الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرف الحاء المهملة
الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف الأموي أبو عمرو، مولى محمد بن زَبَّان بن عبد العزيز بن مروان. ولد سنة أربع وخمسين ومائة، وأقدم من رآه الليث بن سعد، وسأله عن مسألة ولم يتهيأ له أن يسمع منه الحديث.
قال ابن يونس حدثنا العباس بن محمد المصري في آرخين. قالوا: حدثنا الحارث بن مسكين، قال: سألت الليث بن سعد عن العصير فقال: هو حلال ما لم يهدر، فإذا هدر فلا خير فيه. وذكر يحيى بن علي الحضرمي الطحان في كتابه، غرائب مالك عن الحارث بن مسكين قال: حججت فرأيت رجلاً في عمارته فسألت عنه، فقيل: هذا مالك بن أنس فرأيته ولم أسمع منه. وطلب العلم بعد أن كبر. فسمع من ابن عيينة، وهو أقدم شيخ له، ومن ابن وهب وابن القاسم وأشهب ويوسف بنت عمرو وغيرهم.
روى عنه ابن أحمد، وأبو داود، والنسائي، وعبد الله بن أحمد، ويعقوب ابن شيبة، ومحمد بن زَبَّان، وأبو بكر بن أبي داود، وأبو يَعْلَى الموصلي وآخرون.
قال أحمد: ما بلغني عنه إلا الخير، وقال فيه قولاً جميلاً. وقال إبراهيم ابن الجنيد عن يحيى بن مَعين: لا بأس به. وقال مرة: هو خير من إصبع وأفضل. وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. وقال النسائي: ثقة مأمون. وقال
ابن يونس: كان فقيهاً أخذ الفقه عن ابن وهب وابن القاسم، وثقة أيضاً الحاكم، ومسلمة بن قاسم. وقال الخطيب: كان فقيهاً على مذهب مالك، وكان ثقة فِي الحديث ثبتا، حُمل في أيام المأمون في محنة القرآن إلى العراق، فلم يجب. فسجت إلى أن ولي المتوكل وأطلقه. وحدث ببغداد ورجع إلى مصر وولى القضاء من قبل المتوكل في سنة سبع وثلاثين، وجلس للحكم كذا. قال الخطيب: إنه حمل في محنة القرآن.
والذي حكاه غيره أن حُمل بسبب غيره قال: لما قدم المأمون مصر تلقاه الناس بالفَرَما، يرفعون على عُمّال أهل مصر. فدس الفضل بن مروان وهو يومئذ وزير المأمون قوما يثنون عليهم ليقع التعارض. جلس الفضل بن مروان في الجامع، وحضر مجلسه يحيى بن أكثم القاضي، وأحمد بن أبي دواد، وإسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد، هو يومئذ على المظالم بمصر. وطلب الحارث ابن مسكين ليوليه القضاء، فحضر. فبينا هو يكلمه إذ قال له المتظلم: سل أصلحك الله الحارث عن ابن أسباط وابن تميم، وكان قد تظلم منهما. فقال الفضل: ليس لهذا أحضرناه. فألح عليه فسأله: ما تقول في هذين الرجلين؟ فقال: ظالمين غاشمين. فقال: ليس لهذا أحضرناك. فاضطرب أهل المسجد.
فقام الفضل فدخل على المأمون فقال: لقد خشيت على نفسي من ثوران الناس مع الحارث. فأرسل المأمون: هل ظلماك في شيء؟ قال لا. قال فعاملتهما؟ قال لا. قال كيف شهدت عليهما؟ فقال: كما أشهد أنك أمير المؤمنين ولم أرك قط إلا الساعة. وكنا أشهد أنك غزوت ولم أحضر غزوك. أقال: اخرج من هذه البلاد فليست بلادك. وبع قليلك وكثيرك، فإنك لا تبقى فيها أبداً. وحبسه في قبة ابن هرثمة في رأس الجبل في خيمة. ثم انحدر المأموه وأحدرمه معه. فلما فتح البلد التي قصدها، حضر الحارث، فلما دخل عليه سأله عن المسألة بعينها، فأعاد الجواب بعينه ثم قال له: ما تقول في خروجنا هذا؟ فقال: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك أن الرشيد كتب إليه يسأله عن قتال أهل دَهْلَك فقال: إن كان خروجهم عن ظلم من السلطان فلا يحلم قتالهم،
وإن كانوا إنما شقوا العصا فقتالهم حلال. فأجابه المأمون بجواب قبيح سبه فيه وسبّ مالكاً. وقال للحارث: ارحل عن مصر. فقال يا أمير المؤمنين إلى الثغر؟ قال: لا، الحق بمدينة السلام. فشفع فيه أبو صالح الحراني فقال له يا شيخ شفعت فارتفع. وانحرف المأمون على الحارث، واشتد غضبه منه وأسمعه المكروه، وعَدَّ له ذنوباً من جملتها امتناعه عن القضاء.
وكان الفضل لما عرض عليه القضاء امتنع، وكان المأمون أيضاً حرّد على المالكيين فازداد عليهم حنقاً بقصة الحارث، وذلك أن الحارث كان شكس الخلق منحرفاً عن الدولة العباسية، لأنه كان من موالي بني أمية. فارتحل إلى العراق فأقام ببغداد من سنة سبع عشرة إلى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين في خلافه الواثق. وَكَانَ من ابن أبي دواد ذكره للواثق فقال: ما ظننت أنه حي. فقال: هو باق فأمر بحمله إلى سُر من رأي. فشفع فيه ابن أبي داود. وقال: هو شيخ، وكثرة الحركة تثقل عليه وتتعبه، وأخاف أن يموت. قال: فاكتب إليه يتوجه حيث شاء، فتوجه إلى بلده. وكان جماعة من بغداد قد ألفوه فتأسفوا على فقده، منهم أبو علي الجزري، فكتب إلى سعدان بن زيد وهو يومئذ بمصر يعرفه ما غمه من فقد الحارث فأجابه بأبيات منها.
أيها الشاكي إلينا وحشةً
…
من حبيب بَانَ عنه فبعدْ
ولقَد متّعكَ الله به
…
بضع عشر من سنين قد تُعَدْ
لو تراه وأبا زيد معاً
…
وهما للدين حِصْنٌ وعَضُدْ
يدرسون العلم في مسجدهم
…
وإذا جَنَّهُمُ الليل هُجُدْ
وأبو زيد المذكور هو عبد الرحمن بن أبي الغمر أحد الفقهاء بمصر، يروي عن المفضل بن فضالة وغيره. وقال عبدا لله بن عيسى بن عبيد الله المرادي في أتباع مالكك كان الحراث فقيهاً كبيراً مقدماً على الأفراد، سائداً على الأجواد.
وامتحن فيما افتتن. روى عنه كافة المصريين. وله مصنفات منها: مصنف مالك. وقال محمد بن وضاح: كان الحارث ثقة الثقات.
قال أبو زكريا: هو أفضل من عبد الله بن صالح، كاتب الليث. وخير من أصبغ وأفضل، مع أن أصبغ كان أعلم الخلق برأي مالك.
وقال بحر بن نصر: عرفت الحارث أيام ابن وهب، وقبل وفاته على طريق زهد وورع، وصدق لهجة حتى مات.
وكان المتوكل لما عزل محمد بن أبي الليث، قال: اطلبوا لنا رجلاً نوليه القضاء، فذكر له عيسى بن لهيعة فقالوا إنه يتلهى بلعب الشّطرنج، حتى يزدحم الخصوم ببابه، ويقتتلوا، ثم ذكر له الحارث بن مسكين. فقال: اكتبوا له بالولاية. فأتاه كتاب الولاية وهو بالإسكندرية، ففض الكتاب، فلما قرأه امتنع. فجبره إخوانه على القبول. فقالوا: نحن نقوم بين يديك. فقبل وجلس للحكم، واستكتب محمد بن سلمة المرادي، وكان رفيقه فيا لسماع على ابن القاسم، وجعل على مسائله يزيد بن يوسف وعمرو بن يوسف، وأخاه عمرو بن يوسف، وأضاف إليهما بعد ذلك أبا بردة أحمد بن سليمان التجيبي.
قال ابن قديد: وحلمه أصابه على كشف أحكام محمد بن أبي الليث الذي كان قبله، وأن يفعل معه كما فعل هو بأحكام الذي قبله، وهو هارون بن عبد الله
الزهري فكانوا يحضرون محمد بن أبي الليث كل يوم بين يدي الحارث، فيضربه عشرين سوطاً، ليخرج عما يجب عليه من الحقوق، فأقام على ذلك أياماً. ثم أشير عليه بتركه. وقيل له: إنه لا ينبغي للقاضي فعل ذلك لقبحه، فصرفه.
وقال ابن قديد: كان الحارث أقعد من رجليه. وكان يحمل في مِحَفَّة إلى المسجد الجامع، ويركب حماراً متربَّعاً. فأشير عليه يلبس السواد، فامتنع. فخوفه أصحابه سطوة السلطان، لكونه من موالي بني أمية فأجابهم إلى لبس كساء صوف أسود، فقنع منه الوالي بذلك. وقيل: عن الوالي كاتَبَ الخيفة بذلك، فكتب إليه إن لم يحُلُ له لبس السواد فاخلع وركيه، فأحضره الوالي وقرئ عليه الكتاب. فقال له محمد بن سعيد: يا شيخ، لا يهولنك ما ترى، لا تُرَع قال: فما أصنع؟ فقال شيخ من ناحية المسجد: أنا رأيته يلبس الثياب العرضية التي تعمل باليمن، فقال الحارث: بل ربما لبستها. فقال له الوالي: فالبسها. فقال: أمات لك فنعم. فخلى عنه. وكتب إلى المتوكل بأنه أذعن.
ومن قضاياه: أنه أخرج أصحاب أبي حنيفة والشافعي من المسجد الجامع، وأمر برفع حصرهم. ومنع عامة المؤذنين من الأذان، ومنع قريشاً والأنصار من طعمة شهر رمضان. وأرم بعمارة المسجد الجامع. ومسح سقوفه، وحوَّل سلم
المؤذنين إلى غربي المسجد. وبلط زيادة ابن طاهر. وبني
فِي الحذائين سقاية، وبنى الرحبة الملاصقة لدار الضرب، ليتسع الناس بها. وحفر خليج الإسكندرية. ونهى عن تقييد المصايد وأباحها للناس. ومنع من النداء على الجنائز. وصرف القراء الذين يقرؤون القرآن بالألحان، وكشف أمر المصاحف التي في المسجد الجامع، وولى عليها أميناً من جهته. وهو أول من فعل ذلك من القضاة. وترك تلقى الولاة والسلام عليهم.
