الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - المدخل إلى دلائل الإعجاز
ألف عبد القاهر الجرجاني "كتيباً" صغيراً في عدة صفحات بعد أن انتهى من تأليف كتابه "دلائل الإعجاز"؛ وأسماه: "المدخل إلى دلائل الإعجاز"؛ وواضح من تسميته: أنه أراد به أن يهيئ القارئ لكي يفهم دلائل الإعجاز؛ وأن يعطيه فكرة موجزة عن نظرية النظم التي أدار عليها هذا الكتاب، وهو صنيع تأثر فيه - أيضاً - بأبي سعيد السيرافي؛ فقد ألف السيرافي كتاباً أسماه:(المدخل إلى كتاب سيبويه).
ولما كان "المدخل إلى دلائل الإعجاز" قائماً على إعطاء القارئ فكرة موجزة عن نظرية النظم التي وجدها في مناظرة أبي سعيد؛ فقد وجد في المناظرة - أيضاً - مفاتيح تلك النظرية؛ وهي أن اللغة مكونة من الاسم، والفعل، والحرف وأن المتكلم بها محتاج إلى رصفها، وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها؛ وذلك عندما قال يونس بن متى لأبي سعيد السيرافي:(يكفيني من لغتكم هذه، الاسم، والفعل، والحرف .. ورد عليه أبو سعيد بقوله: (أخطأت؛ لأنك في هذا الاسم، والفعل، والحرف "ففير إلى رصفها، وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها، وكذلك أنت محتاج - بعد هذا - إلى حركات هذه الأسماء، والأفعال، والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات، كالخطأ والفساد في المتحركات).
فهم عبد القاهر من هذا الكلام: أن المتكلم إذا أراد أن ينظم كلاماً - وهو مكون من الاسم، والفعل، والحرف - فلا بد له
من تعليق الكلم بعضها ببعض، مع ملاحظة صحة الكلام من ناحية الإعراب، بحيث يكون الاسم مثلاً: واقعاً مبتدأ، أو خبراً أو فاعلاً، أو مفعولاً، فيلاحظ حركة الرفع والنصب، ويكون الفعل محتاجاً إلى فاعل، أو فاعل ومفعول، أو يكون متعلقاً بما قبله، بأن يكون خبراً، أو صفة، أو حالاً ويكون الحرف - كذلك - متعلقاً بما قبله وما بعده، بأن يكون رابطاً بين اسمين أو فعلين، وهكذا.
فلا بد من أن تكون هناك علاقات تربط بين الاسم والفعل والحرف. في رصف اللغة وبنائها على حسب ترتيبها الواقع في غرائز أهلها، لأنه إذا لم توجد مثل هذه العلاقات، لا يكون بناء، ولا رصف على حسب الترتيب الواقع في النفس.
ومن هنا وجد عبد القاهر الفرصة لتطوير فكرة كتابه "العوامل المائة" في النحو والذي كان قد ألفه قبل الدلائل وكان عوناً له على إيضاح نظرية النظم القائمة على توخي معاني النحو فيما بين الكلم:
وقد حاول عبد القاهر - من خلال "دلائل الإعجاز" - أن يتدرج بقارئه لإفهامه معنى تعلق الكلم بعضها ببعض على النحو التالي:
أولاً: أن معنى ضم الكلم بعضها إلى بعض لا يعني أن ينطق بعضها في إثر بعض من غير أن يكون فيما بينها تعلق بل فلا بد من تعليق بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض.
ثانياً: أن التعلق يكون فيما بين معاني الكلم، لا فيما بينها أنفسها، ولهذا انقسمت الكلم إلى قسمين: مؤتلف "وهو الاسم مع الاسم والاسم مع الفعل. وغير مؤتلف وهو: ما عدا ذلك، كالفعل مع الفعل، والحرف مع الحرف.
ثالثاً: أن العلاقات بين معاني الكلم - حين يضم بعضها إلى بعض - هي معاني النحو، لأنه "لا يتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفراداً ومجردة من معاني النحو، فلا يقوم في وهم، ولا يصح في عقل أن يتفكر متفكر، في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعمال فعل فيه، وجعله فاعلاً له، أو مفعولاً، أو يريد منه حكماً سوى ذلك من الأحكام مثل: أن يريد جعله مبتدأ، أو خبراً، أو صفة، أو حالاً، أو ما شاكل ذلك.
