المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - مناظرة أبي سعيد السيرافيومتى بن يونس حول المنطق والنحو - دلائل الإعجاز بين أبي سعيد السيرافي والجرجاني

[حسن إسماعيل عبد الرازق]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة]

- ‌دليل الكتاب

- ‌التمهيد

- ‌(أ) أبو سعيد السيرافي ومتى بن يونس

- ‌أما أبو سعيد السيرافي:فهو: أبوسعيد، الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي النحوي

- ‌ومن تلاميذه:

- ‌ومن مؤلفات أبى سعيد السيرافي:

- ‌وأما متى بن يونس:فهو: أبو بشر متى بن يونس، أو يونان القنائى، نسبة إلى ديرقنا

- ‌ومن أساتذته:

- ‌(ب) عبد الجبار: وعبد القاهر

- ‌أما عبد الجبار، فهو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار ابن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمذانى الأسد أبادى

- ‌وكان سبب توليه القضاء:

- ‌ومن تلاميذه:

- ‌ومن آثاره:

- ‌وأما عبد القاهر:

- ‌وأما لماذا أسقط الثعالبي ذكر أبيه (عبد الرحمن)

- ‌ومن آثار عبد القاهر

- ‌(جـ) دلائل الإعجازقبل عبد القاهر الجرجاني

- ‌وقد بين -في هذا الكتاب- أن الأشاعرة -وغيرهم- ذكروا من وجوه الإعجاز ثلاثة هي:

- ‌ الذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه:

- ‌ثم جعل المعاني على ضربين:

- ‌أما المعتزلة: - وهم الذين كانوا يرجعون دلائل الإعجاز، إلى جزالته للفظ وحسن المعنى

- ‌القسم الأول:منابع الدلائل في مناظرة أبي سعيد

- ‌1 - الفارق الزمني بين "الأسرار" و "البلاغة

- ‌أولاً: الملابسات التي أحاطت بتأليف الكتابين:

- ‌ثانياً: التاريخ الحقيقي لتأليف كل من الكتابين:

- ‌2 - الدافع إلى تصنيف الدلائل

- ‌3 - مناظرة أبي سعيد السيرافيومتى بن يونس حول المنطق والنحو

- ‌4 - الأفكار التي تضمنتها المناظرة

- ‌وهذه الدعوة تقوم على ما يأتي:

- ‌ويقوم رد أبي سعيد السيرفي على ما يلي:

- ‌القسم الثاني: الأسس التي قامت عليها "الدلائل

- ‌1 - الطائفة التي زهدت في "علم النحو

- ‌ويؤخذ مما سبق ما يلي:

- ‌2 - صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم

- ‌3 - المدخل إلى دلائل الإعجاز

- ‌4 - خطوات عملية النظم

- ‌ عبد القاهر قد تدرج بعملية النظم كما تدرج أبو سعيد السيرافي، وسار بها على هذ النحو:

- ‌أولاً: لا تفاضيل بين كلمة وأخرى في الدلالة على المعنى قبل دخولهما

- ‌ثانياً: ترتيب الألفاظ في النطق على حسب ترتيب المعاني في النفس:

- ‌ثالثاً: لا نظم في الكلم حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض:

- ‌رابعاً: المزية في النظم للمعنى وليست للفظ

- ‌خامساً: ثمرة النظم هي تصوير المعنى "نظرية البيان

- ‌فالروادف الموضحة

- ‌والأشباه المقربة:

- ‌والاستعارة الممتعة:

- ‌فأما الكناية:

- ‌وأما المجاز:

- ‌وأما الاستعارة:

- ‌وأما التمثيل

- ‌سادساً: نظرية النظم

- ‌5 - تشبيه النظم بالنسج

- ‌القسم الثالث: إثبات النظرية لأبي سعيد السيرافي

- ‌(أ) دلائل الإعجاز شرح لمناظرة السيرافي

- ‌(ب) الرد على من يثبت النظرية "لعبد الجبار

- ‌وقد تضمن هذا الرأي أمرين:

- ‌وأما أن عبد الجبار، كان يعلم أن المزية في معاني النحو وأحكامه، وأن ما قاله كان متضمناً لها، وأن ما قاله لم يكن سقطاً منه، فإننا نوره الرد عليه فيما يلي:

- ‌(جـ) حصيلة هذا البحث

- ‌وأما أن عبد الجبار كان يعلم بأن المزية في (معاني النحو) وأحكامه، فإننا رد عليه بما يلي:

- ‌ يمكننا الآن أن نخرج من هذا البحث، بحقائق على درجة كبيرة من الأهمية في تاريخ البحث البلاغي، وهي:

- ‌أولاً: أن مناظرة أبي سعيد السيرافي، كانت أساساً بني عليه البلاغيون نظريتي المعاني والبيان

- ‌ثانياً: أن عبد القاهر - في الدلائل - قد رد على ابن سنان ما رآه - في سر الفصاحة

- ‌ثالثاً: أن مصلحات (النظم) أو (الفصاحة) و (البلاغة) لا تكاد تجد لها أثراً في "أسرار البلاغة" إذا استثنينا عنوان الكتاب

- ‌وأما سر عدم وجود مصطلحي: (الفصاحة) و (البلاغة) - في الأسرار

- ‌المراجع والمصادر

الفصل: ‌3 - مناظرة أبي سعيد السيرافيومتى بن يونس حول المنطق والنحو

‌3 - مناظرة أبي سعيد السيرافي

ومتى بن يونس حول المنطق والنحو

قال أبو حيان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة":

لما أنعقد المجلس سنة ست وعشرين وثلاثمائة؛ قال الوزير ابن الفرات للجماعة -وفيهم الخالدي، وابن الأخشاد، والكتبي، وابن أبي بشر، وابن رباح، وابن كعب، وأبو عمر وقدامة بن جعفر، والزهري، وعلي بن عيسى الجراح، وابن فراس، وابن رشيد، وابن عبد العزيز الهاشمي، وابن يحيى العلوي، ورسول ابن طفج من مصر، والمرزباني صاحب آل سلمان-: ألا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق، وملكناه من القيام به، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده؛ فاطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه؟ ! .

فأحجم القوم، وأطرقوا؛ قال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه، ومناظرته، وكسر ما يذهب إليه! ، وإني لاعدكم في العلم بحاراً، والمدين وأهله أنصاراً، والحق وطلابه مناراً "فما هذا لترامز والتنامز اللذان تجلون عنهما؟ فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه، فقال: أعذر أيها الوزير، فإن العلم المصون في الصدر غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة، والعيون المحدقة والعقول الحادة، والألباب الناقدة، لأن هذا يستصحبه الهيبة، والهيبة مكسرة ويجتلب الحياء، والحياء مغلبة، وليس البراز في معركة خاصة كالمصاع في بقعة عامة فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الأنصار لنفسك، والانتصار في نفسك راجع إلى الجماعة بفضلك.

ص: 72

فقال أبو سعيد، مخالفة الوزير فيما رسمه هجنة، والاحتجاز عن رأيه إخلاد إلى التقصير، ونعوذ بالله من زلة القدم، وإياه نسأل حسن المعونة في الحرب والسلم، ثم واجه متى، فقال:

حدثني عن المنطق ما تعني به؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلا منا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سنن مرضى وطريقة معروفة.

قال متى: أعني به: أنه آله من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سيقمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجمان من النقصان، والشائل من الجانح.

فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف، والإعراب المعروف -إذا كنا نتكلم بالعربية- وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل، -إذا كنا نبحث بالعقل، وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن، فمن لك بمعرفة الموزون، أيما هو؟ حديد، أو ذهب، أو شبه، أو رصاص؟ فأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون، وإلى معرفة قيمته، وسائر صفاته التي يطول عدها، فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك وفي تحقيقه كان اجتهادك إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه فأنت كما قال الأول:

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

وبعد: فقد ذهب عنك شيء هاهنا: ليس كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن، وفيها ما يكال وفيها ما يذرع، وفيها ما يمسح، وفيها ما يحزر، وهذا -وإن كان في الأجسام المرئية- فإنه على ذلك - أيضاً - في المعقولات المقررة. والإحساسات ظلال العقول

ص: 73

تحكيها بالتقريب والتبعيد، مع الشبه المحفوظ، والمماثلة الظاهرة.

ودع هذا: إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها، واصطلاحهم عليها، وما يتعارفون هبها من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم الترك، والهند، والفرس، والعرب، أن ينظروا فيه، ويتخذوه قاضياً وحكما لهم وعليهم، ما شهد لهم به قبلوه، وما أنكره رفضوه؟ .