ولا عَنَ بين رجل وامرأته في الجامع. وضرب الحد في سب عائشة. وقتل نصرانياً سب النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن جلده. وأمر بضرب عنق ساحرين من النصارى.
وهدم مسجداً بناه شخص خراساني بين القبور. ورفع إليه شخص قد حلق شعر رأسه فقال له: أشامي أم عراقي؟ فلقال: كوفي. فقال: أصبت.
وقال عبيدا لله بن محمد القاضي: كان الحارث عدلاً في قضائه، محمود السيرة. وقال أبو الطاهر ابن السرح ما دخل في ولاية الحارث شيء
من الخلل إلا في بيت المال فإن أمره فيه لم يجر إلى استقامة. وقال هارون بن سعيد الأَثِلي: كنا نجلس فنتشاكى أمر ابن أبي الليث، وأنه الآن ينبغي لنا أن نتشاكى أمر الحارث، فإني أشرت عليه ألا يدفع مفتاح البيت المال لغيره. فلم أبرح حتى أخرج المفتاح من القِمَطْر، فدفعه إلى أخيه محمد بن مسكين، وإلى إبراهيم بن أبي أيوب، ليخرجا شيئاً من بيت المال. يعني، فدخل الخلل من جهة اعتماده على غيره.
وقال أبو عمر الكندي: سمعت عبد الكريم بن إبراهيم بن حِبَّان المرادي يقول: سرق إبراهيم بن أبي أيوب من بيت المال ثلاثين ألف دينار، قلت له: كيف علمت هذا؟ قال: والله لقد سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول له غير مرة. قال: وحدثني يحيى بن محمد بن عمروس. قال: حضرت جنازة لآل يوسف
ابن عمرو بن يزيد، وحضرها الحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى. فأخذ يونس في كلام الزهاد والحكايات عن الصالحين، فبكى بعض أهل المجلس.
وضاق الحارث بن مسكين بذلك، فالتفت إلى يونس في كلام الزهاد والحكايات عن الصالحين، فبكى بعض أهل المجلس.
وضاق الحراث بن مسكين بذلك، فالتفت إلى يونس بن عبد الأعلى برفق، فقال له الحارث: أنت تحسن هذا كله وأنت تصنع ما تصنع! فقال له يونس: أنت قاض. وفي الحديث أن القاضي يذبح بغير سكين.
قال أبو عمر: أخبرني الحسين بن محمد بن هارون الفرضي، قال: حدثني يحيى بن أيوب العلاف، أن يونس بن عبد الأعلى شهد عند الحارث ابن مسكين
بشهادة، فلما انصرف أسقط في يده، وعلم أن أبا بردة أحمد بن سليمان بن برد، ويزيد وعمراً ابني يوسف بن عمرو سيجَرّحونه، فرجع إلى الحارث على الفور فقال: أصلح الله القاضي، إنني شهدت اليوم شهادة في قلبي منها شيء، ولست أحبها. فأوقف الحارث الشهادة. فبلغهم ذلك فأسفوا. وقالوا: أفلت يونس من أيدينا.
ويقال أن رجلاً سأل الحارث في شيء فقال له: من يشهد لك؟ قال محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم. فقال له الحارث: قل له إن كان رجلاً فليأت فليشهد. وقال يحيى بن محمد بن عمروس: كنت عند يونس بن عبد الأعلى، والقارئ يقرأ عليه. فدخل رجل فقال: مات يزيد بن يوسف، فصاح أهل المجلس. فقال يونس بن عبد الأعلى: ما بالكم؟ قالوا: مات يزيد بن يوسف. فأطرق ملياً، ثم رفع رأسه فقال: حبذا موت الأعداء بين يديك وأنت تنظر. ثم خرج إلى جنازته وهو راكب حماراً فصلى عليه ولم ينزل عن الحمار.
قال: وأخبرني محمد بنت سعيد بن حفص الفارض، أن رجلاً من أهل العراق نظر إلى سليم الخادم، مولى إبراهيم بن تميم، وكان أسود فقال: ما أعجب أمركم يا أهل مصر، يكون سُلَيْم الأسود مُعَدَّلا، وابن عبد الحكم مجروحاً! فسمعه سليم، فقال: أنا لم أخن أمانتي ولم أدَّع ما ليس لي.
قال: وأخبرني أحمد بن الحارث بن مسكين قال: قَبل أبي الحارثُ شهادة سليم بغير شاهد شهد له وقال: أنا به عارف.
قال: وأخبرني عبد الله بن مالك بن سيف التجيبي قال: كانت عجوز من أهلنا لها مورَث في دارِ فغُصبته. وكان أبي، وابن عبد الحكم يشهدان لها فشهد لها أبي عند الحارث، وأقامت المرأة تختلف زمناً إلى الحارث تسأله أن يحضر ابن عبد الحكم ليشهد لها، والحارث ممتنع. فلما ظهر له أنها مظلومة، قوَّم الحِصَّة فدفع إليها الثمن ولم يأذن بحضور ابن عبد الحكم للشهادة ويقال إنه ألقيت في مجلسه رقعة فقرأها فإذا فيها (ميزان خزائني، وكفتاه ناقصة! (فاستبدل بكتابه وأعوانه بعد قراءتها.
وقال يحيى بن عثمان رفع إلى الحارث وصية فقال: لا أجيزها. فقد صح عندي أن الذي صدرت له الوصية كان يأتي محمد بن أبي الليث، وأخرج الوصية من يده.
قال: وشهد رجل عند الحارث فسأله عن اسمه فقال: جبريل فقلا: ضاقت الأسماء وتسميتَ باسم الملائكة؟ فقال له: وأنت ضاقت عليك الأسماء حتى تسميتَ باسم الشياطين! وقيل إنه قال له: فلم سمى مالك بن أنس مع قول الله تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَلِكُ) !.
وشهد عنده شاهد أن ابن أبي الليث أشهده، فقال: تذكر ابن أبي الليث في مجلسي؟ لا تعد إليَّ في شهادة.
وقيل إنه قال لسهل بن سلمة قد عُدّلت عندي، ولكني لا أقبل شهادتك، لأنك علمت لابن أبي الليث.
قال أبو عمر: خوصم إلى الحارث في دار من دور السيدة أم الخليفة، فحكم على وكيلها، فأخرج الدار من يده ودفعها للخصم، فكتب بذلك الوكيل إلى العراق، فجاء كتاب الفضل بن مروان إلى أمير مصر ينكر على الحارث ذلك ويقول في كتابه: إن الحارث لم يزل معروفاً بالانحراف عن السلطان، والمباعدة لأسبابه فتكلمه أن مقام وكلاء جهة أمير المؤمنين في ضياعها ودورها ومستغلاتها بمصر، مقام من يحوطها ويأمر برد الدار التي كانت في أيديهم
لهم كما كانت قبل حكمه فيها، وترك النظر في شيء مما في أيدي وكلائها بما يوهن أمرهم،
وتُؤْمَر بالتقدم إلى الحارث، بعدم التعرض إلى النظر في شيء يتعلق بأمير المؤمنين، وبمنعه من ذلك إن حاوله.
وكتب في ربيع الآخر سنة أربعين ومائتين.
ولم يزل الحارث على طريقته حتى حكم في دار الفيل وهي دار أبي عثيم مولى مَسْلَمة بن مُخلَّد وكان تحبيسها في سنة ثلاث وتسعين. وأصل ذلك أن جماعة من قضاة مصر، منهم توبة، والفضل بن فضالة، والعمري، وهارون الزهري أخرجوا وتاجا مولى أبي عثميم من الحبُس لأن صاحب الحُبس لم يسمه في كتاب تحبيسه. ثم آل الاستحقاق إلى محمد بن ناصح مولى أبي عثيم، وإلى عزة
بنت عمرو بن رافع مولى ابن عثمي، فتوفيت عزة وتركت ولدها إبراهيم بن عبد الصمد المعروف بابن السائح، فخاصمهم فيها، فأخرجهم الزهري وحكم بإخراج بني البنات من العقب.
فلما ولي محمد بن أبي الليث فسخ حكم الزهري، ودفع نصيبها إلى بني السائح. فلما ولي الحارث بن مسكين فسخ حكم ابن أبي الليث. وأخرج بني السائح فخرج إسحاق بن إبراهيم بن عبد الصمد ابن السائح، إلى العراق فتظلم من الحارث ورفع قصته إلى المتوكل، فأمر بإحضار الفقهاء فحضروا. واتفقوا على تخطئة الحارث في الحكم المذكور، وتناولوه بألسنتهم.
وكان الفقهاء الذين نظروا في قضية الحارث على رأي الكوفيين، وحكم الحارث إنما هو على رأي المدنيين، وبلغ ذلك الحارث ما جرى هناك من ذكره، فخشي من العزل، فبادر بكتاب إلى العراق يستعفي، فصادف وصول كتابه عقب أمر المتوكل بعزله. فكتب إليه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قاضي العراق: إن كتابك وصل باستعفائكم فأنهيت كتابك إلى أمير المؤمنين، وإنك تستعفي مما تقلدته من القضاء، فأمر - أيده الله - بإجابتك إلى ذلك وإعفائك إسعافاً لك فيما سألت، وتفضلاً بما أدى إلى موافقة فراقك في العمل بحسب ذلك موفقاً.
وكتب المتوكل إلى أمير مصر يزيد بن عبد الله بن الأغلب بالنظر في قضية ابن السائح. فجمع أهل البلد من الفقهاء والشيوخ. وكان ورود الكتاب عليه بالصرف في يوم الجمعة لسبع بقيم من شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين.
وكتب المتوكل إلى دُحَيم وهو عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، وهو يومئذ بفلسطين بتوليه القضاء بمصر. فشرع في التجهيز إليها. فمات قبل أن يخرج من فلسطين في شهر رمضان. فبقيت مصر بغير قاض إلى أن قدم بكار بن قتيبة في يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين. فكانت هذه القضية أول الأسباب في عزل الحارث عن قضاء مصر. ثم وقعت قضية ابن السائح التي ذكرت، وكان قد بالغ في الحط عليه، وأنه يحكم بالهوى، ويعطل حقوق الناس، بترك قبول شهادة من يشهد لهم من العدول، بغير قادح فيهم، إلا من جهة هواه.
ورفع عليه أن شاهدا شهد عنده فذكر ابن أبي الليث، فقال: تذكر ابن أبي الليث في مجلسي! فرد شهادته.
وشهد عنده سهل بن سلمة الأسواني فقال: قد عُدّلت عندي ولكن لا أقبل شهادتك لأنك عملت لابن أبي الليث. وأن سليمان بن أبي نصر كَانَ قد أثبت وصية إليه، فمنعه، وقال: لا أجيز وصيتك، لأنك كنت تأتي ابن أبي الليث، وأخرج الوصية من يده.
