الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
403 - بَابُ الوُضُوءِ مِنَ الغَضَبِ
2404 -
حَدِيثُ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ:
◼ عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ)).
[الحكم]:
إسنادُهُ ضعيفٌ. وَضَعَّفَهُ: ابنُ حِبَّانَ، وابنُ طَاهِرٍ القيسراني، والنوويُّ، والألبانيُّ. وهو ظاهر كلام ابن المنذرِ.
وقوله: ((الغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ))، لمعناه شاهد من حديث سليمان بن صُرَد عند البخاري ومسلم.
وقوله: ((وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ))، يشهدُ له صريحُ القرآنِ.
أما الأمر بالوضوء من الغضب، فلم نجدْ له شاهدًا!
[فائدة]:
قال ابنُ المنذرِ: "إن ثبتَ هذا الحديثُ، فإنما الأمرَ به ندبًا ليسكن الغضب. ولا أعلمُ أحدًا مِنْ أهلِ العلمِ يوجبُ الوضوءَ منه"(الأوسط عقب الحديث 147).
[التخريج]:
[د 4703 (واللفظُ لَهُ) / حم 17985/ طب (17/ 167/ 443) / مث
1267، 1431/ منذ 147/ مجر (1/ 518) / قا (2/ 307) / تخ (7/ 8)(دون الجملة الأخيرة) / صحا 5537/ مسخ 336/ شعب 7938/ فواهين 28/ مروض 411، 539/ بغ 3583/ كر (40/ 289، 464)، (54/ 221) / مسموع 9/ كما (20/ 34، 35) / أسد (4/ 43/ 1056) / نرسي (معروف 19، 20)].
[السند]:
رواه أحمدُ في (المسند 17985) -ومن طريقه ابنُ المنذرِ في (الأوسط 147)، وابنُ قانعٍ في (المعجم 2/ 307)، والطبرانيُّ في (الكبير 17/ 167/ 443)، وابنُ حِبَّانَ في (المجروحين 1/ 518)، وأبو نعيم في (المعرفة 5537) والبغويُّ في (شرح السنة 3583)، وابنُ عساكر في (تاريخ دمشق 54/ 221)، وأبو ذر الهرويُّ في (جزء فيه من مسموعاته 9)، والمزيُّ في (التهذيب 20/ 34 - 35) -.
ورواه أبو داود (4703) -ومن طريقه ابنُ الأثير في (أسد الغابة 4/ 43) - عن بكر بن خلف، والحسن بن علي (الخَلَّال).
ورواه ابنُ أبي عاصمٍ في (الآحاد والمثاني 1267، 1431) -ومن طريقه المزيُّ في (التهذيب 20/ 34 - 35) - عن الحسن بن علي الحُلْواني (الخَلَّال).
ورواه الخرائطيُّ في (مساوئ الأخلاق 336) عن إبراهيمَ بنِ الجُنَيْد.
ورواه ابنُ شاهين في (الفوائد 28) -ومن طريقه ابن عساكر (54/ 221) -، والبيهقيُّ في (الشعب 7938)، من طريقِ إسحاقَ بنِ رَاهَوَيْهِ.
ورواه ابنُ عساكر (40/ 289، 464) من طُرُقٍ عن أحمد بن منصور
الرمادي.
ستتهم عن إبراهيمَ بنِ خالدِ [بنِ عُبيدٍ]
(1)
[الصنعانيِّ]، حدثنا أبو وائل القاص [صنعاني مرادي]، قال: دَخلْنَا على عروةَ بنِ محمدٍ السعديِّ، فكلَّمه رجلٌ فأَغْضَبَهُ، فَقَامَ فَتَوضَّأ، ثم رَجَعَ وقد تَوضَّأَ، فقال: حدَّثني أبي، عن جدي عطية، به.
وفي روايةِ ابنِ أبي عاصم (1267): ((إِنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ مِنَ النَّارِ
…
)) إلخ.
ووَقَعَ في إحدى روايات أحمد بن منصور عند ابنِ عساكر (40/ 289) من طريقِ أبي الوفاء المؤمل بن الحسن المَاسَرْجَسي عنه: أن عروةَ بنَ محمدٍ قال: "حدَّثني أبي عن جدي عن أبيه، وكانتْ له صحبة"، وهذا خطأٌ، وقد رواه ابنُ صاعدٍ عن ابنِ منصورٍ به دون قوله:"عن أبيه"، ولذا قال ابنُ عساكر عقب رواية المؤمل:"وليس في حديث ابن صاعد (عن أبيه) وهو الصواب".
قلنا: وكذلك رواه الحافظُ البغويُّ عن أحمد بن منصور به، مثل رواية ابن صاعد (تاريخ دمشق 40/ 464)، وهو الموافقُ لرواية الجماعة عن إبراهيم بن خالد.
وعَلَّقَهُ البخاريُّ في (التاريخ الكبير 7/ 8)، فقال: قال إبراهيم بن موسى
(2)
:
(1)
زيادة من (المساوئ)، وهكذا نُسب إبراهيم في كتب التراجم.
ووقع في الموضع الثاني عند ابن أبي عاصم (1431): "إِبْرَاهِيمُ بنُ خَالِدِ بنِ أُمَيَّةَ بنِ شِبْلٍ"! ! ولا يوجد من يسمَّى بهذا الاسم! وأمية بن شبل هو شيخ لإبراهيم بن خالد، ولا علاقة له بهذا الحديث، فذِكره هنا مقحم.
(2)
هو الرازيُّ أحدُ شيوخِ البخاريِّ.
حدثنا إبراهيم بن خالد، مؤذن صنعاء، قال: حدثنا أبو وائل القاص، سمع عروة بن محمد بن عطية، قال: حدثني أبي، عن جدي، به دون قوله:((فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ)).
