستصحب وقد عارضه ظاهر التفرق، فلا بد من جريان الخلاف، وبتقدير تسليم أن أصل البيع اللزوم، فهو معارض بعدم التفرق.
ومنها: أدخل الكلب رأسه في الإناء وأخرجه ولم يعلم ولوغه ورأينا فمه رطبا فالأصح الطهارة للأصل، والثاني: النجاسة للظاهر.
ومنها: طرح العصير في الدن وأحكم رأسه. ثم حلف أنه لم يستحل خمرًا ولم يفتح رأسه إلى مدة، ولما فتح وجده صار خلا، فوجهان حكاهما الرافعي في فروع الطلاق.
أحدهما: إن كان ظاهر الحال صيرورته خمرا وقت الحلف حنث، وإلا فلا.
والثاني: لا يحكم بالحنث. لأن الأصل عدم الاستحالة وعدم الحنث.
1 أبو يحيى الشيخ نجم الدين ابن الرفعة كان فريد دهره ووحيد عصره إماما في الفقه والخلاف والأصول واشتهر بالفقه إلى أن يضرب به المثل وله تصانيف مشهورة تفقه على أصحاب ابن العطار وبرع حتى طار اسمه في الآفاق وتفقه على السبكي والذهبي، مات سنة وخمس وثلاثين وسبعمائة.
ابن هداية الله ص229، شذرات الذهب 6/ 22، طبقات الشافعية لابن السبكي 5/ 177، البدر الطالع 1/ 115، الدرر الكامنة 1/ 303.
2 حبر الأمة وأستاذ الأئمة شيخ الإسلام تقي الدين أبو الحسين علي الأنصاري الخزرجي السبكي، كان رحمه الله ذا فراسة صادقة تصانيفه مشهورة وتوفي رحمه الله بدمشق.
ابن هداية الله ص23، الدرر الكامنة 3/ 134، حسن المحاضرة 1/ 177، وطبقات الشافعية الكبرى 6/ 146، البدر الطالع 1/ 467.
فصل:
ويرجح الظاهر جزما في مواضع إن استند إلى سبب منصوب شرعا كالشهادة المعارضة للأصل أو معروف عادة: كأرض على شط نهر. الظاهر أنها تغرق وتنهار في الماء فلا يجوز استئجارها. وجواز الرافعي تخريجه على تقابل الأصل والظاهر.
قلت: وفيه نظر؛ لأن الظاهر هنا معتضد بعادة مستقرة فهو ينزل منزلة القطع أو منزلة السبب المنصوب شرعا، فلهذا جزم باعتماده، وإنما يقع الخلاف في ظاهر مجرد يقابل الأصل.
والموضع الثالث مما يرجح فيه الظاهر جزما أن يضعف اعتماد الأصل لمعارض فيبقى الظاهر سالما عن المعارض.
مثاله قال: أنت طالق ثم ادعى سبق لسان، فإنه لا يصدق ظاهرا إلا بقرينة؛ لأن الظاهر من حال البالغ العاقل أنه لا يتكلم إلا عن قصد فإن قيل القصد خلاف الأصل فكيف عمل بالظاهر؟
قلنا: أصل عدم القصد تعارض بأنه متهم في هذه الدعوى ما في الإبضاع من الاحتياط، ثم إن سبق اللسان خلاف الأصل، فلما تقاوم الأصلان تساقطا وبقي الظاهر فعمل عمله وهب أن القصد خلاف الأصل فانتفاؤه انتفى لقصد الوقوع ولا يلزم من انتفاء قصد الوقوع انتفاء الوقوع؛ لأن اللفظ يعمل عمله وإن لم يقصد وإذا لم يقصد العدم ففرق بين قصد الوقوع وقصد العدم.
فصل:
ويرجح الظاهر على الصحيح إن كان سببا قويا منضبطا. وذلك في مسائل. منها: حيوان يبول في ماء كثير، ثم يوجد متغيرًا فالمذهب النجاسة لغلبة الظن بأن التغير من البول1.
1 قال الزركشي: هذا وإن احتمل تغيره بطول مكث أو سبب آخر نص عليه، فأستند التغير إليه مع أن الأصل طهارته، لكنه بعد التغير احتمل أن يكون بالمكث وأن يكون بذلك البول، وإحالته على البول المتيقن أولى من إحالته على طول المكث فإنه مظنون فقدم الظاهر على الأصل وتابعه الجمهور.
وقيل إن كان عهده عن قرب غير متغير فنجس، وإلا فظاهر ولو ذهب عقب البول فلم يجده متغيرًا، ثم عاد في زمن آخر فوجده متغيرا قال الأصحاب: لا يحكم بنجاسته وقال الدارمي: يحكم.
راجع المنثور 1/ 318.
ومنها: قاتل حر يدعي رق المقتول فيقول قريبه: كان حرًّا فالأصح تصديق القريب؛ لأنه الظاهر في الغالب.
ومنها: شاهد يعدل في واقعة ثم يشهد في أخرى بعد زمان طويل فقد صححوا طلب تعديله ثانيا؛ لأن طول الزمان يغير الأحوال، وفيه عندي نظر.
ومنها: اختلفا بعد البيع في الرؤية صحح النووي أن القول قول مدعيها؛ لادعائه الصحة وهي الظاهر؛ إذ الظاهر أن المشتري لا يقدم على شراء غائب وهو ما عزاه الرافعي إلى فتاوى الغزالي وبه أفتى القاضي الحسين وقال الرافعي: إنه لا ينفك عن خلاف.
قلت: حكى ابن أبي الدم الخلاف في كتاب أدب القضاء1. ولم يزد النووي على أنها مسألة الاختلاف في الصحة والفساد. وسنتكلم على الفروع في قواعد البيع.
ومنها: إذا جومعت فقضت شهوتها ثم اغتسلت ثم خرج منها مني الرجل فالأصل يجب عليها الغسل؛ لأن الظاهر خروج منيها معه.
وقيل لا يجب؛ لأن الأصل عدم خروجه.
تنبيه: خرج بقولنا: قويا -في قولنا: يرجح الظاهر على الصحيح إن كان سببا قويا منضبطا- لو أمشط المحرم لحيته فوقعت شعرات. شك. هل كانت منسلة فانفصلت؟ أو
1 قال في أدب القضاء 2/ 323: قد عرف من مذهب إمامنا رضي الله عنه أن الصحيح من قوليه بطلان بيع الأعيان الغائبة، كيف كان، استقصيت الأوصاف أو لم تستقصِ، فلو اشترى شيئا ثم قال: اشتريته ولم أره، وقال البائع: بل رأيته، هل القول قول البائع أو المشتري؟ فيه خلاف.
من أصحابنا من اختار أن القول قول المشتري؛ لأن الأصل عدم الرؤية، وعدم صحة العقد، ومنهم من اختار أن القول قول البائع؛ لأن إقدام كل مكلف على عقد اعتراف منه بصحته.
وأصل هذا كله أنه متى اختلف المتبايعان في شرط مفسد للعقد فادعاه أحدهما، وأنكره الآخر، فيه وجهان:
قال صاحب التقريب: القول قول مدعي الشرط الفاسد.