قال متى: إنما لزم ذلك، لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة، والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء، ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية، سواء عند جميع الأمم، وكذلك ما أشببهه؟

قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالفعل، والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة، وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة، في أربعة وأربعة، وأنهما ثمانية، زال الاختلاف، وحصل الاتفاق، ولكن ليس، الأمر هكذا، ولقد موهت بهذا المثال، ولكم عادة بمثل هذا التمويه!

ولكن -مع هذا- أيضاً-: إذا كانت الأغراض المعقولة، والمعاني المدركة، لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء، والأفعال، والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ ، قال: نعم.

قال: أخطأت "قل في هذا الموضع: بلي، قال: بلى، أفا أقلدك في مثل هذا.

قال: أنت -إذن- لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعو إلى تعلم اللغة اليونانية، وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها؟ ! وقد عفت منذ زمان طويل، وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم،

ص: 74

بتصاريفها، على أنك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى لغة أخرى غريبة؟ !

قال متى: يونان -وإن بادت مع لغتها- فإن الترجمة حفظت الأغراض، وأدت المعاني، وأخلصت الحقائق.

فقال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقومت وما حرفت، ووزنتا وما جزفت، وأنها ما التاثت، ولا حافت ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام، ولا بأخص الخاص، ولا بأعم العام -وإن كان هذا لا يكون وليس هو في طبائع اللغات، ولا في مقادير المعاني، فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه!

قال متى: لا، ولكنهم من بين الأمم -أصحاب عناية بالحكمة، والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر، وانتشر ما انتشر، وفشا ما فشا، ونشأ ما نشأ من أنواع العلم، وأصناف الصنائع، ولم نجد هذا لغيرهم.

قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت، وملت مع الهوى، فإن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم، ولهذا قال القائل:

العلم في العالم مبثوث

ونحوه العاقل محثوث

وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جدد الأرض، ولهذا غلب علم في مكان دون على، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة، وهذا ما صح، والزيادة عليه مشعلة، ومع هذا: فإنما كان يصح قولك، وتسلم

ص: 75

دعواك لو كانت يونان معروفة من بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة، والفطنة الظاهرة، والبنية المخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا لما قدروا ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا، وأن السكينة نزلت عليهم، والحق تكفل بهم، والفضائل لصقت بأصولهم، وفروعهم، والرذائل بعدت من جواهرهم وعروقهم، وهذا جبل ممن يظنه بهم، وعناد ممن يدعيه لهم، بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء، ويخطئون في أشياء، ويعلمون أشياء، ويجهلون أشياء، ويصدقون في أمور، ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال، ويسيئون في أحوال، وليس واضع المنطق يونان بأسرها إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عمن قبله، كما أخذ عنه من بعده، وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير، والجم الغفير، وله مخالفون منهم ومن غيرهم، ومع هذا، فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله، أو يؤثر فيه؟ هيهات هذا محال! ، ولقد بقى العالم بعد منطقه على ما كان عليه قبل منطقه، فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع، لأنه منعقد بالفطرة والطباع، وأنت لو فرغت بالك، وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها، وتجاربنا فيها، وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها، وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها، لعلمت أنك غني عن معاني يونان، كما أنك غني عن لغة يونان.

وها هنا مسألة تقول: إن الناس عقولهم مختلفة، وأنصباؤهم متفاوته قال: نعم، قال: وهذا الاختلاف والتفاوت وبالطبيعة. أو بالاكتساب؟ قال: بالطبيعة، قال: فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيء يرتفع به هذا الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي؟ !

ص: 76

قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً، قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع وبيان ناصع؟ ، ودع هذا، أسألك عن حرف واحد، وهو دائراً في كلام العرب ومعانيه متميزة عند أهل العقل، فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسططا ليس الذي تدل به، وتباهي بتفخيمه، وهو: الواو: ما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه أو وجوه؟ فهمت متى، وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض وإن عثر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.

فقال أبو سعيد: أخطأت [لأن النحو والمنطق] واللغة واللفظ، والإفصاح والإعراب، والإبانة، والحديث، والإخبار، والاستخبار والعرض والتمني، والنهي والحض، والدعاء والنداء، والطلب، كلها من واد واحد، بالمشاكلة والمماثلة، ألا ترى أن رجلاً لو قال: (نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق، وتكلم بالفحش، ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه، ولكن ما أفصح وأيان المراد، ولكن ما أوضح، أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ لكن في جميع هذا محرفاً، ومناقضاً، وواضعاً للكلام في غير حقه، ومستعملا اللفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره، والنحو منطق، ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي، والمعنى عقلي ولهذا كان اللفظ باثداً على الزمان لأن الزمان يقفوا أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا

ص: 77

كان المعنى ثابتاً على الزمان؛ لأن مستملى المعنى عقلي؛ والعقل إلهي؛ ومادة اللفظ طينية، وكل طيتي متهافت. وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها أسماً فتعار، ويسلم لك ذلك بمقدار، وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة، فلابد لك أيضاً من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة، واجتلاب الثقة، والتوقى من الخلة اللاحقة.

فقال متى: يكفيني من لغتكم هذه: الاسم، والفعل، والحرف، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان.

قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك في هذا الأسم والفعل والحرف فقير إلى رصفها، وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلاً، وكذلك أنت محتاج -بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء، والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات، كالخطأ والفساد في المتحركات.

وهذا باب، أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة، على أن هاهنا سراً ما علق بك ولا أسفر لعقلك، وهو: أن تعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها، في أسمائها، وأفعالها، وحروفها، وتأليفها، وتقديمها، وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها، وتشديدها وتخفيفها، وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها، وسجعها ووزنها وميلها، وغير ذلك مما يطول ذكره، وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم، أو يشك في صوابه، ممن يرجع إلى مسكة من عقل، أو نصيب من إنصاف فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف؟ ! ، بل أنت إلى تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى تعرف المعاني اليونانية، على أن المعاني

ص: 78

لا تكون يونانية، ولا هندية، كما أن اللغات تكون فارسية وعربية، وتركية، ومع هذا: فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، فلم يبق إلا أحكام اللغة، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسططا ليس بها مع جهلك بحقيقتها؟

وحدثني عن قائل قال لك: حالي -في معرفة الحقائق والتصفح لها، والبحث عنها -حال قوم كانوا قبل وأضع المنطق، أنظر كما نظروا، وأتدبر كما تدبروا، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعنقاب والاجتهاد، ما تقول له؟

أتقول: إنه لا يصح له هذا الحكم، ولا يستتب هذا الأمر، لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التي عرفتها أنت؟ ، ولعلك تفرح بتقليده لك -وإن كان على باطل- أكثر مما تفرح باستبداده- وإن كان على حق- وهذا هو الجهل المبين، والحكم المشين.

ومع هذا: فحدثني عن الواو ما حكمه؟ فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغنى عنك شيئاً. وأنت تجهل حرفاً واحداً في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان، ومن جهل حرفاً أمكن أن يجهل حروفاً، ومن جهل حروفاً جاز أن يجهل اللغة بكمالها، فإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها فلعله يجهل ما يحتاج إليه، ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه، وهذه رتبة العامة، أو رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير. فلم يتأبى على هذا ويتكبر، ويتوهم أنه من الخاصة، وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سر الكلام، وغامض الحكمة وخفي القياس، وصحيح البرهان؟ .

وإنما سألتك عن معاني حرف واحد، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها؟ وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق، والتي لها بالتجوز؟ .

ص: 79

سمعتكم تقولون: إن "في" لا يعرف النحويون مواقعها، وإنما يقولون: هي "للوعاء"، كما يقولون:"إن الباء للإلصاق" وإن "في" تقال على وجوه: يقال: "الشيء في الإناء" و "الإناء في المكان" و "السائس في السياسة، والسياسة في السائس".

أترى أن هذا التشقيق هو من عقول يونان، ومن ناحية لغتها؟ ولا يجوز أن يعقل هذا يعقول الهند والترك والعرب؟ فهذا جهل من كل من يدعيه، وخطل من القول الذي أفاض فيه! ، النحوي إذا قال "في" الوعاء، فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح، وكنى -مع ذلك- عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل، ومثل هذا كثير وهو كاف في موضع التكنية.

فقال ابن الفرات: أيها الشيخ الموفق، أجبه بالبيان عن مواقع "الواو" حتى تكون أشد في إفحامه، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه، ومع هذا فهو مشنع به.

فقال أبو سعيد: الواو وجوه ومواقع: منها معنى العطف في قولك: "أكرمت زيداً وعمراً".