فالحديثُ مدارُه عندهم على إبراهيم بن خالد، عن أبي وائل القاص، عن عروة بن محمد بن عطية، عن أبيه محمد، عن جده عطية، به.
[التحقيق]:
هذا إسنادٌ ضعيفٌ، فيه:
1 -
أبو وائل القاص الصنعانيُّ المراديُّ، فقد اختُلِفَ في تعيينه، كما اختُلفَ في حاله:
فمنَ العلماءِ مَن ترجمَ له بكنيته ولم يسمِّه، ومنهم:
البخاريُّ في (الكنى 1/ 79)، ومسلمٌ في (الكنى 3505)، وابنُ أبي حاتم في (الجرح والتعديل 9/ 452)، وأبو أحمدَ الحاكمُ في (الكنى) -نَقَله عنه مغلطايُ في (الإكمال/ 2812)، وابنُ حَجرٍ في (التهذيب 5/ 154) -، وابنُ عبدِ البرِّ في (الاستغناء في معرفة الكنى) -نقله عنه مغلطايُ في (الإكمال/ 2812، 4924) -.
ويمكنُ أن يلحقَ بهؤلاءِ: النسائيُّ والدولابيُّ، فقد قال مغلطايُ:"وأما النسائيُّ والدولابيُّ فلم يذكراه؛ لأنهما لا يذكران إلا معروف الاسم، فكأنهما تبعا أولئك"، وقال أيضًا:"لأنهما ما يَذكران إلا من عُرِف اسمه"، (الإكمال/ 2812، 4924).
ويلاحظ هنا أمران:
الأمر الأول: أنه ذُكر عند ابنِ أبي حاتم في باب (مَن رُوي عنه العِلْمُ ممن
عُرِفَ بالكنى ولا يُسَمَّى).
وعند أبي أحمدَ الحاكمِ في باب (مَن عُرف بكنيته، ولا يوقف على اسمه) وعزاه للبخاري، وقال مغلطايُ:"والذي رأيتُه في كتاب مسلم، وأبي أحمد الحاكم، وأبي عمر ابنِ عبدِ البرِّ: أبو وائل القاص عن هانئ مولى عثمان، لا يُعرفُ اسمه"(الإكمال 12/ 125 - بتصرف يسير).
وهذه ليستْ سياقةُ مسلمٍ، ولا أبي أحمدَ الحاكم، فالظاهرُ أنها لابنِ عبدِ البرِّ.
الأمر الثاني: أننا لم نجدْ لأبي وائل هذا رواية إلا عن رجلين:
أولهما: عروة بن محمد، صاحب هذا الحديث، والثاني: هانئ مولى عثمان.
فأما مَن روى عنه، فإبراهيم بن خالد، وعبد الرزاق، وابن المبارك. ولم نجدْ مَن روى عنه غير هؤلاء الثلاثة. وقد ذَكَر ابنُ أبي حاتم فيمن روى عنه أيضًا:"هشام بن يوسف"، وهذا فيه نظر سنبينه لاحقًا.
ومنَ العلماءِ مَن جَمَع بينه وبين رجل آخر:
فقال أبو داود -بعد أن روى حديثَه في الوضوء من الغضب-: "أُراه عبد الله بن بُحَيْر
(1)
".
هكذا مع التردد أو الشك، وجزمَ به الدارقطنيُّ، فقال:"عبد الله بن بحير الصنعانيُّ، أبو وائل القاص، عن هانئ مولى عثمان، روى عنه هشام بن يوسف وإبراهيم بن خالد"، ثم روى عن هشام بن يوسف قوله فيه: "كان
(1)
نقله عنه ابن كثير في (التفسير 2/ 121)، ولم نجدْه في المطبوع! ولا حتى في (التحفة)! !
يتقنُ ما سمعَ"، (المؤتلف والمختلف 1/ 160).
وتبعه الخطيبُ في (التلخيص 1/ 93)، وابنُ ماكولا في (الإكمال 1/ 200)، وابنُ ناصرٍ في (التوضيح 1/ 350)، وزاد الخطيبُ في شيوخه -وتبعه ابنُ ماكولا-:"عبد الرحمن بن يزيد القاص".
وعبد الله بن بحير هذا، ذكر أبو داود في (السنن) -عقب الحديث رقم (3206) -، والعسكريُّ في (تصحيفات المحدثين 2/ 682)، أنه ابن بحير بن رَيْسان!
وهذا هو الذي اعتمده المزيُّ -وتبعه كثيرٌ ممن جاءَ بعده-، فجَمَع بين أبي وائل القاص، وبين ابن بحير الذي جزمَ بأنه ابن ريسان، فقال:"عبد الله بن بحير بن ريسان المرادي، أبو وائل القاص اليماني الصنعانيُّ، والد يحيى بن عبد الله بن بحير"، ثم نقلَ عن ابنِ مَعِينٍ أنه وَثَّقَهُ، وعن هشام بن يوسف أنه قال فيه:"كان يتقنُ ما سمع"، ثم قال:"وذَكَره ابنُ حِبَّانَ في كتاب (الثقات) "(التهذيب 14/ 324).
وهذا الكلام فيه خطأ من جانب، ونظر من جانب آخر:
فأما الخطأ: فهو الجمع بين عبد الله بن بحير القاص وبين أبي وائل القاص
(1)
، كلاهما يماني، وهذا وَقَعَ فيه الدارقطنيُّ والمزيُّ ومَن تبعهما، وقد خالفوا بذلك غير واحد منَ الأئمةِ النقاد! !
فقد سبقَ عن البخاريِّ، ومسلمٍ، وابنِ أبي حاتم، وأبي أحمدَ الحاكمِ
…
وغيرهم - أن أبا وائل القاص لا يُعرف اسمه. وهذا يعني أنه ليس هو عبد الله
(1)
نسبة إلى القصص والموعظة. وقد وُصف بها كثير من الرواة.
ابن بحير القاص.
ولذا فَرَّق البخاريُّ في (التاريخ)، وابنُ أبي حاتم في (الجرح والتعديل)، بين أبي وائل القاص الذي ترجما له في (الكنى) من كتابيهما ولم يُسمِّيَاه، وبين عبد الله بن بحير، فترجمَ له البخاريُّ في الأسماءِ قائلًا:"عبد الله بن بحير اليماني، عن هانئ مولى عثمان، سمع منه هشام بن يوسف"(التاريخ الكبير 5/ 49)، وترجمَ له ابنُ أبي حاتمٍ في العبادلةِ منَ الأسماءِ، كما في (الجرح والتعديل 5/ 15)، ولم يكنه -لا هو ولا البخاريُّ- بأبي وائل ولا بغيره.
وقد صَرَّحَ ابنُ أبي حاتم بالتفرقةِ بينهما في موضعٍ آخرَ من (الجرح والتعديل 9/ 100)، وتبعه الحافظُ عبدُ الغني بنُ سعيدٍ صاحبُ (الكمال)، وقد خالفه المزيُّ في (تهذيب الكمال 30/ 147/ حاشية 2)، فتعقبه مغلطايُ في (الإكمال 4924).
وَذَهَبَ ابنُ حِبَّانَ ليفرق بينهما فلم يَسْلَمْ منَ الخلطِ، إذ ترجم في (الثقات 7/ 22) لـ:"عبد الله بن بحير اليماني، يَروى عن هانئ مولى عثمان، روى عنه هشام بن يوسف"، وترجم في (المجروحين 1/ 518) لأبي وائل القاص، فسَمَّاه أيضًا: عبد الله بن بحير! ووَقَعَ في الخلطِ بينهما! كما سيأتي بيانُه قريبًا.
ويؤكدُ صحةَ صنيع البخاري -ومَن معه منَ الأئمةِ- عدة أمور:
منها: أن أبا وائل القاص الذي رَوى هذا الحديثَ في الوضوء من الغضب- لم نجدْه قد سُمِّي قط في أي طريق من طرقه أو أي مرجع منَ المراجع التي روته مسندًا على كثرتها!
وقد روى عنه عبدُ الرزاقِ أثرًا آخر، وذكره أيضًا بكنيته فقط، (المصنف
17027).
وروى عنه ابنُ المباركِ أثرًا ثالثًا، فقال: "حدَّثني أبو وائل -شيخ من أهل اليمن-، عن هانئ البربري مولى عثمان قال: كنتُ عندَ عثمانَ، وهم يعرضون المصاحف،
…
"إلخ، رواه أبو عبيد في (فضائل القرآن 1/ 286)، وعنه الطبريُّ في (التفسير 4/ 602).
فلو كان ابنُ المباركِ يُعرفُ له اسمٌ، لما عَرَّفه بقوله:"شيخ من أهل اليمن"، ولعَرَّفه باسمه.
وقد بحثنا عنه كثيرًا، فلم نجدْه قد سُمِّي في روايةٍ مُسْنَدَةٍ قط!
ومنها: أنا تتبعنا عدة أحاديث يرويها عبد الله بن بحير القاص، وهي حديث:((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيَقْرَأْ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))، وحديث:((القَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ))، وحديث: ((اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ
…
))، وحديث:((لَا تَنسَوُا العَظِيمَتَيْنِ))، وحديث الثلاثة نفر الذين دخلوا في كهف، فوَقَعَ قِطْعَةٌ مِنَ الجبلِ على بابِ الكهفِ
…
الحديث بطوله.
الحديث الأول في قراءة سورة التكوير- يرويه عنه إبراهيم بن خالد، وعبد الرزاق، وهشام بن يوسف. والثاني والثالث تفرَّدَ بهما هشام بن يوسف عنه. والرابع يرويه عنه رباح بن زيد. والخامس يرويه عنه محمد بن عبد الرحيم بن شروس.
وكانتِ النتيجةُ أن عبدَ اللهِ بنَ بحيرٍ القاص لم يُكْنَ في هذه الأحاديث بأبي وائل قط! رغم تعدد الرواة عنه وتعدد المراجع التي خَرَّجت الأحاديث!
وقد بحثنا عنه كثيرًا، فلم نجده قد كُني في رواية مسندة قط!
فمَن سمَّى أبا وائل القاص: عبد الله بن بحير، مِن أين أتى بهذه التسمية؟
وما دليله عليها؟ !
وكذلك مَن كنى عبد الله بن بحير بأبي وائل، مِن أين أتى بهذه التكنية؟ وما دليله عليها؟ !
لا شَكَّ أنه لا دليلَ إلا بعد الخلط بينهما، واعتبارهما رجلًا واحدًا، بحجة أنهما قد رويا عن هانئ مولى عثمان، وأن إبراهيم بن خالد، وعبد الرزاق قد رويا عنهما جميعًا
(1)
.
وهذا غير كافٍ للجمع بينهما؛ ولذا كانت عبارة أبي داود: "أُراه عبد الله بن بحير".
هكذا بلا جزم، بل مع التردد أو الشك.
ومما يُضعف هذا الرأي: أن الراوي الذي يروي عن شيخِهِ مرة باسمه مجردًا ومرة بكنيته مجردًا- لابدَّ وأن يجمعَ بين الاسم والكنية أيضًا ولو مرَّة ما.
وهذا إبراهيم بن خالد ومعه عبد الرزاق- قد روى كل منهما عن أبي وائل بلا تسمية، وعن عبد الله بن بحير بلا تكنية، ولم يجمعا قط بين هذا الاسم وهذه الكنية.
فهذا إنما يدلُّ على التفرقةِ؛ ولذا فَرَّق بينهما من سميناهم منَ الأئمةِ، وجزمَ غيرُ واحدٍ منهم بأن أبا وائل لا يُعرفُ اسمه.