وقال أبو عمر: حكم الحارث في دار الفيل دار أبي عُثيم مولى مسلّمة بن مُخلَّد وكان أبو عُثيم حبس هذه الدار على مواليه الذين بفسطاط مصر، وسماهم فِي كتاب تحبيسه، وهم كعب بن سليمان وناصح وبسار ورافع وأولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا، ذكرهم وأنثاهم سواء. فإذا انقرضوا رجعت إلى جزأين الأول الفقراء والمساكين، والآخر من يسكن مصر من بين ساعدة. وتَلِيَّتُه من آل أبي دجانة، وهم عصبة موالي مسلمة من المطوعة، ومن أهل الديوان ممن لم يبلغ عطاؤه مائتين، فمن بلغها فلا حق له، فإن لم يكن بمصر أحد منهم فهو للفقراء والمساكين أيضاً.
وتاريخ هذا المحبس سنة ثلاث وتسعين. فاتفق أن قدم مولى لأبي عثيم من إفريقية اسمه وتاج لم يكن ممنسمي في هذا المحبس، فادعى أن له حقاً مثل ما لكل من موالي أبي عثيم. وذلك في ولاية توبة بن نمر. فلم يقبل منه ذلك وأخرجه من ذلك، وقضى بالاستحقاق للموجودين غيره من أولاد من سمي وذلك في سنة سبع عشرة. تأخر من ذرية المسلمين محمد بن ناصح وعزة بنت عمرو بن رافع فماتت عزة وتركت ولدها إبراهيم بن عبد الصمد بن السائج، فالتمس من المفضل بن فضالة أن يقضي له بنصيب أمه فامتنع، وسلم الحبُس كله لمحمد بن
ناصح. ثم عاد ابن السائح فتخاصم إلى عبد الرحمن العُمَري، فأخرج محمد بن ناصح قضيّة المفضل فأمضاها العُمَري. ثم تخاصما إلى ابراهيم بن الجراح، فقضى لابن السائح بالنصف. ثم مات إبراهيم بن السائح ومحمد ابن ناصح، فتخاصم إسحاق بن إبراهيم بن السائح وعبيد الله بن محمد بن ناصح إلى هارون الزهري، فقضى أن لا حق لإسحاق على وفق ما قضى به المفضل.
ثم تخاصما إلى محمد بن أبي الليث فقضى لابن السائح بالنصف على وفق ما قضى ابن الجراح. ثم ترافع عبيد الله بن محمد بن ناصح وأحمد بن إبراهيم بن السائح إلى الحارث بن مسكين فأخرج النصف من يد ابن السائج على وفق ما قضى به هارون وأخرج عيال أحمد وإسحاق وأخيه من الدار، وسكنها كلها لعبيد الله بن محمد بن ناصح وكان إسحاق غائباً، فقدم إسحاق فكلم الحارث وأخرج له حكم ابن الجراح فامتنع عليه وأصر على أن الاستحقاق لعبيد الله وحده. فلما طال عليه الأمر خرج إلى العراق فتظلم إلى المتوكل. فأمر بإحضار الفقهاء فنظروا في حكم الحارث، فخطأوه وكانوا على مذهب أهل الكوفة. فأمر المتوكلُ القاضي جعفر بن عبد الواحد وهو يومئذ قاضي القضاة أن يصرف الحارث عما يتولاه من القضاء بمصر. فكتب جعفر بذلك وعزل الحارث وقرر عوضه دحيم، انتهى.
وكانت مدة ولايته اثنتي عشرة سنة إلا شهراً. وعاش بعدها إلى سنة خمسين. وصلى عليه الأمير يزيد وكبَّر عليه خمساً، قاله ابن يونس.
وكان مولده سنة أربع وقيل سنة خمس وخمسين ومائة فعاش خمساً وتسعين سنة وزيادة.
الحسن بن أحمد بن أنو شروان الرازي ثم الرومي الحنفي، أبو الفضائل حسام الدين ابن تاج الدين.
ولد فِي المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة باقصرا من بلاد الروم. واشتغل بالفقه ومهر. وأول ما ولي قضاء ملطية. ثم ورد دمشق فولى القضاء بها نحوا من عشرين سنة بل تزيد. ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية في صفر سنة ست وتسعين وستمائة، بعناية المنصور لاجين، لأنه كان يصحبه لما كان نائب دمشق، فاختص به كثيراً. فلما ولي السلطنة استقدمه وولاه القضاء فلم يزل إلى أن قتل لاجين.
واتفق أنه قتل وهو عنده، وكان السلطان لما هجوا عليه قاعداً يلعب الشطرنج مع أبي العسال المقري. فدخل عليه كرجي فذكر له شيئاً كان أمره أن يعمله، فشكره والتفت كرجي يصلح الشمعة، فألقى على نِمْجَا السطلان قباءه وقال: ما تصلى؟ فقال السلطان: نعم. وقام فضربه بالسيف على كتفه، والتمس النِّمْجَا فلم يجدها، وقام مذعوراً، فقبض على كرجي فرماه تحته فأدركه رفيقه. فأخذ النمجاة فضرب بها رجل
السلطان فانقلب. فصاح القاضي حسام الدين: هذا ما يحل. فتشاغلوا عنه حتى فرغوا من قتل السلطان.
فلما تحقق القاضي قتله خاف منهم على نفسه، فاختفى، فأغلقوا الباب على السلطان والقاضي من داخل الدار قد اختبأ. فلما أخرجوا السلطان ليدفنوه، ذهب القاضي إلى منزله.
فلما تسلطن الناصر وذلك في شهر ربيع الآخر، صرف القاضي عن القضاء فرجع إلى دمشق، فاستقر في وظيفته، وصرف ابنه فلم يزل حتى كانت وقعة التتر فعدم فيها كما سيأتي.
وكان إماماً علامة، كثير الفضل والإفضال، كثير التودّد إلى الناس، أثنى
عليه الشهاب ابن فضل الله، وصلاح الدين الصَّفدي، وقال في ترجمته: كان جم الفضائل، عرياً من الرذائل. كثير المكارم، عفيفاً عن المحارم. ظاهر الرياسة، حريا بالسياسة، خليقاً بالنفاسة. يتقرب إلى الناس بالود، ويتجنب الخصماء اللدّ. فيه مروءة وحشمة، وبينه وبين المفاخر قرابة ولحمة. وله نظم وأدب، ورغبة في إذاعة الخير، واجتهاد وطلب، وانتهى.
وكان الحسام ممن قام في الإنكار في قصة الكاتب النصراني، كاتب عساف أمير العرب. وكان ينقل عنه أنه وقع في حق النبي صلى الله عليه وسلم. فقام في إمرة تقي الدين ابن تيمية، وزين الدين الفارقي. وعقد بسبب ذلك مجالس. وتعصب
الشمس الأعشر شاد الدواوين للنصراني، فما وسع النصراني لما خشي على نفسه إلا أنه أسلم فأطلق، فقال القاضي حسام الدين في ذلك:
إلام فتور العزم يا آل أحمد
…
بإبقاء كلبٍ سبًّ دين محمدِ
وكان إذا ما أذَّن القوم سبَّه
…
وكان بذكر القبح فيه بمرصدِ
يا سلامة لا يُدرأ الحد بعد ما
…
تكرر منه الشر من كل موردِ
على مثله أهل المذاهب أجمعوا
…
فكن ممضياً في نحره بمهنّدِ
فأنتم ليوث الحرب في كل مَعْرَكٍ
…
وأنتم سهام العزو في كل مشهدِ
وهي طويلة، وهذا عنوان نظمه.
وكان قد سمع من الفخر ابن البخاري مشيخته، وحدث بها عنه. سمع عليه البرازالي وابن سامة وغيرهما. وكان قد عدم في وقعة وادي الخازندار في سنة تسع وتسعين وستمائة.
وذكر الذهبي، أنه شاع عن المنهزمين أنه كان من جملتهم، وأنهم وصلوا إلى ناحية جبل الخازندار فيقال أنهم أسروه، وباعوه للفرنج فعرفوه، وكانوا يعرفون أنه من أهل العلم بالطب، فأخذوه إلى بلادهم، فصار يلاطفهم بطبه. ثم في سنة خمس وثلاثين بدمشق، أخ خبره وصل إلى ولده جلال الدين، فاقم يسأل في السعي في فكاكه من الأسر. فكشف عن حقيقة ذلك. فظهر أن لا أصل له وغلب على الظن أنه مات بعد أسره بقليل. ويقال: إنه حصل له بعد أن استقر بقبرص إرسال، ودام به حتى مات، وابنه:
جلال الدين أحمد، ولي قضاء الشام لما تحلو أبه إلى مصر في صفر سنة ست وتسعين وستمائة، وقد أثنى عليه غير واحد. وقال الشهاب ابن فضل الله: كان حسن المعاشرة، كثير الإفضال، طيب الأخلاق. درس بدمشق مدة حتى صار غالب علماء مذهبه من المتفقهة عنده، وغالب من أفتى منهم ودرس كان بإذنه. وحكى عنه أنه قال: سفرني أبي إلى الشرق لإحضار أهله إلى الشام، فألجأنا المطر حتى نمنا في مغارة. فبينا أنا نائم إذا بشيء يوقظني، فانتبهت. فإذا امرأة لها عين واحدة مشقوقة فارتعت. فقالت: لا تخفي إني رغب أن أزوجك ابنة لي كالقمر فقلت على خيرة الله. ثم نظرت فإذا رجال في هيئة قاض وشهود، وكلهم بصفة المرأة فخطب أحدهم وعقد. فقبلت ونهضوا، وعادت المرأة ومعها جارية حسناء فتركتها عندي وانصرفت. فارتعت وخفت خوفاً شديداً، ولم أقرب تلك المرأة ورحلنا وهي معنا. فلما كان في اليوم الرابع، حضرت تلك المرأة ورحلنا وهي معنا. فلما كان في اليوم الرابع، حضرت تلك المرأة فقالت: كأن هذه الشابة ما أجبتك! فقلت: نعم. فقالت: فناولينها ففعلت، وأخذتها وانصرفت فلم أرها بعد ذلك.
وكان مولده سنة إحدى وخمسين، وقدم مع أبيه دمشق، وسمع من الفخر ابن البخاري وغيره. ثم ولي قضاءها مدة. ثم عاد أبوه إلى قضائها كما تقدم. ودخل مصر لما كان أبوه قاضيها ودرس بعد أبيه بعدة مدارس بدمشق. قال الشيخ تقي الدين ابن رافع: كان كريم النفس، كثير الصدقة، عمر طويلاً حتى قارب المائة، ومات في التاسع عشر من رجب سنة خمس وأربعين وسبعمائة.
