الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"الروادف الموضحة" والاستعارة في تلك المناظرة. هي ما عبر عنه باسم: "الاستعارات الممتعة" والتمثيل فيها هو ما عبر عنه باسم: "الأشباه المقربة".
وذلك لأن عبد القاهر قد وجد نظريته من خلال تلك الصور الثلاث وهي الموجودة فعلاً، ومتجاورة في عبارة أبي سعيد السيرافي، ولكن قدامة لم يأت بالاستعارة مقترنة بصورتي: الإرداف والتمثيل، بل لم تجي - أصلاً - في نقد الشعر، وجاءت منفردة بعيدة عن الإرداف والتمثيل في جواهر الألفاظ، وذلك مما يرجح أن نظرية البيان قد استقاها عبد القاهر مباشرة من مناظرة أبي سعيد السيرافي، ولكنه قد اعتمد في شرح معنى الإرداف والتمثيل، على ما جاء في نقد الشعر، وجواهر الألفاظ، لقدامة بن جعفر.
سادساً: نظرية النظم
أسلفنا لك عبارة أبي سعيد السيرافي التي أجمل فيها نظرية النظم التي قرأها عبد القاهر بإمعان، ووقع منها على ضالته التي كان ينشدها من زمن بعيد، لأن العلماء من قبله كانوا يرددون مصطلح النظم ولا يعرفون له معنى، كما أنهم كانوا يرجعون إعجاز القرآن الكريم إلى نظمه، ويفاضلون بين نظم ونظم، ولكن لم يستطيعوا الكشف عن الخصائص، والدقائق، واللطائف التي تنشأ عن النظم، لأنهم - أصلاً - لم يعرفوا معنى النظم.
وقد جعل أبو سعيد السيرافي محور النظم على (معاني النحو) المنقسمة بين:
(أ) حركات اللفظ وسكناته
(ب) وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها.
(جـ) تأليف الكلام بالتقديم والتأخير.
منبهاً إلى أنه يجب أن نتوخى الصواب في ذلك، وتتجنب الخطأ من ذلك.
ولم ينس أن ينبه إلى أن كل نظرية لا بد لها من شواذ، تدور بين الندرة المستساغة والتأويل البعيد، أورد ما لم يجئ على عادة القوم، وحتى ما يتعلق باختلاف اللغات فهو مسلم لهم ومأخوذ عنهم.
وأن كل ذلك يعرف بالتتبع والرواية، والسماع، والقياس.
وهي نظرية - كما نرى - تكاد تكون شاملة لعلم البلاغة، كما تصوره عبد القاهر والمتأخرون من بعده.
وإليك ما قاله أبو سعيد ليكون أمامك، تستشف منه ملامح نظرية النظم التي تصورها وهو يرد على متى بن يونس الذي كان يزعم أن النحويين مع اللفظ، لا مع المعنى، وأن النحو لا جدوى منه، ويكفي منه معرفة القليل الذين يبين صحة الإعراب، وكفى:
(قال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطأ من ذلك.
وإن زاغ شيء عن هذا النعت، فإنه لا يخلو أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر، والتأويل البعيد، أو مردوداً، لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم.
فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل، فذلك شيء مسلم لهم، ومأخوذ عنهم.
وكل ذلك محصور بالتتبع، والرواية، والسماع، والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف) ثم قال:
(وإنما دخل العجب على المنطقين، لظنهم أن المعاني لا تعرف، ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم، فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون، وجعلوا تلك الترجمة صناعة، وادعوا على النحويين، أنهم مع اللفظ، لا مع المعنى).