وقال غيره: بل القول قول الآخر.
وممن اختار الفساد في مسألة الشرط المفسد الجرجاني، البغوي، الشيخ ابن أبي عصرون.
انتفت بالمشط فالأصح لا تجب الفدية؛ لأن النتف لم يتحقق فيها1 وبقولنا: "منضبطا" دعوى البر التقي على الفجر الشقي درهما واحدا فإن الفاجر يصدق في إنكاره؛ لأن ظهور كذبه ليس بمنضبط فلا يلتفت إليه.
فصل:
"ومن ثم يقولون: الشيء قد يثبت على خلاف الظاهر" ويستشكله مستشكلون، وليس بمشكل، وسره ما أبديناه من عدم الانضباط، فلا ثقة به، فلذلك يدرأ في مسائل:
منها: تسمع دعوى الدنيء استئجار الأمير المعتبر لكنس داره خلافا للإصطخري.
ومنها: لو أتت بولد لدون أربع سنين من قبيل الطلاق بلحظة لحقه. وإن كان وقوع الزنا أغلب على الظن من تأخر الحمل هذه المدة قال شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام: ولا يلزم حد الزنا، فإن الحدود تسقط بالشبهة2، ومنها: أنه يلحق لستة أشهر ولحظتي الوطء والوضع مع ندرة ذلك وغلبة الزنا. وغلبة تأخر الوضع إلى تسعة أشهر.
ومنها: لو أقر بمال عظيم قبل تفسيره باقل متمول3. وفي وجه: يزيد للفظ عظيم شيء.
ومنها: لو ادعى الزوج بعد مضي مدة العفة الإصابة، فالقول قوله مع ظهور صدقها بالأصل والغلبة.
ومنها: [قال] 4: إن رأيت الهلال فأنت طالق، فرآه غيرها طلقت.
1 والأصل: براءة الذمة والثاني يجب؛ لأن المشط سبب ظاهر إليه كإضافة الإجهاض إلى الضرب، الأشباه ص72.
2 لقوله صلى الله عليه وسلم "ادرؤوا الحدود بالشبهات" أخرجه ابن عدي وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة: "ادفعوا الحدود ما استطعتم"، وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي وغيرها من حديث عائشة:"ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطتعم فإن وجدتم للمسلم مخرجا، فخلوا سبيله؛ فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
وأخرجه البيهقي عن عمر، وعقبة بن عامر، ومعاذ بن جبل موقوفا وأخرج من حديث علي مرفوعًا:"ادرؤوا الحدود فقط".
3 الأشباه والنظائر ص6.
4 في "ب": لو قال.
ومنها: لو قال: إذا مضى عصر أو حقب فأنت طالق تطلق بمضي لحظة. واستبعده الغزالي.
ومنها: إذا تعاشر الزوجان المدة المديدة، ثم ادعت عدم النفقة والكسوة فالقول قولها.
ومنها: على وجه اختاره المحاملي وغيره لو حلف لا يكلمه إلى أيام حنث بلحظة.
قال: لأنه يقال: أيام العدل وأيام الفتنة.
قلت: ولهذا ظهور ما لو قال أيام فلان العادل أو الجائر على تلوم في أما إذا أتى بلفظ أيام منكرة -كما هو صورة المسألة- فلا وجه له.
ومنها: إذا كان معه شخص بالغ، يتصرف فيه تصرف الملاك في عبيدهم، وادعى أنه ملكه وقال ذلك الشخص: بل أنا حر، فالقول قول المدعى عليه، سواء أكان المدعي استخدمه قبل الإنكار وتسلط عليه أم لا، وسواء جرى عليه البيع مرة أو مرارًا وتداولته الأيدي أم لا، صرح به الأصحاب في باب الدعاوى1، وفرضه فيما إذا قال أنا حر الأصل، وأطلق الإمام تصوير المسألة فيما إذا قال: أنا حر.
قلت: وقد يقال فيمن تداولته الأيدي: ما الفرق بين أن نطلق قوله: أنا حر. أو يقول: أنا حر الأصل؟
وفي كلام الإمام فوائد. فنقول: قال الإمام في النهاية في باب الدعوى على مذهب أبي حنيفة قبيل باب القافة فالقول قول ذلك الشخص. لم يختلف أصحابنا في ذلك؛ لأن [ظاهر] 2 الدار الحرية وهي الأصل. فمدعيها مستمسك بالأصل والظاهر.
فإن قيل: أليس تصرف الملاك مع استمرار ظاهر اليد دلالة على الملك وقد اجتمعتا في هذه المسألة؟
قلنا: إنما تدل اليد والتصرف على تعيين الملك مع كون الشيء مملوكا، فيظهر
1 انظر أدب القضاء للماوردي 4/ فقرة 5274، وأدب القضاء لابن أبي الدم 1/ 625.
2 وفي ب: "الأصل".
من اختصاص الإنسان باليد والتصرف وعدم النكير عليه تعيينه من بين الناس، وليس مع من يدعى الملك فيه الأصل يعتضد به، فأما أصل الملك فالأصل عدم الملك. فلا يثبت بظاهر التصرف. وعند ذلك قال الأصحاب: إذا اجتمع الأصل والظاهر فالتعويل على الأصل فلئن قيل: الحر تصرف كذلك.
قلنا: قد ينقاد الخادم للمخدوم بما ينقاد بمثله العبيد.
انتهى كلام الإمام.
وقد تضمن أن اليد والتصرف لا يدلان على الملك إلا عند ثبوت الملك في تلك العين، فيكونان دالين على تعين صاحب اليد المتصرف وقضية هذا أن لا يشهد أن في يده إنسانا صغيرا، يتصرف فيه تصرف الملاك بالملك؛ لأن الأصل الحرية.
وفيه وجهان: أطلق أبو علي الطبري حكايتهما1. وقال غيره إنه سمعه يقول: هو عبدي، أو سمع الناس يقولون: إنه عبده شهد له بالملك، وإلا فلا وهذا ما صححه النووي في باب اللقيط2.
وقد يقال على مساق كلام الإمام: يجري تصرف ذلك المتصرف على الصحة؛ إذ لا معارض له، فإن بلغ الصبي وأكذبه، أعرضنا عن تصديقه، واعتمدنا قول الصبي غير أن المصحح فيمن ادعى رق صغير في يده أنه يحكم له بالرق وهو ما رجحه الجمهور منهم صاحب التنبيه سواء كان مميزا أم لا. وقالوا: ثم إذا بلغ الصبي قال: أنا حر، لم يقبل أيضا على الأصح3. وقد تلخص من هذا أن ما اقتضاه كلام الإمام من أن المتصرف في صور تصرف الملاك لا يشهد له بالملك وإن ادعى هو رقه؛ لأن الأصل الحرية وليس المرجح في المذهب.
