الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - الدافع إلى تصنيف الدلائل
كان عبد القاهر الجرجاني أشعرياً، وكان عبد الجبار الأسد أيادي المتوفى سنة 415 هـ معتزلياً، بل إنه كان رأس المعتزلة في زمانه، وكان أبو الحسن الأشعري مؤسس مذهب الأشاعرة قد كتب تفسيراً مطولاً، ينقض فيه تفسير أستاذه، أبي علي الجبائي إمام المعتزلة في عصره، ويرد عليه، أسماه:"تفسير القرآن، والرد على من خالف البيان، من أهل الإفك والبهتان، وقال فيه: "ورأيت الجبائي ألف في تفسير القرآن، كتاباً، أوله على خلاف ما أنزل الله عز وجل وعلى لغة أهل قريته المعروفة يجي، وليس من أهل اللسان الذي نزل به القرآن. وما روى في كتابه جرفاً واحداً عن أحد من المفسرين، وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه، ولولا أن استغوى بكتابه كثيراً من العوام، واستزل به عن الحق كثيراً من الطعام لم يكن لتشاغلي به وجه (1).
وقد سار القاضي عبد الجبار على نهج أستاذه، أبي علي الجبائي في تفسير القرآن الكريم، وصب جام غضبه على أبي الحسن الأشعري، فقال فيما قال -حين عرض لرأي أبي الحسن الأشعري في استحقاقه- تعالى الصفات: "ثم نبغ أبو الحسن الأشعري، وأطلق القول بأنه -تعالى يستحق هذه الصفات، لمعان قديمه، لوقا حته، وقلة مبالاته بالإسلام والمسلمين، مما جعل عبد القاهر الجرجاني يتصف لشيخه أبي الحسن الأشعري، فقال فيما قال -عن الجبائي: -
(1) متشابه القرآن عبد الجبار ص 36.
"فمن ضلالات الجبائي: أنه سمي الله عز وجل مطيعاً لعبده إذا فعل مراد العبد، وكان سبب ذلك أنه قال- يوماً- لشيخنا أبي لحسن الأشعري رحمه الله: ما معنى الطاعة عندك؟ فقال: موافقة الأمر؛ وسأله عن قوله فيها: فقال الجبائي: حقيقة الطاعة عندي: موافقة الإرادة، وكل من فعل مراد غيره، فقد أطاعه، فقال شيخنا أبو الحسن رحمه الله ايلزمك على هذا الأصل وأن يكون الله -تعالى- مطيعاً لعبده إذا فعل مراده، فالتزم ذلك، فقال له شيخنا رحمه الله خالفت إجماع المسلمين، وكفرت برب العالمين، ولو جاز أن يكون الله -تعالى- مطيعاً لعبده، لجاز أن يكون خاضعاً له -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-"(1).
وقد ألف عبد الجبار كتابيه: "تنرية القرآن عن المطاعن""ومتشابه القرآن"، كما ألف تفسيراً كاملاً للقرآن الكريم، يقع في مائة جزء، كما ألف كتابه "المغنى في أبواب التوحيد والعدل".
ويعد كتابه: "متشابه القرآن" من أهم كتب المعتزلة التي تكشف عن منهجهم في تفسير القرآن، ويعتمد هذا المنهج على أمرين هما: العقل، واللغة، أي: الدليل العقلي، والدليل اللغوي:
أما الدليل العقلي: فإنه يتلخص في وجوب معرفة الله تعالى بدليل العقل -أولاً- وأنه- تعالى- حكيم، لا يختار فعل القبيح، لأن هذه المعرفة يمكن معها القول بأنه -تعالى- صادق في إخباره وكلامه، وأنه لا يجرى المعجز على الكذابين، وبالتالي فإنه يمكن الاستدلال بالقرآن على ما يدل عليه.