وفي تلك العبادة التي ذيل بها أبو سعيد السيرافي حديثه عن نظريته في النظم، كما تصورها، بيان للسب الذي من أجله اخترع عبارة (معاني النحو) اختراعاً، لأنها - على حد علمنا - لم تؤثر عن أحد من العلماء قبله، فالتقطها عبد القاهر - من بعده - فجعلها - كما جعلها السيرافي - أيضاً - محور النظم، وقطب الدائرة فيه، وكررها في الدلائل ما يقرب من ستين مرة، وهذا السبب هو: أن المنطقيين كانوا يتوهمون أن (المعاني) لا يمكن معرفتها وتوضيحها، إلا بطريقتهم ونظرهم وتكلفهم، فأراد أن يبين لهم أن المعاني، كما تعرف بقواعد المنطق، فإنها تعرف - أيضاً - بقواعد علم النحو، فأطلق على المعاني المستفادة من تتبع أحكامه وقوانينه:(معاني النحو).
ولهذا صاغ عبد القاهر نظرية النظم، على هذا القول:(تتبع - أو توخي - معاني النحو فيما بين الكلم، على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام).
وأنت تشعر - معي - بأن عبد القاهر، قد أخذ من مناظرة أبي سعيد شطر النظرية فحسب، وهو:(تتبع أو توخى - معاني النحو فيما بين الكلم)، أما شطرها الآخر، وهو:(على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام) فليس مما قاله أبو سعيد، في مناظرته.
ومن الطريف أن أبا حيان التوحيدي الذي روى مناظرة أبي سعيد السيرافي، كان قد تتلمذ على أستاذين أحدهما: منطقي - وهو أبو سليمان المنطقي - والآخر: نحوي، وهو: أبو سعيد السيرافي النحوي، وأنه قد أورد لأبي سليمان المنطقي نظرية في النظم، لم ترد فيها (معاني النحو)، بينما أورد مناظرة أبي سعيد التي تجد بها نظرية النظم قائمة على (معاني النحو) - كما ترى -.
وقد جاءت النظريتان في كتابة "الإمتاع والمؤانسة" وقد وردت نظرية أبي سليمان المنطقي على النحو التالي:
"المعاني المعقولة بسيطة (أي: بسوطة) في بحبوحة النفس، لا يحوم عليها شيء قبل الفكر، فإذا لقيها الفكر بالذهن الوثيق، والفهم الدقيق، ألقى ذلك إلى العبارة "والعبارة حينئذ تتركب بين وزن هو: النظم للشعر، وبين وزن هو: سياقة الحديث وكل هذا راجع إلى نسبة صحيحة أو فاسدة، وصورة حسنة أو قبيحة، وتأليف مقبول، أو ممجوج، وذوق حلو أو مر، وطريق سهل أو وعر، واقتضاب مفضل، أو مردود، واحتجاج قاطع أو مقطوع، وبرهان مسفر أو مظلم، ومتناول قريب أو بعيد، ومسموع مألوف أو غريب" (1).
وهذه النظرية تقوم على: أن المعاني المعقولة في النفس تخرج إلى العبارة بالفكر، فتتركب بين وزني: الشعر والنثر، وأن المدار فيها على (صحة المعنى) و (حسن الصورة) و (سلامة التأليف)، وليس فيها - كما ترى - أثر المعاني النحو، ولهذا لم يعرج عليها عبد القاهر، مع أنهما موجودان في كتاب واحد! .
وقد أردف عبد القاهر - في الدلائل - شطر النظرية، بفصل آخر
(1) الإمتاع والمؤانسة 2/ 138، 139.
بعنوان: (فصل في أن هذه المزايا في النظم بحست المعاني والأغراض التي تؤم) مكملا شطرها الآخر؛ وقال فيه:
" .. وإذ قد عرفت أن مدار النظم على (معاني النحو) وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه؛ فأعلم أن الفروق والوجوه كثيرة، ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها، ثم أعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض لها بسبب المعاني، والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض.
وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش، فكما أنك قد ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها، ومقاديرها، وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها. إلى ما لم يتهد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، كذلك حال الشاعر والشاعر، في توخيهما معاني النحو، ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم" (1).
