الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وبعد:
فقد عرف أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي المتوفي سنة 368 هـ، بإنه إمام في النحو؛ وعلوم أخرى؛ كاللغة، والشعر، والعروض، والقوافي، والقرآن، والفرائض والحديث، والكلام، والحساب، والهندسة، ولكن شهرته بالنحو كانت أكثر، فقد كان قرين أبى على الفارسي، ونظيره في النحو والصرف.
غير أن لأبي سعيد السيرافي كتاباً في صنعة البلاغة والشعر؛ ولكنه لم يصل إلينا؛ ولم ندر ما فيه؛ كما أن مناظرة قد جرت بينه، وبين متى بن يونس القنائى المنطقي في المفاضلة بين النحو والمنطق؛ ونقلها تلميذه أبو حيان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة" و " المقابسات" كما نقلها ياقوت في " معجم الأدباء"؛ وفيها ظهرت بذور نظريتي " النظم" و " البيان" اللتين أدار عليهما الإمام عبد القاهر الجرجانى كتابه:" دلائل الإعجاز" ومن النظريتين تفرعت مسائل البلاغة العربية، وتنوعت إلى علومها الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع، ودارت حولها مباحث البلاغيين؛ من شروح وتعليقات، ومتون وتلخيصات إلى يومنا هذا.
ومن هنا يكون أبو سعيد السيرافي إماماً في البلاغة بلا جدال.
وإذا كان الوزير: أبو الفتح، الفضل بن جعفر بن الفرات، الذي جرت المناظرة بمجلسه قد قال لأبى سعيد السيرافي بعد الانتهاء من مناظرته
" ولقد حكت طرازاً، لا يبليه الزمان، ولا يتطرق إليه الحدثان" فإن هذا الطراز الذي قصده، إنما هو نظرية النظم التي تفرعت عنها علوم البلاغة فيما بعد.
ومع هذا فإنك تجد البلاغيين والنقاد في العصر الحديث يكادون يجمعون على أن عبد القاهر هو صاحب نظرية النظم؛ وإن كان منهم من حاول الخروج على هذا الإجماع، بأن عبد القاهر قد استقاها من القاضي عبد الجبار الأسد أبادى قاضى قضاه الدولة البوبهية والمتوفي سنة 415 هـ، ومنهم من صرح بأن أبا سعيد قد سبق عبد القاهر إلى تلك النظرية؛ دون أن يدخل في تفاصيل هذا الأمر.
ولما قرأت مناظرة أبى سعيد، وأمعنت النظر فيها، وفى دلائل الإعجاز، وقارنت ما جاء في " المناظرة" بما جاء في " الدلائل" تبين لي ما هو أكثر من ذلك بكثير؛ وهو: أن رد أبى سعيد السيرافي على متى بن يونس - في المناظرة التي جرت بينهما -كان هو الأساس الذي بنى عليه عبد القاهرة الجرجانى كتابه: " دلائل الإعجاز؛ بل إن ما قاله أبو سعيد السيرافي - في تلك المناظرة - يعد " متناً" وضعه عبد القاهر أمامه، وجعل كتابه شرحاً لهذا " المتن"؛ والدليل على ذلك ما يلي:
أولاً: أن الأفكار التي وردت في " الدلائل" هي نفس الأفكار التي وردت في المناظرة.
ثانياً: ان تلك الأفكار قد جاءت في " الدلائل" مرتبة على حسب ترتيبها في المناظرة.
ثالثاُ: أن عبد القاهر - في الدلائل - لم يكد يأتي بأفكار جديدة لم تكن في المناظرة. وإنما قام الكتاب كله على نظرية " النظم" وشرحها؛ وإقامة الدليل على صحتها بما قرأه في كتب النقاد السابقين؛ كالوساطة للقاضي على بن عبد العزيز الجرجاني، والصناعتين؛ لأبى هلال العسكري، ونقد الشعر؛ لأبى الفرج قدامة بن جعفر.