وأما الدليل اللغوي: فإنه يتمثل في الاستعانة باللغة -على التأويل- سواء في ذلك المفردات، وقواعد النحو والإعراب، والعناية بالنظم
(1) الملل والنحل للشهر ستاني 1/ 78 (هامش).
القرآني، وضرورة بقاء الصلة اللغوية والمعتوية قائمة بين الآية أو الآيات.
وفي الجزء الخاص بإعجاز القرآن الكريم من كتابه "المغنى في أبواب التوحيد والعدل" عقد فصلين قصيرين، عرض في أولهما رأي أستاذه أبي هاشم الجبائي في الفصاحة التي بها يفضل بعض الكلام بعضاً؛ معقباً عليه.
وأما ثانيهما: فقد عرض فيه رأيه الخاص في الفصاحة، فقال:"أعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولابد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة أو حركاتها، أو موقعها، ولابد من هذا الاعتبار، في كل كلمة إذا انضم بعضها إلى بعض، لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها، وحركاتها، وموقعها".
ويلاحظ أن هذا الكلام منطق على ما جاء في كلام أبي سعيد السيرافي، عند حديثه عن نظم الكلام، غير أن عبد الجبار لم يمسك بخيط النظم الأساسي، وهو:(معاني النحو)، ولهذا فإنه لم يوفق في طريقة عرضها، وشرحها، كما عرضها وشرحها عبد القاهر من بعده، فمضى يذكر أن مزيه الكلام ترجع إلى لفظه لا إلى معناه، قائلاً:
"فإن قال (قائل): قد قلتم: إن في جملة ما يدخل في الفصاحة: حسن المعنى، فلا اعتبرتموه؟ قيل له: إن المعاني -وإن كان لابد منها- فلا تظهر فيها المزية
…
ولذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق
…
على أنا نعلم أن المعاني لا يقع
فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يعتبر التزايد عنده: الألفاظ التي يعبر بها عنها فإذ صحت هذه الجملة، فالذي تظهر به المزية ليس إلا الإبدال (أي لاختيار) الذي به تختص الكلمات أو التقدم والتأخر الذي يختص الموقع أو الحركات التي تختص الإعراب، فبذلك تقع المباينة (بين كلام وكلام).
فعبد الجبار -وإن كان قد تحدث عن إعجاز القرآن- فإنه لم يتحدث عن دلائل إعجازه، لأنه قصر في فهم نظرية النظم التي وردت في مناظرة أبي سعيد من وجهين:
أولهما: أنه لم يستطيع الإمساك بالخيط الأساسي المنظم وهو (معاني النحو فيما بين الكلم) لأنه لم يكن نحوياً، فلم يستطع عرض النظرية، أو شرحها أو تطبيقها.
والآخر: أنه قد أرجع مزية الكلام إلى لفظه، لا إلى معناه، لأن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ. وبهذا فإنه لم يستطع الوصول إلى دقائق النظم وأسراره وخصائصه.
ومع أن عبد الجبار قد قصر في فهم نظرية النظم، ولم يستطع الوصول إلى مرجع المزية فيه، إلا أنه قد شايعه الكثيرون ممن يشايعون المعتزلة ويؤازرونهم، ويثيرون الجدل والشغب في جرجان، ويظهرون الزهد في علم النحو، ويحقرون من شأنه، ويجهرون بأن قضيلة الكلام المفظة لا لمعناه بل ويفسرون القرآن دون أن يكون لهم شأن يذكر في فهم قواعد النحو ودقائقه، وخفاياه.
ولهذا فإن عبد القاهر الجرجاني قد أراد أن يحق الحق، ويبطل الباطل ويكشف الطريق الحقيقي عن دلائل الإعجاز، ويرد الاعتبار للأشاعرة
الذين أهينوا في شخص إمامهم أبي الحسن الأشعري، وأصبحوا يلعنون من فوق المنابر!