وقد كدت أثبت لعبد القاهر هذا الفضل، وأن إتمام النظرية لكان من بنات أفكاره، وذلك قبل أن أتأكد من أن (سر الفصاحة) لابن سنان الخفاجي الذي انتهى منه في الثاني من شعبان سنة 454 هـ قد ألف قبل (دلائل الإعجاز) فلما ثبت لدى ما يؤكد لي أسبقية (سر الفصاحة) على (دلائل الإعجاز)(2) أمعنت النظر فيه لكي أنبين مواطن الأخذ منه "للدلائل"، فوجدت أن الشطر الآخر من نظرية النظم، وهو قول
(1) الدلائل 69، 70.
(2)
مضى ذلك في هذا البحث.
عبد القاهر: (على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام) مأخوذ من من كتاب (سر الفصاحة) لابن سنان، وهو يتحدث عن (الكلام في الألفاظ المؤلفة).
وكان هو - أيضاً - يتحدث عن نظرية النظم، ولكن بطريقة المعتزلة، التي تفرض أن النظم المخصوص لا يشتمل على معاني النحو، ويقدم لهذه النظرية، - متأثراً بما كتبه أبو هلال العسكري في الصناعتين - بأن كل صناعة، إنما تكمل بخمسة أشياء: الموضوع، والصانع، والصورة، والآلة، والغرض، فيقول" إن كل صناعة من الصناعات، كما لها بخمسة أشياء - على ما ذكره الحكماء -:
الموضوع: وهو الخشب في صناعة النجارة، والصانع، وهو النجار والصورة، وهو: التربيع المخصوص؛ إن كان المصنوع كوسيا، والآلة، مثل: المنشار، والقدوم، وما يجري مجراها، والغرض: وهو: أن يقصد - على هذا المثال - الجلوس فوق ما يصنعه" (1).
وما دام تأليف الكلام صناعة، فإنه يطبق النظم على هذه النظرية، بأن الموضوع. هو الكلام المؤلف، والصانع هو: الشاعر، أو الأديب، والصورة هي الفصل للأديب، والبيت، للشاعر، والآلة هي: الطبع، وأما الغرض فبحسب الكلام، فيقول:
"وإذا كان الأمر على هذا، ولا تمكن المنازعة فيه، وكان تأليف الكلام المخصوص صناعة، وجب أن نعتبر فيها هذه الأقسام، فنقول:
إن الموضوع هو: الكلام المؤلف من الأصوات على ما قدمت.
(1) سر الفصاحة 82، 83.
وأما الصانع المؤلف فهو الذي ينظم الكلام بعضه مع بعض، كالشاعر، والكاتب، وغيرهما.
وأما الصورة: فهي كالفصل للكاتب، والبيت للشاعر وما جرى مجراهما.
وأما الآلة: فأقرب ما قيل فيها: طبع هذا الناظم، والعلوم التي اكتسبها بعد ذلك، ولهذا لا يمكن أحداً أن يعلم الشعر من لا طبع له - وإن جهد في ذلك - لآن الآلة التي يتوصل بها غير مقدورة لمخلوق، ويمكن تعلم سائر الصناعات لوجود كل ما يحتاج إليه من آلاتها.
وأما الغرض: "بحسب الكلام المؤلف، فإن كان مدحاً، كان الغرض به قولاً ينبئ عن حال الممدوح وإن كان هجوا، فبالضد، وعلى هذا القياس كل ما يؤلف، وإذا تأملته وجدته كذلك"(1).
وواضح من الفقرة الأخيرة من كلام ابن سنان، ومن ترتيبه للأمور التي تقوم عليها عملية النظم: أنه يجعل الغرض ثمرة نهائية للنظم، لأنك إنما تنظم كلاماً في المدح - مثلاً - لتنبئ به عن عظم الممدوح، أو في الهجاء، لتنبئ به عن حقارة المهجو، وهكذا
…
وهذا المعنى يفيد: أنك: تتوخى معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يساق لها الكلام، فإن كان الغرض هو الأخبار عن رفعة الممدوح - مثلاً - ذكرت المسند إليه لتعظيمه، وإن أردت الإخبار عن حقارته حذفته، لتصون لسانك عن ذكره، وهكذا.
وحقاً، إن ابن سنان يقول:(الغرض بحسب الكلام) بينما يقول عبد القاهر: (الكلام بحسب الغرض) وذلك لأن نظرة كل منها إلى النظم
(1) سر الفصاحة 83، 84.
كانت مختلفة عن نظرة الآخر إليه، فنظرة ابن سنان إلى النظم كانت نظرة الناقد، الذي يبحث في الكلام عن الغرض منه، ليستطيع الحكم عليه بالجودة أو الرداءة؛ بينما كانت نظرة عبد القاهر إلى النظم، نظرة الناظم، الذي ينظم الكلام على حسب الأغراض.
وعلى أية حال: فقد أحسن عبد القاهر استغلال فكرة ابن سنان أيما إحسان! .
ثم شرح عبد القاهر ما يقصده من تتبع - أو توخي - معاني النحو فيما بين الكلم: بأن النظم ليس إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه، وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت؛ فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك؛ فلا تخل بشيء منها؛ كأن تنظر في أوجه الخبر، والشرط، والجزاء، والحال، والحروف التي تشترك في معنى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية. وفي الجمل التي ترد، فتعرف فيها موضع الفصل من موضع الوصل، وتتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار والإظهار والإضمارـ، فتضع كل ذلك في مكانه، وموقعه، وتستعمله استعمالاً صحيحاً موفقاً.
وهكذا نجد أن عبد القاهر، قد أخذ عن أبي سعيد السيرافي شطر (نظرية النظم) وأتم شطرها الآخر مما وجده في (سر الفصاحة) لابن سنان الخفاجى، ثم أخذ في إقامة الدليل على صحتها بما يلي:
أولاً: أنك لا تجد كلاماً يرجع صوابه - إن كان صواباً - وخطؤه - إن كان خطأ - إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه واستعمل في غير ما ينبغي له.
(10 - دلائل الإعجاز)
فأنت لا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم، أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد، وتلك المزية وذلك الفضل، إلى معاني النحو وأحكامه ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه.
ثانياً: أن النقاد السابقين - كالقاضي الجرجاني وأبي هلال العسكري - قد كشفوا عن وجه النظم، حيث ذكروا فساده في نحو قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكاً
…
... أبو أمه حى أبوه يقاربه
وفي نظائره، مما تواصفوه بفساد النظم، وعابوه من جهة سوء التأليف، فليس يخالف أحد في أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب، وصنع في تقديم، أو تأخير، أو حذف، وإضمار، أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه، ومالا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم.
ثالثاً: إذ ثبت أن فساد النظم، واختلاله هو: ألا يعمل بقوانين علم النحو، ثبت أن سبب صحته هو: أن يعمل عليها، ثم إذا ثبت أن مستنبط صحته وفساده من هذا العلم، ثبت أن الحكم كذلك في مزيته والفضيلة التي تعرض فيه. وإذا ثبت جميع ذلك ثبت أن ليس هو شيئاً غير توخى معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم.
وهكذا تجد أن عبد القاهر قد أخذ نظرية النظم من مناظرة أبي سعيد السيرافي، وأتمها بما قرأه في (سر الفصاحة) لابن سنان الخفاجي، ورأى أن مهمته - في الدلائل - هي: إثبات صحتها بالدليل المنطقي - كما رأيت - وكأنها نظرية هندسية تؤدي معطياتها إلى نتائج حتمية، لا يخالف فيها أحد.
ومن الطريف أن عبد القاهر - وهو يؤلف الأسرار، ولم يكن قد أطلع على مناظرة أبي سعيد التي ألهمته (معاني النحو) - قد قارن بين بيت الفرزدق الذي يضرب به المثل في التعقيد، وبين الأشعار التي أثنوا عليها فلم يستنتج منها ما توصل إليه في الدلائل، من أن النظم هو: توخي معاني النحو فيما بين الكلم، وذلك حيث يقول: "فخذ إليك الآن بيت الفرزدق الذي يضرب به المثل في تعسف اللفظ:
وما مثله في الناس إلا مملكاً
…
أبو أمه حي أبوه يقاربه
فأنظر: أيتصور أن يكون ذمك للغظه من حيث أنك أنكرت شيئاً من حروفه، أو صادفت وحشيا غريباً، أو سوقياً ضعيفاً، أم ليس إلا لأنه لم يرتب الألفاظ في الذكر، على موجب ترتب المعاني في الفكر .. ؟
وإذا وجدت ذلك أمراً بيناً لا يعارضك فيه شك، ولا يملكك منه امتراء، فانظر إلى الأشعار التي أثنوا عليها من جهة الألفاظ، ووصفوها بالسلاسة، ونسبوها إلى الدمائه، وقالوا كأنها الماء جريانا، والهواء لطفاً، والرياض حسناً، وكأنهم النسيم، وكأنها الرحيق مزاجها التسنيم، وكأنها الديباج الخسرواني في مرامي الأبصار، ووشى أن ص 143 منشوراً على أذرع التجار، كقوله:
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على دعم المهارى رحالنا
…
ولم ينظر الغادى الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسألت بأعناق المطى الأباطع
ثم راجع فكرتك، وأشحذ بصيرتك. وأحسن التأمل، ودع عنك التجوز في الرأي ثم انظر: هل تجد لاستحسانهم، وحمدهم وثنائهم ومدحهم منصرفاً، إلا إلى استعارة وقعت موقعها، وأصابت غرضها وحسن ترتيب تكامل معه البيان، حتى وصل المعنى إلى القلب، مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن؛ وإلا إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد، والفضل الذي هو كالزيادة في التحديد .... ؟ ".
فعبد القاهر - هنا - وهو يؤلف الأسرار، لم يستنتج من مقارنته تلك إلا أن فضيلة الكلام إنما هي في ترتيب الألفاظ في الذكر، على حسب ترتيبها في الفكر، مما يدلك على أنه لم يكن قد اطلع على مناظرة أبي سعيد، التي فيها أن النظم إنما هو: توخي معاني النحو فيما بين الكلم.
بل إن الحقيقة التي لم يلحظها كثير من البلاغيين هي أن (أسرار البلاغة) يخلو تماماً من كلمتي: (النظم) و (معاني النحو)! !
وهما الكلمتان اللتان أدار عليهما عبد القاهر الجرجاني (دلائل الإعجاز) وكرر كلا منهما أكثر من خمسين مرة!
وليس هذا فحسب، بل إنك عندما تقرأ "الدلائل" تحس بأن مهمته فيها تكاد تكون منصبة على إثبات صحة نظرية النظم، وأنها ليست إلا تتبع - أو توخي - معاني النحو فيما بين الكلم.
ومن الطريف أيضاً أن أبا هلال العسكري - وهو الذي سبق عبد القاهر في قراءة مناظرة أبي سعيد السيرافي - قد صنع ما يقرب من صنيع عبد القاهر - في المقارنة بين نصوص توصف بحسن النظم، وأخرى توصف بسوء النظم؛ ولكنه لم يتوصف إلى ما توصل إليه عبد القاهر؛
لأنه - كما أسلفنا - قد أخطأ طريق المعاني المقصودة في النظم وهي (معاني النحو) إذ تركها متجهاً إلى (توخي صواب المعنى).
ومما قاله في هذا المعنى (1):
وحسن الرصف (أي النظم): أن توضع الألفاظ موضعها، وتمكن في أماكنها؛ ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير، والحذف والزيادة، إلا حذفاً، لا يفسد الكلام؛ ولا يعمى المعنى، ويضم لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لفقها.