وهذا مما يُتعقب به على ابنِ حِبَّانَ، فإنه سمَّى أبا وائل: عبد الله بن بحير، ولا دليلَ على هذه التسمية إلا بعد الجمع بين الاثنين كما سبقَ، ومن
(1)
انظر (سنن أبي داود 3206)، و (المصنف 17027)، و (تفسير الطبري 4/ 602)، و (المطالب 3483).
المفترض أنه ممن فَرَّق بينهما، إذ ذكر ابن بحير في (الثقات)، وصاحبنا أبا وائل في (المجروحين)!
ولكن صنيعه في (المجروحين)، يدلُّ على أنه قد وَقَعَ فعلًا في الخلط بين الاثنين، حيث قال عن أبي وائل:"وهذا يَروي عن عروة بن محمد بن عطية، وعبد الرحمن بن يزيد الصنعانيُّ"، ثم ذَكَر له حديث الوضوء من الغضب، والحديث المشار إليه آنفًا في قراءة {إذا الشمس كورت} ! (المجروحين 1/ 518 - 519).
وهذا الحديثُ الثاني إنما هو حديث "عبد الله بن بحير" الذي ذكره ابنُ حِبَّانَ في (الثقات)! ، رواه عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ الصنعانيِّ عنِ ابنِ عمرَ. وممن رواه عن ابن بحير: هشام بن يوسف كما سبقَ. وهشام قد مَرَّ أنه قال عن شيخه هذا: "كان يتقنُ ما سمع"، فأما أبو وائل القاص الذي جرحه ابنُ حِبَّانَ، فليست له رواية عن ابنِ يزيدَ الصنعانيِّ أصلًا!
كما أن هشامًا ليستْ له رواية عن أبي وائل، وهذا مما يُتعقب به على ابنِ أبي حاتم أيضًا، فإنه ذَكَر هشام بن يوسف ضمن تلاميذ أبي وائل! وتبعه على ذلك غيرُ واحدٍ!
وهشام بن يوسف لم يَرْوِ عن أبي وائل قط، إلا في زعم من خلط بينه وبين ابن بحير.
وابنُ أبي حاتم لم يخلطْ بينهما، بل فَرَّق!
وقد روى هشام عن عبد الله بن بحير القاص عدة أحاديث -كما سبقَ- ولم يكنه فيها بأبي وائل قط، بل لم نجدْ له رواية عن رجلٍ سمَّاه هو: أبا وائل!
ولذا لم يُذكر "هشام بن يوسف" في تلاميذ أبي وائل القاص عند البخاريِّ، ومسلمٍ، وأبي أحمدَ الحاكمِ، كما سبقَ.
وهذا أحد الفروق بين أبي وائل القاص وبين ابن بحير القاص، فأبو وائل يَروي عن الأمير عروة، ولا يَروي عنه ابن بحير. وابن بحير يَروي عنه هشام، ولا يَروي عن أبي وائل!
وأما الجانب الآخر الذي فيه نظر: فهو الجمع بين أبي وائل القاص -الذي ظنَّه بعضُهم خطأ: عبد الله بن بحير- وبين عبد الله بن بحير بن ريسان.
وهذا الجمع هو مقتضى صنيع أبي داود، وعليه سارَ المزيُّ ومَن تبعه.
وهو يُخَالِفُ ما ذَهَبَ إليه جماعةٌ منَ العلماءِ، حتى من خلط بين أبي وائل وابن بحير:
فقد قال ابنُ حِبَّانَ: "أبو وائل القاص اسمه: عبد الله بن بحير الصنعانيُّ، وليس هو عبد الله بن بحير بن ريسان، ذاك ثقة. وهذا يَروي عن عروة بن محمد بن عطية وعبد الرحمن بن يزيد الصنعانيُّ- العجائب التي كأنها معمولةٌ، لا يجوزُ الاحتجاج به"(المجروحين 1/ 518).
وتبعه السمعانيُّ في (الأنساب 10/ 302)، وابنُ الجوزيِّ في (الضعفاء 1989)، وابنُ طَاهِرٍ القيسرانيُّ في (التذكرة 1110)، وابنُ ناصرِ الدينِ في (التوضيح 1/ 353)، ومغلطايُ في (الإكمال/ 2812)، إلا أنه لم يخلط بين أبي وائل وبين ابن بحير كما سبقَ.
وكذلك فَرَّق بينهما الخطيبُ، فترجم لعبد الله بن بحير، أبي وائل الصنعانيُّ القاص- بنحو ما ترجم به الدارقطنيُّ آنفًا، ثم قال:"وعبد الله بن بحير بن ريسان الحميري حَدَّثَ عن محمد بن أبي محمد"، وساق له حديث:
((حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا))، وهو من رواية عبد الرزاق عنه على الراجح كما في (التلخيص 1/ 193، 194).
فهذا يعني أن عبد الله بن بحير المترجم له في (التهذيبين) ليس هو ابن ريسان عند ابنِ حِبَّانَ والخطيبِ ومَن تبعهما، خلافًا لما جزمَ به أبو داود، والمزيُّ، وغيرهما، وبهذا تعقب مغلطايُ في (الإكمال/ 2812) على المزيِّ، كما تعقب ابن ناصرٍ في (التوضيح 1/ 353)، على الذهبيِّ الذي تبع المزي في بعضِ كتبه، وخالفه في بعضِها الآخر! كما سيأتي.
ولكن المتأمل يجدُ أن ابنَ ريسان المذكور في كلام ابنِ حِبَّانَ والخطيبِ ليس هو ابن ريسان المذكور في كلام المزي! ولا نعني بذلك أنه يوجد رجلان يسمى كل منهما "عبد الله بن بحير بن ريسان"! ولكن قد سُمي كل من الرجلين -أو أحدهما- بغير اسمه الحقيقي!
فابنُ حِبَّانَ قد ترجم في (الثقات 7/ 22) لـ "عبد الله بن بحير اليماني" كما سبقَ، وترجم فيه أيضًا لـ "عبد الله بن (بحير) بن ريسان من أهل اليمن، يَروي عن (ابن) طاوس، روى عنه عبد الرزاق"(الثقات 8/ 331).
فأيُّ الرجلين عنَاه ابنُ حِبَّانَ بقوله في المجروحين: "وليس هو عبد الله بن بحير بن ريسان"؟
فأما الأول فلم ينسبه لـ"ريسان" قط، فلا شَكَّ أنه عنى الثاني الذي يَروي عنه عبد الرزاق، لاسيما وقد خلط في (المجروحين) بين الأول وبين أبي وائل كما بَيَّنَّاهُ.
وابن ريسان هذا الذي ترجمَ له ابنُ حِبَّانَ في (الثقات)، والخطيبُ في (التلخيص)، ليس هو عبد الله بن بحير، وإنما هو عبد الله بن عيسى بن
بحير، وقد ترجمَ له البخاريُّ فقال:"عبد الله بن عيسى بن بحير بن ريسان، سمع ابن طاوس، روى عنه عبد الرزاق"، وبعده بترجمة قال:"عبد الله بن عيسى الجندي عن محمد بن أبي محمد، روى عنه عبد الرزاق، إن لم يكن هو الأول فلا أدري"(التاريخ 5/ 163، 164).
وقد جمع بينهما ابنُ أبي حاتم، فقال: "عبد الله بن عيسى بن بحير بن ريسان الجندي، روى عن [ابن]
(1)
طاوس ومحمد بن أبى محمد [عن أبيه] عن أبى هريرة، روى عنه عبد الرزاق" (الجرح والتعديل 5/ 126).
ولذا عَقَّب ابن ماكولا على ترجمة ابن ريسان التي نقلها عن الخطيب بقوله: "وأنا أحسبه عبد الله بن عيسى بن بحير، نُسب إلى جده"(الإكمال 1/ 201)، وتبعه ابنُ ناصر الدين الدمشقيُّ في (التوضيح 1/ 350).
قلنا: ويؤيده أن حديثَ الحجِّ الذي ساقه الخطيبُ لابنِ ريسان هذا قد رواه الفاكهيُّ في (أخبار مكة 809) -ومن طريقه العُقيليُّ في (الضعفاء 2/ 384) - عن سلمة بن شبيب، ورواه الدارقطنيُّ في (السنن 2795) -ومن طريقه البيهقيُّ في (الكبرى 8774) -، وأبو نُعيمٍ في (تاريخ أصبهان 2/ 37) من طريق أحمد بن منصور الرمادي.
كلاهما عن عبد الرزاق عن عبد الله بن عيسى -زاد الرماديُّ: بن بحير-، عن محمد بن أبي محمد، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.
(1)
سقطتْ من المطبوعِ، والصواب إثباتها كما في (التاريخ الكبير)، و (الثقات) ويدلُّ عليه ما في (المعرفة للفسوي 1/ 400)، كما سقطتْ منه كلمة "عن أبيه" أيضًا، وهي مثبتةٌ بالأسانيدِ المذكورة أعلاه، وكذا في (التاريخ الكبير 1/ 225)، وهذا مما فاتَ محققه، فزعمَ أن ما في (الجرح والتعديل) هو الصواب!
فبان بذلك أن من جعله عبد الله بن بحير كما في (التاريخ الكبير 1/ 226)، و (الضعفاء للعقيلي 2/ 384)، و (التلخيص)، فقد نَسَبَهُ لجده كما قال ابنُ ماكولا، ولعلَّ البخاريَّ كان يشيرُ إلى ذلك بصنيعه في ترجمة "محمد بن أبي محمد" من (التاريخ 1/ 225).
إذن، فعبد الله بن بحير بن ريسان الذي ترجمَ له ابنُ حِبَّانَ في (الثقات)، والخطيبُ في (التلخيص) - إنما هو ابنُ عيسى بن بحير بن ريسان! ولكن يبدو أن ابنَ حِبَّانَ والخطيبَ لم يفطنا لذلك، وعليه فلا يصحُّ التعقب على المزيِّ ومَن تَبِعَهُ بصنيع ابنِ حِبَّانَ والخطيبِ إلا من هذه الجهةِ فقط! وإلا فعبد الله بن بحير بن ريسان الذي ترجمَ له المزيُّ، هو رجلٌ آخرُ غير المترجم عندهما، فالمزيُّ إنما يعني به "عبد الله بن بحير القاص" الذي روى عنه هشام بن يوسف وقال فيه:"كان يتقنُ ما سمعَ".
وقد ترجمَ له البخاريُّ، وابنُ أبي حاتم، وابنُ حِبَّانَ، والدارقطنيُّ
…
وغيرهم، ولم يذكروا أنه ابن ريسان، ولم ينسبه إليه أحد ممن روى عنه! بل ولم نجدْ مَن صَرَّحَ بأنه ابن ريسان قبل المزيِّ سوى أبي داود والعسكري كما سبقَ، فإن صَحَّ قولهما، وإلا فهو آخر، وهذا الذي نميلُ إليه لأسبابٍ لا حاجةَ لذكرها هنا، وقد ذَكَرَ بعضها صاحب موسوعة (منهج تعيين الرواة)، فإنا وجدناه قد توصل إلى ما توصلنا إليه، غير أنه قد فاته كثير مما سطرناه هنا.
وخلاصةُ ما سبقَ: أن هناك ثلاثة رواة:
أولهم: عبد الله بن عيسى بن بحير بن ريسان (وقد يُنسب إلى جده فيقال: عبد الله بن بحير بن ريسان)، وهذا هو الذي ذكر ابنُ حِبَّانَ أنه ثقة!
وثانيهم: عبد الله بن بحير الصنعانيُّ القاص (وقد جَزَمَ أبو داود وغيره أن جده: ريسان)، وهذا هو الذي روى عنه هشام بن يوسف، وأثنى عليه، ووصفه بالإتقان.
وثالثهم: أبو وائل الصنعانيُّ المرادي القاص، لا يُعرف اسمه.
وهذا هو صاحب حديثنا في الوضوء من الغضب، وهو آخر غير المذكورين آنفًا، فلا يلحقه ثناء هشام بن يوسف ولا توثيق ابن حِبَّانَ، فما هي حاله إذن؟ !
قد ذَكَر ابنُ أبي حاتم أن ابنَ مَعِينٍ وَثَّقَهُ كما في (الجرح والتعديل 9/ 452).
وذَكَر ابنُ حِبَّانَ في (المجروحين) أنه يَروي العجائب التي كأنها معمولة. وقال: "لا يجوز الاحتجاج به"(المجروحين 1/ 518).
وَأَقرَّهُ السمعانيُّ في (الأنساب 10/ 302)، وابنُ الجوزيِّ في (الضعفاء 1989)، وابنُ طَاهِرٍ القيسرانيُّ في (التذكرة 1110)، وابنُ ناصر الدين في (التوضيح 1/ 353).
بينما اضطربَ فيه الذهبيُّ: فسارَ في (التذهيب 3219) و (الكاشف 2640) على درب المزيِّ، غير أنه قال في (الكاشف):"وُثِّقَ، وليس بذاك"! بينما قال في (التذهيب): "وَثَّقَهُ ابنُ مَعِينٍ وغيرُه" -يَقصد هشامًا، وقد بينا أن توثيقَه ليس لأبي وائل-، ثم نقلَ جرحَ ابن حِبَّانَ له، وتعقبه قائلًا:"لم يفرقْ بينهما أحدٌ قبلَ ابنِ حِبَّانَ، وهما واحد"
(1)
!
(1)
وتعقبه في ذلك ابن ناصر الدين في (التوضيح 1/ 353)، ومغلطاي في (الإكمال 2812).
ونقله عنه ابنُ حَجرٍ في (التهذيب 5/ 154)، وأقرَّه!
وفاته أن الذهبيَّ نفسه قال في (تاريخ الإسلام 10/ 289): "وَهِم مَن قال: هو ابن بحير بن ريسان"! ثم قال: "فيه ضعف"، وقال أيضًا:"وله غرائب". ولما ذَكَر كلام ابنِ حِبَّانَ في (الميزان 2/ 395) و (المغني 3111)، لم يتعقبه، بل مالَ إليه، وختم الترجمة في (المغني) بقوله:"له مناكير"، وترجم له في (ديوان الضعفاء 2124، 5073)، وقال فيه:"منكرُ الحديثِ بمرة"، وفي (مختصر المستدرك 1/ 371) قال فيه:"ابن بحير ليس بالعمدة، ومنهم من يقويه"، ولهذا التناقض انتقده ابنُ الملقنِ في (البدر 5/ 332).
وقال ابنُ حَجرٍ في (التقريب 3222): "وَثَّقَهُ ابنُ مَعِينٍ، واضطربَ فيه كلام ابنِ حِبَّانَ"! ومع ذلك لما ذَكَر أثر أبي وائل -الذي مَرَّ آنفًا عن ابنِ المباركِ- في (المطالب 3483) من رواية عبد الرزاق أيضًا عن أبي وائل، ضَعَّفَهُ فقال:"هذا إسنادٌ ضعيفٌ"! وليس في سندِهِ مَن يُعَل به سوى أبي وائل!
وقد اضطررنا لذكر كلام الذهبيِّ وابنِ حَجرٍ رغم أنهما قد خلطا بين أبي وائل وبين ابن بحير؛ لأن لأبي وائل من كلامهما نصيبًا. وعلى كُلٍّ، فهما متأثران بترجمة المزيِّ، ولا يلحق أبا وائل مما ذكروه سوى توثيق ابنِ مَعِينٍ مقابل جرح ابنِ حِبَّانَ.
وحتى توثيق ابنِ مَعِينٍ الذي ذكره ابنُ أبي حاتم وتبعه عليه المزيُّ وغيره- عليه عدة ملاحظات:
أولًا: أنه في ترجمة عبد الله بن بحير القاص قد نقلَ ابنُ أبي حاتم عن أبيه عن إسحاق بن منصور عن يحيى بنِ مَعِينٍ أنه قال: "عبد الله بن بحير ثقة"(الجرح والتعديل 5/ 15).
وفي ترجمة أبي وائل نقلَ عن أبيه عن إسحاق بن منصور عن يحيى بنِ مَعِينٍ أنه قال: "أبو وائل المراديُّ الصنعانيُّ ثقة"! (الجرح والتعديل 9/ 452).
فهاتان العبارتان: "عبد الله بن بحير ثقة"، و"أبو وائل المراديُّ الصنعانيُّ ثقة"، من المفترض أنهما لرجلين مختلفين على الأقل عند ابنِ أبي حاتم كما بَيَّنَّاهُ، ولكن المزي -وهو ناقل عن ابن أبي حاتم- قد جمع بين هذين الرجلين في ترجمة واحدة، ولم يذكر تحتها من عبارتي ابنِ مَعِينٍ سوى كلمة "ثقة"! ، فلماذا خالف صنيع ابن أبي حاتم دون أن يبين حجته؟ ! فلا هو نَقَل العبارتين مدللًا على أنهما لرجل واحد، ولا هو تعرَّضَ لصنيع ابن أبي حاتم أصلًا! فلماذا يا ترى؟ ! مع أن الحاجةَ ماسةٌ إلى ذلك!