الحسن بن عبد الرحمن بن إسحاق بن محمد بن معمر بن حبيب بن المنهال السَّدُوسِي أبو محمد الجوهري، مالكي المذهب من المائة الرابعة. كان أبوه من كبار أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام. ولد هو سنة أربع وثمانين ومائتين. واشتغل وصار من عدول القاضي أبي عثمان أحمد بن إبراهيم بن حماد. وناب في الحكم عن أبي الذكر المالكي، وسيأتي ذكر والده عبد الرحمن ابن إسحاق، وأنه ولي القضاء بمصر نيابة عن قاضي بغداد هارون بن إبراهيم بن حماد المالكي.
قال أبو محمد بن زولاق: كانت ولايته قضاء مصر نيابة عن الحسين بن
عيسى بن هَرَوَان، الآتي ذكره، بأرض صاحب مصر محمد بن طُغْج الملقب الإخشيد. وركب إلى الجامع وقرئ عهده بذلك على المنبر ونظر بين الناس في الأحكام وولى وعزل، وأمر ونهى، واستكتب ابنه الحسين بن الحسن: ولم يزل أمره يجري على السَّداد، حتى وقع بينه وبين بكران الصباغ فتوجه بكران إلى دمشق واجتمع
بالإخشيد، وطلب من الحسين بن هروان أن يعزل الحسن بن عبد الرحمن، ويستخلف غيره. ويولي في الأحباس غيره أيضاً. ففوض الحسين أمر الأحباس وتولية قضاء النواحي لبكران، وفوض الحكم لأبي الفضل الكشي.
وكان عزل الحسن بن عبد الرحمن في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. ومدة ولايته سبعة أشهر. ثم أعيد الحسن بن عبد الرحمن إلى ولاية القضاء بمصر مرة أخرى، كما سيأتي في ترجمة الحسين بن عيسى بن هَروَان إن شاء الله. فمكث يسيراً ثم صرف. وعاش بعد ذلك مدة إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة.
وقرأت بخط شيخ شيوخنا قطب الدين الحلبي في تاريخ مصر في ترجمة الحسن بن عبد الرحمن هذا، ما نص (كأنه الذي أرخ أبو إسحاق الحبال وفاته سنة ست عشرة وأربعمائة) كذا قال. وأخطأ في ذلك خطأً فاحشاً، يقتضي أنه لم يقف على ترجمته في أخبار القضاة لابن زولاق، فقد أرخ مولده ووفاته كما نقلته، وبالله التوفيق.
ويحتمل أن يكون الذي أرخ الحبال وفاته ولَدَهُ الحسين بن الحسن بن إسحاق الذي ذكرنا أنه استكتبه لما ولي القضاء، وإن كان عمِّر، أو هو ولد له آخر أو حفيده.
الحسن بن علي بن أحمد المكرمي، يأتي في الحسين الحسين بن علي بن سعد الجلجولي الحسن بن علي بن سلامة، أبو محمد، المعروف بابن العُوْرِيس بضم
المهملة وسكون الواو وكسر الراء بعدها ياء آخر الحروف ثم سين مهملة، بلقب القاضي الأعز من المائة السادسة.
كان إسماعيلي المذهب، وولي القضاء في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وخمسمائة، ثم أضيف إليه الدعوة، وكان يتمكن من الدولة، فسعى عليه القاضي الجليس، حتى صرف عن قرب، ولزم بيته مدة، وكلما سعى في شيء من المناصب قصده القاضي الجليس، وكانت بينهما عداوة شديدة. وكان معظماً عند الخليفة العاضد، حتى كان ينزل له عن سريره.
ويقال إن علي بن نُجَيَّةَ الواعظ، قصده فأغلق في وجهه الباب، فعاتبوه بسببه فقال: رأيته يلبس الذهب بيده وهو يزعم أنه يعظ الناس.
ويقال إن ابن نُجَيَّةَ هذا، هوا لذي نَمَّ على هذا القاضي، وعلى من اتفق معه على إعادة الدولة الفاطمية، حتى آل أمرهم أن قتلهم السلطان صلاح الدين وصلبهم.
وذكر القاضي جمال الدين ابن واصل في تاريخه الذي قصره على بني أيوب عن القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، أنه حكى له أن ابن العُوْرِيس هذا، رأى في منامه أن المسيح عيسى بن مريم، أخرج رأسه من السماء، فسأله العُوْرِيس: الصَّلبُ حق؟ فقال المسيح: نعم. الصلب حق. فقص ابن العُوْرِيس هذه الرؤيا على بعض العبَّرين. فقال له: الذي رأى هذه الرؤيا يصلب، لأن المسيح معصوم من الكذب، فلا يقول إلى الحق، والله سبحانه وتعالى نفى عنه الصّلب، فرجع الوصف إلى الرائي. فلم يلتفت لقوله. واتفق صدق التعبير وصلب بعد مدة. وكان ذلك في أواخر شعبان. وقيل في ثاني شهر رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة وقُتِل هو وعدوه ابن الجليس، وصلبا ودفنا في قبر واحد بالقرافة، وسنذكر القصة في عبد الجبار إن شاء الله.
الحسن بن علي بن عبد الرحمن اليازوري من يَازُور، بتحتانية أوله ثم زاي مضمومة ثم واو ساكنة ثم راء. قرية من أعمال فلسطين. كان أبوه مزارعاً
بها اتسعت دنياه فتحول إلى الرملة. وولي القضاء بها، ونشأ ولده هذا فتفقه وتأدب وجلس
مع الشهود، واشتهر بالصدق والعفة والمعرفة بالأمور. فصار مقبول القول عند القضاة ثم ولي قضاء أعمال من الرملة بعد والده، فاتصل ببعض حَظَايا القصر بالقاهرة، فاستمر في عمله إلى أن ماتت فعزل عن الحكم فدخل القاهرة يسعى في عود وظيفته، فتوصل بسعة حيلته عن أن بلغ من أمره ما بلغ.
فقرأت بخط الحافظ قطب الدين الحلبي، أن اليازوري بعد أن صرف من القضاء حج وزار المدينة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم فلازم القبر النبوي. فاتفق أنه نام هناك فسقطت عليه وهو نائم قطعة خلوق من الزعفران الذي تلطخ الحجرة به، فجاء إليه أحد الخدم فأنبهه وقال له: أبشر فإنك ستلي ولاية عظيمة. فاحفظ لي هذه البشارة فإني أستحق عليها الكرامة، فتوجه إلى مصر وسعى إلى خدم أتباع أم المستنصر فوصفوه لها، وتَجْربته وصار يتردد إلى الوزير صَدَقَةَ بن يوسف الفَلاحِي وباطنه في السعي على أبي سعد التُّسْتَرِي. وكان هو القائم بأمور الدولة فأعانه حتى قتل التستري.
واستبد الوزير بالأمر، فاتفق أن القاضي حضر الخدمة يوم الاثنين على العادة، فقعد بباب القصر ينتظر الإذن، فالتفت فرأى اليازوري جالساً مع أتباعه، فزجره وطرده، فخرج وهو خجل. ثم سعى جهده ليرضى عنه القاضي فأصر، فتوسل إليه
بنائبه القضاعي، فلم يفد. ثم توسل إليه بنائبه الآخر أحمد بن محمد بن أبي زكريا، فلم ينجح. فاتفق أن وصل إليه ثلاثون حملاً من التفاح، فأهدى منها للقاضي خمسة أحمال وللوزير خمسة أحمال، وللقائد عدة الدولة رفق خمسة أحمال، ووزع الباقي على الأتباع، فلم يعرف له حق ذلك إلا القائد. فإنه قال: هذا رجل لا يعرفنا ولا تقدم لنا عليه جميل، فيجب أن نكافئه. فاتفق أنه لقيه في الطريق فأنصفه في السلام والكلام واستزاره فزاره، واستمر يتردد إليه فسعى له إلى أن قرره في خدمة أم المستنصر، وكان كاتبها مات، وتعطلت ثلاثة أشهر، وهي في اختيار من تستخدمه. فأشار عليها رِفْقٌ به ووصفه وأثنى عليه الوزير
والشيخ أبو نصر أخو أبي سعد التستري. وكانت قد عينته لذلك فامتنع، ورضى اليازوري فاستقر وتلكم في جميع تعليقاتها.
واتفق أن الوزير نكب ثم قتل، فأقيم الحسين بن محمد الجَرْجَرَائي مكانه، وترقى حال اليازوري، وأمرته أم المستنصر أن لا يقوم لأحد كائناً من كان، فامتثل أمرها إلا في رِفق، الذي سبب سعادته. فلم يزل في ترق وازدياد، إلى أن صار الخليفة لا يخاطب الوزير إلا على لسانه، فثقل ذلك على الوزير، فتحيل بإبعاده عن الخليفة، بأن سعى له في القضاء. فبدأ فأفسد حال قاسم بن عبد العزيز عند الخليفة وشنع عليه وعاب أحكامه، وأطنب في وصف اليازوري بالعقل، والمعرفة التامة
بالأحكام، وحسن السياسة، والصبر على ذلك. فولاه القضاء. فبلغ ذلك اليازوري فخشي من إبعاده عن خدمة أم المستنصر، وكانت هي باب الملك، فراسلها في ذلك فقالت له لا يضيق صدرك، فإني لا أستبدل بك أحداً ولا يهولنَّك أمر الحكم فإن القضاعي وابن أبي زكريا ينفذان الأمور، واجعل لنزولك إليهم يومين في الأسبوع، وفيهما يكون ولدك ينوب عنك عندي، فاستقر الأمر على ذلك فخلع عليه، وقرئ سجله بالإيوان. ولقب اليازوري لما ولي القضاء، قاضي القضاة، داعي الدعاة، الأجل المكين، عمدة الدين، أمين أميرِ المؤمنين.
وكانت ولايته في يوم الاثنين الثاني من المحرم سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
وخرج من عند الخليفة، فمشى جميع أهل الدولة في ركابه، لأجل مولاتهم. ثم راسلها الوزير في استخدام ولده عندها، فقالت لا أستبدل بكاتبي أحداً. فلما تحقق الوزير ذلك، وعلم أن حيلته لم تكمل، أخذ في مداراته، فاجتمع به وتعاهدا وتواثقا، وصار يجتمعان في الشهر يوماً في بيت الوزير فيخلوان ويبالغ الوزير في إكرامه، وهو يدبر عليه في الباطن.
فاتفق أن المستنصر قبض على الوزير فاختار اليازوري للوزارة، فامتنع فحسن له ناصر الدولة الحسين بن حمدان ذلك، فأصرَّ وأقام صاعد بن مسعود نائبه مكانه ولم يتسمَّ بالوزارة بل يسد الأشغال حتى يختاروا وزيراً.