وأقول: إن مأخذه حسن، وقضيته أنه إذا ثبت أنه رق على الجملة شهد له بالملك، وإلا فلا، لمخالفة الأصل، ويؤيد هذا أنه لو بلغ الصبي وأقر بالرق، لغير صاحب اليد لم يقبل جزما4 بخلاف ما إذا ادعى الحرية فإن فيه خلافا، فكان وجه
1 روضة الطالبين 5/ 444، وأدب القضاء 1/ 625.
2 روضة الطالبين 5/ 444.
3 إلا أن يقيم بينة بالحرية ولكن له تحليف السيد، قاله البغوي والثاني يقبل، روضة الطالبين 5/ 444، أدب القضاء 1/ 656.
4 روضة الطالبين 5/ 444.
عدم القبول فيما ادعى الرق لغير ذي اليد أنه وافق على الرق وإنما خالف في جهته فلم يصغ إلى مخالفته لمعارضته أمرا قد تكرر قبل بلوغه، بخلاف ما إذا ادعى الحرية فإنه يعتضد بأصل الحرية، وهذا المأخذ الذي أشار إليه الإمام لا يجري في الأملاك، فلا يقال: لا يشهد للمتصرف ذي اليد بالملك حتى يثبت أن الدار ملك على الجملة، مخافة أن تكون وقفا؛ لأن الأصل في العقار الملك، والوقف طارئ، ولا كذلك الرق مع الحرية؛ فإن الحرية هي الأصل، ونظير هذا: صغيرة في يد رجل يدعي نكاحها فالأصح أن لا يحكم له بالنكاح مع أنه لو ادعى الملك حكم له1.
وفرق الأصحاب في باب اللقيط بأن اليد على الجملة دالة على الملك ويجوز أن يولد وهو مملوك بخلاف النكاح، فإنه طارئ، فيحتاج إلى البينة2.
وهذا كقوله في مساق كلام الإمام والدي. صرح به الأصحاب في باب الشهادات على الملك -بالتصرف والاستفاضة- العقار، والعبد، والثوب، وغيرها، وهذا يقدح في مأخذ الإمام.
والإمام ممن رجح جواز الشهادة بالملك لذي اليد المتطاولة وله التصرف تصرف الملاك، ثم ما ذكرناه من أن الأصل الحرية إنما نعني به الغالب، وحكى الرافعي عن حكاية صاحب التتمة قولا بامتناع معاملة من لا تعرف حريته قال: لأن الأصل بقاء الحجر.
وهذا قد يقال: إنه ينازع قولهم: إن الأصل الحرية وقد يقال: أنه لا يتنازع؛ لأن المدعى بقاء الحجر. لا إيقاع الحرية.
فإنه قلت: الحجر يستدعي انتفاء الحرية الملازمة لثبوت الرق.
قلت: لم قلت: إنما نعني حجر الرق، وقد نعني مطلق الحجر المستصحب من زمن الصغر، ولذلك عبرا بلفظ البقاء. غير أنه قبل البلوغ مستندا لا سيما في الأحرار إلى الصبي، وبعد البلوغ يستصحب في مجهول الحال، وجائز أن يسمى حجر الصبي بما لكونه مستصحبا، كما قيل بمثله فيمن بلغ سفيها، وأن يقال: لا ضرورة ما إلى
1 وقال ابن الحداد: نعم كالرق، والأصح ما حكاه المصنف، روضة الطالبين 5/ 444.
2 المصدر السابق.
معرفة عينه، بل هو حجر على الجملة، ثم هذا الوجه إنما هو في منع معاملته، لا في الحكم برقه وقد يقال: هو حر بشهادة الأصل ولكن لا يعامل؛ لأن الإقدام على المعاملة يستدعي قدرا زائدا على الأصل، واعلم أن ما ذكرناه من كلام الإمام يؤخذ منه أنه لو تعارضت بينتا الرق والحرية تقدم بينة الحرية.
بيانه: أن بينة الرق -كما ذكره الإمام- لا يجوز لها أن تبنى على ظاهر اليد والتصرف فيما قامت مقبولة وإلا وقد استندت إلى غير ذلك. فتكون مستندة إلى ناقل متقدم.
والمسألة عسيرة النقل في المذهب -أعني تعارض بينة الرق وحرية الأصل والذي جزم به الرافعي في المسائل المنثورة آخر باب الدعوى أن بينة المدعي الرق أولى؛ لأن معها زيادة علم. وهو إثبات الرق.
وقد وقعت المسألة عندي في المحاكمات، توقفت عن الحكم بذلك فيها لإشكالها ثم وجدت بخط والدي رحمه الله حكاية وجهين في المسألة عن الماوردي، وأنه ذكرهما عند الكلام على خيار العبيد في كتاب النكاح أحدهما: التعارض والتساقط. الثاني: أن شهادة العبودية أولى؛ لأنها تخالف الظاهر من حكم الدار فكانت أزيد علما ممن شهد الحرية، التي هي الغالب على الدار أن أهلها أحرار. وموضع الوجهين كما أبصرت، في تعارض الرق والحرية الأصل.
وذكر القاضي أبو سعد المسألة في "الأشراف" ولم يحك القول بتقديم بينة الرق إلا عن الشيخ أبي حامد، وحكى تقديم الحرية عن جميع الأصحاب، وقد سبقه إلى ذلك القاضي أبو عاصم، فحكى في الطبقات تقديم الرق عن الشيخ أبي حامد حكاية المستغرب له فليكن المعتمد إن شاء الله تقديم بينة الحرية أما تعارض الرق والتعق فمسألة مشهورة ذكرها الرافعي وغيره في باب الدعاوى1، وجزم فيها الماوردي في هذا المكان بتقديم بينة الحرية فإنه قال إن علم شهود الحرية العبودية فشهادتهم أولى؛ لأنهم أزيد علما ممن علم العبودية ولم يعلم ما تجدد بعدها من الحرية، ومنها قال إمام الحرمين في كتاب الطلاق بعدما ذكر أن الحربي إذا أكره على الإسلام فنطق بالشهادتين
1 روضة الطالبين 12/ 17.
تحت السيف يحكم كونه مسلما فإن هذا إكراه بحق فلم يغير الحكم. اتفقت الطرق على هذا مع ما فيه من الغموض من طريق المعنى؛ فإن كلمتي الشهادة نازلتان في الإعراب عن الضمير منزلة الإقرار، والظاهر من المحمول عليهما أنه كاذب في إخباره. انتهى.
وقد حكاه عن الرافعي إلا أنه أسقط قوله: في إخباره. وليس بجيد؛ لأن الكذب عدم المطابقة لما في نفس الأمر1. وقائل الشهادتين مطابقتين، فلا يقال: إنه كاذب؛ نعم هو كاذب في إخباره أن ضميره مشتمل على الاعتقاد، فقد تبين أن قول الإمام: في إخباره قيد لا بد منه حذفه الرافعي ظنا منه أنه لا حاجة إليه فورد ما لا قبل له به.
