الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أ) دلائل الإعجاز شرح لمناظرة السيرافي
ويمكننا أن نصوغ رد أبي سعيد السيرافي على متى بن يونس، في عبارات مترابطة على النحو التالي:
إذا كنتم محتاجون إلى معرفة صحيح الكلام من سقيمه، فإنه يعرف بالنظم والإعراب؛ لأن الإعراب كالميزان؛ يعرف به الرجحان من النقصان، والشائل من الجانح.
فأنتم محتاجون للغة العربية من أجل الترجمة؛ واللغة العربية مكونة من الإسم، والفعل، والحرف فأنتم محتاجون - أيضاً - إلى رصفها، وبنائها؛ على الترتيب الواقع في غرائز أهلها؛ وحينئذ ستجدون من ذلك الرصف وهذا البناء، معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطأ من ذلك.
والنظم كالنسج، ففيه تخير، وإعمال فكر؛ إذ الكلام كالثوب، والنظم كالنسج، والمعاني كالسدى، والألفاظ كاللحمة، ورقة اللفظ كرقة الخيوط، وغلظة ككثافة غزله، وبلاغته كقصارته بمعنى تبييضه وتزيينه، ونقشه.
فمعنى قول القائل: كن نحوياً، لغوياً، فصيحاً: أفهم عن نفسك ما تقول؛ ثم رم أن يفهم عنك غيرك، وقدر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه، وقدر المعنى على اللفظ، فلا ينقص عنه، إذا كنت تريد الحقيقة، أما إذا أردت مجازاً، أو كناية، فأجل اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة، وبين المعاني بالبلاغة، أي لوح منها لشيء حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها، والشوق إليها، لأن المعنى إذا ظفر به على هذا الوجه عز وجلا، وكرم وغلا.
فهذا المذهب باختصار هو (حقائق الأشباه، وأشباه الحقائق).
وهكذا: فإنك بالنحو ستصل إلى المعاني التي لا تستطيع الوصول إليها بعلم المنطق، فالمنطق لم يفصل بين مختلفين، ولم يرفع الخلاف بين اثنين فهل قوة المنطق هي التي جعلتك تعتقد أن الله ثالث ثلاثة؟ وأن ما تقولونه صحيح؟ هيهات!
كما أنه يمكننا - أيضاً -: أن نصوغ رد عبد القاهر على المعتزلة على النحو التالي:
إن زهدكم في علم النحو، وإصغاركم أمره، واحتقاركم له، أشبه أن يكون صداً عن كتاب الله تعالى، لأن الألفاظ مغلقة على معانيها، والإعراب هو الذي يفتحها، فهو المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه، والمقياس الذي لا يعرف صحيح كلام من سقيمه حتى يعرض عليه، فسلامة النظم تبينها سلامة الإعراب، وعميلة النظم تتم على أساس النظر في الكلم، التي تتكون من الأسماء، والأفعال، والحروف، وانتقائها، ثم ترتيبها في النطق على حسب ترتيبها في النفس.
فإذا كنت قد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم، وتفخيم أمره، والتنويه به، فاعلم أن النظم ليس إلا أن تضع كلامك الموضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه، وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها.
وباختصار شديد: النظم هو: (توخي معاني النحو فيما بين الكلم) وليست معاني النحو واجبة لها في ذاتها، وإنما بحسب الأغراض التي يساق لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، كالأصباغ التي تعمل منها
الصور والنقوش في الثواب بالتخير والتدبر فيها وفي مواقعها، ومقاديرها وكيفية مزجها.
وهذا الكلام المنظوم على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض، ومداد هذا الأمر على: الكناية، والاستعارة، والتمثيل.
وههنا عبارة مختصرة، وهيي أن تقول:(المعنى، ومعنى المعنى).
وإذا كانوا قد شبهوا النظم بالنسج فإن ذلك التشبيه إنما هو بحسب الظاهر، وإلا فإنك قد تتأول في العبارة معنى يصح معه التقدير الإعرابي دون أن يتغير النظم، ولكنك إذا أردت قصداً آخر على قصدك الأول من النسج فإنه لا بد من أن تفك خيوطه، وتنسجه من جديد.
ولهذا فإن المفسر لكلام الله تعالى، قد تزل قدمه إذا لم يكن على علم بقواعد النحو، لأن من الآيات ما يحتمل أكثر من تأويل، كما في الآية الكريمة:"ولا تقولوا ثلاثة" فقد ذهبوا في رفع (ثلاثة) إلى أنها خبر مبتدأ محذوف، وقالوا: إن التقدير: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، وليس ذلك بمستقيم، لأنه - والعياذ بالله - شبه الإثبات أن ههنا آلهة، على أنه يمكن أن تقدر المعنى هكذا: ولا تقولوا: الله والمسيح وأمه ثلاثة أي لا تعبدهما كما نعبد الله، يبين ذلك قوله تعالى:"لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة".