الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد فرق أبو هلال، بين الفصاحة والبلاغة بما لا يخرج عما قاله ابن سنان -في التفريق بينهما- من بعده من أن الفصاحة وصف للألفاظ، وأن البلاغة وصف للألفاظ مع المعاني.
ثم جعل المعاني على ضربين:
(أ) ضرب يبتدعه صاحب الصناعة، من غير أن يكون له إمام يقتدي به فيه، أو رسوم قائمة، في مثلة مماثلة يعمل عليها.
(ب) والآخر: هو ما يحتذى به على مثال تقدم، ورسم سلف.
ومن هنا وجد ابن سنان ما عرفه باسم الاختذاء، ورد عليه عبد القاهر بأنه لم يفهم معناه؛ وشرح المقصود بالاحتذاء عند العرب في صفحات عديدة من آخر دلائل الإعجاز.
وقد بين أبو هلال، أن توخي الصواب في تلك المعاني -سواء أكانت مبتدعة، أم محتذاة- أحسن من توخي الأمور التي ترجع إلى الألفاظ، وأن تلك المعاني التي يتوخاها الشاعر أو الأديب، إنما هي الصورة المقبولة، والعبارة المستحسنة.
وبهذا يكون أبو هلال قد اقترب كثيراً مما أراده عبد القاهر بعده، من (توخي معاني النحو) التي التقطها من مناظرة أبي سعيد السيرافي!
وليس ببعيد أن يكون أبو هلال قد عثر على (توخي الصواب في المعاني) من مناظرة أبي سعيد قبل عبد القاهر، غير أنه لم يذكر كلمة (النحو)، لأن النحو لم يكن من صناعته كما كان من صناعة عبد القاهر الذي ألف فيه (العوامل المائة) التي أعانته على تطبيق نظرية النظم وهي (توخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يساق لها الكلام).
وربما كان أبو هلال قد أعتقد أن السيرافي إنما أضاف المعاني إلى النحو، لمجرد الرد على متى بن يونس الذي كان يرى أن (النحو) لا جدوى منه، وأن السيرافي كان يقصد المعاني فحسب.
ومما يدلك على أن أبا هلال، قد قرأ مناظرة أبي سعيد السيرافي. أنه أجاب على أسئلة وجهها أبو سعيد، إلى متى بن يونس -في المناظرة الشهيرة بينهما- ولم يجب عليها متى، فتركها أبو سعيد دون إجابة، وهذه الأسئلة هي:
(من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم محال، ومنه ما هو مستقيم قبيح، ومنه ما هو محال كذب، ومنه ما هو خطأ، فسر هذه الجملة (1)).
وقد أجاب أبو هلال على هذه الأسئلة (في الصناعتين) مطبقاً لها على المعاني التي يجب أن يتوخاها الشاعر أو الأديب قائلاً: "والمعاني -بعد ذلك- على وجوه: منها: ما هو مستقيم حسن نحو قولك، (قد رأيت زيداً) ومنها: ما هو مستقيم قبيح، نحو قولك:(قد زيداً رأيت) وإنما قبح لأنك أفسدت النظام بالتقديم والتأخير، ومنها ما هو مستقيم النظم وهو كذب، مثل قولك:(حملت الجبل) و (شربت ماء البحر) ومنها: ما هو محال، كقولك:(سآتيك أمس)، (وأتيتك غداً) وكل محال فاسد، وليس كل فاسد محالاً، ألا ترى أن قولك (قام زَيدٍ) فاسد، وليس محالاً، والمحال: مالا يجوز كونه ألبته، كقولك:(الدنيا في بيضة) وأما قولك: (حملت الجبل) وأشباهه، فكذب، وليس بمحال، إن جاز أن يزيد الله في قدرتك فتحمله.
(1) ستأتي المناظرة كلها في هذا البحث.
ويجوز أن يكون الكلام الواحد كذباً محالاً؛ وهو قولك: رأيت قائماً قاعداً)، (ومررت بيقظان نائم) فتصل كذباً بمحال؛ فصار الذي هو الكذب هو المحال بالجمع بينهما، وإن كان لكل واحد منهما معنى على حدة؛ وذلك لما عقد بعضها ببعض حتى صار كلاماً واحداً.
ومنها: الغلط؛ وهو: أن تقول: (ضربني زيد) وأنت تريد: (ضربت زيداً) فغلطت فإن تعمدت ذلك كان كذباً (1) "
ويبدو أن أبا هلال قد ركز -من عبارة السيرافي- على قوله لمتى ابن يونس: (وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل)، ولهذا فإنه ذكر وجوه الكلام التي ذكرها أبو سعيد في سؤاله لمتى بن يونس: وفهم منها وجوه المعاني التي منها المستقيم الحسن، والمستقيم المحال، والمستقيم القبيح والمحال الكذب، والخطأ؛ وأعرض صفحاً عن صحيح الكلام من سقيمه الذي يعرف بالنظم والإعراب. وعن معاني النحو التي هي منقسمة بين حركات الألفاظ -كما عبر عنها أبو سعيد-
ولهذا فإنه ركز -في نظريته- على توخي صواب المعنى، و (صحة اللفظ) و (المعرفة بوجوه الاستعمال) وأن المطلوب من كل هذا هو:(توخي الصورة المقبولة والعبارة المستحسنة).
على أن قدامة بن جعفر كان حاضراً مجلس الوزير أبي الفتح الفضل ابن الفرات، وسمع مناظرة أبي سعيد. ولا ندرى أكان قد ألف كتابه "نقد الشعر" أم لا؟ وهو الذي يقول فيه "إن المعاني كلها معرضة للشاعر" إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها
(1) الصناعتين 68 وقد استعان أبو هلال على تلك الإجابة بما قرأه في الكتاب لسيبويه 1/ 8.
كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لابد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور فيها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصباغة، وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان من الرفعة والضعة .. أن يتوخي البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة" (1).
والمعاني التي تحدث عنها قدامة هي المعاني الغفل التي تحدث عنها عبد القاهر -في الدلائل- وقال إن سبيلها سبيل أشكال الحلي كالخاتم والشنف والسوار، فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلا ساذجاً، لم يعمل صانعه فيه شيئاً، أكثر من أن يأتي بما يقع عليه اسم الخاتم إن كان خاتماً، والشنف إن كان شنفاً، وأن يكون مصنوعاً بديعاً، قد أغرب صانعه فيه، كذلك سبيل المعاني أن ترى الواحد منها غفلا ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كلهم ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة، وإحداث الصور في المعاني، فيصنع فيه ما يصنع الحاذق حتى يغرب في الصنعة ويدق في العمل، ويبدع في الصياغة
…
" (2).
كما أن عبارة قدامة: (أن يتوخى -الشاعر- البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة) كان أصلاً لعبارة أبي هلال: (توخي صواب المعنى) التي سبقت عبارة عبد القاهر: (توخي معاني النحو).
وهكذا تجد أن الذين بحثوا في إعجاز القرآن قبل عبد القاهر، وأرجعوا دلائل الإعجاز إلى نظمه وهم الأشاعرة ومعهم الجاحظ من المعتزلة- لم يتوصلوا، إلى أسرار لنظم:
فالجاحظ قد رأى أنها في تلاؤم الكلام، حتى كأنه قد سبك سبكاً،
(1) نقد الشعر 14
(2)
الدلائل 324