واعترضه ابن الرفعة بأن هذه نزعة أسامة بن زيد قد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عنها2 وكيف لا يكون ونحن نؤاخذ المقر للعبادة بما يغلب على الظن كذبه [فيما] 3 إذا احتمل الصدق على بعد، وحق الله أولى بذلك، نعم هو إذا كان في نفس الأمر بخلاف ذلك لا يحصل له الفوز في [الدار] الآخرة. انتهى.
قلت: الإمام لا يخفى عليه نزعة أسامة. ولم يرد التشكيك على قبول إسلامه بل ذكر أن قبول إسلامه شرعا غامض من حيث المعنى، ولذلك قال: من حيث المعنى ولم
1 الخيالي على العقائد النسفية 27.
2 من حديث أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهتيه فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟ " قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح" قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا"، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة قال: قال رجل: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُوَ فِتْنَةٌ وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ؟ فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا يكون فتنة وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة".
أخرجه البخاري 7/ 590 كتاب المغازي باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد
…
حديث 4269، ومسلم 1/ 96، كتاب الإيمان باب تحريم قتل الكافر بعدما قال: لا إله إلا الله حديث "158-256" واللفظ له.
3 في ب: "فيه".
يقل من حيث الحكم، والحاصل أن هذا عنده مما حكم فيه بخلاف الظاهر، وأنه أمر بعدي غير معقول المعنى.
فطريقة جوابه أن يبين أن هذا جارٍ على وفق الأقيسة الواضحة المعاني، لا أن يقال له: هذه نزعة أسامة، فإنه لا ينكر ذلك، بل نقول: ومن ثم لم يوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة قودا ولا دية. إنما ذلك –والله أعلم- حيث كان [أقدم] 1 عن اجتهاده ساعده المعنى، ولكن بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم الله أن من قالها فقد عصم دمه وماله، وقال:"هل شققت عن قلبه" 2 إشارة إلى نكتة الجواب.
والمعنى –والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الظاهر مضمحل بالنسبة إلى أن القلب لا يطلع على ما فيه إلا خالقه، ولعل هذا أسلم حقيقة وإن كانت تحت السيف ولا يمكن دفع هذا الاحتمال.
وفي الحديث الصحيح3: "عجب ربنا من قوم يدخلون الجنة في السلاسل"، وفي لفظ:"يقادون إلى الجنة في السلاسل"4.
قيل: أراد بالجنة الإسلام وبالقوم الأسرى يكرهون على الإسلام5، فجعل
1 في ب: "إقدام".
2 قال النووي في شرح مسلم 2/ 107: فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر؟ والله يتولى السرائر. وانظر الأبي على مسلم 1/ 209.
3 أخرجه البخاري 6/ 168 الجهاد باب الأسارى في السلاسل حديث "3010".
4 أخرجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أبو داود 3/ 56 كتاب الجهاد باب في الأسير يوثق حديث "2677".
5 فتح الباري 6/ 168-169، فيض القدير 4/ 302-303.
قال الغزالي: المراد بالسلاسل الأسباب؛ فإنه تعالى أمر بالعمل فقال: اعملوا وإلا أنتم معاقبون مذمومون على العصيان، وذلك سبب لحصول اعتقاد فينا والاعتقاد سبب لهيجان الخوف وهيجانه سبب لترك الشهوات والتجافي عن دار الغرور، وذلك سبب الوصول إلى جوار الرحمن في الجنان وهو مسبب الأسباب ومرتبها فمن سبق له في الأزل السعادة يسر له هذه الأسباب حتى يقوده الله بسلامها إلى الجنة ومن قدر له الشقاء أصمه عن سماع كلامه وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء فإذا لم يسمع لم يعلم وإذا لم يعلم لم يخف وإذا لم يخف لم يترك الركون للدنيا والانهماك في اللذات وإذا لم يتركها صار في حزب الشيطان.
فيض القدير 4/ 303.
الشهادتين مناطا بدار الحكم عليهما فحيث وجدا حكم بمضمونهما بالنسبة إلى الظاهر وأمر الباطن إلى الله تعالى.
ومن هنا يوجد جواب عن الإمام فنقول: استغماضه من حيث المعنى قبول إسلام المكره؛ لكونه حكما بخلاف الظاهر، يوضحه أن الإقدام على قتله من تلفظه بالشهادتين واحتمال أنه صادق فيما أخبر به عن ضميره ارتكاب ما لعله يكون ظلما له، والكف عن القتل أولى من الإقدام عليه.
ويوضح هذا أن الشارع لا مقصد له في إزهاق الأرواح وإنما المقصد الهداية والإرشاد فإن تعذرت بكل سبيل، تعين زهوق الروح طريقا لزوال مفسدة [الكفر] 1 من الوجود، ومع التلفظ بكلمة الحق لم تتعذر الهداية بكل طريق، بل حصل عز الإسلام بانقياد المتلفظ بها ظاهرا، ويرجى مع ذلك أن تكون الهداية حصلت وبتقدير أن تكون حصلت فقد يحصل في المستقبل فمادة الفساد الناشئ عن كلمة الكفر قد زالت بانقياد ظاهر ولم يبق إلا الباطن وهو مشكوك أو مرجو مآلا، إن لم يكن مرجوا حالا، فقد لاح من حيث المعنى وجه قبول الإسلام –والله الحمد- وأنه على وفق الأقيسة ومنهاج لمحاسن الشريعة، لا يدفعه منقول ولا معقول.
فإن قلت -على تقدير ما قاله الإمام من كونه غير معقول المعنى: فما فائدة بحث الإمام عن ذلك.
قلت: خطر لي أنه يحال تخريج إسلام الذمي مكرها عليه ويتوصل منه إلى ترجيح أنه لا يصح؛ وذلك لأنه يقول إذا قلنا بالصحة في الحربي فهي غير معقولة المعنى، فلا يقاس عليها الذمي؛ لأن القياس إنما يكون حيث يعقل معنى.
ويدل لهذا أنه ذكر مسألة الذمي عقبها، فقال: ولو أكره ذمي على الإسلام فأسلم فقد ذكر أصحابنا وجهين في أنَّا هل نحكم بإسلامه، والمصير إلى الحكم بإسلامه بعيد مع إن إكراهه عليه غير شائع، فلئن استمر ما ذكرناه في إكراه الحربي من جهة أنه إكراهٌ بحق فلا ثبات لهذا المسلك والمكره ذمي والإكراه ممنوع. انتهى.
وتقريره أن يقال: صحة إسلام الحربي بالإكراه إما غير معقولة المعنى. فلا يلحق
1 في ب: "الفكر".
بها الذمي. وإما معقولة المعنى، وهي أنه إكراه بحق، فلا يلحق الذمي أيضا؛ لأنه لم يكره بحق، وإنما أكره على حق.
نعم؛ إن جعل المعنى أنه أكره على حق صلح إسلام الذمي وهو وجه ضعيف ومنها: لو قال: لزيد علي أكثر مما لفلان، قبل تفسيره بأقل متمول وإن كثر مال فلان؛ لاحتمال أنه أراد بالأكثرية الحل أو نحوه.