وعرض المستنصر الوزارة على القاضي فامتنع، ومع ذلك فكان لا يقطع أمراً
دونه، ولا يخاطب صاعداً إلا على لسانه، فثقل على صاعد أيضاً، فأخذ في تأليب الجند عليه، فلم يجد بداً من أن يجيب الخليفة إلى ما ألتمسه منه، من الدخول في الوزارة، فوليها في المحرم سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، فباشرها بهمة وحرمة وجمع الكلمة. فجمع القضاء والوزارة والنظر في ديوان أم الخليفة، وكاتب أمراء الأطراف، وجهز الجيش لغزو بلاد الفرنج مرة بعد أخرى، وساس الأمر أعظم سياسة، وتمكن من الدولة تمكناً زائداً، وصار يتمّ له بالحيلة والسياسة مالا يتم ببذل الأموال والأنفس، ولم ينزع الطيلسان. ولقب الناصر لدين الله. وهو الذي راسل الصُّلَيْحِي لما ثار باليمن. فأقام الدعوة الفاطمية باليمن، وأهدى إلى المستنصر ما قيمته عشرة آلاف دينار، ولم يكن لهم عهد بمثل ذلك. واتفق أن المعز بن باديس صاحب أفريقية قصر في مخاطبة الوزير وكان يكتب إلى من قبله من الوزراء من عبده، فصار يكتب إليهم أن صنيعته، فعاتب نائبه وكاتبه في ذلك فما أفاد، فتلطف الوزير حتى أحضر إليه سكين المعز من دواته، فقال لنائبه: كاتبْه بأنا لو أردنا أن نذبحه بها فعلنا فتمادى على حاله الأول، فغضب منه، وألب عليه العرب حتى ضيقوا عليه، فلم يسعه إلا مداراة الوزير والخضوع له. وأغزى الوزير الجيش إلى صقلية. وغيرها.
وتوقف النيل في سنة سبع وأربعين وأربعمائة، فساس الوزير أمر الناس حتى انحط السعر، ومشى الحال ولم يتغير عليهم شيء. ولما غضب الوزير البَسَاسيري من الوزير ابن المُسْلِمَة ببغداد، وخرج إلى ديار بكر كاتب المستنصر يستأذنه في القدوم، فاستشار في أمره فأشار عليه الوزير بأن يفوض إليه أمر تلك البلاد، ويمدده بالمال، ولا يأذن له في القدوم لئلا يفتك به العرب، فاستجود رأيه وفعل ذلك. واتفق قدوم طُغْرُلْبك بغداد واستيلاؤه على العراق بعد استيلائه على خراسان، وأراد بعد ذلك الاستيلاء على الشام فخافه أهل مصر، فأخذ اليازوري في الحيلة، وكاتبه وتلطف به، وأوهمه أنه في طاعته، وأن البلاد بحكمه، وأنه لا يتكلف في قتال ولا أنفق لي عسكر، بل متى أراد وصل بغير مانع، فتوهم طُغْرُلْبك صحة ذلك واقتصر عن الحركة حتى يخلو وجهه لذلك، فوجد أعداء الوزير السبيل إلى القدح فيه وقيل في حقه إنه يكاتب أعداء الدولة ويستدعيهم إلى أخذ المملكة.
وكان اليازوري جيد السياسة، حسن الأخلاق كثير التجمل، حتى يقال: كانت مائدته كل يوم يحضرها القضاة والفقهاء والأدباء، وكان طلق الوجه، ظاهر البشر، كثير الصمت قليل الكلام. وكان إذا رضى احترت وجنتاه، وإذا غضب اصفرت محاجر عينيه فقط. وقيل: إن ذلك غاية ما يكون في صحة الطباع، وسكون النفس، واعتدال المزاج. وما كان يقول (لا) في شيء يسأله، بل إذا سئل فيما يمكن
الإجابة عليه قال (نعم) . وإذا سئل في غير ذلك يطرق ولا يرفع رأسه، وعرفوا ذلك منه. فكان لا يراجع فيه إلا بعد مدة.
وكان إذا نزل به أمر استشار فيه، وسمع ما يقال ولا يصوّب أحداً منهم ولا يخطئه، ثم عمل بأحزم ما يقدر عليه من ذلك.
ويقال: كان ارتفاع الدولة في مباشرته ألفي ألف دينار في السنة. فلما انقضت أيامه ودس أعداؤه عليه الأقاويل الباطلة، طلب المستنصر من ولده أبي عبد الله الملقب صفي الدين أن يعمل له دعوة. فبالغ الولد المذكور في ذلك وحضر المستنصر وقد احتفلوا له، فرأى ما أذهله من الفرش والآلات وغير ذلك. فحقد عليه ورأى أعداؤه السبيل إلى التقوّل عليه، فبالغوا حتى قالوا إنه احتاز مال الدولة كله، وجعله مثل سبائك الشمع، وأرسلها إلى الشام وقصد الهرب، فل يشعر في أول يوم من المحرم سنة خمسين وأربعمائة إلا وقد قبض عليه واعتقل، وقرر بعده في الوزارة أبو الفرج الباهلي، وفي القضاء أحمد بن عبد الحاكم الفارقي، وكان استقراره في العشر الثالث من صفر كما سيأتي.
وكان اليازوري هو الذي اصطنع البالي وقدمه وجعله كبير الديوان. فلما قبض عليه كتب إليه رقعة يستعطفه ويوصيه إلى أن صار الأمر إليه على أولاده وعائلته. فنظر البابلي فيها وذلك قبل أن يلي الوزارة، ولم يجب عنها. فلما وليا لوزارة قال لمن عنده: انظروا إلى هذا الكذاب يخاطبني بنون العظمة. وهو على شفير القبر! وأل أمره معه إلى أن سعى في إخراجه من الاعتقال
بتنيس وإنما فعل ذلك ليتمكن من قتله، وكان كذلك. فأخرجه هو ونساءه وحاشيته فاعتقلوا، ثم أخذ البابلي في الترتيب على اليازوري، حتى اتفق أن الأجناد شغبوا على البابلي، فدخل وهو مذعور على المستنصر، وشكا حاله، فقال: لا يتم لي أمر واليازوري موجود. فقال له طِبْ نفساً فإنا لا نعيده. قال:
وكيف تعيده يا أمير المؤمنين وقد هَمَّ بقتلك، وأقامت الشرَبة تدور بقصرك أسبوع فأنكر ذلك المستنصر. ثم فكر في ذلك وأطق. فسارع البابلي فأرسل إلى اليازوي من يقتله فبلغ ذلك أم المستنصر، فدخلت على ابنها وسألته عن ذلك فأنكر، وأرسل في الحال إلى البابلي يأمره أن يعيد الذين بعثهم، فتشاغل البابلي عن القاصد بتطويل الكلام معه، إلى أن ظن أن قصاده قضوا لحاجة، وجهز من ديرهم. فوجد الأمر فات وذلك في ثاني عشرين صفر من السنة، وبلغ ذلك المستنصر فاغتم وكذلك أمه.
وقرأت بخط الحافظ قطب الدين ما نصه: وفي صفر سنة خمسين أرسل المستنصر كاتبه طاهراً ومعه حَيْدَرَة السيَّاف إلى تنيس بِضرب عنق اليازوري، فأخرج في الثاني والعشرين منه، فضرب عنقه، ورمى جيفة في مَزْبَلَة، فورد أمر المستنصر بعد ثلاثة أيام بتكفينه وتجهيزه ودفنه، فغسل وصلى عليه ودفن ثم دفنت رأسه في جسده في آخر الشهر.
وكان ينسب لكثرة صمته إلى التيه والصلف وإنما كان ذلك لتفكره في الأمور. وكان كثير الصدقة جزيل الستر، وكان قد رتب لكثير من أهل الخير رواتب تأتيهم على يد وكيل أم المستنصر من عند الوزير، فكانوا يظنون أنه من عندها فلما نكب انقطعت، فعرفوا من أين كانت.
الحسن بن قاسم بن طاهر الرعيني، من المائة السادسة. كان على مذهب العبيديين. ولاه الحسن ابن الحافظ لما ولي الوزارة والده. فلما قتل أبوه عاد ابن ميسر فاستمر إلى أن قتل، وأُعِيد الرعيني، وذلك في المحرم سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. وتولى الحكم بعد صرف ابن ميسر في شوال سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. وفي ولايته الثانية كان ينوب عن بهرام الأرمني وزير الحافظ، وذلك أنه كان ولاه الوزارة فأنكروا عليه، فقال له الخواض من جلسائه إن النصراني لا يكون وزيراً، لأن من وظيفته أن يصعد مع الخليفة المنبر يوم الجمعة، ليزرّ عليه الكِلَّةُ المانعة من النظر إليه حالة الخطبة، فأصر على توليته
الوزارة، وأن ينوب عنه القاضي في ذلك، فناب عنه الرعيني المذكور، وقيل للحافظ أيضاً: عن أمر القضاء كان قد فوض لبدر الجمالي ثم لولده، ولم يزل بأيدي الوزراء، وإن الوزير هو الذي يولي القاضي، وهو نائبه، ويخرج التواقيع إلى البلاد بذلك، فأبطل تلك العادة، وفصل القضاء من الوزارة، وولي القاضي من قبله، وبطلت تلك السُّنة.
الحسن ابن ثقة الدولة مجلي بن أسد بن أبي كُدَيَنْتةَ أبو محمد المرادي من المائة الخامسة: يقال إنه من ذرية عبد الرحمن بن ملجم، أول ما ولي القضاء
في دولة ناصر الدولة ابن حمدان، المسولي على دولة المستنصر في السابع والشعرين من شعبان سنة خمس وخمسين وأربعمائة، عوضاً عن عبد الحاكم بن وهيب وأُضيفت إليه الوزارة بعد صرف أب يغالب عبد الظاهر بن الفضل بن الموفق في الدين المعروف بابن العجمي، ثم قبض عليه في خامس ذي الحجة، وقرر في القضاء والوزارة، جلال الملك أحمد بن عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد، فاستخلف في الحكم أخاه علياً، ثم صُرف عن الحكم والوزارة في الثالث والعشرين من المحرم سنة ست وخمسين وأربعمائة، وأعيد الحكم لابن أبي كدينة، والوزارة لأبي المكارم المشرف بن أسعد بن عقيل. ثم صرف ابن أبي كدينة عنا لحكم، واستقر عليٌّ بن عبد الحاكم، وذلك في تاسع عشر شهر ربيع الآخر. ثم صرف واستقر أبو عبد الحاكم
بن وهيب، وذلك في خامس جمادى الأولى، ثم استقر ابن كدينة في الحكم والوزارة جميعاً في العشر الأخير من شهر رمضان. ثم صرف عنهما جميعاً في الرابع من ذي الحجة منها، واستقر في الحكم أحمد بن عبد الحاكم، وفي الوزارة أبو علي الحسن بن أبي سعد إبراهيم بن سهل التستري.