وكما أن أبا الحسن الأشعري قد رد أباطيل أبي علي الجبائي في تفسيره للقرآن الكريم، فإن عبد القاهر الجرجاني قد أراد أن يرد أضاليل القاضي عبد الجبار في فهمه لمعنى النظم الذي به يتم فهم معاني القرآن الكريم يقول عبد القاهر -مشيراً إلى القاضي عبد الجبار وأشياعه ممن أعجبوا بطريقة المعتزلة في تفسير القرآن بالعقل واللغة، دون الاعتماد على معاني النحو فيما بين الكلم، ويزهدون في علم النحو، ويحقرون من شأنه -:"ولو أن القدر المفتقر إليه القليل منه، اقتصروا على ذلك القليل، فلم يأخذوا أنفسهم بالقتوى فيه، والتصرف فيما لم يتعلموا منه، ولم يخوضوا في التفسير، ولم يتعاطوا التأويل، لكان البلاء واحدا، ولكانوا إذا لم يبنوا لم يهدموا، وإذا لم يصلحوا لم يكونوا سببا للفساد، ولكنهم لم يفعلوا فجلبوا من الداء ما أعي الطبيب وحيز اللبيب، وانتهى التخليط بما أتوه فيه إلى حد يئس من تلافيه، فلم يبق المعارف الذي يكره الشغب إلا المتعجب والسكوت، وما الآفة العظمى إلا واحدة، وهي، أن يجيء من الإنسان أن يجرى في لفظه ويمشي له أن يكثر في غير تحصيل، وأن يحسن البناء على غير أساس، وأن يقول الشيء لم يقتله علماً".
ثم يشير عبد القاهر إلى الزمان الذي كان يؤلف فيه (الدلائل) -وهو زمان لعن الأشاعرة من فوق المنابر- قائلاً: "ثم إنا وإن كنا في زمان هو على ما هو عليه، من إحالة الأمور عن جهاتها، وتحويل الأشياء عن حالاتها، ونقل النفوس عن طباعها "وقلب الخلائق المحمودة إلى أضدادها، ودهر ليس للفضل وأهله لديه إلا الشر صرفاً والغيط بحتاً وإلا ما يدهس عقولهم، ويسلبهم معقولهم: حتى صار أعجز الناس رأياً
عند الجميع من كانت له همة في أن يستفيد علماً، أو يزداد فهماً، أو يكتسب فضلاً، أو يجعل له ذلك بحال شغلاً -فإن الإلف من طباع الكريم، وإذا كان من حق الصديق عليك- ولاسيما إذا تقادمت صحبته، وصحت صداقته- أن لا تجفوه بأن تنكبك الأيام، وتضجرك النوائب، وتحرجك محن الزمان فتتناساه جملة، وتطويه طياً، فالعلم الذي هو صديق لا يحولا عن العهد، ولا يدخل في الود، وصاحب لا يصح عليه النكث والغدر "ولا يظن به الخيانة والمكر، أولى منه بذلك وأجدر، وحقه عليك أكبر.
ثم إن التوق إلى أن تقر الأمور قرارها، وتوضع الأشياء مواضعها والنزاع إلى بيان ما يشكل وحل ما ينعقد، والكشف عما يخفى، وتلخيص الصفة حتى يزداد السامع ثقة بالحجة، واستظهاراً على الشبهة، واستبانة للدليل، وتبيناً للسبيل، شيء في سوس العقل، وفي طباع النفس إذا كانت نفساً" (1).
وهنا عكف عبد القاهر الجرجاني على مناظرة أبي سعيد السيرافي التي عقدت بينه، وبين متى بن يونس المنطقي في مجلس أبي الفتح الفضل بن جعفر ابن الفرات وزير بني بويه في سنة 326 هـ، وأخذ في تأملها، واستنباط ما وراء أفكارها، فكرة، فكرة، ليرد على المعتزلة بكتابه:"دلائل الإعجاز":
(1) الدلائل 27، 28 (ط السيد محمد رشيد رضا)