فصل:
استثنى ابن القاص من قولهم: اليقين لا يرفع بالشك إحدى عشرة مسألة1:
الأولى: إذا شك المقيم هل تم يوم وليلة لم يجز له المسح.
الثانية: إذا شك المسافر هل مسح وهو مقيم أو بعد السفر لم يمسح إلا مسح مقيم.
الثالثة: مسافر أحرم خلف رجل لا يدري أمسافر هو أم مقيم لم يقصر.
الرابعة: ظبي بال في ماء فوُجد متغيرا فهو نجس.
الخامسة: المستحاضة عليها الصلاة والاغتسال في كل يوم شكت هل هو يوم انقطاع الدم.
السادسة: إذا علم نجاسة ما أصابت ثوبه أو بدنه إلا موضعها وجب غسله كله.
السابعة: شك المسافر. هل نوى الإقامة لم يترخص.
الثامنة: المستحاضة والسلس توضآ ثم شكَّا هل انقطع ثم صليا لم يجزهما.
العاشرة: طلب الماء في سفره فلم يجده فتيمم ثم أبصر شيئا يحتمل كونه ماء بطل تيممه.
الحادية عشرة: رمى إلى صيد فجرحه ثم غاب فوجده ميتا وشك هل أصابته رمية أخرى من حجر أو غيره لم يجز أكله2.
1 الأشباه والنظائر للسيوطي 80.
2 هذا وقد نازع القفال وغيره في هذه الاستثناءات بأنه لم يترك اليقين فيها بالشك، إنما عمل فيها بالأصل الذي لم يتحقق شرط العدول عنه؛ لأن الأصل في الأولى والثانية غسل الرجلين وشرط المسح بقاء المدة وشككنا فيه فعمل بأصل الغسل وفي الثالثة والسابعة والثامنة القصر وخصه بشرط فإذا لم يتحقق =
وزاد الإمام على ابن القاص: إذا شك في خروج وقت الجمعة قبل الشروع فيها وفي وجه أو فيها.
وجمع النووي هذه الصور في تحقيق المذهب. وزاد ثالثة عشرة ورابعة عشرة وهما: إذا شك في نقص وضوء أو صلاة بعد الفراغ، كمن شك هل مسح رأسه وهل صلى الظهر ثلاثا أو أربعا، فإنه لا أثر لهذا الشك1.
والظاهر الأرجح مضي الوضوء والصلاة على الصحة.
واعترض القفال وغيره على ابن القاص، وقالوا: لم يعمل بالشك في شيء من ذلك بل بأصول أُخر، الظن المستفاد منها أقوى، عاد الشاك إليها عند شكه. قلت: وأقرب من هذه المسائل عندي –ولم أر من ذكره- إذا جاء من قدام الإمام واقتدى به وشك. أهو متقدم عليه؟ فالصحيح في شرح المهذب وفي التحقيق أنه يصح. فهذا أصل ترك من غير معارض وهذا مشكل جديد لا جرم قال ابن الرفعة: الوجه ما نقل عن القاضي؛ لأنه لا يصح عملا بالأصل السالم عن المعارض2.
وهو قول حكاه النووي في تحقيق المذهب عن الجديد. ويقرب منه مسائل منها الصحيح انقضاء عدة المعتدة بالأقراء بالطعن في الحيضة الثالثة إن طلقها في الطهر والطعن في الرابعة إن طلقها في الحيض. وقيل حتى يمضي يوم وليلة بعد رؤية الدم
= رجع إلى الأصل، وهو الإتمام وفي الخامسة الأصل وجوب الصلاة، فإذا شكت في الانقطاع فصلت بلا غسل لم تتيقن البراءة منها وفي السادسة الأصل أنه ممنوع من الصلاة إلا بطهارة عن هذه النجاسة فلما لم يغسل الجميع فهو شاك في زوال منعه من الصلاة وفي العاشرة إنما بطل التيمم؛ لأنه توجه الطلب عليه وفي الحادية عشرة في حل الصيد قولان، فإن قلنا: لا يحل فليس ترك يقين بشك؛ لأن الأصل التحريم وقد شككنا في الإباحة، وقد نقل النووي ذلك في شرح المهذب وقال: وما قاله القفال فيه نظر. وقال في شرح المهذب والصواب في أكثرها مع أبي العباس وهو ظاهر عن تأمله، شرح المهذب 1/ 262-266،
الأشباه والنظائر للسيوطي 80-81.
1 شرح المهذب 1/ 226، الأشباه والنظائر 81.
2 وفي نظير هذه المسألة لو صلى وشك هل تقدم على الإمام بالتكبير أو لا، لا تصح صلاته، وفرق بأن الصحة في التقديم أكثر وقوعا فإنها تصح في صورتين التأخير والمساواة، وتبطل في المتقدم خاصة والصحة في التكبير أقل وقوعا، فإنها تبطل بالمقارنة والتقدم وتصح صورة واحدة، وهي التأخر قاله السيوطي.
ليعلم أنه حيض وقيل إن رأت الدم لعادتها انقضت برؤيته، وإن رأته على خلافها اعتبر يوم وليلة.
وهذا متجه، فإن الحكم بكونه قرء فيمن رأته على خلاف العادة طرح اليقين بمجرد الشك لكن يسهل هذا اتفاق الأصحاب على أنا إذا حكمنا بانقضائها بالرؤية فانقطع الدم لدون يوم وليلة ولم يعد حتى مضى خمسة عشر يوما أنا نتبين أن العدة لم تنقض.
ومنها: إذا شك القاضي في عدالة وصي قرره قاضٍ قبله [وأنفذ تصرفه] 1 فهل يقر المال في يده؛ لأن الظاهر الأمانة، أو ينتزعه حتى تثبت عدالته؟
اختلف في ذلك الإصطخري2 وأبو إسحاق3، فقال الإصطخري: يقره، وقال أبو إسحاق: ينتزعه.
وهذا هو الذي يظهر ترجيحه. وعلى هذا فقد طرح أصل العدالة وظاهرها بمجرد الشك. ومنها: من [كان] 4 له كفان عاملتان أو غير عاملتين فبأيهما مس انتقض وضوءه ومع الشك في أنها أصلية أو زائدة لا تنقض. ولهذا لو كانت إحداهما عاملة فقط انتقض بها وحدها على الصحيح5.
فإن قلت: أيصح أن ينضم إلى هذه المسأئل النوم فإنه يرفع يقين الطهر وليس في
1 سقط من أوالمثبت من ب.
2 الحسن بن أحمد بن يزيد أبو سعيد الإصطخري شيخ الشافعية ببغداد ومن أكابر أصحاب الوجوه في المذهب صنف كتابا حسنا في أدب القضاء. توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
طبقات السبكي 2/ 193، وفيات الأعيان 1/ 375، وطبقات ابن قاضي شبهة 1/ 109.
3 أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي شيخ الإسلام ومدار العلماء الأعلام في زمانه أول أهل الزمان وأكثر الأئمة اشتغالا بالعلم، ولد بفيروزآباد قربة من قرى شيراز في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ونشأ بها وصنف المصنفات القيمة وتوفي بها يوم الأربعاء الحادي والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وأربعمائة. وفيات الأعيان 1/ 9، والبداية والنهاية 12/ 124، النجوم الزاهرة 5/ 117، ابن السبكي 4/ 215، ابن هداية الله ص170
4 سقط من ب.