وسوء الرصف (أي النظم): تقديم ما ينبغي تأخيره منها، وصرفها عن وجوهها، وتغيير صيغتها ومخالفة الاستعمال في نظمها.
ثم قال: فمن سوء النظم: المعاطلة؛ ومثل لها يقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكا
…
... أبو أمه حى أبوه يقاربه
ومن الكلام المستوى النظم الملتئم الرصف: قول بعض العرب:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً
…
كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى
…
ولا المال إلا من قنا وسيوف
ومن الملاحظ - أيضاً - أن أبا هلال قد استخدم كلمة (الرصف) مكان كلمة (النظم) في قوله: (حسن الرصف) و (سوء الرصف)
(1) الصناعتين 153، 154، 157 (ط محمد علي صبيح).
و (الملتئم الرصف) لتأثره بما قاله أبو سعيد السيرافي، في مناظرته، إذ قال أمتى بن يونس عن اللغة العربية -:(إنك في هذا الاسم، والفعل، والحرف، فقير إلى رصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها).
ومن قبل أبي هلال رأى القاضي الجرجاني أن صحة النظم في العمل بقوانين النحو (1)، وأن فساده في عدم العمل بها (2)، ولكنه لم يستنتج ما توصل إليه عبد القاهر، وهو أن النظم هو تتبع - أو توخي - معاني النحو فيما بين الكلم، بل إن عبارة (معاني النحو) لم ترد أصلاً في وساطته بين المتنبي وخصومه.
وقد حاول أن يضع لنفسه نظرية في النقد، لا تخرج عن نظرية النظم، وتعتمد هذه النظرية على أن الكلام أصوات، محلها من الأسماع، محل النواظر من الأبصار، فللكلام صور عقلية تشبه الصور الحسية "وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم - وإن قاسيت واعتبرت ونظرت وفكرت - لهذه المزية سبباً، ولما خصمت به مقتضياً كذلك الكلام منتوره ومنظومه ومجمله ومفصله:
(1) الوساطة 191، 192.
(2)
الوساطة 79، 98.
(ا) فالمحكم الوثيق، والجزل القوي، والمنمق الموشح، الذي قد هذب كل التهذيب، وثقف غاية التثقيف وجهد فيه الفكر، وأتعب لأجله الخاطر، لا يلقى قبولاً من القلب إلا بنفسه، وجوهره، ومكانه، وموقعه ولا عبرة بالتزويق والتنميق بأنواع البديع.
(ب) والمختل المعيب، والفاسد المضطرب، له وجهان:
أحدهما: ظاهر يشترك الناس في معرفته، ويقل التفاضل في العلم به، وهو ما كان اختلاله وفساده من باب اللحن والخطأ من ناحية الإعراب، واللغة، وأظهر من هذا: ما عرض له ذلك من قبل الوزن، والذوق.
والآخر: غامض، يوصل إلى بعض بالرواية، ويوقف على بعضه بالدراية، ويحتاج في كثير منه إلى دقة الفطنة، وصفاء القريحة، ولطف الفكر وبعد الغوص.
(جـ) وملاك ذلك كله، وتمامه الجامع له، والزمام عليه، الطبع، وإدمان الرياضة، فإنهما أمران، ما اجتمعا في شخص، فقصرا في إيصال صاحبهما عن غايته، ورضيا له بدون نهايته.
(د) أقل الناس حظا بمعرفة النقد هو: من اعتمد على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب، وأداء اللغة ثم الاهتمام بتزيين الكلام بأنواع البديع.
وأما العارف بحقيقة النقد، فهو الذي يعتمد - في نقده - على صحة الترتيب، وسلامة النظم وحسن التأليف، وقوة النسج، ويقابل بين الألفاظ ومعانيها ويسير ما بينهما من نسب، ويمتحن ما يجتمعان فيه من سبب.