ومنها: القسم في قولك: "والله لقد كان كذا وكذا" ومنها: الاستئناف، في قولك: خرجت وزيد قائم"، لأن الكلام بعده ابتداء وخبر، ومنها: معنى رب التي هي للتقليل، نحو قولهم: "وقائم الأعماق خاوي المخترق" ومنها: أن تكون أصلية في الاسم، كقولك: واصل وافد، وفي الفعل كذلك، كقولك: وجل يوجل، ومنها: أن تكون مقحمة، نحو قول الله عز وجل؛ "فلما أسلما وتله الجبين وناديناه" أي: ناديناه، ومثله قول الشاعر:

ص: 80

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

المعنى: انتحى بنا، ومنها: معنى الحال في قوله عز وجل: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} [المائدة: 110] أي يكلم الناس في حال كهولته، ومنها: أن تكون بمعنى حرف الجر، كقولك: استوى الماء والخشبة، أي: مع الخشبة.

فقال ابن الفرات لمتى: يا أبا بشر، أكان هذا في منطقك؟

ثم قال أبو سعيد: دع هذا، هاهنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي، ما تقول في قول القائل:"زيد أفضل الأخوة"؟ قال صحيح، قال: فما تقول إن قال: زيد أفضل إخوته"؟ قال: صحيح، قال: فما الفرق بينهما مع الصحة؟ فبلح، وجنح، وغص بريقه.

فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة، ولا استبانة: المسألة الأولى جوابك عنها صحيح - وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها، والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح - وإن كنت - أيضاً - ذاهلاً عن وجه بطلانها.

فقال متى: بين لي ما هذا النهجين؟

قال أبو سعيد: إذا حضرت الحلقة استفدت، ليس هذا مكان التدريس، هو مجلس إزالة التلبيس، مع من عادته التمويه والتشبيه، والجماعة تعلم أنك أخطأت، فلم تدعى أن النحوي إنما ينظر في اللفظ دون المعنى، والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ؟ هذا كان يصح لو أن المنطقي كان يسكت ويحيل فكره في المعاني، ويرتب ما يريد بالوهم السائح والخاطر العارض والحدس الطارئ، فأما وهو يربغ أو يبرر ما صح له بالاعتبار

ص: 81

والتصفح إلى المتعلم والمناظر، فلا بد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده ويكون طباقاً لغرضه، وموافقاً لقصده.

قال ابن الفرات لأبي سعيد: تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس، والتبكيت عاملاً في نفس أبي بشر.

فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال مل.

فقال ابن الفرات: ما رغبت في كلامك وبيني وبين الملل علاقة، فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر.

قال أبو سعيد: إذا قلت "زيد أفضل إخوته" لم يجز، وإذا قلت:"زيد أفضل الإخوة" جاز، والفصل بينهما: أن إخوة زيدهم غير زيد. وزيد خارج عن جملتهم، والدليل على ذلك: أنه لو سأل سائل فقال: "من إخوة زيد؟ " لم يجز أن تقول، زيد وعمرو وبكر وخالد. وإنما تقول: بكر وعمر وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم، فإذا كان زيد خارجاً عن إخوته صار غيرهم فلم يجز أن نقول: أفضل إخوته، كما لم يجز أن تقول:"إن حمارك أفره البغال"، لأن الحمير غير البغال، كما أن زيداً غير إخوته، فإذا قلت:"زيد خير الإخوة" جاز. لأنه أحد الإخوة، والاسم يقع عليه وعلى غيره، فهو بعض الإخوة، ألا ترى أنه لو قيل: من الإخوة؟ عددته فيهم، فقلت:"زيد وعمرو وبكر وخالد" فيكون بمنزلة قولك: حمارك أفره الحمير، لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير، فلما كان على ما وصفنا، جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل الجنس، فتقول:"زيد أفضل رجل" و"حمارك أفره حمار"، فيدل (رجل) على الجنس كما دل الرجال، وكما في "عشرين درهماً، ومائة درهم"،

ص: 82

فقال ابن الفرات وما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جل علم النحو عندي، بهذا الاعتبار، وهذا الأسفار.

فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، ونوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطأ من ذلك.

وإن ذاع شيء عن هذا النعت، فإنه لا يخلو أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر، والتأويل البعيد، أو مردوداً، لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم.

فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل، فذلك شيء مسلم لهم، ومأخوذ عنهم.

وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف.

وإنما دخل العجب على المنطقين، لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقتهم ونظرهم وتكلفهم، فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون، وجعلوا تلك الترجمة صناعة، وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ، لا مع المعنى.

ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال: أما تعرف يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب؟ وتقول بالمثل: هذا ثوب، والثوب اسم يقع على أشياء بها صار ثوباً، لأنه نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دون لحمته، ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته، ورقة سلكه كرقة لفظه وغلظ غزله،

ص: 83

ككثافة حروفه، ومجموع هذا كله ثوب، ولكن بعد تقدمه كل ما يحتاج إليه فيه.

قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره والحق الذي لا يبصره.

قال أبو سعيد: ما تقول في رجل يقول: (لهذا على درهم غير قيراط) ولهذا الآخر على درهم غير قيراط) قال: ما لي علم بهذا النمط، قال: لست نازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق، هاهنا ما هو أخف من هذا.

قال رجل لصاحبه: (بكم الثوبان المصبوغان)؟ وقال آخر: (بكم ثوبان مصبوغان؟ وقال آخر: (بكم ثوبان مصبوغين؟ ) بين هذه المعاني التي تضمنها لفظ لفظ.

قال متى: لو نثرت أنا - أيضاً - عليك من مسائل المنطق أشياء لكان حالك كحالي.

قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى، وصح لفظه على العادة الجارية أجبت، ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً، وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متصلاً باللفظ ولكن على وضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً، لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها.

ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب، والآلة، والسلب والإيجاب، والموضوع والمحمول، والكون والفساد، والمهمل والمحصور، وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العي أقرب، وفي الفهاهة أذهب.

ص: 84

ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقص ظاهر، لأنك لا تفون بالكتب، ولا هي مشروحة، فتدعون الشعر، ولا تعرفونه، وتذكر الخطابة وأنتم عنها في منقطع الثراب، وقد سمعت قائلكم يقول: الحاجة ماسة إلى (كتاب البرهان)، فإن كان كما قال، فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب؟ وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان، فهي - أيضاً - ماسة إلى ما بعد البرهان، وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه؟ ، هذا كله تخليط، وزرق، وتهويل ورعد وبرق.

وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً، وتستذلوا عزيزاً: وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع، والخاصة، والفصل، والعرض، والشخص، وتقولوا: الهلية، الأينية، والماهية والكيفية، والكمية والذاتية، والعرضية والجوهرية والهيولية والصورية والأيسية والليسية والنفسية! ثم تتطاولون فتقولون:"جئنا بالسحر" في قولنا: "لا" في شيء من "ب" و"ج" في بعض "ب" ف "لا" في بعض "ج" و"لا" في كل "ب" و"ج" في كل "ب" فإذن "لا" في كل "ج" هذا بطريق الخلف وهذا بطريق الاختصاص.

وهذه كلها خرافات وترهات، ومغالق وشبكات!

ومن جاد عقله، وحسن تمييزه، ولطف نظره، وثقب رأيه، وأنارت نفسه استغنى عن هذا كله - بعون الله وفضله - وجودة العقل، وحسن التمييز، ولطف النظر، وثقوب الرأي، وإنارة النفس من منائح الله الهنية، ومواهبه السنية يختص بها من يشاء من عباده، وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً، وهذا الناشئ أبو العباس قد نقض عليكم وتتبع طريقتكم، وبين خطأكم، وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال وما زدتم على قولكم: لم يعرف غرضنا، ولا وقف على مرادنا، وإنما تكلم على وهم، وهذا منكم تحاجز، ونكول ورضى

ص: 85

بالعجز وكاول، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض، هذا قولكم في (يفعل وينفعل) لم يستوضحوا فيها مراتبهما ومواقعهما، ولم تقفوا على مقاسمهما، لأنكم قنعتم بوقوع الفعل من (يفعل) وقبول الفعل من (ينفعل) ومن وراء ذلك غايات خفيت عليكم، ومعارف ذهبت عنكم، وهذا حالكم في الإضافة.

فأما البدل ووجوهه، والمعرفة وأقسامها، والفكرة ومراتبها، وغير ذلك مما يطول ذكره، فليس لكم فيه مقال ولا مجال.

