الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والباقلاني قد قال كلاماً عاماً، لا يشفى غليلا، في معرفة معنى النظم، والخطابي -وإن أشبه عبد القاهر في محاولته الجادة، في الإفصاح عن معنى النظم- إلا أنه لم يستطع الوصول إلى أسراره، بأكثر من أن الكلام ينقسم إلى لفظ حامل للمعنى، ومعنى محمول للفظ، ورباط بينهما ناظم، وأبو هلال العسكري، وإن كان قد أرجع إعجاز القرآن إلى بلاغته، إلا أن نظريته في البلاغة قد انحصرت في (توخي صواب المعنى، وصحة اللفظ، والمعرفة بوجوه الاستعمال) للوصول إلى (الصورة المقبولة، والعبارة المستحسة) مبتعداً بذلك عن (توخي معاني النحو فيما بين الكلم).
أما المعتزلة: - وهم الذين كانوا يرجعون دلائل الإعجاز، إلى جزالته للفظ وحسن المعنى
-فقد مثلهم- كما أسلفنا- قبل عبد القاهر: أبو علي الجبائي، وابنه أبو هاشم، والرماني، وعبد الجبار:
أما أبو هاشم الحبائي، فقد أشار إلى رأيه عبد الجبار، بقوله:"قال شيخنا أبو هاشم إنما يكون الكلام فصيحاً، لجزالته، وحسن معناه، ولابد من اعتبار الأمرين، لأنه لو كان جزل اللفظ، ركيك المعنى، لم يعد فصيحاً، فإذن يجب أن يكون جامعاً لهذين الأمرين، وليست فصاحة الكلام بأن يكون له نظم مخصوص، لأن الخطيب عندهم قد يكون أفصح من الشاعر، والنظم مختلف -إذا أريد بالنظم اختلاف الطريقة- وقد يكون النظم واحداً وتقد المزيه في الفصاحة، فالمعتبر ما ذكرناه، لأنه الذي يتبين في كل نظم، وكل طريقة، وإنما يختص النظم بأن يقع لبعض الفصحاء، يسبق إليه، ثم يساويه فيه غيره من الفصحاء، فيساويه في ذلك النظم، ومن يفضل عليه يفضله في ذلك النظم"(1).
(1) البلاغة تطور وتاريخ 115.
ومن قراءتك لكلام أبي هاشم تجد أنه لا يرجع الإعجاز إلى النظم، وإنما يرجعه إلى جزالة اللفظ، وحسن المعنى، وأنه يقصد بالنظم: طريقة الكلام، كالشعر، أو النثر، أو الرسالة، أو الخطبة، بدليل قوله: وقد يكون النظم واحداً، وتكون المزية في الفصاحة، لأن النظم بالمعنى الذي يراه عبد القاهر، لا يمكن أن يتفق فيه اثنان، ولو فضل أديب صاحبه فيه، لدل ذلك على اختلاف النظم، وأن أحدهما قد توصل في نظمه إلى ما لم يتوصل إليه الآخر، واهتدى إلى خصائص لم يهتد إليها صاحبه.
وأما أبو الحسن على بن عيسى الرماني المتوفى سنة 386 هـ، فقد ألف رسالة أسماها "النكت في إعجاز القرآن" عندما سأله سائل أن يذكر النكت في إعجاز القرآن الكريم، دون التطويل بالحجاج فأجاب بأن وجوه الإعجاز تظهر من سبع جهات:
1 -
ترك المعارضة مع توفر الدواعي، وشدة الحاجة.
2 -
التحدي للكافة.
3 -
الصرفة.
4 -
البلاغة.
5 -
الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة.
6 -
نقض العادة.
7 -
قياسه بكل معجز.
ويهتم الرماني بالبلاغة، فيذكر أنها على ثلاث طبقات:
(أ) منها ما هو في أعلى طبقة.
(ب) ومنها ما هو في أدنى طبقة.
(جـ) ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة.
فما كان في أعلاها طبقة فهو معجز، وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن، كبلاغة البلغاء من الناس.
والبلاغة عنده -هي: إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ وأعلاها طبقة في الحسن: بلاغة القرآن، وأعلى طبقات البلاغة: للقرآن خاصة، وأعلى طبقات البلاغة معجز للعرب والمعجم كإعجاز الشعر المفحم، فهذا معجز للمفحم خاصة، كما أن ذلك معجز للكافة.
والبلاغة -عنده أيضاً- عشرة أقسام هي: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان" (1).
فبلاغة الكلام شاملة للألفاظ والمعاني على حد سواء، والإعجاز ليس في بلاغته فحسب، بل الإعجاز شامل المصرفة، والبلاغة وغيرهما مما ذكره في رسالته.
وأما عبد الجبار الأسد أبادى، قاضي قضاة الدولة البويهية والمتوفى سنة 415 هـ، فقد أعد في كتابه:(المغني في أبواب التوحيد والعدل) جزءاً خاصاً بإعجاز القرآن الكريم.
فيقول بعد أن أورد كلام شيخه أبي هاشم الجبائي: "إن العادة لم تجر
(1) ثلاث رسائل 75، 76.
بأن يختصر واحد بنظم دون غيره، فصارت الطرق التي عليها يقع نظم الكلام الفصيح معتادة، كما أن قدر الفصاحة معتاد، فلابد من مزية فيهما، ولذلك لا يصح عندنا - (يقصد المعتزلة في عصره) أن يكون اختصاص القرآن بطريقة في النظم دون الفصاحة، التي هي جزالة اللفظ، وحسن المعنى، ومتى قال القائل: إني وإن اعتبرت طريقة النظم، فلابد من اعتبار المزيه في الفصاحة، فقد عاد إلى ما أوردناه".
وهو بهذا يرد فكرة النظم، مشيراً إلى أن أصحابه، من المعتزلة يرفضون أن تكون أساساً في الإعجاز.
وقد شعر عبد الجبار بقصور فكرة شيخه أبي هاشم، فحاول إتمامها، مراعيا تراكيب الكلام فيها، فقال: "إعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولابد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها، ولابد من هذا الاعتبار في كل كلمة، ثم لابد من اعتبار مثله في الكلمات، إذا أنضم بعضها إلى بعض، لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها، وحركاتها، وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه، إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها، وإن قال (قائل): قد قلتم: إن في جملة ما يدخل في الفصاحة حسن المعنى، فهلا أعتبرتموه؟ .
قيل له: إن المعاني -وإن كان لابد منها- فلا تظهر فيها المزية، ولذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر، والمعنى متفق، على أنا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يعتبر التزايد عنده هو "الألفاظ التي يعبر بها عنها، فإذا صحت
هذه الجملة، فالذي تظهر به المزية ليس إلا الإبدال (أي الاختيار) الذي به تختص الكلمات، أو التقدم والتأخر، الذي يختص الموقع، أو الحركات التي تختص الإعراب، فبذلك تقع المباينة (بين الكلام)(1).
وأنت تشعر من هذا الكلام، أن عبد الجبار يكاد يعبر عن نظرية النظم التي وجدها عبد القاهر في معاني النحو، ولكنه وقف دونها، فلم يصل إليها!
كما أنك ترى من كلامه: أنه مازال يعطي المزية للألفاظ، لا للمعاني، مستدلا، على ذلك بأن المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ التي يعبر بها عن المعاني.
كما أنك تشعر - أيضاً - بأن المعاني التي يقصدها عبد الجبار، غير المعاني التي يقصدها عبد القاهر، فالمعاني التي يقصدها عبد الجبار هي الأغراض والمقاصد التي يعبر عنها بالألفاظ، كالكرم والشجاعة، ونحوهما، والمعاني التي يقصدها عبد القاهر هي: معاني النحو؛ وهي الخصائص والمزايا، والفروق التي تحدث بالنظم من التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والحذف، والذكر، وغيرها من المعاني التي يتوخاها الشاعر، أو الأديب على حسب الأغراض التي يقصدها.
ولما كانت الفصاحة -عند أبي هاشم- تتمثل في جزالة اللفظ، وحسن المعنى، وكانت المزية من حيز الألفاظ، لا من حيز المعاني، وجاء عبد الجبار فذكر أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، وكان هذا المعنى الأخير، هو المقصود عند البلاغيين، فقد تأثر بهما أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجى
(1) البلاغة تطور وتاريخ 116، 117.
المتوفى سنة 466 هـ فألف كتابه (سر الفصاحة) وفرق فيه بين الفصاحة والبلاغة، جاعلا الفصاحة للألفاظ، والبلاغة للألفاظ مع المعاني.
ولعل هذا الصنيع من ابن سنان -بالتفريق بين الفصاحة والبلاغة- هو الذي جعل عبد القاهر -في الدلائل- لا يرى مانعاً من التفريق بينهما، في مجال رده شبهة: أن يدعى أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي، وتعديل مزاج الحروف حتى تتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان
…
ويزعم أن الكلام إذا سلم من ذلك وصفاً من شوبه كان الفصيح المشاد به، والمشار إليه، وأن الصفاء - أيضاً - يكون على مراتب يعلو بعضها بعضاً، وأن له غاية إذا انتهى إليها كان الإعجاز، وأن الذي يبطل هذه الشبهة -إن ذهب إليها ذاهب- أنا إن قصرنا صفة الفصاحة على كون اللفظ كذلك وجعلناه المراد بها، لزمنا أن نخرج الفصاحة من حيز البلاغة، ومن أن تكون نظيرة لها. وإذا فعلنا ذلك لم نخل من أحد أمرين: إما أن نجعله العمدة في المفاضلة بين العبارتين، وإما أن نجعله أحد ما نفاضل به، ووجها من الوجوه التي تقتضي تقديم كلام على كلام، فإن أخذنا بالأول، لزمنا أن نقصر الفضيلة عليه حتى لا يكون الإعجاز إلا به، وفي ذلك ما لا يخفى من الشناعة
…
وإن أخذنا بالثاني، لم يكن لهذا الخلاف ضرر علينا، لأنه ليس بأكثر من أن نعمد إلى الفصاحة، فنخرجها من خير البلاغة والبيان، وأن تكون نظيرة لهما" (1).
وهنا يبرز سؤال، هو لماذا لا يكون ابن سنان هو الذي تأثر برأي عبد القاهر -وقد كانا متعاصرين- فأدى تردده بين فصل الفصاحة عن البلاغة وعدم فصلهما، إلى أن يبادر ابن سنان بفصلهما بعد أن قرأ ما كتبه عبد القاهر، في دلائل الإعجاز؟ .
(1) الدلائل 46، 47.
وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن مرحلة التردد -وإن كانت في العادة تسبق مرحلة الحسم- إلا أن ثمة أموراً، ترجح ما رأيناه من تأثر عبد القاهر بما كتبه ابن سنان، نجملها فيما يلي:
أولاً: أن ابن سنان قد فرغ من كتابه (سر الفصاحة) في الثاني من شعبان سنة 454 هـ وهو نفس التاريخ الذي انتهى فيه عبد القاهر من تأليف كتابه (المقتصد) في النحو، إذ فرغ منه في شهر رمضان سنة 454 هـ، وهو الكتاب الذي يعد ملخصاً لشرح كتاب الإيضاح لأبي على الفارسي، والذي أسماه عبد القاهر:"المغنى" في ثلاثين جزءاً، وهذا الجهد الكبير من عبد القاهر، يقدر أن يكون قد أخذ منه ما يزيد على ثلاثين عاماً، والراجح أن عبد القاهر قد ألف الدلائل بعد هذا التاريخ، لأنه -كما يقول المحققون- قد ألفه في أخريات حياته.
ثانياً: أن ابن سنان فرق بين الفصاحة والبلاغة، بأن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني، فلا يقال: - في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها- بليغة، وإن قيل فيها: فصيحة، وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغاً (1)، ويفهم من قوله:"إن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، أنه يمكنك أن تقول: "كلمة فصيحة" ولا يمكنك أن تقول "معنى فصيح" وكذلك يمكنك أن تقول "كلام فصيح" ولا يمكنك أن تقول "كلام فصيح المعنى" ولهذا فإن عبد القاهر، يرد -في الدلائل- على شبهة قد تعرض لقائل يقول: إذا كان اللفظ بمعزل على المزية التي تنازعنا فيها، وكانت مقصورة على المعنى فكيف كانت الفصاحة من صفات اللفظ البته؟ وكيف
(1) سر الفصاحة 50
امتنع أن يوصف بها المعنى، فيقال:"معنى فصيح" و "كلام فصيح المعنى"؟ ، فيقال -في الرد عليه-: إنما اختصت الفصاحة باللفظ، وكانت من صفته، من حيث كانت عبارة عن كون اللفظ على وصف -إذا كان عليه- دل على المزية التي نحن في حديثها (1).
ثالثاً: أن "سر الفصاحة" لو كان قد صنف بعد الدلائل -وفي الدلائل هجوم قوى على من يجعلون الفصاحة في ضم الكلمات بعضها إلى بعض، دون الإشارة إلى تتبع معاني النحو، وأنها في جزالة اللفظ وحسن المعنى، منا بعين بذلك عبد الجبار -وقد كان ابن سنان من هؤلاء- لتجرد ابن سنان المواد على عبد القاهر، مشيراً إلى معاني النحو التي رددها عبد القاهر -في الدلائل- ما يقرب من ستين مرة، ولكن "سر الفصاحة" لا يبدو فيه أي رد على عبد القاهر، بل وليس فيه ذكر لعبارة "معاني النحو" أصلاً، مما يدل على أن عبد القاهر، هو الذي تأثر بابن سنان في فصله بين الفصاحة والبلاغة، مجوزاً، أن يفصل أحدهما على الآخر وأن تجعل اسماً مشتركاً بينهما.
رابعاً: أن ابن سنان -في سر الفصاحة- رد على أبي على الجباني- الذي يرى أن قارئ القرآن، لم يأت بمثله "لأنه لو كان القارئ، لا يسمع منه ما فعله دون كلام الله تعالى، لبطل التحدي، وخرج من أن يكون معجزاً، لأنه لو كانت الحكاية غير المحكى -وهي مثله- لكان كل من فعل القرآن "أي قرأه" قد أتى بمثله على الحقيقة، والتحدي يضمن أنهم لا يأتون بمثله على الحقيقة" رد ابن سنان على هذا: بأن التحدي إنما وقع بفعل مثل القرآن على الابتداء، دون الاجتذاء، والتالي
(1) الدلائل 50.
للقرآن، قد أتى بمثله محتذياً، فلا يكون بذلك معارضاً، وعلى هذا - أيضاً - كان يقع التحدي من العرب بعضهم بعضاً، بالأشعار على سبيل الابتداء (1).
ثم يقول ابن سنان: وقد اعتمد أبو الهذيل -وأبو علي أيضاً- على قوله تبارك تعالى: "وإن احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" ولا خلاف بين الأمة أن المسموع في المحاريب كلام الله تعالى على الحقيقة، والجواب عن هذا، أن إضافة الكلام إلى المتكلم -إن كان الأصل فيها أن يكون من فعله- فقد صار بالتعارف يضاف إليه إذا وردت مثل صورة كلامه، ولهذا يقولون فيما نسمعه الآن: هذه قصيدة امرئ القيس -وإن كان الفاعل لذلك غيره- وقد صار هذا بالتعارف حقيقة، حتى يقدم أحد على أن يقول: ما سمعت شعر امرئ القيس على الحقيقة، وقد تخطى ذلك إلى أن صاروا يشيرون إلى ما في الدفتر، ويقولون: هذا علم فلان، وهذا كلام فلان، لما كان مثل هذه الصورة" (2).
وقد تضمن رداً ابن سنان: أن التحدي يقع ابتداء، والقارئ للقرآن يأتي بمثله محتذباً وأن العرب كانت تتحدى بعضها بالأشعار، وأن قارئ الشعر -كشعر امرئ القيس وغيره من الشعراء، يسمى محتذياً-.
وقد أفرد عبد القاهر -في آخر الدلائل- سبع صفحات للرد على هذا الرأي تضمنت ما يلي:
(1) سر الفصاحة 38.
(2)
نفس المصدر.
أولاً: أن الاحتذاء عند الشعراء، وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه هو: أن يبتدئ الشاعر معنى لع غرض أسلوباً -والأسلوب: الضرب من النظم والطريقة فيه- فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب؛ فيجي به في شعره؛ فيشبه بمن يقطع من أديمه نعلا على مثال نعل قد قطعها صاحبها فيقال: قد احتذى على مثاله.
ثانياً: أن العرب لا يجعلون الشاعر محتذياً، إلا بما يجعلونه به آخذاً من غيره ومسترقاً أما أن يجعل إنشاد الشعر وقراءته احتذاء فما لا يعلمونه.
ثالثاً: أنه لو عمد عامد إلى بيت شعر، فوضع مكان كل لفظة لفظاً في معناه كأن يقول -في قوله-:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ذر المآثر، لا تذهب لمطلبها
…
واجلس، فإنك أنت الآكل اللابس
لم يجعلوا ذلك احتذاء، ولم يؤهلوا صاحبه لأن يسموه محتذياً، ولكن يسمونه هذا الصنيع (سلخاً) ويرذلونه، ويسخفون المتعاطى له، فمن أين يجوز لنا أن نقول: في صبي يقرأ قصيدة امرئ القيس: إنه احتذاء في قوله:
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف أعجازاً وناء بكلكل
رابعاً: أنه لو كان منشد الشعر محتذياً، لكن يكون قائل شعر (أي شاعراً) كما أن الذي يحذوا النعل بالنعل يكون قاطع نعل (1).
(1) الدئل 36، 361، 362.
ولم يكتف عبد القاهر بهذا، بل إنه قد ختم رده بتقرير، قال: إنه يصلح لأن يحفظ للمناظرة وهو:
(ينبغي أن يقال لمن يزعم أن المنشد إذا أنشد شعر امرئ القيس قد أتى بمثله على سبيل الاحتذاء: أخبرنا عنك: لماذا زعمت أن المنشد قد أتى بمثل ما قاله امرؤ القيس؟ أم لأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها؟ أم لأنه راعي النسق الذي راعاه في النطق بها؟ ، فإن قلت: إن ذلك لأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها، أحلت، لأنه إنما يصح أن يقال في الثاني: أنه أتى بمثل ما أتى به الأول، إذا كان الأول قد سبق إلى شيء، فأخذه ابتداء، وذلك في الألفاظ محال، إذ ليس يمكن أن يقال: إنه لم ينطق بهذه الألفاظ التي هي في قوله: (قفانيك من ذكرى حبيب ومنزل) قيل امرئ القيس أحد. وإن قلت: إن ذلك لأنه قد راعي في نطقه بهذه الألفاظ النسق الذي راعاه امرؤ القيس، قيل: إن كنت لهذا قضيت في المنشد، أنه قد أتى بمثل شعره، فأخبرنا عنك، إذا قلت: إن التحدي وقع في القرآن إلى أن يؤتي بمثله على جهة الابتداء، ما تعنى به؟ أتعني أنه يأتي في ألفاظ غير ألفاظ القرآن بمثل الترتيب والنسق الذي تراه في ألفاظ القرآن؟ فإن قال: ذلك أعني، قيل له: أعلمت أنه لا يكون الإتيان بالأشياء بعضها في إثر بعض على التوالي نسقاً وترتيباً، حتى تكون الأشياء مختلفة في أنفسها، ثم يكون الذي يجيء بها مضموماً بعضها إلى بعض غرض فيها ومقصود لا يتم ذلك الغرض وذاك المقصود إلا بأن يتخير لها مواضع، فيجعل هذا أولاً، وذاك ثانياً، فإن هذا ما لا شبهة فيه على عاقل وإذا كان الأمر كذلك لزمك أن تبين الغرض الذي اقتضى أن تكون ألفاظ القرآن منسوقة النسق الذي تراه ولا مخلص له من هذه المطالبة، لأنه إذا أبى أن يكون المقتضى والموجب الذي تراه من النسق المعاني، وجعله قد وجب لأمر يرجع إلى اللفظ، لم نجد شيئاً يحيل الإعجاز، في وجوبه عليه ألبتة، اللهم إلا أن يجعل الإعجاز في الوزن، ويزعم أن
النسق الذي تراه في ألفاظ القرآن الكريم إنما كان معجزاً من أجل أن كان قد حدث عنه ضرب من الوزن يعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله، وإذا قال ذلك لم يمكنه أن يقول: إن التحدي وقع إلى أن يأتوا بمثله في فصاحته وبلاغته، لأن الوزن ليس هو من الفصاحة والبلاغة في شيء، إذ لو كان له مدخل فيهما، لكان يجب في كل قصيدتين اتفقتا في الوزن، أن تتفقا في الفصاحة والبلاغة، فإن دعا بعض الناس طول الإلف لما سمع، من أن الإعجاز في اللفظ إلى أن يجعله في مجرد الوزن، كان قد دخل في أمر شنيع، وهو أنه يكون قد جعل القرآن معجزاً، لا من حيث هو كلام، ولا بما به كان لكلام فضل على كلام، فليس بالوزن ما كان الكلام كلاماً، ولا به كان كلام خيراً من كلام" (1).
وبهذا الرد من عبد القاهر -في دلائل الإعجاز- على ابن سنان في (سر الفصاحة) يثبت لنا، بما لا يدع مجالاً لأدنى شك، أن عبد القاهر قد ألف "الدلائل" بعد سنة 454 هـ، وهي السنة التي انتهى فيها ابن سنان من تأليف كتابه "سر الفصاحة".
على أن ابن سنان نفسه كان متأثراً بما كتبه أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ في كتاب (الصناعتين) فقد استقى منه طريقة الفصل بين الفصاحة والبلاغة، كما استقى منه فكرة الابتداع، والاحتذاء، وإن لم يكن قد فهم الاحتذاء على حقيقته.
(1) الدلائل 363، 364.