ولهذا فإنك إذا عمدت إلى أي كلام، وأزلت عنه تلك العلاقات، لم يصبح كلاماً، كما إذا قلت في (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)، (من نبك قفاً، حبيب، ذكرى، منزل) فإنه يخرج من كمال البيان إلى محال الهذيان!
رابعاً: أننا إذا تأملنا وجدنا الذي يكون في الألفاظ، من تقديم شيء منها على شيء إنما يقع في النفس أنه نسق مخصوص، إذا اعتبرنا ما توخى فيها من معاني النحو، لأنك لو فرضت في قوله:(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) أن لا يكون (نبك) جواباً للأمر، ولا يكون معدى بمن إلى (ذكرى) ولا يكون (ذكرى) مضافة إلى (حبيب) ولا يكون (منزل) معطوفاً بالواو على حبيب، لخرج ما ترى فيه من التقديم والتأخير عن أن يكون نسقاً، لأنه إنما يكون تقديم الشيء على الشيء ونسقاً، وترتيباً، إذا كان ذلك التقديم قد كان لموجب أوجب أن يقدم هذا، ويؤخر ذاك.
خامساً: أنه لا يتصور أن يقع منك قصد، إلى معنى كلمة دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى، لأنه من المعلوم. أنك لا تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها، فلا تقول. (خرج زيد) لتعلمه معنى (خرج) في اللغة ومعنى (زيد) فيها.
وليس معنى هذا، أن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلم المفردة أصلاً، وإنما يريد: أنه لا يتعلق بها مجردة من معاني النحو، لأنك إذا فكرت في الفعلين، أو الاسمين، تريد أن تخبر بأحدهما عن الشيء، أيهما أولى أن تخبر به عنه، وأشبه بغرضك؟ مثل: أن تنظر أيهما أمدح أو أذم، وفكرت في الشيئين، تريد أن تشبه الشيء بأحدهما: أيهما أشبه به، كنت قد فكرت في معاني أنفس الكلم، إلا أن فكرك ذلك لم يكن إلا من بعد أن توخيت فيها من معاني النحو وهو: أن أردت جعل الاسم الذي فكرت فيه خبراً عن شيء أردت فيه مدحاً، أو ذماً. أو تشبيهاً أو غير ذلك من الأغراض، ولم تجئ إلى فعل، أو اسم، ففكرت فيه فرداً، ومن غير أن لك قصداً أن تجعله خبراً، أو غير خبر.
ولهذا: لم يكن الفعل وحده دون الاسم، ولا الاسم وحده دون اسم آخر، أو فعل كلاماً، وكنت لو قلت: خرج، ولم تأت باسم. ولا قدرت فيه ضمير الشيء، أو قلت: زيد، ولم تأت بفعل ولا سم آخر، ولم تضمره في نفسك، كان ذلك وصوتاً تصوته سواء.
قال عبد القاهر - مفسراً معنى النظم - ومتأثراً بفكرة أبي سعيد السيرافي، في كيفية نظم الاسم، والفعل، والحرف:
"معلوم أن ليس النظم سوى تعلق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض.
والكلم ثلاث: اسم، وفعل، وحرف، وللتعلق فيما بينها طرق معلومة وهو لا يعدو ثلاثة أقسام تعلق اسم باسم، وتعلق اسم بفعل، وتعلق حرف بهما.
ثم ذكو كيفية التعلق في كل قسم من هذه الأقسام، إلى أن قال:
ومختصر الأمر: أنه لا يكون كلام من جزء واحد، وأنه لا بد من مسند، ومسند إليه، وكذلك السبيل في الحرف رأيته يدخل في جملة، كإن وأخواتها: ألا ترى أنك إذا قلت. (كأن) يقتضي مشبهاً، ومشبهاً به، كقولك: كأن زيداً الأسد. وكذلك إذا قلت: (لو) و (لولا) وجدتهما يقتضيان جملتين تكون الثانية جواباً للأولى؟
ثم هو لا يتركنا إلا بعد أن يبين أن تلك الطرق والوجوه في تعلق الكلم بعضها ببعض: إنما هي معاني النحو وأحكامه.
و(معاني النحو) هي التي أطلقها أبو سعيد السيرافي، وقال: إنها بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك:
وكلام أبي سعيد يفهم منه أن حركات اللفظ تشمل: الاسم والفعل ومن عبارة: "وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها" يأتي: الحرف، ولهذا قسم عبد القاهر في "المذخل" الكلام إلى اسم، وفعل، وحرف، ثم بين وجوه التعلق فيما بينها.