5 الأشباه والنظائر ص82.
نفسه حدثا: قلت: لا؛ لأنه وإن لم يكن في نفسه حدثا، ولكنه مظنة الحدث، والشارع أقام المظنة، مقام المظنون فليس من هذا الباب.
ومنها: من صلى في مقبرة شك أنها منبوشة فإنه لا يصح على الوجه وعلى هذا تراك أصل عدم النبش بمجرد الشك، لكن الصحيح الصحة.
ومنها: ادعى الغاصب تلف المغصوب صدق بيمينه على الصحيح عند الرافعي1 والنووي2 والشيخ الإمام رحمهم الله3 تعالى قالوا: وإلا؛ لتخلد الحبس عليه إذا كان صادقا وعجز عن البينة.
والثاني: يصدق المالك؛ لأن الأصل البقاء4 قالوا وقل من يقول هذا الوجه قلت: فعلى ما صححه المشايخ –رفع اليقين بمجرد الشك خشية الوقوع في مفسدة تخلد الحبس على غير مستحقه. وهذا عندي مشكل ودعواهم تخلد الحبس ممنوعة بأخذ القيمة للحيلولة. ثم لا حبس.
فصل:
مما يتشبث بأذيال تعارض الأصل والظاهر قاعدة يخلطها الأصحاب بها؛ لتقارب مسائلهما. وهي: "إذا تعارض أصلان جرى غالبا قولان"5.
قال الإمام في النهاية قبيل باب عتق العبيد: لا يخرجون من الثلث ولا ينبغي أن يعتقد الإنسان أن المعنى بتقابل الأصلين تعارضهما على وزن واحد في الترجيح، فإن هذا كلام متناقض إذا كنا نفتي –لا محالة- بأحد القولين إلى أن قال: نعم، من حكم تقابل الأصلين أنه يدقق النظر في محاولة ترجيح جانب على جانب6.
1 الشرح الكبير 11/ 286.
2 روضة الطالبين 5/ 28.
3 فعلى الصحيح إذا حلف الغاصب؛ هل للمالك تغريمه المثل أو القيمة؟ وجهان: أصحهما: نعم. المصدر السابق.
4 المصدر السابق.
5 الأشباه والنظائر ص75، المنثور 1/ 330.
6 قال صاحب الذخائر في باب زكاة الفطر: وعلى المجتهد ترجيح أحدهما بوجه من وجوه النظر فلا يظن أن تقابل الأصلين يمنع المجتهد من إخراج الحكم؛ إذ لو كان كذلك لخلت الواقعة عن حكم الله تعالى وهو لا يجوز.
ذكره في مسألة ما إذا ادعى الغارم نقيضه تنقض القيمة بسببها وأنكر الطالب.
حيث قال: فإن قال الغارم: كان عبدا سليما ولكن غاب قبل أن أعتق نصيبي منه ففي تصديقه قولان.
ولو لم يسلم الغارم السلامة الخلقية، بل قال: خلق أكمه أو بفرد عين، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الغارم يصدق إلى أن قال: وإذا لم يسلم الغارم السلامة، فهذا يخرج عن قبيل تقابل الأصلين، وإن تكلف متكلف وقال: الأصل في الناس السلامة كان مستبعدا. انتهى.
وما ذكره من تعارض الأصل يجري في تعارض الأصل والظاهر.
والحاصل أن التعارض -يكون- بحيث يدقق النظر، لا كأصل بعيد من أصل قريب، ولا مع ظاهر قوي، ثم لا ينبغي أن يكونا على حد سواء وإلا لفقد الترجيح بل يكون التعارض بحيث يتخيل الناظر في ابتداء نظرة تساويهما ثم دقق نظره وحقق فكره رجح.
وإذا حقق هذا. ظهر الجواب عن كل موضع لا يجري الخلاف فيه.
ولنعد ما يحضرنا من تقابل الأصلين. وذلك في مسائل:
منها: إذا شك في وقت خروج الجمعة، فالأصح يتم جمعه أخذا بالأصل القريب وهو بقاء الوقف، دون البعيد، وهو الظهر.
وبهذا يظهر الجواب من عدها مم يرفع فيه الشك1.
ومنها: إذا أصدقها تعليم بعض القرآن، ووجدناها تحسنه فقال: أنا علمتها وأنكرت، فقولان؛ لأن الأصل بقاء الصداق وبراءة ذمته2.
ومنها: إذا شككنا فيما أصاب من دم البراغيث، أقليل هو أم كثير؟ فللإمام احتمالان؛ لأن الأصل اجتناب النجاسة والأصل في هذه النجاسة العفو3.
واحتمالا الإمام هذان يشبهان احتماليه فيما إذا وقعت نجاسة في الماء وشك أكثير هو أم قليل، هل ينجس؟
1 المنثور 1/ 330.
2 والأصح تصديقها.
3 وقد رجح في أصل الروضة أن له حكم القليل.
والذي جزم به صاحب الحاوي وآخرون أنه ينحبس، ولتحقق النجاسة والأصل عدم الكثرة. ورجح النووي أنه طاهر1؛ لأن الأصل الطهارة، وقد شككنا في نجاسة منجسه.
قال: ولا يلزم من النجاسة التنجيس.
ورجح الشيخ زين الدين الكيناني مقالة صاحب الحاوي. ورد على النووي. ورجح الشيخ الإمام رحمه الله تعالى مقالة النووي ورد على ابن الكيناني. وخرج ابن أبي الصيف اليمني على هذه المسألة فرعا. وهو قلتان متغيرتان بنجاسة غاب عنهما ثم عاد، ولا تغير. وشك في بقاء الكثرة فقال: إن قلنا بالطهارة فيما إذا شك في بلوغ الماء –الذي وقعت فيه النجاسة- قلتين، فهنا أولى، وإلا فوجهان؛ لأن الأصل بقاء الكثرة.
ونازعه الفقيه الحافظ محب الدين الطبري في شرح التنبيه فقال: لا وجه للبناء. ولا للخلاف؛ لأن تلك تعارض فيها أصلان فنشأ قولان وهنا الأصل بقاء الكثرة بلا معارض2.
ومنها: لو أدرك الإمام راكعا فكبر وانحنى، وشك، وهل بلغ الحد المعتبر قبل ارتفاع الإمام عنه: فالأصح لا يكون مدركا للركعة؛ لأن الأصل عدم الإدراك.
والثاني: يكون مدركا؛ لأن الأصل عدم الرفع3.
ومنها: أذن المرتهن في البيع ثم ادعى الرجوع قبل البيع فالأصل أنه بيع، ولا رجوع قبله فتعارضا4.