ثم في النصف من المحرم سنة سبع وخمسين أعيد ابن أبي كدينة إلى القضاء والوزارة جميعاً، فأقام أربعة أيام وصرف، وأعيدت الوزارة لأبي شجاع محمد
ابن الأشرف والحكم لجلال الملك أحمد بن عبد الكريم. ثم صرف عن الحكم في النصف من جمادى الآخرة. واستقر ابن أبي كدينة في الوزارة والقضاء جميعاً، إلى أن صرف عنهما في نصف رجب، واستقر في الحكم عبد الحاكم ابن وهيب ثم صرف، وأعيد ابن أبي كدينة. ثم في السادس والعشرين من صفر سنة ثمان وخمسين صرف، واستقر جلال الملك، وأضيفت له الوزارة في رابع جمادى الآخرة منها. ثم صرف عن الوزارة بعد أيام، ثم صرف واستقر ابن أبي كدينة ثم صرف في سادس عشرين صفر سنة ثمان وخمسين، ثم عاد. ثم صرف في ثامن المحرم سنة تسع وخمسين، وأعيد عبد الحاكم، ثم صرف في سابع جمادى الآخرة، وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف وأعيد المليجي ثم صرف أيضاً وأعيد ابن أبي كدينة ثم صرف في الثامن والعشرين من ذي القعدة، ثم أعيد في صفر. ثم صرف بالمليجي خمسة أيام، ثم أعيد في ربيع الأول إلى القضاء والوزارة، وصرف في جمادى الأولى واستقر جلال الملك بمكانه في إلى سلخ رمضان فصرف عنه وتولى القضاء المليجي ثم صرف في يوم عيد النحر، وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف في ثلاث عشر صفر سنة إحدى وستين واستقر المليجي وصرف جلال الملك عن الوزارة هو والمليجي في نهار واحد ثم استقر خطير الملك محمد ابن الوزير أبي محمد الحسن بن علي اليازوري في القضاء والوزارة جميعاً في اليوم المذكور، إلى أن صرف في شوال منهما جميعاً.
واستقر فيهما ابن أبي كدينة إلى
ذي القعدة، وصرف عن القضاء، واستقر فيه المليجي. وكانت في هذه السنين الشدّة التي حصلت بمصر، ثم ولي ابن أبي كدينة القضاء والوزارة والدعوة جميعاً في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين.
فلما قتل ناصر الدولة ابن حمدان في شهر رجب سنة خمس وستين، وتنفس خناق المستنصر مما كان فيه، استطال الذين قاموا على ناصر الدولة، وهم الوزير المذكور وإلْد كز مقدم الجيوش ومن معه من الأتراك، فكاتب المستنصر بدراً الجمالي، وفوض إليه أمور المملكة بالديار المصرية، وكان يومئذ مقيماً بعكا، فاستخدم جماعة من الجند، وسار في البحر في قرة الشتاء، فوصل سالماً في مائة مركب في أول كانون إلى دمياط، ووصل إلى مصر، فقبض على إلدكز، وذلك
في ربعي الآخر سنة ست وستين، واستقر في تدبير المملكة في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى منها، وبسط يده في قتل المفسدين والمتغلبين وقتل غالب من ولي الوزارة واستقرت القضاة نواباً عنه، وكذلك الدعاة، ولقب (كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين) وذلك في شعبان سنة سبع. ثم قبض على ابن أبي كدينة في جمادى الآخرة سنة ست وستين، واعتقله بدمياط ثم أرسل إليه من يقتله.
قال ابن ميسر في تاريخه: كان ابن أبي كدينة قاسي القلب جباراً. ويقال إن السياف لما دخل عيه ليقتله، ضربه بسيف كليل. فضربه عدة ضربات. ويقال: اتفق أنها كانت بعدد ولاياته.
الحسن بن محمد بن محمد بن علي الغُوري الأصل البغدادي الدار، نزيل القاهرة، الحنفي، الملقب حسام الدين من المائة الثامنة. ولد ببغداد وتفقه بها وولي بها الحسبة، ثم القضاء. وسمع الحديث بها من الرشيد بن أبي القاسم، ومحمد بن عبد المحسن الدواليبي وغيرهما، ثم قدم صحبة الوزير نجم الدين محمود بن علي بن سرور. في صفر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، بعد وقوع الفتنة ببغداد، فصادف أن الملك الناصر كان عزل ابن عبد الحق فقرر حسام الدين المذكور في قضاء الحنفية عوضاً عنه، وذلك في جمادى الآخرة. فباشر بصرامة ومهابة، لكنه كان كثير المزاح والهزل، السخف وبذاءة اللسان، مع عدم معرفة بالشروط والسجلات، وعدم مشاركة في الفقه وغيره. وعي في لسانه، واجتراء على رفقته، وكان يستطيل محاورة السلطان له بلسان الترك فكان إذا تكلم معه بالعربي، يقبض لسانه، وإذا تكلم معه بالتركي بالغ في الحطّ عليهم.
واتفق أنه كتب إلى ناظر الدولة ورقة يعاتبه على تأخير معلومه، فوقع له فيها من السخف والبذاء ما يستحي من إعادته. ثم لما حضر بدار العدل شرع يذم الكتبة ويذكر عنهم قبائح، ويصرح، ولا يكنى ولا يرمز. فغضب السلطان من
ذلك، وأنكر على وزير بغدادي الذي جلبه إليهم، فبالغ الوزير في تعنيفه، لما عرف تغير السلطان منه.
ومن سخفه: أنه كان إذا تحاكمت إليه امرأة وزوجها ينصر المرأة، ويفحش في مخاطباتها: حتى قال لامرأة مرة اكشفي وجهك، فاستترت فقال لوالدها: يا مُمَّغ مثل هذه تزوجها بهذا المهر، والله إن مبيتها ليلة واحدة يساوي أكثر منه.
وكان يعاقب بالضرب الشديد والعزيز العنيف، فكان العامة يبغضونه، فلما كان في سلطنة الناصر أحمد، هجم عليه جماعة من المطبخ السلطاني، كان أساء لبعضهم، وحكم على بعضهم، فأقاموه من بين رفقته، وخرقوا عمامته في عنقه، ومزقوا ثيابه، وتناولوه بالنِّعال، حتى أدركه بعض الأمراء وهو يستغيث، فاستنقذه منهم، وقبض على بعضهم فعاقبه، وشيع الغوري إلى منزله بالصالحية، فاقتحم العوام عليه بيته فنهبوه، وكان واقعة شنيعة. ثم اقتضى رأي أهل الدولة أن أخرجوه من القاهرة فشيعوه على أقبح صورة.
وكان سبب تسليط العامة عليه، أنه أفتى بقتل سلطان ذلك الوقت، وقيل: إنه دس عليه ذلك.
ومما حكى عنه: أنه مر برجل وهو راكب وفي يد الرجل فروجان وقد جعل أرجلهما بيده، ورؤوسهما منكسة. فلما رآه وقف، وطلب الرسل فأخذوا
الرجل، وأحضروه إلى الصالحية، فقال له: كيف يحل لك تأخذ حيواناً تجعل رجليه في يدك، ورأسه إلى أسفل! اصلبوا هذا حتى يعرف أن كان هذا الفضل يضر، فحصلت فيه شفاعة، فاختصر أمره على أن أحضره وضربه ضرباً مؤلماً.
وهو أول من أمر من القضاة أن يكتب في المسطور أربعة من الشهود، وأن يكتبوا سكن المدين وذلك في.. وعاش بعد ذلك إلي وله ولد كان يسمى
…
الحسن بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن علي بن محمد بن بد الملك بن أبي الشوارب. ولي القضاء بعد والده ثم صرف، وقرر أخوه على ابن محمد. وكانت وفاة والدهما في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ثم صرفه المطيع سنة خمس وخمسين، وقرر في القضاء عُبَيد الله بن نائل أخوه علي.
الحُسين بن عبد الرحيم بن عبد الله بن عمر بن شأس بن نزار بن عشاير بن عبد الله بن محمد بن شأس الجذامي، مالكي المذهب من المائة السابعة، يلقب تقي الدين، ويكنى أبا علي ابن شرف الدين أبي الفضل ابن الشيخ الإمام مصنف الجواهر فِي مذهب مالك، وهي على ترتيب الوجيز للغزالي. ومنها اختصر ابن الحاجب كتابه.
ولد سنة تسع وستمائة في صفر، وسمع من جده لأمة الشيخ بهاء الدين أبي الحسن ابن بنت الجُمَّيْزي، ومن جعفر بن علي الهَمَذّاني، ومن عوض التونسي وغيرهم، وحدث. روى عنه الحافظ قطب الدين الحبي. وكانت ولايته القضاء في ذي الحجة سنة ثمان وستين. ثم صرف في شهر رمضان سنة تسع وستين.
ثم أعيد في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين. ودرس بالمنصورية للمالكية، وبالقمحية في نصف شهر رمضان سنة أربع وثمانين. ومات في آخر يوم من ذي القعدة، أول يوم من ذي الحجة سنة خمس وثمانين وستمائة.
الحسين بن علي بن أحمد المكرمي، إسماعيل من المائة الخامسة. كذا سماه ابن ميسر في تاريخه، وسماه المكرمي، إسماعيلي من المائة الخامسة. كذا سماه ابن ميسر في تاريخه، وسماه الحافظ قطب الدين الحلبي في تاريخه:(الحسن) بفتحتين.
وكانت ولايته عند صرف محمد بن عبد الحاكم، سنة مات المستنصر وهي سنة سبع وثمانين وأربعمائة، فكانت مدته شهراً واحداً وثلاثة أيام.
وكان سبب عزله أنه ظهرت عليه عصابة لها قيمة، كأنها من ذهب. وفيها جوهر نفيس، كان أخذها من القصر أيام الغلاء والشدة، ففقدت من صاحبتها وظهرت عليه بعد أن ولي القضاء. فعزل بسببها وصُودر.
ذكر ذلك ابن ميسر في حوادث سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة نقلا عن الصفي الجوهري هو علي بن منجب ابن الصيرفي.