رابعاً: أن طريقة الكتاب هي طريقة المناظرة؛ وليست طريقة كتاب تعد أفكاره، وتنظم، كالذي نجده في أسرار البلاغة؛ ولهذا فإنه يكثر من قوله:(فإن قلتم: كذا)(قلنا: كذا).
وهذا هو السر في أنه يقول في أوائل "الدلائل"، " وليس يتأتى لي أن أعلمك من أول الأمر - في ذلك - آخره، وان أسمى لك الفصول التي في نيتي ان احررها بمشيئة الله عز وجل حتى تكون على علم بها قبل موردها عليك، فاعمل على ان ههنا فصولا، يجئ بعضها في إثر بعض (1).
ومن الغريب حقاً: أن لا يذكر الإمام عبد القاهر مصدر فكرته - في الدلائل -، وهو: مناظرة أبى سعيد السيرافي بل إنه لم يجر ذكرا لأبى سعيد السيرافي، في الدلائل الإعجاز!
هذا: في الوقت الذي يذكر فيه أبا على الفارسي - وقد كان قرين أبى سعيد السيرافي ونظيره في النحو والصرف - ثلاث مرات في دلائل الإعجاز، وهي: قوله: " ومن ذلك ما أنشده الشيخ أبو على في الإغفال"(2) وقوله: " قال الشيخ أبو على في " الشيرازيات" (3)، وقوله: " أنشد الشيخ أبو على في التذكرة" (4).
فهو - كما ترى لا يكتفى بذكر " الشيخ أبى على " بل إنه يحدد الكتاب الذي أخذ منه، كالإغفال، والشيرازيات والتذكرة!
والأغرب من هذا: أن عبد القاهر قد رفض رأياً لأبى سعيد السيرافي - وهو يؤلف الدلائل - ولم يشر إليه إمعانا منه في إخفاء ذكره! ، وذلك عند شرح سيبوبه لقول الخنساء:
ترعى إذا نسيت حتى إذا ادكرت
…
فإنما هي إقبال وإدبار
فجعل الإقبال والإدبار مجازاً على سعة الكلام، كقولك: نهارك صائم، وليلك قائم حيث يقول أبو سعيد السيرافي: في شرحه للكتاب: " يقدرون مثل هذا على تقديرين:
أحدهما: أن يقدروا مضافاً إلى المصدر ويحذفونه كما يحذفون في "واسال القرية".
والوجه الثاني: أن يكون المصدر في موضع اسم الفاعل؛ وكان الزجاج يأبى إلا الوجه الأول؛ ومما يقوى الثاني: أنك تقول: رجل ضخم وعبل؛ فتجعلهما في موضع اسم الفاعل، وليسا بمصدرين لضخم، وعبل" وعلى كلام أبى سعيد السيرافي: فالمجاز: مجاز حذف، أو مجاز مرسل علاقته التعلق بالاشتقاق (1).
ولكن عبد القاهر يرفض الوجهين كليهما؛ وينظم البيت في سلك ما أسماه بالمجاز الحكمي؛ قائلاً: إن الخنساء لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما؛ فتكون قد تجوزت في نفس الكلمة؛ وإنما تجوزت في أن جعلتها؛ لكثرة ما تقبل وتدبر، ولغلبة ذاك عليها، واتصاله بها، وأنه لم يكن لها حال غيرهما؛ كأنهما قد تجسمت من الإقبال والإدبار؛ وإنما يكون المجاز في نفس الكلمة لو أنها قد استعارت الإقبال، والإدبار لمعنى غير معناهما الذي وضعا له في اللغة؛ ومعلوم: أن ليست الاستعارة مما أرادته في شيء ثم يقول: " وأعلم أن ليس بالوجه: أن يعد هذا - على الإطلاق - معد ما حذف منه المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه؛ مثل؛ قول الله عز وجل: " وإن كنا نراهم يذكرونه حيث يذكرون المضاف المحذوف من نحو الآية .. في سبيل ما يحذف من اللفظ
ويراد في المعنى؛ وليس الأمر كذلك في بيت الخنساء؛ لأنا إذا جعلنا المعنى فيه كالمعنى إذا نحن قلنا: فإنما هي ذات إقبال وإدبار؛ أفسدنا الشعر على أنفسنا، وخرجنا إلى شيء مغسول وإلى كلام عاهى مرذول .. ".