ومنها: لو تنحنح إمامه فبان منه حرفان، فأحد الوجهين لا يتابعه؛ لأن الأصل سلامته وصدور أفعاله عن اختياره فتبطل صلاته؛ لكونه عامدا، وأصحهما يتابعه؛ لأن الأصل بقاء العبادة والظاهر احترازه عن مبطلات الصلاة فيحمل على أنه كان مغلوبا.
ومنها: شك في أنها أرضعته الخمس في حولين أو بعضهما فيما دون بعض
1 شرح المهذب 1/ 220.
2 الأشباه والنظائر للسيوطي ص76.
3 المصدر السابق والمنثور 1/ 331.
4 المصدران السابقان.
فالأصح لا يثبت التحريم، استصحابًا لأصل الحال دون أصل بقاء الحولين1.
ومنها: لو باعه عصيرا وأقبضه. ووجد خمرا فقال البائع: تخمر في يدك. وقال المشتري: بل تسلمته خمرا. فالأصل عدم التخمير وعدم القبض الصحيح وأظهر القولين عند النووي تصديق البائع2.
ومنها: [إذا] 3 ادعى أحد الزوجين التفويض. والآخر التسمية ولم نوجب المهر في التفويض بالعقد. فالأصل عدم التسمية وعدم القبض فتعارض أصلان.
ومنها: ادعى الغاصب بالمغصوب عيبا حادثا لا خلقيا، ككونه أقطع فأظهر القولين تصديق المالك؛ لأن الأصل عدم حدوث العيب، والثاني الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته فما زاد من الغرامة.
ومنها: إذا قال: كان له عليّ كذاء فالأصل الاستمرار والأصل براءة الذمة، وفي جعله [بذلك مقرا] 4 خلاف مشهور.
ومنها: إذا اطلعنا على كافر في دارنا. [فقال] 5: دخلت بأمان مسلم ففي مطالبته بالبينة وجهان؛ لأن الأصل عدم الأمان، ويعضده أن الغالب على من يستأمن الاستئناس بالإشهاد.
ويعارضه أن الأصل عدم حقن الدماء ويعضده أن الظاهر أن الحربي لا يقدم على هذا إلا بأمان.
وهذان أصلان متقاومان لاعتضاد كل منهما بظاهر.
ومنها: لو شهد عليه شاهدان بكلمة الكفر. فقال: إنما قلتها مكرها فليجدد الإسلام، فإن قتله مبادر قبل التجديد، ففي الضَّمَان وجهان، قال الغزالي: في الوسيط: مأخوذان من تقابل الأصلين: الإكراه وبراءة الذمة.
1 الأشباه والنظائر ص70.
2 ترجيحا لأصل استمرار البيع، ويجري القولان فيما لو كان رهنا مشروطا في بيع
…
قاله السيوطي
…
3 سقط من ب.
4 سقط من ب.
5 سقط من ب.
ومنها: طار طائر. فقال: إن لم أصد هذا الطائر اليوم فأنت طالق ثم اصطاد ذلك اليوم طائرا، وجهل هل هو ذلك أو غيره، ففي وقوع الطلاق تردد حكاه الرافعي في فروع الطلاق لتعارض أصلين: بقاء النكاح، وعدم اصيطاده.
ومنها: إذا ضربها الزوج وادعى نشوزها. وادعت هي أن الضرب ظلم.
قال ابن الرفعة: لم أر فيها نقلا والذي يقوى في ظني أن القول قوله؛ لأن الشارع جعله وليا في ذلك.
قلت: تعارض هنا أصلان: عدم ظلمه وعدم نشوزها.
فصل:
وإنما قيدنا جريان القولين بالغلبة في قولنا: إذا تعارض أصلان جرى غالبا قولان؛ لأنه قد يكون الخلاف وجهين، وقد يعتضد أحد الأصلين بظاهر أو أصل آخر يرجحه ويدرأ عنه الخلاف.
وزعم بعضهم أن الخلاف إنما يأتي عند تجرد الأصلين عن مرجح لأحدهما على الآخر، أما إذا ترجح أحدهما جزم به.
وهذا غير مطرد، بل قد يجزم به وقد لا يجزم به، وسنيبين ذلك القول في أصلين يعتضد أحدهما بظاهر ثم يجري الخلاف مع ذلك وذلك في مسائل:
منها: إذا قذف مجهولا وقال: هو عبد. وقال المقذوف: أنا حر فقولان في قبول قول القاذف. وقد تعارض أصل الحرية المعتضد بظاهر الدار مع أصل براءة الذمة.
ومنها: إذا قطع طرفه ثم ادعى نقصه بشلل أو غيره فالمذهب تصديق المجني عليه في العضو الباطن دون الظاهر عند إمكان أصل السلامة.
ووجه الفرق اعتضاد أحد الأصلين المتعارضين -وهما: السلامة، وبراءة الذمة- بظاهر يرجحه.
وفي قول يصدق المجني عليه، قيل: مطلقا، وقيل: إن ادعى السلامة من الأصل، لا إن ادعى زوال النقص بعد وجوده.
وقيل يصدق الجاني مطلقا.
ومنها: إذا قدم ملفوفا وقال: كان ميتا، وقال الولي: بل حيا فالأظهر تصديق الولي؛ لأن الأصل بقاء الحياة.
والقول الثاني: يصدق الجاني؛ لأن الأصل براءة الذمة.
وفرق أصحابنا بين أن يكون ملفوفا على هيئة التكفين، أو في ثياب الأحياء ليعتضد أحد الأصلين بظاهر.
وقال الإمام: إن هذا لا أصل له.
قلت: وهو رأي أبي الحسن الطيبي -من أصحابنا- كما نقله الرافعي عنه وحكى أيضا -أعني الرافعي- طريقة أخرى عن أبي إسحاق، أنه ينظر إلى الدم السائل، فإن قال أهل الخبرة: هو دم حي صدق الولي، أو دم ميت صدق الجاني.
وهذه الطريقة –مع عزو ذلك الوجه إلى الطيبي- لم يذكر الرافعي في فصل "اختلاف الجاني ومستحق الدم" وهو موضع المسألة، بل قبل كتاب البغاة.
ونقل النووي في زيادة الروضة عن البغوي تفريعا على تصديق الولي:
أن الواجب الدية دون القصاص.
وأن المتولي قال: هو على الخلاف في استحقاق القود بالقسامة.
قلت: والرافعي حكى في القصاص وجهين ذكرهما قبل كتاب الإمامة.
ومنها مقطوع بعض الذكر إذا أجل بسبب العنة ثم ادعى الوطء في المدة، وأنكرت المرأة، فالأصح أن القول قوله؛ لأن الأصل بعد وقوع العقد عدم تسلطها على الفسخ.
ويعارضها أصل عدم الوطء المعتضد بالظاهر وهو أن النقصان الذي لحقه يورث ضعف الذكر.
"القول في أصلين تعارضا وجزم بأحدهما":
وذلك في مسائل:
منها: سليم الذكر والأنثيين إذا أجل لأجل العنة ثم ادعى الوطء في المدة وأنكرت المرأة يقبل قوله، مع معارضة الأصل عدم الوطء؛ وما ذاك إلا لأن الأصل
بعد وقوع العقد عدم تسلطها على الفسخ، مع اعتضاد هذا الأصل بظاهر أن سليم الذكر والأنثيين لا يكون عنينا في الغالب.