ثانيًا: قد ذكرنا أن ابنَ أبي حاتم ذكر "هشام بن يوسف" ضمنَ تلاميذ أبي وائل. وإنما هو من تلاميذ ابن بحير القاص كما بَيَّنَّاهُ، فقد خلط بين الرجلين في هذه الجزئية! -حتى إن محقق الكتاب ظَنَّ أن كلتا الترجمتين لرجلٍ واحدٍ! -.
فهل يحتمل أن الخلطَ قد تعدى ذلك إلى التوثيقِ؟ ! وأن إحدى العبارتين قد ذُكرتْ بالمعنى؟ ! وأن هذا هو ما اعتقده المزيُّ؟ وغابَ عنه تبويب ابن أبي حاتم؛ لبُعْد الشُّقة بينه وبين الترجمة الثانية؛ ولذا لم يتعرضْ لقضية التفرقة أصلًا! أم أنه ليس لابنِ مَعِينٍ من هاتين العبارتين سوى كلمة "ثقة" التي نقلها المزي، وما سواها فلمن دونه؟ !
ثالثًا: وبِناء على ما سبق، فإن الذي وَثَّقَهُ ابنُ مَعِينٍ إنما هو الذي قال فيه هشام بن يوسف:"كان يتقنُ ما سمعَ"، هكذا جَمَعَ بينهما ابنُ أبي حاتم نفسُه، وذَكَرهما المزيُّ تحت ترجمة واحدة جَمَع فيها بين الرجلين، وقد بينا
أن صاحبَ كلمة هشام إنما هو عبد الله بن بحير القاص، فهو إذن صاحب توثيق ابنِ مَعِينٍ، وهو غير أبي وائل صاحبنا كما بَيَّنَّاهُ.
رابعًا: قولُ ابنِ مَعِينٍ: "عبد الله بن بحير ثقة"، وقوله:"أبو وائل المراديُّ الصنعانيُّ ثقة"، كلاهما من رواية تلميذه إسحاق بن منصور الكوسج، وسؤالاته من التراث المفقود، ولم نجدْ أيًّا من هاتين الروايتين عند غيرِهِ من تلاميذِ ابنِ مَعِينٍ رغم كثرتهم! بل لم نجدْهما حتى عن الكوسجِ نفسِه في شيءٍ من كتب الجرح والتعديل المسندة سوى عند ابنِ أبي حاتم!
حتى إن الدارقطنيَّ، والخطيبَ -وهو ممن يعتني بنقل أقوالِ ابنِ مَعِينٍ- لما ترجما لابنِ بحير، وقد خلطاه بأبي وائل؛ لم يذكرا فيه سوى قول هشام بن يوسف:"كان يتقن ما سمع"، وتوثيق ابن مَعِينٍ أحرى بالذكر، فلماذا لم يذكراه؟ !
فهل من المحتمل أن أصلَ ما رُوي عن الكوسجِ هو ما رواه الدُّوريُّ في (التاريخ/ 3690) قال: "سمعتُ يحيى يقول: عبد الله بن بحير، أو: بجير -شَكَّ أبو الفضل- يَروي عنه أبو داود الطيالسيُّ، وهو ثقة"؟
وأبو الفضل هو الدُّوريُّ نفسُه، وقد رواه ابنُ شاهينَ في (تاريخ أسماء الثقات 637) بالشك أيضًا، فقال:"عبد الله بن بُجَير- أو: بَحير- يَروي عنه أبو داود، ثقة، قاله يحيى". والذي يَروي عنه أبو داود الطيالسيُّ هو عبد الله بن بُجَير -بالجيم-، أبو حُمْران البصري، فهو غير صاحبنا.
ولكن إذا كانتِ الروايةُ بالشك بين "بُجَير" وبين "بَحير" حتى عند الدوريِّ نفسِه، فماذا لو وصلت لغيره بلفظ "بَحير" فقط، دون ذكر رواية الطيالسيِّ؟ !
لا شَكَّ أن أمرًا من الأمور المذكورة ليس كافيًا وحده للتشكيك فيما نقله
ابن أبي حاتم، بل قد يَرى ذلك البعض شططًا في التفكير.
ولكن اجتماع هذه الأمور كلها، مع معارضة ابن حِبَّانَ لهذا التوثيقِ، مع الاختلاف الكبير في هذا الراوي حتى وصفه بعضُهم -كما في (الإكمال لمغلطاي/ 206) بالاضطراب- كل ذلك يجعل الناقد لا يطمئنُ إلى هذا التوثيقِ، بل ولا يعتمدُ على مثل هذا الراوي. والله أعلم.
2 -
عروة بن محمد بن عطية السعدي، من رجال أبي داود، وَلَّاه عمر بن عبد العزيز على اليمن (الطبقات الكبرى 7/ 335)، وكان من صالح عمال عمر (تاريخ دمشق 40/ 291)، وذَكَره ابنُ حِبَّانَ في (الثقات 7/ 287)، وقال:"يُخْطِئُ، وكان من خيارِ الناسِ"، وقال الذهبيُّ:"كان ذا زهد وصلاح"(تاريخ الإسلام 7/ 170)، وقد روى عنه جماعةٌ منَ الثقاتِ.
ومع ذلك قال ابنُ حَجرٍ: "مقبول"! (التقريب 4567).
بل قال الألبانيُّ: "عروة بن محمد وأبوه، هما عندي مجهولا الحال، ولم يوَثِّقْهُمَا غيرُ ابنِ حِبَّانَ على قاعدته! ".
ثم قال: "وأما عروة، فقد روى عنه جماعةٌ، لكنه لم يوَثِّقْهُ غيرُ ابنِ حِبَّانَ كما ذكرنا، فبقي على الجهالة"، ولذا ذَكَر حديثنا هذا في (الضعيفة 2/ 51)، وقال:"فيه مجهولان"، يعني: عروة وأباه، وقد رَجَعَ عن تجهيله لعروة في موضعٍ آخرَ من (الضعيفة 6451)، كما اعتد بأبيه في موضعٍ آخرَ من (الصحيحة 2728)! .