الحسين بن علي بن النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن
حيُّون، بمهملة وياء آخر الحروف ثقيلة مضمومة وآخره نون، المغربي الإسماعيلي، من المائة الرابعة. ولد لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة بالمهدية، وقدم مع أبيه القاهرة وهو صغير، فحفظ كتاباً في الفقه ومهر إلى أن صار من أئمة السبعة. واستخلفه عمه محمد بن النعمان بالجامع في الحكم. ثم صرفه بابنه عبد العزيز بن محمد. فلما مات محمد بن النعمان، أقامت مصر بغير قاض تسعة عشر يوماً، فاستدعاه برجوان بأمر الحاكم، فولاه القضاء، وولي المظالم ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان، وذلك في آخر صفر، أو أول شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. وحرره المسبّحي في الثالث والعشرين من صفر. قال: فقلده سيفا وخلع عليه ثياباً بيضاء مقطوعة، ورداه برداء وعمّمه بعمامة مذهبين، وحمله على بغلة. وقاد بين يديه بغلتين، وحمل معه ثياباً صحيحة كثيرة. وقرئ عهده بولاية
القضاء بالقاهرة ومصر والإسكندرية والشام والحرمين والمغرب وأعمال ذلك، وهو قائم على قدميه. وأضيفت إليه الصلاة والحسبة فركب إلى الجامع، ووقف عن قوبل جماعة من شهود عمه، وعدتهم أربعة عشر نفساً، والمسبحي أسماهم، ثم قبلهم بعد مدة شهرة. واستخلف على الحكم الحسين بن محمد بن طاهر بمصر، وبالقاهرة مالك ابن سعيد الفارقي. وأقام النعمان أخاه في النظر في المعيار، فأضاف إليه قضاء الإسكندرية. وعلى الفروض أحمد بن محمد بن أبي العوام، وألزم من ينظر في مال الأيتام بعمل الحسبانات.
فبينما هو في ثامن صفر سنة إحدى وتسعين، جالس في الجامع بمصر، يقرأ عليه الفقه، أقيمت الصلاة، صلاة العصر، فدخل فيها، إذا هجم عليه مغربي أندلسي فضربه ضربتين بمنجل فغاص في وجهه ورأسه. فأمسك الرجل فقتل، وصلب، وصار من ذلك اليوم يحرسه عشرون رجلاً بالسلام.
وذكر المسبحي في تاريخه ذلك، في حوادث سنة ثلاث وتسعين في ثاني المحرم. وأقام القاضي إلى أن اندمل جرحه، فركب إلى الحاكم، فخلع عليه وحمله على بغلة، وقاد بين يديه أخرى. وأن الحسين هذا جُرح وهو راكع في صلاة العصر. وكان إذا صلى يُصَفّ خلفه الحرس بالسيوف، حتى يفرغ فيصلون هو حينئذ.
قال المسبحي: وهو أول قاض فعل معه ذلك. وكان الحاكم قد أمر أن يضعَّف
للحسين أرزاق عمه وصلاته وإقطاعاته. وشرط عليه ألا يتعرض
من أموال الرعية، لدرهم فما فوقه. وخلع عليه وقلده سيفا، وحمله على بغلة، وفوض إليه الحكم لجميع المملكة، وكذلك الخطابة، والإمامة بالمساجد الجامعة، والنظر عليها وعلى غيرها من المساجد. وولاه مشارفة دار الضرب والدعوة، وقراءة المجالس بالعصر، وكتابتها.
وهو أول من أضيفت إليه الدعوة من قضاة العبيديين، وكان الناس يظنون أنه لا يتولى القضاء لضعف حاله، وأن الولاية إنما هي لعبد العزيز بن محمد ابن عمه لما كان أبوه قدمه في الحكم في حياته، وهذَّبه، ودربه.
ثم رفع جماعة من الناس أن لهم ودائع مودعة في الديوان الحكمي، فأحضر القاضي ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان، وكاتب عمه أبا طاهر بن السندي، وسألهما عن ذلك. فذكرا له أن عمه تصرف في ذلك كله على سبل القرض، فأنكر عليهما ذلك، واشتد في المطالبة. وولي استرفاع حسابهم، فَهْد ابن إبراهيم النصراني، كاتب بَرْجَوَان، وفتش عليهم وألزم عبد العزيز ببيع ما خلفه أبوه، فباغ الموجود فتحصل منه سبعة آلاف دينار وزيادة. وحصل الكاتب قدرها مرتين فاستدعى القاضي، وهو جالس بالقصر أصحاب الحقوق، فوفاهم حقوقهم، وقرر في زقاق القناديل موضعاً للودائع الحكمية. وأقام خمسة من الشهود يضبطون ما يحضر ويصرف.
وهو أول من أفراد للمودع الحكمي مكاناً معيناً. وكانت الأموال قبل ذلك تودع عند القضاة أو أمنائهم.
وباشر الحسين بصرامة ومهابة، وهو أول من كتب في سجله قاضي القضاة. وأبوه أول من خاطب بها من قضاة مصر.
وتقدم إليه الحسن المغربي في خصومة، فنزل لسانه بشيء خاطب به القاضي فأغضبه. فأرسل إلي وإلي الشرطة، فضربه ألف درة وثمانمائة دِرَّة بحضرة صاحب القاضي. وطيف به فمات من يومه. وأخرجت جنازته فحضرها أكثر أهل البلد، وكرموا قبره، والدعاء له، وعلى من ظلمه. وندم القاضي على ما فعل، وفاته الندم.
فلما كان في رجب سنة ثلاث وتسعين أذن الحاكم لعبد العزيز بن محمد أن يسمع الدَّعْوَى والبينة، مع استمرار الحسين على وظائفه، فرتب عبد العزيز له
شهوداً يحضرون مجلسه، وشطر عليهم ألا يحضروا مجلس ابن عمه، فبقي الناس في أمر مَريج، فمن رفع قصة إلى لاحسين رفع غريمه قصة إلى عبد العزيز. وإذا حضر عبد العزيز إلى الجامع تخلو دار الحسين. فكثر الكلام في ذلك والخوض فيه، فكتب الحاكم بخطه سجلاً بأنه لم يأذن لغير الحسين أن يشارك الحسين فيما فوض إليه، وأمر بأن يمنع من يسجل علي غيره في شيء من الأحكام. وأن من دعا أحداً من الخصوم، وكان قد سبق إلى الحسين أن لا يمكن أحداً منه. وقرئ هذا السجل على الملأ، وانشرح خاطر القاضي بذلك.
ولم يزل على جلالته، حتى أفرط في مجاوزة الحد في التعاظم، وألزم الشهود بحضور مجلسه في داره، وبالجامع، ومن غاب منهم لزمه جعْلٌ جيد يؤخذ منه.
وكان يتتبع قراءة ما يسجل عليه عنده، قبل أن يشهد به على نفسه. وكان مع ذلك كثير الإفضال على أهل العلم والأدب والثبوت، ولهم عليه جرايات من القمح والشعير مشاهرة وغيرها. ويصلهم بالملابس وغير ذلك. واستمر إلى أن خرج أمر الحاكم بصرفه عن الحكم في شهر رمضان سنة أربع وتسعين. فلم يشعر وهو بداره حتى دخل عليه من أعلمه بأن ابن عمه عبد العزيز ولي القضاء. فأنكر ذلك إلى أن تحقق. فأغلق بابه ولزم بيته. واشتد خوفه، إلى أن كان في السادس من المحرم فأمر الحاكم فأحضر على حمار نهاراً. وأمر بحبسه إلى أول سنة خمس وتسعين فضربت عنقه هو وأبو الطاهر المغازلي، ومؤذن القصر. وأحرقت جثث الثلاثة عند باب الفتوح.
وكان مما أنكره الحاكم قصة الرجل الذي ضربه وإلى الشرطة فمات كما تقدم، وقد ذكر إبراهيم بن الرقيق في تاريخ إفريقية قصة الحسين هذا مع الحاكم. فقال ما نصه: وقتل الحاكم قاضية حسين بن علي بن النعمان فأحرقه بالنار. قالوا: وكان من أسباب قتله أن الحاكم كان قد ملأ عينة ويده، وشرط عليه العفة عن أموال الناس، فرفع إلى الحاكم شخص متظلم رقعةً يذكر فيها أن أباه مات. وترك له عشرين ألف دينار، وأنها كانت في ديوان القاضي حسين، وكان ينفق عليه منها مدة معلومة. فحضر يطلب من ماله شيئاً فأعلمه القاضي أن الذي له نفد، فاستدعى الحاكم بالقاضي، فدفع إليه الرقعة، فأجابه بما قال للرجل، وأن الذي خلفه أبوه استوفاه من نفقته. فأمر الحاكم بإحضار ديوان القاضي في الحال،
فأحضر ففتش فيه عن مال الرجل. فظهر أنه إنما وصل إلى القليل منه. ووجد أكثر
باقٍ. فعدد على القاضي ما تبه له وأجراه عليه، وإكرامه إياه، وما شرط عليه من عدم التعرض لأموال الرعية، فجزع وهاله ذلك. وقال: العفو وأتوب. وانصرف بالرجل فدفع إليه ماله وأشهد عليه. فحقد الحاكم عليه ذلك، فأمر به فحبس، ثم أخرج بعد ذلك على حمار نهاراً، والناس ينظرون إلى أن ساروا به إلى المنظرة. فضربت عنقه، وأحرقت جثته.
وكانت ولايته القضاء خمس سنين وسبعة أشهر وأحد عشر يوماً.
قال المسبِّحي: لا عَن بين رجل سكرى وامرأته في الجامع العتيق، ولم يسبق بذلك، يعني في دولة العبيديين.
قال وأقطع الحاكم للقاضي المذكور داراً، بالقرب من الخليج الحاكمي، فكان في أيام النيل يركب في عُشَارِي إلى هذه الدار، ويسايره الشهود على دوابّهم في البر، ثم يركب منها إلى القصر، ثم يعود إليها، ثم يرجع إلى سكنه بالدار الحمراء.
الحسين بن عيسى بن هَرَوان الرملي الشافعي، من المائة الرابع، يكنى أبا علي ويقال إن اسم أبيه موسى، ويقال محمد. كان أحمد بن سليمان بن حَذْلم لما ولي القضاء بالشام استخلف أبا الطاهر الذهلي، فاستخلف هو الحسين ابن هروان،
ذكر ذلك عبد العزيز الَكتَّانِي، وقال أبو محمد الأكْفَانِي: إن الحسين ولي قضاء مصر بعد وفاة عبد الله بن أحمد بن زَبْر.
وقال ابن عساكر عن عبد الله بن أحمد الفَرْغَاني: إن الحسين بن عيسى كان يلي القضاء نيابة عن قاضي القضاة ببغداد، نيابة من قبل الخليفة المطيع. ولم يكن يصلح للقضاء، ولا لتقلُّد الحكم، لخلوه من معرفة وإنما سعى في ذلك لطلب الجاه وصيانة نعمته، فإنه كان كثير المال.
وقد وقَع بينه وبني ابن وليدٍ مرة. فقال حالفاً: لا يسعى أحد في القضاء إلا بذلك في إتلاف روحه مثل هذا الجرن ذهباً.
وذكره غيره أن ولايته من قبل الراضي، ثم المستكفي من سنة إحدى وثلاثين. وقدم مصر سنة ثلاث وثلاثين، فاستخلف أبا بكر بن الحداد. وكانت وفاته في آخر رجب سنة أربع وثلاثين بدمشق، أرخه الفرغاني.