ومنها: قالت: سألتك الطلاق بعوض فطلقني عليه متصلا فأنا منك بائن، وقال: بل بعد طول الفصل ولم تقبلي فلم تحصل بينونة فلي الرجعة فالمصدق الزوج.
قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله: ولم يخرجوه على تقابل الأصلين.
فصل:
ومما يثبت أيضا تعارض الأصلين تعارض الظاهرين وذلك في مسائل: منها اختلاف الزوجين فيما في البيت، فإنه بينهما، لا فرق بين الصالح لهما أو لأحدهما اعتمادا على اليد.
وذهب مالك -رحمه لله- إلى القضاء لكل واحد بما يصلح له فلا يكون السلاح للمرأة ولا الإزار للرجل.
قال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: وهو مذهب ظاهر متجه.
ومنها: أقرت بالنكاح، وصدقها المقر له بالزوجية.
فالجديد: قبول الإقرار؛ لأن الظاهر صدقهما فيما تصادقا عليه لا فرق بين العربيين والبلديين.
والقديم إن كان بلديين طولبا بالبينة لمعارضة هذا الظاهر بظاهر آخر هو أن البلديين يعرف حالهما غالبا ويسهل عليهما إقامة البينة1.
فائدة: اختلف الزوجان في الإصابة فالقول قول النافي2 لاعتضاده بالأصل إلا مواضع عارض فيها ما هو أقوى منه3.
منها: ادعت عنته وادعى إصابتها. صدق بيمينه.
ومنها: طالبته في الإيلاء بالفيئة أو الطلاق فادعى أنه فاء، صدق.
1 الأشباه والنظائر للسيوطي ص79.
2 مع يمينه.
3 انظر المستثنيات في الاعتناء في الفرق والاستثناء، بتحقيقنا في القاعدة الخامسة والعشرين من كتاب النكاح.
ومنها: أتت بولد يمكن كونه منه، وادعت أنه أصابها، وأنكر بعد الاتفاق على الخلوة فأظهر القولين تصديقه، والثاني: إنها المصدقة، وعلى هذا يقع الاستثناء.
ومنها: قال لامرأته الطاهرة: أنت طالق للسنة، ثم اختلفا فقال: جامعتك في هذا الطهر فلم يقع طلاق، وأنكرت، فالقول قوله –على ما ذكر البوشنجي إسماعيل1 أنه مقتضي المذهب.
ومنها: إذا قلنا: خيار الأمة بالعتق يسقط بالوطء فادعى الزوج أنه وطء وأنكرت فمن المصدق؟ فيه وجهان.
ومنها: تزوجها بشرط البكارة، فوجدت ثيبا، وقالت: افتضَّني وقال: بل كنت ثيبا.
قال البغوي: القول قولها بيمينها لدفع الفسخ2، لا لدفع كمال المهر.
ومنها: إذا طلقها ثلاثا فادعت أنها تزوجت بزوج وأنه وطئها وأحلها وكذبها الزوج الثاني، فإنها تصدق لحلها الأول وإن لم تصدق لكمال المهر.
فصل:
جميع ما قدمناه في استصحاب الماضي في الحاضر [وأما عكسه] 3 وهو استصحاب الحاضر في الماضي فهو الاستصحاب المقلوب، ولك أن تعبر عنه برد الأول إلى الثاني، وأن تعبر عن الأول برد الثاني على الأول.
وقد قيل بالاستصحاب المقلوب في مسائل.
1 لأنهما اختلفا في بقاء العدد والأصل بقاؤه ولو ادعت المرأة أن بينها وبين زوجها محرمية وكان التزويج برضاها لم يقبل دعواها والنكاح باقٍ على الصحة؛ لأن إذنها فيه يتضمن صحته إلا أن تدعي الغلط والنسيان فيقبل قولها على المذهب فإن ادعت ذلك وكانت حين التزويج مجبرة فوجهان كما في أصل الروضة 7/ 243 وقال أصحهما. قال ابن الحداد: ونقله الإمام عند معظم الأصحاب القول قولها بيمينها إبطال النكاح من أصله وما تقدم من دعواها المحرمية مخالف لما ادعت المرأة التي زوجها أخوها برضاها أنها حين ذلك كانت صغيرة والقول قولها وبه قال القفال والقاضي حسين والبغوي في فتاويهم كما في الروضة 7/ 246 ولو ادعى الأب محرمية الزوج لم يقبل قوله لعدم موافقة الزوجة؛ لأن النكاح حق لها روضة الطالبين 7/ 247.
2 روضة الطالبين 7/ 180، مغني المحتاج 3/ 26.
3 سقط من أوالمثبت من ب.
منها: مسألة، سمعت الشيخ الإمام الوالد رحمه الله يقول: لم يقل به الأصحاب في سواها، وهي ما إذا اشترى شيئا فادعاه مدَّعٍ أو انتزعه منه بحجة مطلقة، حيث أطبقوا إلى ثبوت الرجوع له على البائع، بل لو باع المشتري أو وهب، وانتزع المال من المتهب أو المشتري منه، كان للمشتري الأول الرجوع أيضا.
وهذا استصحاب الحال في الماضي، فإن البينة لا تنشئ الملك ولكن تظهره، والملك سابق على إقامتها، لا بد من تقرير زمان لطيف له ويحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي. ولكنهم استصحبوا مقلوبا. وهو عدم الانتقال منه فيما مضى.
ومنها على وجه ضعيف: إذا وجدنا ركازا ولم ندر هل هو جاهلي أو إسلامي أنه يحكم بأنه جاهلي.
ومنها: إذا اختلف الغاصب والمالك في عيب حادث فقال الغاصب: حدث قبل الغصب، وقال المالك: بل عند الغصب فالصحيح أن القول قول المالك وهذا إذا كان تالفا فإن كان باقيا –وهو أعور مثلا- وقال الغاصب: هكذا غصبته قال الشيخ أبو حامد: فالظاهر أن القول قول الغاصب، وسكت عليه الشيخ الإمام وهذا استصحاب مقلوب1، ونظيره: لو قال المالك: طعامي المغصوب كان جديدا وقال الغاصب: عتيقا، فالمصدق الغاصب2.
تنبيه: فبتمام الكلام على هذا الفصل نجز الكلام على قاعدة الاستصحاب. المعبر عنها بأن اليقين لا يرفع بالشك.
ومن أول الكلام إلى هذا الفصل الأخير مخصوص برد الآخر إلى الأول. وهذا الفصل مخصوص برد الأول إلى الآخر.
ولو بسطنا القول في هذه القاعدة لاحتمل سِفرًا كاملا، وفيما أوردناه كفاية.
1 المصدر السابق.
2 بيمينه فإن نكل حلف المالك ثم له أخذ العتيق؛ لأنه دون حقه روضة الطالبين 5/ 29، وانظر الأشباه والنظائر للسيوطي / 84.