الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عما يخفى، وتلخيص الصفة، حتى يزاد السامع ثقة بالحجة، واستظهاراً على الشبهة، واستبانة للدليل، وتبيناً للسبيل، شيء في سوس العقل وفي طباع النفس، إذا كان نفساً (1) ".
ويؤخذ مما سبق ما يلي:
أولاً: أن الطائفة التي كانت تزهد في علم النحو هي تلك الطائفة التي كان يمثلها قديماً - في عهد السيرافي - متى بن يونس المنطقي والكندي المتفلسف، وقدامة بن جعفر "وأبو الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب، كما كان يمثلها حديثاً - في عهد عبد القاهر - أتباع تلك الطائفة وإشباعها، ممن كانوا يعيشون في جرجان، ويحقرون النحو. ويزهدون فيه، ثم يتعاطون التفسير، ويتناولون كتاب الله بالتأويل، دون أن يكون عندهم علم بدقائق النظم ولطائفه وخصائصه، وهم: المعتزلة: الذين كان يمثلهم القاضي عبد الجبار الأسد أبادي، قاضي قضاة الدولة البويهية والمتوفي سنة 415 هـ.
ثانياً: أن تلك الطائفة كانت تدعى أن النحويين مع اللفظ، لا مع المعنى، وقد جاء ذلك على لسان متى بن يونس في قوله:"لان المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ"، كما جاء ذلك على لسان أبي سعيد السيرافي في رده عليه بقوله "فلم تدعى أن النحوي إنما ينظر في اللفظ دون المعنى"؟ والمنطقي ينظر في المعنى دون اللفظ؟ وقوله:"وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى"، وهي التي عناها عبد القاهر بقوله:"وأما النحو فظنته ضرباً من التكلف، وباباً من التعسف وشيئاً لا يستند إلى أصل، ولا يعتمد فيه على عقل"(2).
(1) الدلائل 27، 28 (السيد محمد رشيد رضا).
(2)
الدلائل ص 6.
ثالثاً: أن تلك الطائفة كانت تقول بأن القليل من النحو كاف، ولا يتحتم على المرء أن يدخل في مسائل النحويين وخلافاتهم.
وقد جاء ذلك على لسان متى بن يونس في مناظرته لأبي سعيد السيرافي إذ يقول: (يكفيني من لغتكم هذه: الاسم، والفعل والحرف، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان)، كما جاء على لسان أبي سعيد في قوله:(وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك - أيضاً - من كثيرها، من أجل تحقيق الترجمة، واجتلاب الثقة، والتوقي من الخلة اللاحقة)(1) وهي التي عناها عبد القاهر بأنها تقول: "إن ما زاد (من النحو) على معرفة الرفع والنصب وما يتصل بذلك مما نجده في المبادئ، فهو فضل، لا يجدي نفعاً، ولا تحصل منه على فائدة وضربوا له المثل بالملح - كما عرفت"(2).
رابعاً: أن تلك الطائفة - في عهد عبد القاهر - كانت طائفة المعتزلة الذين كان يمثلهم، القاضي عبد الجبار الأسد أبادي، لأنها هي التي كانت تتناول تفسير القرآن، وتتعاطى تأويله معتمدة على العقل، واللغة، دون إلمام كامل بعلم النحو، ومسائله، وقضاياه.
والدليل على ذلك ما يلي:
1 -
أن عبد القاهر يقول: (وذلك أنهم قالوا: إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة، فقولهم: (بالضم) لا يصح أن يراد به النطق باللفظة بعد اللفظة من غير اتصال يكون بين معنيهما لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضم اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة، لكان ينبغي، إذا قيل (ضحك خرج) أن يحدث من ضم
(1) الامتاع والمؤانسة 1/ 114، 115.
(2)
الدلائل 6.
(خرج) إلى (ضحك) فصاحة، وإذا بطل ذلك، لم يبق إلا أن يكون المعنى في ضم الكلمة إلى الكلمة هو: توخي معاني النحو فيما بينهما، وقولهم على طريقة مخصوصة، يوجب ذلك أيضاً، وذلك أنه لا يكون للطريقة إذا أنت أردت مجرد اللفظ - معنى، وهذا سبيل كل ما قالوه، إذا أنت تأملته، تراهم - في الجميع - قد دفعوا، إلى جعل المزية في معاني النحو وأحكامه، من حيث لم يشعروا" (1).
فقول عبد القاهر: قالوا: إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة، إشارة واضحة إلى قول عبد الجبار:"أعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة"(2).
2 -
أن عبد القاهر يقول في الدلائل: "ومما تجدهم يعتمدونه" ويرجعون إليه قولهم: إن المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ، وهذا كلام - إذا تأملته - لم تجد له معنى يصح عليه غير أن تجعل تزايد الألفاظ عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، لأن التزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ونطق لسان محال.
ثم أنا نعلم أن المزية المطلوبة في هذا الباب - مزية فيما طريقة الفكر والنظر من غير شبهة، ومحال أن يكون للفظ صفة تستنبط بالفكر، ويستعان عليها بالروية، اللهم إلا أن تريد تأليف النغم، وليس ذلك مما نحن فيه بسبيل (3).
(1) الدلائل 1، 3، 2، 3.
(2)
المغني في أبواب التوحيد والعدل 16/ 197.
(3)
الدلائل 302.
فقول عبد القاهر: (قولهم، إن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ) إشارة واضحة - أيضاً - إلى قول القاضي عبد الجبار: (فإن قال قائل: فقد قلتم: إن في جملة ما يدخل في الفصاحة حسن المعنى، فهلا اعتبرتموه؟ قيل له: إن المعاني - وإن كان لا بد منها - فلا تظهر فيها المزية، ولذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد، يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق، على أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يعتبر التزايد عنده الألفاظ التي يعبر بها عنها)(1).
3 -
أن قول عبد الجبار: (ولذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر، والمعنى متفق)(2) في مجال محاولته إثباب المزية - في الفصاحة - للألفاظ، قد أشار إليه عبد القاهر، في فصل من الدلائل مطول، ورأى أن هذا القول هو أصل الفساد، ومعظم الآفة، والذي صار حجازاً بين القوم وبين التأمل".
وذلك هو قولهم: إن العقلاء قد اتفقوا على أنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحاً، والآخر غير فصيح، وذلك كما قالوا - يقتضي أن يكون للفظ نصيب في المزية، لأنها لو كانت مقصورة على المعنى، لكان محالاً أن يجعل لأحد اللفظين فضل على الآخر مع أن المعبر عنه واحد".
ثم تأكيدهم له بأنه: لولا أن الأمر كذلك لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشعر فضل على تفسير المفسر له، لأنه إن كان اللفظ إنما يشرف
(1) المغنى في أبواب التوحيد والعدل 16/ 197.
(2)
نفس المصدر.
من أجل معناه، فإن لفظ المفسر يأتي على المعنى ويؤديه لا محالة - وإذا لزم ذلك في تفسير البيت من الشعر، لزم مثله في الآية من القرآن الكريم!
ويجيب عبد القاهر: بأن القول بأنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين يحتمل أمرين:
أحدهما: أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة، مثل:"الليث" و"الأسد" ومثل: "شحط" و"بعد" وغير ذلك مما وضع اللفظان فيه لمعنى.
والثاني. أن تريد: كلامين، فإن أردت الأول: فقد خرجت عن المسألة، لأن كلامنا نحن (في فصاحة) تحدث من بعد التأليف، دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة، فعليك أن تعلم: أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحلي، كالخاتم، والشنف، والسوار؛ فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلاً ساذجاً، لم يعمل فيه صانعه شيئاً، وأن يكون مصنوعاً بديعاً، قد أغرب صانعه فيه، كذلك سبيل المعاني. أن ترى الواحد منها غفلاً ساذجاً، عامياً، موجوداً في كلام الناس كلهم، ثم تراه نفسه، وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني، فيصنع فيه ما يصنع الصنع الحاذق، حتى يغرب في الصنعة ويدق في العمل، ويبدع في الصياغة، وذلك: كأن تقول في قول الناس: (الطبع لا يتغير) و (لست تستطيع أن تخرج الإنسان عما جبل عليه) فترى معنى غفلاً عامياً معروفاً، في كل جيل وأمه، فإذا نظرت إليه في قول أبي الطيب:
يراد من القلب نسيانكم
…
وتأبى الطباع على الناقل
وجدته قد خرج في أحسن صورة؛ وتراه قد تحول جوهرة، بعد أن كان خرزة، وصار أعجب شيء بعد أن لم يكن شيئاً.
فقول العقلاء: إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحاً، والآخر غير فصيح، يريدون به: أنه يصح أن تكون ههنا عبارتان: أصل المعنى فيهما واحد، ثم يكون لأحدهما - في تحسين ذلك المعنى، وتزيينه، وإحداث خصوصية فيه - تأثير لا يكون للأخرى (1).
4 -
أن ذلك القول - وهو أن المزية في الفصاحة ترجع إلى اللفظ، لا إلى المعنى قد صدر عن قوم لهم نباهة، وصيت وعلو منزلة في أنواع من العلوم، غير ذلك العلم الذي قالوا ذلك القول فيه، ثم وقع في الألسن فتداولته ونشرته، وفشا، وظهر، وكثر الناقلون له، والمشيدون بذكره، فصار ترك النظر فيه سنة، والتقليد ديناً، وهذا القول. منطبق على القاضي عبد الجبار، وأتباعه من المعتزلة، من النباهة، والصيت، وعلو المنزلة، فقد كان القاضي عبد الجبار، قد انتهت إليه الرئاسة في المعتزلة حتى صار شيخها، وعالمها غير مدافع، وصار الاعتماد على كتبه التي نسخت كتب من تقدمه (2).
بل إن عبد القاهر نفسه يشير إشارة واضحة إلى هؤلاء القوم - أي المعتزلة ورئيسهم القاضي عبد الجبار - بأنهم هم الذين سلموا بأن الفصاحة لا تكون في أفراد الكلمات وأنها إنما تكون فيها؛ إذا انضم بعضها إلى بعض قائلاً: (وكيف لا يكون في إسار الأخذة ومحولاً بينه وبين الفكرة ومن يسلم أن الفصاحة لا تكون في إفراد الكلمات، وأنها إنما
(1) الدلائل 323، 324، 325.
(2)
متشابه القرآن 15.
تكون فيها إذا انضم بعضها إلى بعض، ثم لا يعلم أن ذلك يقتضي أن تكون وصفاً لها من أجل معانيها، لا من أجل نفسها، ومن حيث هي ألفاظ ونطق لسان؛ ذلك لأنه ليس من عاقل يفتح عين قلبه، إلا وهو يعلم ضرورة، أن المعنى في ضم بعضها إلى بعض (هو) تعليق بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، لا أن ينطق ببعضها في إثر بعض، من غير أن يكون فيما بينهما تعلق، ويعلم - كذلك، ضرورة - إذا فكر - أن التعلق يكون فيما بين معانيها، لا فيما بينها أنفسها (1).
(1) الدلائل 357، 358، 359
(8 - دلائل الإعجاز)