الحسين بن محمد بن طاهر نقيب الأشراف، استخلفه محمد بن النعمان على القضاء لما عجز عليّ بن محمد بن إسحاق الحلبي عن الحركة، فكوتب خلفاء النواحي عنه بقاضي القضاة، وخاطبه الشهود بذلك. وذلك لثلاث بقين من رمضان سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
الحسين بن محمد المطلبي النَّبقي. قدم بتسلم القضاء لمحمد بن الحسن بن أبي الشوارب، فتسلمه وقرأ عهد محمد بن الحسن في الجامع، ونظر في الأحكام إلى أن قدم أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة، قاضياً على مصر، نيابة عن ابن أبي الشوارب المذكور، وذلك في جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
الحسين بن أبي زرعة محمد بن عثمان الدمشقي شافعي المذهب، من المائة الرابعة، ولد سنة خمس وثمانين ومائتين بمصر، في ولاية أبيه عليها. وولى القضاء بها من قبل محمد بن الحسن، ابن أبي الشوارب، وذلك في شوال سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
فركب بالسواد إلى الجامع وبين يديه أصحاب الشرطة، فباشر مباشرة جيدة. وكان عارفاً بالأحكام منفذاً، وكان مترفاً ويتوسوس في الوضوء. وكان واسع النَّفس. يقال إن نفقته على مائدته في كل شهر أربعمائة دينار، وجمع له قضاء
مصر والإسكندرية والشام وحمص وفلسطين والرملة وطبرية وأعمال ذلك. وكثر نوابه بسبب ذلك. ونظر في المواريث والأحباس ودار الضرب. واستناب
أبا بكر ابن الحداد، فقيه الديار المصرية. وكان يخلفه فيا لحكم. وكان هو يجلس في الجامع كل سبت.
وكان مفضالاً سخياً، يقال: إنه بلغه أن ابن الحداد بني داراً، فأرسل إليه ثلاثمائة دينار، وقال: اشتر بهذه سُتُورا.
ودخل عليه مرة وفي يد القاضي قطعة عنبر ويشمها، فناولها له فشمها، ثم ردها. فأنكر عليه، وقال: سبحان الله! وأبى أن يستردها منه، ويقال: إن وزنها كان مائتي مثقال. ثم وقعت بينهما مشاجرة في شيء، فتقاطعا.
وخرج ابن الحداد معه مرة وكان الحسَين يباشر القضاء بنفسه غدوة وعشية، فتوسط بينهما الحسن بن طاهر الحُسَيْنّي يباشر القضاء بنفسه غدوة وعشية، فتوسط بينهما الحسن بن طاره الحُسَيْنّي، عم أبي جعفر مسلم. فتوجه إلى الجامع عشية الجمعة، فاخذ بيد أبي بكر، ومضى به إلى ابن أبي زرعة، فأصلح بينهما. فقال ابن أبي زرعة: ما كان لنا بد من نصيب، يشير إلى أن ابن الحداد حاد الخلق، ثم قلا: والله ما أعده إلا والداً. فانكب ابن الحداد عليه يقبل صدره فاصطلحا، وعادا إلى ما كانا عليه من الرضا إلى أن تفرقا بالموت.
ويقال: إن الحسن بن طاهر لما دخل بابن الحداد، رأى التحسين في العلو فبلغه فنزل، ومر عليهما فسلم ولم يجلس عندهما، وتوجه إلى مكان آخر فجلس
فهي واستدعاهما، فلما دخلا عليه قام وتلقاهما، وفعل ذلك أدباً مع الشريف، لئلا يقوم إليهن فاستحسن من رأي ذلك عنده، وعدّوه من آدابه.
واستكتب في الحكم الحسن بن عبد الرحمن بن الحسن بن إسحاق الجوهري، الماضي ذكره قريباً. وعدل جماعة من الأشراف ومن وجوه مصر.
قال ابن زولاق: ولم يكن ابن أبي زرعة يخالف ابن الحداد في شيء. ولما صرف ابن أبي الشوارب عن القضاء وذلك في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، واستقر عوضه أبو نصر يوسف بن عمر بن أبي عمر، كتب إلى ابن أبي زرعة باستمراره على قضاء مصر، فقبل ذلك. فقرأ كتابه على الناس في داره وفيه: وهذا عهدي إليك بخطى، وكان حسن الخط.
وذكر أبو الطاهر الذهلي أن سنّ يوسف حينئذ كانت نحو العشرين، فيقال: إن ابن الحداد قال لابن أبي زرعة: تقبل كتاب صبي! وما عليك أن تأخذ أنت هذا
الأمر من الأصل. فقال: لو أردت قضاء بغداد لفعلت، وقد كتبت في أمر قضاء الحرمين.
واتفق أنه اعتل عن قريب، فمات في ذي الحجة يوم المحرم سنة سبع وعشرين وله ثمان وأربعون سنة. كانت ولايته ثلاث سنين.
الحسين بن يوسف بن أحمد الرصافي، إسماعيلي من المائة الخامسة. قرره الأفضل بن بدر بعد صرف محمد بن جوهر بن ذلك في ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وأربعمائة، ثم أعيد بعد صرف مظفر بن طاهر قال ابن دانيال:
وبعد ذا ولي القضاء ابن ذكا
…
وبعده الحسين هو ذو الذكا
وبعد ابن ظافر تولى
…
ثم الحسين ذو المقام الأعلى
حمزة بن الحسين بن أحمد التنوخي العِرْقِي، بكسر المهملة وسكون الراء، بعدها قاف، بُليدة من طرابلس. ويقال كنيته أبو الحسن. ويقال: اسمه أحمد بن الحسين، ويقال: بل هو أحمد بن حمزة بن أحمد.
وكانت ولايته من قبل بدر الجمالي، واستمر في الولاية إلى أن مات في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.
وقرأت بخط القطب الحلبي، الذي تولى القضاء: هو حمزة بن أحمد. وله ولد يقال له أحمد، له فضل. ولذلك ظنه من قال إنه القاضي،
والأول هو الذي ذكره ابن ميسر في تاريخه ونقلته منه. والثاني ذكره الحافظ تقي الدين عبيد الإسعردي، وذكر أنه وقف له على ترسّل حسن.
وذكر ابن ميسر: أن الزقاق الذي بخوخة الطباخ عند الجباسات، وهو منسوب لهذا القاضي، وهو آخر العمران بمصر.
وفي تاريخ ابن ميسر، الغرقي نسبة إلى مكان يقال له غَرَق، بفتح الغين والراء بعدها قاف بالقرب من شيزر كذا قال. والمعروف عِرقة من عمل طرابلس كما سبق.
قال القطب: وسألت أهل العلم عن نسبه، فذكر لي الحافظ تقي الدين عبيد، أنه أحمد بن حمزة نب أحمد، ويكنى أبا العلاء وأنه وجد ذلك في ترسّله.
وذكر القِفطي في أخبار النحويين: أنه تنوخي رحل من بلده إلى مصر، واجتمع بالسلفي في الإسكندرية، وكتب السلفي عنه فوائد أدبية، وذكر أنه أخذ عن ابن الصواف، وأبي إسحاق الحبال، وأبي الفضل الجوهري. وقرأ القرآن على أبي الحسين ابن الخشاب، وأخذ اللغة عن ابن القطاع، والنحو عن مسعود الدولة الدمشقي. وكان مولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة انتهى.
وهذه الترجمة بعضها ولولد القاضي، كما ذكر الحافظ قطب الدين، فإن ولاية القاضي كانت في سنة ست وستين وأربعمائة، ولابنه أحمد يومئذ أربع سنين، لان مولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وعاش إلى ما بعد الخمسمائة، ومات بالإسكندرية، وأحمد هو الذي لقيه السلفي.
وأما الذي قرأ على ابن الخشاب وابن الحبال وغيرهما، فهو أبه لا محالة.
حمزة بن علي بن يعقوب بالغَلّبُوني استخلفه مالك بن سعيد الفارقي على الحكم، في رجب سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة لكثرة اشتغال مالك بملازمة الحاكم. وفوض إليه جميع الأمور، وخلع عليه من منزله. وهو أول من فعل ذلك من القضاة. وإنما كانت الخلع من منزل الخليفة أو السلطان، وكثر اجتماع الناس عنده، وتردّدهم لقضاياهم عند مالك. واستكثر حمزة من سؤال مالك في الأمور إلى أن أضجره. فرفع إليه جماعة عنه أموراً أنكرها، وبالغوا في ذلك إلى أن منعه من حضور المجلس، فانقطع مدة ثم حضر فانتهره، فخرج فاستتر. فكتبوا فيه محضراً اشتمل على عظائم، وأطلقوا القول فيه، فرضى مالك بإبعاده، ولم يزجر من وقع فيه. وكانت صورة المحضر بعد البسملة:
هذا ما شهد به من يُسَمَّي في هذا الكتاب، أنهم يعرفون حمزة بن علي بن يعقوب الغَلَبُوني الوراق، معرفة صحيحة لشخصه ونسبه واسمه، ويشهدون أنهم انكشف لهم من حاله، من قلة الأمانة، وظهور الخيانة، ورقة الدين، واغتصاب مال المسلمين، والارتشاء على الحكم، إلى غير ذلك من القبائح. وصح عندهم أن في بعده عن باب الحكم طهارة له، وصلاحاً للمسلمين، وصونا لحرمهم وأموالهم. هذا مع مخالفته لمذهب الإمام، وتظاهره بخلافه، أن قاضي القضاة كان إذا بلغه شيء من ذلك يزجره ويحذره فيظهر الرجوع ثم يعود، حتى صار يختلي بالمرجفين، ويسعى في الأمور العظيمة، والأحوال الجسيمة، التي لا يكاد ينطق بها اللسان، فثبت أنه غير موضع للقضاء، ولا لقبول الشهادة، يعلمون ذلك، ويشهدون به، بسؤال من جاز سؤالهم، إن ثبتت شهاداتهم بما علموه عنه، فأجابوا إلى ذلك، وكتبوا خطوطهم على علم منهم، وذلك في ذي الحجة لسنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
ثم زادوا في الحط عليه، فتغيب فقيل لهم: إنه اختفى عند أبي القاسم ابن المَغْرَبي الوزير ليشفع فيه، فلم يعرف بذلك. ثم وجد أخوه فقبض عليه وأهين، ثم هرب. فلم يزل هو وأخوه مستترين حتى ظفر بهما، فاعتقلا في المحرم سنة
تسع وتسعين وثلاثمائة، وأضيف إليهما رجل من ولد حسين بن النعمان، ثم أخرجوا في التاسع من صفر سنة تسع وتسعين إلى ناحية المقس، فجعلوا في مركب، فساروا بهم ثم رُدت رؤوسهم من نواحي الصعيد، عن قريب.