على أن هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد بأن القاضي الجرجاني قد قرأ مناظرة أبي سعيد السيرافي، بل وأفاد منها - في وساطته - وهي:
1 -
أن أبا سعيد السيرافي قد رأى أن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم، وقد قامت نظرية القاضي الجرجاني - في النقد - على هذا الأساس - كما رأيت -
2 -
أن أبا سعيد قد رأى أن فاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل، وكذلك رأى القاضي الجرجاني في نقده للشعر - في وساطته - كأن يقول:"وهذا المعنى فاسد (1) " بعد أن يورد بيتاً فاسد المعنى.
3 -
أن القاضي الجرجاني قد أفاد، من قول أبي سعيد السيرافي - في مناظرته - إنك إذا قلت:"زيد أفضل إخوته" لم يجز "وإن قلت: "زيد أفضل الإخوة" جاز، والفرق بينهما: أن إخوة زيدهم غير زيد، وزيد خارج عن جملتهم، فسلم يجز أن تقول: "أفضل إخوته"، كما لم يجز أن تقول: "إن حمارك أفره البغال"، لأن الحمير غير البغال، كما أن زيداً، غير إخوته".
أفاد القاضي الجرجاني من هذا الكلام - وهو يرد على من أنكر على أبي الطيب قوله:
فالغيث أبخل من سعى
فزعم أن "من" لا تكون إلا لمن يعقل، وأفعل" لا يجري إلا على البعض من تلك الجملة، تقول "زيد أفضل من الناس"، فلابد أن يكون زيد من الناس؛ ولو قلت: "أفضل الحمير" لم يصح، وكذلك لو قلت: "أفضل ما يقضم الشعير، ويرعى الكلأ" لم يجز، قال فمن سعى لا يقع إلا على عاقل والغيث ليس من هذه الجملة".
ويرد القاضي الجرجاني على هذا المعترض، بأن هذا الاعتراض،
(1) الوساطة 77.
يدل على تقصير شديد في العلم بكلام العرب، لأن العرب إذا وصفت الشيء بصفة غيره، استعارت له ألفاظه، وأجرته في العبارة مجراه - وإن كان لو انفر "اتفرد عنه بصفته، وتميز دونه بعبارته"(1).
وهو بهذا يؤكد ما يراه، من أنه لا غنى للنحوي من الإلمام بمعاني العرب، وطرق استعمالاتهم لها، كما أنه لا غنى للمعنوي عن الإلمام بقواعد النحو، وكيفية تطبيقها على كلامهم.
ولعلك قد لاحظت أن القاضي الجرجاني قد أشار إلى طائفتين:
الأولى: وهم أقل الناس حظاً بمعرفة النقد، ولا يعتمدون إلا على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب، وأداء اللغة، والاهتمام بتزيين الكلام.
والثانية: وهم العارفون بحقيقة النقد، ويعتمدون في نقدهم على صحة الترتيب، وسلامة النظم وحسن التأليف، وقوة النسج، مع معرفتهم بما بين الألفاظ من نسب، أو أسباب.
وأن عبد القاهر قد أشار إلى هاتين الطائفتين من النقاد - في أول الدلائل -، إذ قال عن الطائفة الأولى: "ترى الواحد منهم يسمع الفصاحة، والبلاغة، والبراعة، فلا يعرف لها معنى سوى الأطناب في القول، وأن يكون المتكلم جهير الصوت. وأن يستعمل اللفظ الغريب، والكلمة الوحشية، فإن استظهر للأمر وبالغ في النظر، فأن لا لديلحن، فيرفع في موضع النصب، أو يخطئ فيجئ باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي، وعلى خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب، وجملة الأمر، أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه - في ذلك - إلا من جهة نقصه في علم اللغة.
(1) الوساطة 439.
وقال عن الطائفة الثانية: إنها تستخرج دقائق وأسراراً، طريق العلم بها الروية والفكر، ولطائف مستقاها العقل، وخصائص معان انفردوا بها، وهدوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها ورفعت الحجب بينهم وبينها، وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجب أن يفضل بعضه بعضاً (1).
(1) الدلائل 6.