وأنت إذا قلت لإنسان: (كن منطقياً) فإنما تريد: كن عقلياً أو عاقلاً أو أعقل ما تقول، لأن أصحابك يزعمون أن المنطق هو العقل، وهذا قول مدخول، لأن النطق على وجوه. أنتم عنها في سهو.

وإذا قال لك آخر: "كن نحوياً لغوياً فصيحاً" فإنما يريد: أفهم عن نفسك ما تقول، ثم رم أن يفهم عنك غيرك.

وقدر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه، وقدر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه، هذا: إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به، فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد، فأجل اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة، وبين المعاني بالبلاغة، أعني: لوح منها لشيء حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عز وجل، وكرم وعلا، واشرح منها شيئاً حتى لا يمكن أن يمترى فيه، أو يتعب في فهمه، أو يعرج عنه لاغتماضه، فهذا المذهب يكون جامعاً (لحقائق الأشباه، ولأشباه الحقائق) وهذا باب إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس، على أني لا أدري، أيؤثر فيك ما أقول أولاً؟

ص: 86

ثم قال: حدثنا، هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين؟ أو رفعتم الخلاف بين اثنين؟ ، أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة؟ ! وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد؟ ! وأن الشرع ما تذهب إليه والحق ما تقوله؟ هيهات! هاهنا أمور ترتفع عن دعوى أصحابك وهذيانهم، وتدق عن عقولهم وأذهانهم.

ودع هذا: هاهنا مسألة قد أوقعت خلافاً، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك: قال قائل: (لفلان من الحائط إلى الحائط) ما الحكم فيه؟ وما قدر المشهود به لفلان؟ فقد قال ناس: له الحائطان معاً، وما بينهما، وقال آخرون له النصف من كل منهما وقال آخرون: له أحدهما، هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأني لك بهما، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك؟ !

ودع هذا أيضاً: قال قائل: (من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم محال، ومنه ما هو مستقيم قبيح، ومنه ما هو محال كذب، ومنه ما هو خطأ) فسره هذه الجملة، واعترض عليه عالم آخر، فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل، فإن قلت: كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته، والآخر لم أحصل اعتراضه؟ قبل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملاً له، ثم أوضح الحق منهما، لأن الأصل مسموع لك، حاصل عندك، وما يصح به أو يرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة.

فقد بان الآن أن مركب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل، والمعاني معقولة، ولها اتصال شديد وبساطة تامة، وليس في قوة اللفظ من أي

ص: 87

لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به، وينصب عليه سوراً، ولا يدع شيئاً من داخله أن يخرج ولا شيئاً من خارجه أن يدخل، خوفاً من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل، ويشبه الباطل بالحق. وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بعد المنطق.

وأنت لو عرفت تصرف العلماء والفقهاء في مسائلهم، ووقفت على غورهم في نظرهم وغوصهم في استنباطهم، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة، والكنايات المفيدة، والجهات القريبة والبعيدة لحقرت نفسك، وازدريت أصحابك ولكان ما ذهبوا إليه، وتابعوا عليه أقل في عينك من السها عند القمر، ومن الحصا عند الجبل.

أليس الكندي - وهو علم في أصحابك - يقول - في جواب مسألة:

(هذا من باب عد) فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب، حتى وضعوا له مسائل من هذا الشكل وغالطوه بها وأروه أنها من الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع فاعتقد فيه أنه صحيح وهو مريض العقل، فاسد المزاج، حائل الغريزة، مشوش اللب!

قالوا له: أخبرنا عن اصطكاك الأجرام، وتضاغط الأركان، هل يدخل في باب وجوب الإمكان؟ أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟

وقالوا له أيضاً: ما نسبة الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولانية؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان أو مزايلة له مزايلة على غاية الأحكام؟

وقالوا له: ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع

ص: 88

الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله؟ وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة والضعف والفساد والفسالة والسخف ولولا التوقي من التطويل لسردت ذلك كله، ولقد مر بي في خطه: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفروع، وكل ما يكون على هذا النهج فالنكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النكرة.

على أن النكرة والمعرفة من باب الألبسة العارية من ملابس الأسر أو الإلهية، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال البشرية.

ولقد حدثنا أصحابنا الصائبون عنه بما يضحك الثكلى، ويشمت العدو ويغص الصديق وما ورث هذا كله إلا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق، ونسأل الله عصمة وتوفيقاً تهتدي بهما إلى القول الراجح إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل، إنه سميع مجيب.

ص: 89