فالوجه: أن يكون تقدير المضاف في هذا: على أنه لو كان الكلام قد جيء به على ظاهره، ولم يقصد به إلى الذي ذكرنا من المبالغة والاتساع، وان تجعل الناقة كأنها صارت بجملتها إقبالاً وإدباراً حتى كأنها قد تجسمت منهما. لكل حقه حينئذ أن يجاه فيه بلفظ الذات؛ فيقال، إنما هي ذات إقبال وإدبار؛ فأما أن يكون الشعر الآن موضوعاً على إرادة ذلك، وعلى تنزيله منزلة المنطوق به؛ فما لا مساغ له عند من كان صحيح المعرفة؛ نسابة للمعاني" (1)
فما الذي جعل عبد القاهر الجرجاني يذكر أبا على الفارسي في الدلائل - ثلاث مرات؛ بل ويذكر كتبه التي تقل منها؛ وهي: " الإغفال" و " الشيرازيات" و " التذكرة" ولا يذكر أبا سعيد السيرافي؛ مع أن الفكرة التي قامت عليها" الدلائل" نابعة من مناظرته؟ !
ربما كان ذلك راجعاً إلى ما يلي:
أولا: أن عبد القاهر قد أراد أن تسلم له نظرية النظم؛ فتذكر له، ويذكر بها، فلا تنسب إلى أبى سعيد السيرافي؛ ولا يذكر بها وقد كان لعبد القاهر ما أراد؛ فما من بلاغي، أو ناقد أدبي يذكر التظلم إلا ويذكر عبد القاهر أو يذكر عبد القاهر إلا ويذكر النظم!
ثانياً: أن عبد القاهر نفسه قد شرح كتاب "الإيضاح" في النحو؛ لأبى على الفارسي، في ثلاثين جزءاً؛ ثم اختصره في ثلاثة مجلدات؛ وأسماه:" المقتصد".
ثالثاً: أنه كان بين أبى سعيد السيرافي، وبين أبى على الفارسي ما بين
العلماء من تنافس وتحاسد؛ وقد كان عبد القاهر من تابعي مدرسة أبى على الفارسي في النحو، إذ يذكر أبو حيان التوحيدي أن أبا على الفارسي قد اشتري شرح أبى سعيد السيرافي، في الأهواز عند توجيه إلى بغداد .. وأن هذا حديث شهور؛ وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به؛ إلا من زعم أنه أراد النقض عليه، وإظهار الخطأ فيه (1)؛ كما انه يذكر - أيضاً - أن أبا على الفارسي كان غائباً عن المجلس الذي جرت فيه المناظرة بين أبى سعيد السيرافي ومتى بن يونس، فلما حدث بما كان، أصبح يكتم الحسد لأبى سعيد؛ على ما فاز به؛ من هذا الحديث المشهور، والثناء المذكور - على حد تعبيره (2).
ولهذا: فإنني قد رأيت أنه من الإنصاف للحقيقة أن أكتب هذه الصفحات؛ مرجعاً الفضل إلى أهله، ومبيناً المنابع الحقيقة التي استقى منها عبد القاهر الجرجانى أفكار كتابه:" دلائل الإعجاز" بعد ان ظلت تلك المنابع قروناً عديدة في زوايا الإهمال، وخبايا النسيان! ؛ واجباً من الله تعالى أن يوفقني فيما إليه قصدت من المشاركة في الحفاظ على تراث اللغة العربية الفصحى؛ لغة القرآن الكريم، وما توفيقي إلا بالله؛ عليه توكلت وإليه أنيب؟ .
أ. د. حسن إسماعيل عبد الرازق
رئيس قسم البلاغة بكلية اللغة العربية بالزقازيق