3 -
محمد بن عطية السعدي، قيل: إن له صحبة. وهو خطأ، والصحيح أن الصحبةَ لأبيه كما قال ابنُ عساكر في (تاريخ دمشق 54/ 220)، والمزيُّ في (التهذيب 26/ 118)، وذَكَره أبو الحسنِ ابنُ سُمَيْع في الطبقة الثالثة منَ
التابعينَ، وهو ما يقتضيه صنيع أبي حاتم في (المراسيل 662)، ولذا قال ابنُ حَجرٍ:"وَهِم مَن زعم أن له صحبة"(التقريب 6140).
وقد ترجم له البخاريُّ في (التاريخ الكبير 1/ 197) وابنُ أبي حاتم في (الجرح والتعديل 8/ 48)، وابنُ حِبَّانَ في (الثقات 5/ 359)، وفي (المشاهير، صـ 200) وقال في الأخير: "ربما خالف على قلة روايته"، ولم يذكروا في الرواة عنه سوى ولده عروة؛ ولذا ذكره الذهبيُّ في (المغني في الضعفاء 5823)، وفي (ذيل ديوان الضعفاء 463) وقال:"تابعيٌّ، لم يَرْوِ عنه إلا ابنه عروة أمير اليمن"، وكذا قال في (الميزان 3/ 648):"تَفَرَّدَ بالروايةِ عنه ولدُهُ الأميرُ عروةُ"، وقال في (الكاشف 5050):"وُثِّق". وكأنه لم يَعتدَّ بصنيع ابنِ حِبَّانَ.
فأما ابنُ حَجرٍ، فقال:"صدوقٌ"! (التقريب 6140).
وتَعَّقبه الألبانيُّ بما ذكره الذهبيُّ من أن ولدَهُ قد تفرَّدَ بالروايةِ عنه، ثم قال:"فكيف يكون صدوقًا سيما ولم يوَثِّقْهُ مَن يُعتبر توثيقه؟ ! "(الضعيفة 2/ 51)، وانظر (الضعيفة 6451).
هذا مع أن الألبانيَّ قد تعقب الذهبيَّ في مسألةِ التفردِ هذه، فذَكَر في (الصحيحة 2728) حديثًا من رواية فياض بن غَزْوان، عن محمد بن عطية، عن أنس، وقال:"وهذا إسناد جيد"، ثم ترجم لمحمد على أنه صاحبنا السعدي، وذَكَر قولَ الذهبيِّ فيه:"تَفَرَّدَ بالرواية عنه ولده الأمير عروة"، ثم تعقبه قائلًا:"ويَرُده هذا الحديث؛ فإنه من رواية فياض عنه كما ترى".
ومع ذلك ضَعَّفَ حديثنا هذا في (الضعيفة 2/ 51)، وأعلَّهُ بجهالة عروة وأبيه، وقد رَجَع عن تجهيله لعروة في (الضعيفة 6451) كما سبقَ، وعلى
هذا فيلزمه تحسينه! والذي نراه أنه ممن لا يُحتج بهم، وليس هناك ما يقطع بأن شيخ فياض بن غزوان هو صاحبنا السعدي، فمن المحتمل أنه غيره. والله أعلم.
والحديث قد ضَعَّفَهُ ابنُ حِبَّانَ كما سبقَ، وتبعه ابنُ طَاهِرٍ القيسرانيُّ في (التذكرة 1110)، وَضَعَّفَهُ النوويُّ في (الخلاصة 1/ 122)، والألبانيُّ في (الضعيفة 582)، والحوينيُّ في (تنبيه الهاجد 1/ 451).
بينما سكتَ عليه أبو داود في (السنن)، والمنذرِيُّ في (الترغيب 3/ 304)، والعراقيُّ في (المغني، صـ 1063، 1070)، وابنُ حَجرٍ في (الفتح 10/ 467)، ورَمَز السيوطيُّ لحسنه في (الجامع الصغير 2080).
وذَكَر المناويُّ في (الفيض 2/ 377) سكوتَ أبي داود والمنذرِيِّ، ولم يعلق، بينما قال في (التيسير 1/ 297):"وسكتَ عليه أبو داود، فهو صالح"!
وكم من حديثٍ ضعيفٍ سكتَ عليه أبو داود! وانظر (النكت الوفية 1/ 257، 258).
والحديثُ له شاهدٌ لا يُعتدُّ به من حديث معاوية بن أبي سفيان مرفوعًا بلفظ: ((الغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ مِنَ النَّارِ، وَالمَاءُ يُطْفِئُ النَّارَ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ))، وسندُهُ واهٍ جدًّا، انظره في باب (الاغتسال من الغضب)، حديث رقم (؟ ؟ ؟ ؟ ).
وقوله: ((الغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ))، له شاهدٌ من حديث زيد بن أسلم مرسلًا، رواه ابنُ وهب في (الجامع 474)، وعبدُ الرزاقِ في (جامع معمر 20288)، والبيهقيُّ في (الشعب 7939)، وقال:"هذا منقطعٌ"، يعني: مرسلًا.
ولمعناه شاهد من حديث سليمان بن صُرَد عند البخاريِّ (3282)، ومسلمٍ (2610) قَالَ:((كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَو قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ))
…
)) الحديث.
وقوله: ((وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنَ النَّارِ))، يشهدُ له صريحُ القرآنِ.
أما الأمر بالوضوء من الغضب، فلم نجدْ له شاهدا!
[تنبيه]:
روى ابنُ عساكر في (التاريخ 40/ 290) في ترجمة عروة بن محمد بن عطية -ونقله عنه المزيُّ في (التهذيب 20/ 34) - عن علي بن المديني أنه قال: "وعطية هو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ)).
فالمرادُ -والله أعلم- أن عطيةَ هو صاحب هذا الحديث، بغضِّ النظرِ عن ثبوته من عدمه.