الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حيث جعل للشمال يداً، وهذا الضرب هو ما سمي عند المتأخرين باسم الاستعارة المكنية.
وأما التمثيل
- وهو الذي يكون مجازاً نجيئك به على حد الاستعارة - فمثاله قولك للرجل يتردد في الشيء بين فعله وتركه: (أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى) والأصل في هذا: أراك في ترددك كمن يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ثم اختصر الكلام وجعل كأنه يقدم الرجل ويؤخرها على الحقيقة، كما كان الأصل في قوله:(رأيت أسداً)(رأيت رجلاً كالأسد) ثم جعل كأنه الأسد على الحقيقة.
وكذلك تقول للزجل يعمل غير معمل: (أراك تنفخ في غير فحم) و (تخط على الماء) فتجد ظاهر الأمر، كأنه ينفخ ويخط، والمعنى على أنك في فعلك كمن يفعل ذلك.
ونقول للرجل - يعمل الحيلة حتى بميل صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه، ويمتنع منه - (ما زال يفتل في الذروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد) فتجعله بظاهر اللفظ، كأنه كان منه فتل في ذروة وغارب، والمعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقاً يشبه حاله فيه حال الرجل يجئ إلى البعير الصعب، فيحكه ويفتل الشعر في ذروته وغاربه حتى يسكن ويستأنس.
ونظير ذلك قولهم: (فلان يقرد فلاناً) يعني: أنه يتلطف له فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذه ذلك فيسكن ويثبت في مكانه حتى يتمكن من أخذه.
وهكذا: كل كلام رأيتهم نحواً فيه التمثيل، ثم لم يفصحوا بذلك وأخرجوا اللفظ مخرجه إذا لم يريدوا تمثيلاً (1).
(1) الدلائل 46، 47.
وهكذا تجد أن عبد القاهر قد أفاد من أبي سعيد السيرافي، فأبو سعيد في عبارته الموجزة جداً، أشار إلى المقدمات التي قدم بها عبد القاهر لعملية النظم، وتلك الإشارة هي قوله: كن نحوياً، لغوياً، فصيحاً، أي جارياً في أسلوبك على قواعد النحو ومقتضيات الإعراب، مختاراً لألفاظك مما تداوله الأدباء والشعراء بحيث تكون خالصة مما يستثقل على اللسان، وما يستكره في السمع، واضعاً لها في مواضعها المناسبة لها، بحيث تدل على الغرض المقصود منها أوضح دلالة.
وقول أبي سعيد السيرافي: (افهم عن نفسك ما تقول) يعني أن تدير الكلام في نفسك أولاً، بحيث تفهم ما تقول وتطئن إلى صحته وحسنه، وقوله:(ثم رم أن يفهم عنك غيرك) أن تجري الألفاظ مرتبة على حسب ترتيب معانيها في نفسك فيفهم عنك غيرك ما تقول.
وتلك هي عملية النظم التي قدم لها عبد القاهر بمقدماته الخمس.
وقد ستنتج عبد القاهر - أيضاً - من عبارته السابقة الموجزة: (فأما إذا حاولت فرش المعنى، وبسط المراد، فأجل اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة) فصلاً في دلائل الإعجاز، جاء يعقب مقدماته التي قدم بها للنظم، كما جاءت - أيضاً - في مناظرة أبي سعيد بعقب مقدماته التي أشار إليها في عبارته الموجزة السالفة الذكر، هذا الفصل قد هيأ له عبد القاهر تهيئة عظمت من شأنه، وفخمت من أمره، وهو (فصل في اللفظ يطلق والمراد به غير ظاهره) وهو ما قصده أبو سعيد السيرافي بقوله بعد أن قال:"هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به": (فأما إذا حاولت فرش المعنى، وبسط المراد) فأجل اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة)، وقد أسلفناك ما قاله عبد القاهر، منتفعاً بما قاله أبو سعيد السيرافي وقدامة بن جعفر، وقد كان قدامة بن جعفر.
حاضراً مجلس ابن الفرات مستمعاً للمناظرة التي كانت بين متى بن يونس، وأبي سعيد السيرافي سنة 326 هـ.
وقد كنت منذ ما يقرب من عشر سنوات - وأنا أكتب (نظرية البيان بين عبد القاهر والمتأخرين) - معتقداً أن الذي ألهم عبد القاهر هذا الفصل، ومن ثم نظريته في البيان هو قدامة بن جعفر في نقد الشعر، وجواهر الألفاظ، وقلت: إن قدامة جعل التمثيل بعقب الأرداف (أي الكناية) لأن إطاراً واحداً يضمهما، وهو: أن طريق الدلالة فيهما واحد أي تكون من طريق (معنى المعنى) - على حد تعبير عبد القاهر وأن عبد القاهر قد أضاف إليهما الاستعارة، لأنها قمة المجاز.
والآن: وبعد أن تتبعت مناظرة أبي سعيد، كلمة كلمة، وجملة جملة، وعبارة عبارة لكي أتبين الصلة بين نظريتي النظم والبيان - في الدلائل - وبين تلك المناظرة، وجدت الحلقة المفقودة التي بها تبينت صور البيان التي تمثلها عبد القاهر لنظريته، وهذه الحلقة تتمثل في فهم عبارة أبي سعيد عن (معنى المعنى) أو عن المجاز والكناية، وتلك العبارة هي:(أجل اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة).
فقد أجال عبد القاهر تلك العبارة في ذهنه، ووجدانها تنطبق على ما أسماه: اللفظ يطلق والمراد غير ظاهره، وأن هذا يدور في الأمر الأعم على شيئين: الكناية (أن الإرداف) والمجاز، وأن المجاز يشمل الاستعارة، والتمثيل - إذا جاء على حد الاستعارة -.
وبهذا انحصرت صور البيان - في الدلائل - في ثلاث صور هي: الكناية (أي الإرداف) والاستعارة، والتمثيل.
فالكناية - في مناظرة أبي سعيد السيرافي - هي ما عبر عنه باسم: