الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر مَن اسمه أحمد
أحمد بن إبراهيم بن حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن يزيد ابن درهم البصري الأصل، أبو عثمان البغدادي، المالكي، من المائةِ الرابعة. ولد سنة خمس وسبعين ومائتين، وولاه أخوه هارون، لما ولي قضاء مصر من قِبَل الخليفة،
خلافَته بمصر، فَقدِمها بنفسه. فأمر إن كان أرسل إلى عبد الرحمن بن إسحاق الجوهري، أن يسلم القضاء، ثم قدم أبو عثمان فتسلمه لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة وثلاثمائة فتسلم القضاء من عبد الرحمن بن إسحاق الجوهري، ونزل من الغد إلى الجامع في السَّواد فقٌرئ عهدُه من قبل أخيه، وعهدُ أخيه من قبل الخليفة، وأمير مصر يومئذ تَكِين، وأكرمه من أجل أهله. وكان أبوه يومئذ في قيد الحياة وأمه بنت القاضي إسماعيل ابن إسحاق المشهور. وقريبه أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب قاضي القضاة ببغداد. فنظر أبو عثمان من الأحكام والأحباس والمواريث. وكان قليل الكلام كثيرَ الحياء جميلَ الصورة.
فحكم ابن زولاق عن أبي بكر بن الحداد قال: كان أبو عثمان إذا جاء إلي دار تكين أمير مصر، نزل في موضع دون الموضع الذي كان ينزل فيه أبو عبيد، فتكلم معي في ذلك، فتكلمت مع تكين. فقال لي: إذا قدم أخوه هارون أين ينزل؟ ثم قال له: أتريد أن ينزل موضع أبي عبيد؟ قال: نعم. قال: لا ولا كرامة، ولو كان أبو عمر. قال: فشكا إلى أبي عثمان ذلك. فقلت لا تعُد تتكلم بعد هذا في شيء من هذا. قال: وسرتني معرفة تكين بقدر القاضي أبي عبيد.
قال ابن زولاق: وحدث أبو عثمان بمصر عن جدّه إسماعيل بن إسحاق، وإبراهيم الحربي، ويوسف بن يعقوب، ومحمد بن يحيى المروزي، وبهلول ابن إسحاق وغيرهم.
وأقام على قضاء مصر إلى ذي الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة.
وكانت مدة ولايته سنتين وتسعة أشهر، فصرف بعزل أخيه هارون. ثم أعيد هارون في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة، فعاد أبو عثمان إلى النظر في الحكم. وركب إلى الجامع وقرئ كتابه وقام الأمير تكين بحقه.
قال ابن زولاق: وجرت في ولايته أبي عثمان حوادث، منها: أنه ورد عليه كتاب من بغداد بتوريث ذوي الأرحام، وكان لشدة حيائه لا يفهم أكثر كلامه، فجرت بسبب ذلك أمور. قال ولقد حدثني أبو الطاهر الذُّهلي أنه لما حج كان يلبي فلا يسمع صوته، بل كان النساء يرفعن أصواتهن بالتلبية أجهر منه لشدة خجله.
فلم يزل حتى صرف أخوه في ربيع الآخر سنة عشرين. فصرف هو أيضاً. وكانت ولايته الثانية سنتين وتسعة أشهر، ثم ورد عليه كتاب القاهر من بغداد بتوليته استقلالاً، وذلك في شهر رمضان سنة إحدى وعشرين. فكانت هذه أجلَّ ولاياته، وواصل فيها النزول إلى الجامع. وسكن في دار محمد بن عَبْدة، وكانت داراً عظيمة سيأتي ذكرها في ترجمته.
وكان في طول ولايته يتردَّد إلى أبي جعفر الطَّحَاوي يسمع عليه تصانيفه، بقراءة الحسن بن عبد الرحمن بن إسحاق الجوهري. فقال أبو القاسم القرشي: حضرت مجلس الطحاوي وعنده أبو عثمان وهو يومئذ قاضي مصر. فدخل رجل
من أهل أسوان، فسأل أبا جعفر عن مسألة، فقال له الطحاوي: مذهب القاضي أيده الله كذا وكذا. فقال له: ما جئت إلى القاضي إنما جئتُ إليك. فقال يا هذا، هو كما قلت. فأعاد. فقال له أبو عثمان: أَفْتِه أيدك الله برأيك. فقال: إذا أذن القاضي أيده الله، أفتيته. ثم أفتاه. فكان ذلك يُعد من أدب الطحاوي وفضله.
ووصف أبو القاسم القرشي أبا عثمان بالزهد والعبادة، وقيام الليل، وهو أول من خرج بالناس إلى مسجد محمود بالقرافة، لرؤية هلال رمضان.
وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخه: كان كريماً كثير الحياء. حدث عن إسماعيل بن إسحاق وخلق كثير من أهل بغداد. وكان ثقة كثير الحديث. وعاش إلى شهر رمضان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. فمات ببغداد في هذه السنة بعد أخيه بنحو السنة.
أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني بن أبي إسحاق العباسي، شمس الدين السَّرُوجِي الحنفي، من الثامن. ولد سنة سبع وثلاثين وستمائة أو بعدها. وتفقه على مذهب أحمد، فحفظ بعض المقِنع. ثم تحول حنفياً فحفظ الهداية. وأخذ عن الشيخ نجم الدين أبي الطاهر إسحاق بن علي بن يحيى، وصاهره على ابنته وأخذ عن القاضي صدر الدين بن العز وغيرهما وبرع في المذهب، وأتقن الخلاف، واشتغل
في الحديث والنحو، وشارك في الفنون، وصار من أعيان الفقهاء، وشرع في شرح على (الهداية) أطال فيه النَّفَس، وهو مشهور ولم يكمل، وتكلم فيه على الأحاديث وعللها.
وكان قد سمع الحديث من محمد بن أبي الخطاب ابن دحية وغيره. فلما مات معز الدين النعمان قُرِّر في قضاء الحنفية وذلك في شعبان سنة إحدى وتسعين وستمائة.
وحكى عنه أن شرب ماء زمزم لولاية القضاء فحصل له. ثم صرف في سلطنة المنصور لاجين في سنة ست وتسعين بالحسام الرازي، ثم أعيد في أول ذي الحجة سنة ثمان وتسعين بعد قتل لاجين، بعناية الأمير بيبَرْس الجَاشْنَكِير. واستمر إلى أن صرف حين عاد الناصر من الكَرك، فاستقر عوضه شمس الدين محمد بن عثمان الحريري، فانتزع منه جميع ما معه من التداريس. فسعى فِي أن تبقى معه الصالحية والسكن بها. فأجيب إلى ذلك فغضب الحريري وأخرجه من الصالحية قهراً، وذلك في ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة. فتألم ومرض فمات في شهر رجب.
وكان مشهوراً بالمهابة والعفة، والصيانة والسماحة، وطلاقة الوجه، مع عدم مراعاة أصحاب الجاه، فلما عزل لم يجد معه من يساعده. ولعل الله أراد به خيراً وادّخر له ذلك عنده.
ومن تصانيفه: الرد على ابن تيمية، وهو فيه منصف متأدب، صحيح المباحث. وبلغ ذلك ابن تيمية فتصدى للرد على ردِّه. وذكره الذهبي في تاريخه فقال: كان نبيلاً وقوراً فاضلاً، كثير المحاسن والبر، وما أظنه روى شيئاً من الحديث. انتهى.
ولما كان في شهر رجب سنة سبعمائة، طلب بَطْرَك النصارى، وربان اليهود، وجمع القضاة والعلماء، ففوضوا إليه أخذ العهد عليهم. فجددوه، وشرط عليهم ألا يركب أحد منهم فرساً ولا بغلة، وأن يلبس النصارى العمائم الزرق، واليهود العمائم الصفر. فالتزموا بذلك واستمروا عليه ويقال إنه كان له دفتر يكتب فيه ما يستدينه، فأوصى عند موته أن يعتمد ما فيه، فجاء شخص فذكر أن له عنده مائتي درهم، فلم يجدوها في الدفتر، فرآه شخص من أصدقائه فقال: إن الرجل صادق، وإنها في الدفتر بقلم دقيق، فانتبه الرجل فوجد الأمر كما قال. ويقال: إنه حج فسأل الله حاجة ولم يذكر ذلك لأحد، فجاءه شخص بعد مدة فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فامرني أن أقول لك: أعطني جميع ما عندك والأمارة الحاجة التي سألتها بمكة، فقال نعم. واخرج له ما عنده وهو مائة دينار وألف درهم. وقال: لو كان عندي أكثر من هذا لدفعته لك، فإن الأمَارة صحيحة.
أحمد بن إبراهيم بن أحمد الأندلسي الفقيه المالكي، من المائة الرابعة وكان من عدول عمر بن الحسن العباسي. وكان يحفظ مذهب مالك، مع فصاحة وكفاية وسعة حال وكان يتشوف لولاية قضاء مصر، لما يرى من حصوله لأقرانه ومن دونهم. وكان يتأدب مع عمر بن الحسن أن يسعى له فيه. فلما وقع بين الخَصِيبِي وولده ما سيأتي في ترجمة عبد الله بن محمد الخصيبي، استعان بعلي بن صالح الرُّوذْبَارِي وبذلك لذلك مالاً جزيلاً، فبلغ ذلك الخصيبي، فوشى به عند كافور. فأمر كافور بالقبض
عليه وَهَمّ بقتله. فقام أبو جعفر مسلم الشريف ودافع عن الأندلسي، وبَيّن لكافور تزييف كلام الخصيبي.
ثم سَعى الأندلسي بعد ذلك، سعى له علي بن صالح وغيره من وجوه بغداد، إلى أن أمر بكتابة تقليده فكُتب. واتصل الخبر بالخصيبي فقلق لذلك، وكثر الإرجاف بذلك بمصر. فاتفق أن الأندلسي اعتل فأقام في علته أياماً قلائل لا يلي القضاء ومات، وذلك في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. ووصل تقليده بعد موته بخمسة أيام، وكفى الخصيبي أمره.
أحمد بن إسماعيل بن محمد بن أبي العز بن صالح بن أبي العز ابن وُهَيْب بن عطاء بن جُبَير بن جابر بن وهَيْب الأَذْرَعي الأصل الدمشقي، نجم الدين المعروف بابن الكِشْك الحنفي، من المائة الثامنة. ولد سنة عشرين وسبعمائة تقريباً. وأجاز له أبو محمد القاسم بن المُظفَّر بن عَساكر الطبيب، ويحيى بن محمد بن سعد وأبو بكر بن مُشَّرف وأبو عبد الله بن أبي الهيجاء بن الزَّرَّاد وزينب بنت عمر بن شُكر وجماعة وغيرهم.
وسمع الصحيح من أبي العباس
ابن الشحنة، وسمع من غيره وتفقه واشتغل. وقدم القاهرة، فقُرِّرَ في قضاء الحنفية بعد موت صدر الدين ابن التُّرْكُماني، في ثامن عشر المحرم سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وسيأتي بيان ذلك في ترجمة شرف الدين أحمد بن علي.
وكان خبيراً بمذهبه. كثير الاستحضار، درس بأماكن بدمشق وغيرها، وحدث بالصحيح بالقاهرة. ولم تطب له الإقامة بمصر، فترك المنصبَ واسْتَعْفَى، ورجع إلى دمشق ولزم داره. ثم ولى قضاء دمشق في سنة اثنتين وتسعين، وكانَ وَلِيَهُ قبلَ ذلك. واتفق أنه كان له قريب اعتراه في عقله شيء، فجاء إلى فطلب منه شيئاً فمنعه، فضربه بسكين فمات منها، وذلك في ذي الحجة سنة تسع وتسعين وسبعمائة، فقبض على القاتل فقتل نفسه أيضاً. وهو آخر من بقي من قدماء المدرسين والقضاة. وقد أجاز لي غير مرة وأنجب أولاداً تولوا بعده المنصب. وكانت فيهم حشمة ورياسة، وتودد للناس، ونفع للقادمين. وكان آخر من بقي منهم القاضي شهاب الدين أحمد بن محمود ابن صاحب الترجمة النجم أحمد. وقد طلب لولاية القضاء بالديار المصرية مرة. ولكتابة السّر أخرى، فاستعفى من
ذلك. وكانت وفاته بدمشق في سنة تسع وتسعين وسبعمائة. ولم يُخَلِّف بعده أَرْأَسَ منه.
أحمد بن بدر: هو أحمد بن محمد بن بدر.
أحمد بن الحسين أبو علي الصغير.
أحمد بن حمزة العِرْقي يأتي تحرير القول فيه من حرف الحاء المهملة في حمزة بن أحمد إن شاء الله تعالى.
أحمد بن أبي دُوَاد بن حَرِيز بن مالك بن عبد الله بن سلام بن مالك، متصل نسبة بإياد بن نزار بن معد بن عدنان الإيادي. أبو عبد الله القاضي.
أصله من البصرة، وسكن بغداد. ويقال إن اسم والده فرج ويقال دُعْمِيّ، والصحيح أنه اسمه كنيته. قال الخطيب، ونقل عن أبي العيناء أنه سمعه يقول: ولدت سنة ستين ومائة. وكان أسن من يحيى بن أكثم.
قال الخطيب: ولي القضاء للمعتصم والواثق. وكان موصوفاً بالجود وحسن الخلق ووفور الأدب. غير أنه أعلن بمذهب الجَهْمِيَّة. وحمل الخليفة على امتحان العلماءِ بخلق القرآن.
وقال الدَّارَقُطْنِي: هو الذي كان يمتحن العلماءَ في زمانه. وولي قضاء القضاة للمعتصم والواثق. وكان هو الذي يولي قضاة البلاد كلها، ومن تحت يده. واستمر في أوائل دولة المتوكل، ثم صرف وصودر.
وقال أبو العيناء: كان أحمد بن أبي دُوَاد شاعر مجيداً فصحياً بليغاً، ما رأيت رئيساً أفصح منه.
وقال الصولي: كان يقال أكرم من كان في دولة بني العباس، البرامكة، ثم أحمد بن أبي دُوَاد لولا ما وضعه به نفسه من محبة المحنة بخلق القرآن، والمبالغة في
ذلك، واللجاج فيه، وحَمْل الخلفاء عليه. ولولا ذلك لاجتمعت الألسن على الثناء عليه، ولم يُضَف إلى كرمه كَرم أحد.
قال الصولي: ولقد حدثني عون بن محمد الكندي، قال: لعهدي بالكَرْخ، ولو قال فيها أحد: إن ابن أبي دُوَاد مسلم، لقتل في مكانه، حتى وقع الحريق في الكرخ، وهو الذي لم يكن قبله مثلهُ. كان الرجل يقوم في صُبَيْبَة شارع الكرخ فيرى السفن في دجلة، فكلم ابن أبي دُوَاد المعتصم في الناس وقال: يا أمير المؤمنين رعيتك في بلد أبائك ودار ملكهم، نزل بهم هذا الأمر، فاعطف عليهم بشيء يُفرَّق فيهم مما يُمسك أرماقهم، ويبنون به ما انهدم فلم يزل ينازله حتى أطلق لهم خمسة آلاف ألف درهم. فقال يا أمير المؤمنين: إن فرقها عليهم غيري، خِفْت ألا تُقَسّم بينهم بالسوية. قال: ذاك إليك. فقسمها على مقادير ما ذهب منهم. وغرم من ماله في ذلك جملة.
وقال أبو رَوْق الهِزَّاني: حكى لي ابن ثعلبة الحنفي عن أحمد بن المُعّذَّل، أن ابن أبي دُوَاد كتب إلى جرل من أهل المدينة:(إن تابعتَ أمير المؤمنين في مقالته استوجبتَ منه المكافأة فكتب إليه: " عصمنا الله وإياك من الفتنة. الكلام في القرآن بدعةٌ يشترك فيها السَّائلُ والمجيب، لتعاطي السائل ما ليس له. وتكلُّف المجيب ما ليس عليه. ولا نعلم خالقاً إلا الله وما سواه مخلوق. والقرآن كلام الله، لا نعلم غير ذلك والسلام) .
وقال خالد بن خِدَاش: رأيت في المنام كأن آتيا أتاني بطبق فقال: اقرأ. فَقَرَأتُ بسم الله الرحمن الرحيم، ابن أبي دواد يريد أن يمتحن الناس. فمن قال: القرآن كلام الله، كسى خاتماً من ذهب، فصُّه ياقوتة حمراء، وأدخل الجنة
وغفر له. ومن قال: القرآن مخلوق، جعلت يمينهُ يمينَ قرد، فيعيش بعد ذلك شيئاً يسيراً ثم يصير إلى النار: ورأيت قائلاً يقول: مسخ ابن أبي دُوَادم، ومسخ شعيب، يعني ابن سهل القاضي. وأصاب ابن سماعة الفَالِج، وفلانا الذبحة. وعن أبي الحسين ابن الفضل أنه سمع عبدَ العزيز بن يحيى المكي قال: دخلت على أحمد بن أبي دُوَاد وهو مفلوج، فقلت له: لم آتك عائداً، ولكن جئت لأحمد الله على سجنك في جلدك.
وقال الصولي: لولا ما وضع به أحمد بن دُوَاد نفسه من محبة المحنة، لاجتمعت الألسن على مدحه.
ولم يذكر الخطيب في ترجمته شيئاً يدل على أنه له رواية. لكن قال الذهبي في الميزان: قلَّ ما روى.
وقال ابن النديم في الفهرست: كان من كبار المعتزلة، جَرَّد في إظهار المذهب وذَبَّ عن أهله، وبالغ في العناية به وكان من صنائع يحيى بن أكثم وهو الذي أوصله إلى المأمون. ثم اتصل بالمعتصم، فغلب عليه. ولم يكن يقطع أمراً دونه ولم يُر في أبناء جنسه أكرمه منه. ويقال: إنه لم يكن له أخ من إخوانه إلا بَني له داراً ووقف على ولده ما يغنيهم أبداً. ولم يكن لأخ من إخوانه ولد إلا من جارية وهبها له.
ومما يحكي من كرمه أن انقطع شِسْعه فناوله رجل شسعاً، فوهب له خمسمائة دينار.
وكان سبب اتصاله بالمعتصم وتمكنه منه أنه كان يتردد إليه أحياناً، فلما فوض المأمون أمر الشام ومصر لأخيه أبي إسحاق، وأمره بالمَصِير إلى عمله ليكشف عن أحواله، قال المأمون ليحيى بن أَكْثَم: انظر لي رجلاً حصيفاً لبيباً، له علم ومعرفة وثقة، أنفذه مع أبي إسحاق، وأوليه المظالم في أعماله، وأتقدم إليه في مكاتبتي بجميع الأخبار سراً، ولا يترك شيئاً من أمور القواد والعمال والخاصة والعامة إلا طالعني به، فإني لا أثق بمن يتولى البريد. وتكون
مكاتبته إليك، وأنت تقرؤها علي. فقال: يا أمير المؤمنين عندي رجل من أصحاب أبي إسحاق أثق بدينه،
ورأيه وصدقه، ونزاهته. فقال: جِئْ به يوم كذا. ففعل فكلّمه فوجده فَهماً راجحاً. فقال له عما أراد أن يندبه إليه، فتلقى ذلك بالقبول. فقال له: أني أشهرك بولاية المظالم. وآمره بمشورتك في جميع الأحوال، فاظهر السرور بذلك والتزام جميع ما كلفه به. فجمع المأمون بين أبي إسحاق وابن أبي دُوَاد. فقال لأبي إسحاق: إنك تحضر بشخصك في هذا العسكر وفيه أوباش الناس وأخلاطهم. ولا بد للعسكر من صاحب مظالم. وقد اخترت صاحبك هذا، فضمه إليك وأحسن إليه. فقال أفعل. وتوجهوا فوافت كتب أصحاب الأخبار لما وصلوا بالأثقال. فقال المأمون ليحيى بن أكثم: ما بال صاحبك ما كتب إلينا شيئاً! أترى لم يحدث شيء قال: عسى. فوصلوا إلى الرحبة ولم يكتب شيئاً فتغيظ المأمون على يحيى فبادر فكتب إلى أحمد بن دُوَاد يعنفه ويستبطئه، ويخبره: إن أمير المؤمنين أنكر علي واتهمك فلم يُعد إليه جوابا. والمأمون يزداد على يحيى بن أكثم تغيظاً، ويحيى يبالغ في الكتابة إلى أحمد. فلما طال الأمر، أمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب إلى المعتصم يأمره أن يجهز أحمد بن أبي دُوَاد إلى الحضرة مشدودة يده إلى عنقه في الحديد على قِتْبٍ بغير وطاء. فلما قرأ المعتصم الكتاب أرسل إلى أحمد فرمى إليه الكتاب، وقد أظهر له الغم والحزن عليه، وقال له: هل تعرف لي ذنباً عند أمير المؤمنين؟ فقال لا. إلا أن أمير المؤمنين لا يستحل هذا مني إلى بحجة. فما الذي عند الأمير فيما كُتب به إليه في، فقال: لا أستطيع مخالفة أمر أمير المؤمنين. لكن أعفيك من الغل والحديد، وأحملك على حال حسنة فقال: جزاك الله أيها المرء خيراً. أتأذن لي أن أتوجه إلى منزلي صحبة من تثق به؟ فقال: نعم امض. وأرسل معه خادماً فاستخرج تلك الكتب
التي كان يحيى يكتبها له في تعنيفه، فيما قصر فيه مما أمره به المأمون، من نقل أخبار المعتصم. فنثرها بين يديه، فلما قرأها عليه استشاط المعتصم غضباً، وتكلم في يحيى بكل سوء. وقال لأحمد: لقد رعيت من حقي رعايةً لا أقوم بجزائها، ومعاذ الله أن أسلمك أو ينالك بسبب هذا سوء. وترك مراسلة المأمون فيما يتعلق بأحمد وطوى ذلك عنه. واستمر أحمد مع المعتصم حتى وصل إلى مصر. وذلك في سنة خمس عشرة ومائتين.
وعن أبي مالك حَرِيز بن أحمد بن أبي دُوَاد قال: كان أبي إذا صلى رفع يديه وقال:
ما أنت بالسَّببِ الضَّعِيفِ وإنما
…
نُجْحُ الأمور بقوة الأَسْبَاب
فاليومَ حاجتُنا إليك وإنما
…
يُدْعَى الطبيبُ لسَاعَةِ الأوْصَابِ
وقال أبو العيناء: كان أحمد في غاية التأدب، ما خرجتُ من عنده يوماً فقال يا غلام خذ بيده، بل كان يقول: أخرج معه. فكنت أفتقد هذا الكلام فما أخلَّ به قط. وما كنت أسمعه من غيره.
وقال محمد بن عمر الرومي: ما رأيت أحضر حجة من أحمد بن أبي دُوَاد. قال له الواثق يوماً: يا أبا عبد الله، رُفعت إلي رقعة فيك، فيها أنك وليت القضاء رجلاً أعمى، قال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا رجل من أهل الفضل. ولّيته ثم بلغني أنه أصيب ببصره، فأردت أن أصرفه. فبلغني أن عمي من كثرة بكائه على أمير المؤمنين المعتصم. فحفظت له ذلك، وأمرته أن يَستخلف.
قال: وفيها أنك أجزتَ شاعراً مدحك بألف دينار، قال نعم: لكن أجزته بدونها، وهذا شاعر طائي محسن يعني أبا تمام. لو لم أحفظ إلا قولَه لأمير المؤمنين المعتصم يحرضه على استخلافك في قصيدة مدحه بها:
واشدد بهارون الخلافة إنه
…
سَكَنٌ لوحشتها ودار قرارِ
فلقد علمت بأن ذلك مِعصمٌ
…
ما كنتَ تتركه بغير سِوارِ
فطرب وأمر لأبي تمام بجائزة.
وقال له الواثق يوماً آخر. يا أحمد، قد اختلت بيوت المال بطلباتك للائذين بك، فقال: إن نتائج شكرها متصلة بك. وذخائر أجرها مكتوبةٌ لك فقال لا منعتك بعدها.
وذكر الخطيب في غير التاريخ بسند له محمد بن عبد الملك الزيات الوزير. قال: كان رجل من ولد عمر بن الخطاب، لا يلقى أحمد بن أبي دُوَاد إلا لعنه ودعا عليه، سواء وجده منفرداً أو في محفل، وأحمد لا يرد عليه. فاتفق أن عرضت للعمري حاجة عند المعتصم. فسألني أن أرفع قصته فخشيت أن يعارضني أحمد. فامتنعت فألحّ علي، فأخذت قصته ودخلت إلى المعتصم، فلم أجد أحمد. فاغتنمت غيبته ودفعت له قصة الرجل، فدخل أحمد وهي في يده فناولها له. فلما رأى اسمه، وفيه أنه من ذرية عمر بن الخطاب، قال: يا أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب، يا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب! تُقضى لولده كل حاجة، فوقّع بقضاء حاجته. وأخذت القصة فدفعتها للرجل. وقلت له: اشكر القاضي فهو الذي اعتنى بك حتى قضيت حاجتك. فجلس الرجل حتى خرج أحمد فقام إليه فجعل يدعو له ويشكره. فالتفت إليه أحمد، فقال: اذهب عافاك الله، فإني إنما فعلك ذلك لعُمر لا لك.
وقال أبو الفرج الأصبهاني في ترجمته أبي تمام الشاعر: أخبرنا أبو الحسن الأسدي، حدثنا الحسن بن عليل العنزي حدثني إسحاق بن يحيى الكاتب قال: قال الواثق لأحمد بن أبي دُوَاد: بلغني أنك أعطيت أبا تمام في قصيدة مدحك بها ألف دينار، فذكر ما تقدم.
قرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، في ترجمة أبي دلف القاسم ابن عيسى العجلي، الأمير المشهور ما نصه: قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر: كان أبو دلف القاسم بن عيسى، في جملة من كان مع الأفشَين حيدر بن كاوس لما خرج لمحاربة بَابَك، ثم تنكر له، فوجه يوماً بمن جاء به ليقتله وبلغ المعتصم الخبر، فبعث إليه بأحمد بن أبي دُوَاد وقال له: أدركه وما أراك تلحقه واحتل في خلاصه منه كيف شئت. قال أحمد فمضيت ركضاً حتى وافيته فإذا أبو دلف واقف بين يديه، وقد أخذ بيديه غلامان تركيان. فرميت بنفسي على
الأرض، وكنت إذا جئته دعا لي بمصلَّى. فقال سبحان الله ما حملك على هذا؟ قلت: أنت أجلستني هذا المجلس. ثم كلمته في القاسم وخضعت له. فجعل لا يزداد إلى غلظة. فلما رأيت ذلك قلت: هذا عبد، وقد أغرقتُ في الرفق به، وليس ينفع إلا أخذه بالرهبة والشدة. فقمت وقلت: كم تراك قَدَّرت في نفسك أن تقتل أولياء أمير المؤمنين واحد بعد واحد، وتخالف أمره في قائد بعد قائد، قد
حملت إليك هذه الرسالة عن أمير المؤمنين، فهات الجواب. فَذَلَّ حتى لصق بالأرض. وبان لي الاضطراب فيه. فلما رأيت ذلك نهضت إلى أبي دلف، فأخذت بيده وقلت: قد أخذته بأمر أمير المؤمنين. فقال: لا تفعل يا أبا عبد الله. فقلت: قد فعلت وأخرجت القاسم فحملته على دابة ووافيت المعتصم. فلما بَصُر بي قال: مرحباً بك يا أبا عبد الله، أوريت زنادي. ثم ردّ علي خبري مع الأفشين حدساً بظنه ما أخطأ فيه حرفا. ثم سألني عما ذكر لي وهل هو كما قال؟ فأخبرته أنه لم يخطئ حرفا.
وقرأت في الكتابة المذكور: كان أحمد بن أبي دُوَاد ينكر أمر الغناء إنكاراً شديداً فأعلمه المعتصم أن صديقه أبا دلف يغني. فقال: ما أراه مع عقله يفعل ذلك! فستر المعتصم أحمدَ بن أبي دواد في موضع، وأحضر أبا دلف، وأمره أن يغني، ففعل ذلك وأطال. ثم أخرج أحمد بن أبي دُوَاد عليه من موضعه، والكراهية بينه ظاهرة في وجهه. فلما رآه قال: سوأةً لهذا مِنْ فِعْل! أبعد السن وهذا المحل، تضع نفسك كما رأى! فخجل أبو دُلف وتسوَّر، وقال: إنهم أكرهوني. فقال: هبهم أكرهوك على الغناء أفأكرهوك على الإحسان فيه والإصابة!
قال أبو الفرج في الأغاني: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، حدثني العباس بن ميمون. قال: هجا أبو الأسد الحمامي، واسمه نباتة بن عبد الله أحمدَ بن أبي دُوَاد، فقال:
أنت امرؤ غثُّ الصنيعة رثُّها
…
لا تُحسن النعمي إلى أمثالي
نعماك لا تعدوك إلا في امرئ
…
في سلك مثلك من ذوي الأشكال
وإذا نظرت إلى صنيعك لم تجد
…
أحداً سموت به إلى الإفضال
فاسلم لغير سلامة ترجى لها
…
إلا لسدّك خلة الأَنذال
قال: فبلَّغ عبد الرحمن بنُ عبيد الله بن عائشة الأبياتَ لأحمد، فبعث إلى أبي الأسدِ ببرٍّ واسْتَكَفَّه. وبعث ابن عائشة على مظالم ما سَبذَان، وقال له: قد شركت أبا الأسد في التوبيخ لنا، فشر كناك معه في الصنيعة، فإِن كنتما صادقين
كنتما من الأنذال وإن كنتما كاذبين، فقد جازيتكما عن القبيح حسناً. قال وكان سبب هجائه له أنه مدحه فلم يثبه، ووعده فلم ينجز له، فكتب إليه:
ليتك أدنيتني بواحدة
…
تَنْفَعُنِي منك آخر الأَبدِ
تحلف أن لا تبرّني أبداً
…
فإنَّ بها برداً علي الكبد
اشْفِ فؤادي مني فإن به
…
جرحاً أنا نكأته بيدي
إن كان رزقي لديك فارم به
…
في ما ضِغَى حيَّة على رصد
قد عشت دهراً وما أُقَدِّر أن
…
أرضى بما قد رضيتُ من أحد
لو كنت حراً كما زعمت أنت وقد
…
كَددتني بالمطال لم أعد
صبراً لما قد أسأت بي فإذا
…
عُدتُ إلى مثلها فَعُد وَعُدِ
وقال ابن النديم: كان من كبار المعتزلة ممن جرد في إظهار المذهب والذَّب عن أهله، والعناية به. وهو من صنائع يحيى بن أَكْثَم، وهو الذي وصله بالمأمون ثم اتصل بالمعتصم، فكان لا يقطع أمراً دونه، ولم يُر في أبناء جنسه أكرم منه، ولا أنبل ولا أسخى. وكان ابنه أبو الوليد يخلفه في الحكم، وكان حنفيّاً.
وقال أبو تمام يمدح ابن أبي دُوَاد:
لقد أنست مساوئ كلِّ دهر
…
محاسنُ أحمدَ بن أبي دواد
وما سافرتُ في الآفاق إلا
…
ومن جَدواك راحلتي وزَادي
مُقيمُ الظَّن عندك، والأماني
…
وإن قَلِقَتْ ركابي في البلاد
ومما هُجِي به قولُ أبي الحجَّاج الأعرابي:
نكستَ الدين يا ابن أبي دُوَاد
…
فأصبح مَن أطاعك في ارتدادِ
زعمتَ كلام ربِّ الناس خَلْقاً
…
أمالكَ عند رَبِّك من مَعَاد؟
كلامُ الله أنزلَه بِعِلم
…
وأرسلَه إلى خَيْر العِبَاد
ومَن أمسى ببابك مُسْتضيفاً
…
كمَن حلّ الفَلاةَ بغير زَاد
لقد ظَرَّفت يا ابن أبي داود
…
بزعمك أنني رجلٌ إيادي
وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة: حدثنا الحسن بن ثَوَاب المُخَرَّمِي قال: سألت أحمد بن حنبل، عن أحمد بن أبي دواد، فقال: كافر بالله العظيم. وحدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، حدثني أبي قال: سمعت بشر ابن الوليد يقول: استُتيب أحمد بن أبي دُوَاد من القول بخلق القرآن ثلاث مرات، يتوب ثم يرجع. وحدثنا محمد بن أبي هارون، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن هانئ، قال: حضرت العيد مع أحمد بن حنبل، فإذا بقاصٍّ يقول: عَلي ابن أبي دُوَاد لعنةُ الله، وَحَشَا الله قبرَه ناراً، فقال أحمد بن حنبل: ما أنفعهم للعامة.
وقال أبو الهذيل العلاّف: دخلت على القاضي ابن أبي دُوَاد، ومروان بن أبي حفصة ينشده:
فقل للفاخرين على نزارٍ
…
ومنها خِنْدفٌ وبنو إيادِ
رسول الله والخلفاء منّا
…
ومنّا أحمد بن أبي دُوَاد
فقال لي: كيف تسمع يا أبا الهذيل؟ فقلت: هو يضع الهناء موضع النًّقْب.
ولما سمع أبو هفَّان شعر مروان، ناقضه فقال:
فقل للفاخرين على نزارٍ
…
وهم في الأرض ساداتُ العبادِ
رسولُ الله والخلفاءُ منا
…
ونبرأ من دَعِي بني إيادِ
وما منا إيادٌ إن أقرت
…
بدعوة أحمد بن أبي دوادِ
فلما بلغ الخبر أحمد بن أبي دُوَاد قال: ما بلغ مني أحد ما بلغ مني هذا الغلام، ولولا أني أكره أن أنبه عليه لعاقبته، جاء إلى مَنقبةٍ لي فَنقضها عُروة عُروة.
وذكر أبو بكر بن دريد في فوائده قال: قال الحسن بن الخضر: كان ابن أبي دُوَاد مَأْلفاً لأهل الأدب من أي بلد كانوا، وكان قد ضم إليه جماعة منهم، فلما مات اجتمع ببابه من حضر منهم، فقالوا: يدفن من كان على ساقة الكرم،
وتاريخ الأدب، ولا يتكلم بما فيه؟ إن هذا لعجز وتقصير. فلما طلع سريره قام ثلاثة منهم، فقال الأول:
الآن مات نظام الفهم واللسّنِ
…
ومن به كان يُسْتَعْدَى على الزمنِ
وَأَظْلَمَتْ سبل الآداب إذْ حُجِبَتْ
…
شمس المكارم في غَيْم من الكَفَن
وقال الثاني:
ترك المنَابِرَ والسريرَ تواضعاً
…
وله منابُر لو يَشَا وسريرُ
ولغيره يُجبَى الخراجُ وإنما
…
تُجْبي إليه مَحَامدٌ وأُجورُ
وقال الثالث:
وليس نسيم المسك ريح حَنْوطه
…
ولكنه ذاك الثناءُ المخلَّفُ
وليس صَرير النعش ما تسمعونه
…
ولكنه أصلابُ قوم تقصفُ
وقال الصّولي: حدثنا المغيرة بن محمد المهلَّبي، قال: مات أبو الوليد محمد ابن أحمد ابن أبي دُوَاد هو وأبوه منكوبين، مات الابن في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين، ومات الأب لتسع بقين من المحرم سنة أربعين ومائتين.
أحمد بن عبد الله بن إسحاق الحريري. ذكر ابن زولاق أنه ولي قضاء القضاة ببغداد، عوضاً عن محمد بن الحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وأ ضيف إليه قضاء الشام ومصر فانعزل بعزل ابن أي الشوارب نوابه ومنهم قاضي مصر. فكتب الحريري إلى الحسين بن عيسى بن هَرَوان الرَّملي، بقضاء مصر. فقبل
الحسين ذلك، وأرسل إلى محمد بن بدر بأن يتسلم العلم من ابن أخت وليد نائبه بمصر، ويصرف عبد الله بن أحمد بن أخت وليد.
قلت: وأحمد بن عبد الله بن إسحاق هذا ذكره
…
أحمد بن عبد الله بن مُسلم بن قُتْيَبة بن مسلم الدِّيَنَوَرِيّ، أبو جعفر ابن أبي محمد ولد ببغداد وسمع من أبيه، وحفظ تصانيفه كلها. روى عنه أبو الفتح المراغي النحوي، وعبد الرحمن بن إسحاق الزَّجَّاجي، وأحمد بن محمد بن الحسن بن الغريب، وأبو الحسين المهلبي وآخرون. وولي قضاء مصر خليفة لمحمد بن الحسن بن أبي الشوارب.
وكان ابن أبي الشوارب أرسل إلى أبي بكر بن الحداد لينوب عنه. وكان المَاذَرَائي منحرفاً يومئذ عنه، فلم يمض أمره. فاستخلف ابن أبي الشوارب أبا جعفر بن قتيبة. وكان دخوله إلى مصر في جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وركب إلى الجامع في السَّواد، فثار عليه العامة، فرجموه ومزقوا سواده. ثم ركب بعد ذلك في جماعة من أهل العلم، فحكم بين الناس. واستكتب ابنه عبد الواحد وتولى محمد بن بدر القيام بأمره. فاكترى له داراً سكنها، ودخل عليه أصحاب الحديث يسألونه أن يحدثهم، فقال: ما معي إلا كتب أبي، وأنا أحفظها. فإن شئتم سردتها عليكم. وكان يحفظها كما يحفظ السورة من القرآن.
ويقال: إن والده حفَّظها له في اللوح، وهي واحد وعشرون كتاباً، وهي مُشكل القرآن، ومعاني القرآن، وغريب الحديث، واختلاف الحديث، وعيون الأخبار، والمعارف، والتعبير والأشربة، والأنواء، وطبقات الشعراءِ، وكتاب العرب والعجم، وإصلاح اللفظ، وأدب الكاتب، ومعاني الشعر، والأبنية، والقراءات، والمسائل في النحو، وكتاب في الفقه.
فلما عرف الناس ذلك قصدوه، وصار مجلسه غاصاً بفنون الناس، ممن يطلب العلوم والآداب، وقصده أبو جعفر بن النحاس، وأحمد بن محمد بن ولاد، وأبو عاصم المظفر بن أحمد، ووجوه البلد.
قال ابن زولاق: وكان أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري، يعني صاحب
المجالسة، قدم إلى مصر قديماً، فحدث بكتاب ابن قتيبة عنه في جملة ما حدث به. ثم سافر إلى أسوان قاضياً، فأقام بها طويلاً. فلما ولي ابن قتيبة القضاء، كتب إليه أبو الذكر، وإني خاطبت القاضي، فوعدني بإنفاذ العهد إليك. ثم بلغه أنك حدثت بكتب أبيه عنه. فقال: أنا أعرف كل من كتب عن أبي، فليذكر لي علامة أعرفها. قال: فكتب إليه بعلامات فعرفها. قال ابن مروان: سخّمت وجه فيها. قال: فكتب إلي ما عرفتك فاعذرني، وأسند له العهد.
وكان من جملة كتاب ابن مروان: (أعرفه في حياة أبيه صبياً، ويمشي حافياً، ويلعب بالحمام مع العيارين) .
فباشر ابن قتيبة القضاء ثلاثة أشهر، وقيل أربعة وسبعين يوماً. ثم صرف بعزل ابن أبي الشوارب، وأعيد أبو عثمان بن حماد. وعاش ابن قتيبة بعد ذلك حتى توفي بمصر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وأرخه مسلمة بن قاسم في سابع الشهر المذكور. وفيها أرخه ابن يونس. لكن وقع في كلامه أنه مات وهو قاض. وقول ابن زولاق أولى.
وقال ابن زولاق في سيرة جوهر: دخل أبو أحمد عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله بن قتيبة على جوهر، فقال: أنا وليد ابن قتيبة. فأجابه وهو واقف بين يديه، أي شيء يكون المصنِّف منك؟ قال جدي. قال كم كتبه؟ قال: واحد وعشرون كتاباً. فقال جوهر: أو أكثر بقليل، وأمره بالجلوس. ثم التفت إلى الحاضرين فقال: كان أبو جعفر البغدادي، كتَب كُتُب ابن قتيبة، وكان يفتخر بها. فورد على المهدي الخبرُ أن ابن قتيبة ولي قضاء مصر، فقال لأبي جعفر: يهنيك قد ولي ابن أستاذك القضاء فقال: ما يجيء منه شيء. فما كان إلا بعد مدة يسيرة، حتى جاء الخبر بأنه صرف بعد ثلاثة أشهر. فقال أبو جعفر: ألم أقل لك يا أمير المؤمنين؟ وهذا هو المعتمد في مدة ولايته.
وأما أبو سعيد بن يونس فقال: قدم مصر على القضاء في سنة إحدى وعشرين ومات بمصر، وهو على القضاء، في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين.
ويمكن الجمع بأنه وُلي في ذي الحجة مثلاً، فكانت مدته إلى أن مات ثلاثة أشهر أو تزيد أياماً قلائل.
وذكره أبو نعيم في تاريخ أصبهان. فقال: قدم أصبهان، وحدث بها عن أبيه، حدثنا عنه أبو مسلم محمد بن مَعْمَر. ثم ساق عنه حديثاً.
وقال يوسف بن يعقوب بن خُرَّزاذ: حدّث بكتب أبيه مصر كلها حفظاً، ولم يكن معه كتاب.
وقال ياقوت في معجم الأدباء: لم يكن معه شيء من الكتب، وحَدَّث من حفظه. قاله أبو الحسين المهلبي.
وصرف عن القضاء في أواخر ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
وكانت وفاته بعد أن صرف عن القضاء بقليل في شهر ربيع الأول.
وقال أبو سعيد بن يونس: مات وهو على القضاء سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. ونقله ابن خلكان في ترجمة والده.
أحمد بن عبد الله بن.. الكِشِّي بكسر الكاف، ويجوز فتحها وتشديد المعجمة. أبو الفضل العَمِّي ولي القضاء بمصر مجرداً من الأحباس والمظالم، وتوليه نواب البلاد بالديار المصرية في ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، نيابة عن الحسين بن عيسى بن هَرَوان. وكانت مدة ولاية هذا الكشي ثلاثة أشهر. وكان حنفي المذهب يتفقه ويناظر.
قال ابن زولاق: وكانت في لسانه عُجمة. وكان قدومه إلى مصر في ولاية محمد بن بدر القضاء، فكلموه فيه ليصرفه. فأمره أن يؤدب ابنه، فأنف من ذلك. فسعى له عبد الله بن الوليد عند الحسين بن عيسى بن هروان، فقلّده قضاء الرملة ثم لما استقل الحسين بقضاء مصر، أرسله هو وبكران الحكم بمصر.
فولى هو قضاء مصر مجرداً كما ذكرنا. وولي بكران النظر في الأحباس والمظالم، وتولية ولاة النواحي. ثم صرفا جميعاً كما سنذكره في ترجمة بكران في حرف العين المهملة، لأن اسمه عتيق بن الحسن.
ولما صرف أبو الفضل عن قضاء مصر رجع إلى الرملة فناب في الحكم بها عن ابن هروان على عادته.
أحمد بن عبد الله بن.. النِّحْرِيري المالكي من المائة التاسعة. ولاّه الملك الظاهر برقوق القضاء بالديار المصرية، على مذهب مالك، بعد صرف الذي كان قبله وهو الركراكي. وذلك في يوم الاثنين سابع عشري المحرم سنة أربع وتسعين وسبعمائة بعد أن خلا المنصب من رابع عشر شوال من السنة التي قبلها، ثلاثة أشهر ونصفاً.
وكان قدم القاهرة قديماً فقطنها، واشتغل على جماعة من علمائها، وأتقن العربية، واشتغل فيها مدة، وكان فقيراً جداً.
قرأت بخط العدل جمال الدين عبد الله بن أحمد البشبيشي، مُوقّع الحكم ما ملخصه: كان من فقهاء المالكية، وله اشتغال قديم، وَكَانَ قصير ذات اليد، فاستعان بالقاضي شمس الدين الرَّكْرَاكِي، حتى ساعده على ولاية القضاء بطرابلس، فأقام فيها سنوات، وحصل فيها مالاً جزيلاً، وكان يتعانى لبس الصوف القُبرصي، بحيث كان يتغالى في ذلك، فلا يلبس منه إلا ما يستعمل له بالعناية والرعاية. فاتفقت له كائنة بطرابلس، اطلع فهيا مِنْطَاش، وهو يومئذ مدبر المملكة، على أنه أقدم فيها على مالاً ينبغي. فأهانه وضربه بالسياط، وصرفه أقبح صرف وسجنه. فلما خرج الظاهر من سجن الكَرَك وانكسر منطاش، أفرج عنه. وقدم القاهرة، فسعى في قضاء الإسكندرية، فوليه قليلاً، وأخرج منه أقبح من الأول. فرجع إلى القاهرة فلازم الركراكي إلى أن خرج مع السلطان إلى الشام، فمات بحمص، كما سيأتي في ترجمته فبلغه موته، فرحل إلى الشام، فلاقى السلطان راجعاً، فسعى عند بعض أهل الدولة بمال، فكلم له السلطان، فقرره مكان الركراكي. فكانت من الفعلات المستهجنة، لما سبق له في قضاء البلدين من القبيح.
قال جمال الدين: وكان قبيح الفعل والصفة، مشوّة الخِلْقة والمنطق، مبغضاً إلى رفقته ومن دونهم، من وجوه البلد وأعيانها وعَوامِّها. فحضر يوماً مجلساً عند
السلطان، فتكلم بجفاء وسوء أدب، فأقيم ثم عزل بعد أيام. فكانت ولايته عشرة اشهر. وأقام بالقاهرة خاملاً، إلى أن مات في تاسع شهر رجب سنة ثلاث وثمانمائة.
أحمد بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقي، أبو علي من المائة الخامسة الذي كان أبوه ولي القضاء بعد انقراض آل النعمان القيرواني، كما سيأتي في ترجمة قاسم بن عبد العزيز بن النعمان في حرف القاف إن شاء الله تعالى. وكانت ولايته بعد قتل الوزير الناصر للدين أبي محمد اليَازُوري في ثالث عشري صفر سنة خمسين وأربعمائة من خلافة المستنصر. وخلع عليه وقرىء سجل ولايته بالقاهرة، ثم مصر. فباشرها إلى أن صرف في تاسع ذي القعدة منها. ثم أعيد إليها في رابع شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وصرف عنها لأربع خلون من شهر رجب من هذه السنة.
وكانت ولايته الثانية ثلاثة أشهر وعشرين يوماً. ثم أعيد إلى القضاء في رابع المحرم سنة أربع وخمسين وصرف بعد عشرة أيام.
كذا قرأت بخط بعض من صنَّف في القضاة. لكن قرأت بخط شيخ شيوخنا الحافظ قطب الدين الحلبي، أن ولايته هذه كانت ثمانية عشر يوماً. وذكر أنه نقله من كتاب القضاة لسليمان بن علي بن عبد السميع العباسي.
وقد وقفت على كتاب سليمان فقال: كانت ولايته الثالثة في ثالث المحرم مضافة إلى الوزراء والدعوة، فاستخلف على الأحكام أبا محمد العليمي بمصر، والمشرف بن محمد بن جعفر أبا عبد الله الموسوي بالقاهرة. وصرف في الثاني والعشرين
من الشهر المذكور. وبقيت البلد بغير قاض إلى رابع صفر منها. ثم ولي الوزارة والقضاء للمرة الرابعة في العشر الأخير من المحرم سنة أربع وخمسين، ولقب فخر الوزارة والقضاء للمرة الرابعة في العشر الأخير من المحرم سنة أربع وخمسين، ولقب فخر الوزراء، قاضي القضاة، الوزير الأجل، داعي الدعاة، علم الدين، ثقة المسلمين، خليل أمير المؤمنين وخالصته. واستخلف في هذه المرة على مصر الموسوي المذكور، وعلى القاهرة أبا منصور يحيى بن الحسين بن القاسم الحسني الكوفي، فاستمر إلى ربيع الأول سنة خمس وخمسين. فصرف عن القضاء
والوزارة جميعاً. فولي القضاء أربع مرات. ومدته في جميعها نحو السنة الواحدة.
قال أبو القاسم ابن منجب ابن الصيرفي في كتاب الوزراء له: كان ديّناً مأموناً محققاً مشكور السيرة. قال: ولما طال عليه الأمر في البطالة، وساءت حاله بسبب ترك التصرف، بعد أن كان يتنقل في المناصب والخِدَم سأل الفسح له في المسير إلى بيت المقدس. فأذن له، فتحول إليه ومات بالشام في سنة ست وخمسين وأربعمائة.
أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن أبي عقيل، القاضي الأعز. من المائة السادسة، الفقيه الشافعي. أخذ عن الشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي وغيره. وحدّث. روى عنه أبو الحسن بن موسى بن أبي بكر بن عبد الرزاق بن الحسين بن مسافر وغيره.
وكانت ولايته على القضاء بعد عزل سناء الملك محمد بن هبة الله بن ميسّر وذلك في المحرم سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. ومات وهو على القضاء في شعبان سنة ثلاث وثلاثين. وأقام الحكم بعده شاغراً ثلاثة أشهر. فعين الشيخ أبو العباس أحمد بن الحُطَيْئَة لما كان فيه من العلم والورع. فاشترط عليه فَعَين الوزيرُ رضوان أبا عبد الله محمد بن عبد المولى بن محمد اللخمي لعقود الأنكحة في مدة الشغور، إلى أن استقر فخر الأمناء هبة الله بن حسين الأنصاري.
ولما مات ابن أبي عقيل رثاه بعض الشعراء بقصيدة أولها:
هو الدهرُ للخطب المُبَرِّحِ يخطب
…
ويندب للأمر الذي منه يندب
يقول فيها
بنَفْسِي من أهدى الزمانُ بقاءه
…
وعاد لما أهدى يَهدُّ ويسلُب
وما أحد يخفي عليه قضاؤُه
…
فيرجو ولكن البقاء محبب
مَواعده برق لراجيه خُلَّب
…
فلا تك ممن بالمطامع يخُلَب
أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن أبي بكر بن إبراهيم الكردي الأصل، المهراني، المعروف بابن العراقي، الحافظ الإمام قاضي القضاة بالديار المصرية، ولي الدين أبو زُرْعَة ابن الحافظ الكبير، إمام الحافظ، وأستاذ المحدثين، أبي الفضل، من المائة التاسعة.
ولد في شهر ذي القعدة سنة اثنتين وستين وسبعمائة. وبكر به أبوه فأحضره علي أبي الحَرَم القَلانِسّي. واستجاز له من العُرْضِي. ورحل به إلى الشام سنة خمس وستين فأدرك جماعة من مسندى دمشق ممن يروى عن الفخر ابن البخاري وغيره. ثم رجع به فحفظ القرآن وعدة مختصرات في الفنون. ونشأ يقظاً وأسمعه أبوه الكثير ثم طلب هو بنفسه، فسمع الكثير بقراءته وقراءة غيره.
ثم رحل بنفسه إلى الشام ثانية، فسمع الكثير بقراءته وقراءة غيره، من أصحاب القاضي تقي الدين، وابن الشيرازي، والقاسم بن المظفر، والمطعّم وغيرهم.
وسمع قبل ذلك من جمال الدين ابن نُبَاتَة، والبَيَاني وغيرهما. وتردد إلى حلقة الشيخ جمال الدين الإسنوي وغيره. ومهر في عدة فنون واشتغل فيها وهو شاب. ونشأ على طريقة حسنة من الصيانة، الديانة والأمانة والعفة، مع طلاقة الوجه وحسن الصورة، وطيب النَّغْمَة، وضيق الحال، وكثرة العيال، إلى أن اشتهر أمره، وطار ذكره.
ولما مات والده تقرر في مناصبه الجليلة، فزادت رياسته. وناب في الحكم قديماً في حدود التسعين. وأجيز بالفتوى والتدريس قديما. ودرس في عدة أماكن في حياة والده ومشايخه. ثم أقبل على الفقه، فقسم الروضة بين أربعة أنفس ممن
يلازمه، واستمر على ذلك مدة طويلة. وصنَّف في الفنون الحديثة عدة تصانيف. وأكمل شرح تقرب الأسانيد لأبيه فأجاد فيه. وشرع في شرح مطول لسنن أبي داود، لو كمل كان قدر ثلاثين مجلدة، بل يزيد. وجمع النكت على المختصرات الثلاثة: التنبيه، والحاوي، والمنهاج. فزاد فيها على من تقدمه ممن عمل تصحيح التنبيه وكذا المنهاج، وكذا الحاوي. فإنه جمع بين تصانيفهم وبين ما استفاده من حاشية الروضة لشيخنا البُلْقِيني الكبير. وكان قد جردها فجاءت في مجلدين. وجردها قبله الشيخ بدر الدين الزركشي، وقد ملكتها بخطه، لكن كان قبل أن يجردها
أبو زرعة بعشرين سنة. فزادت في تلك المدة فوائد جمة. واختصر المهمات للإسنوي، وضم إليه فوائد وزوائد من الحاشية المذكورة. وعقد مجلس الإملاء بعد أن كان انقطع بموت شيخنا والده، من سنة ست وثمانمائة إلى أن شرع هو فيه في سنة عشر. ولم يزل يُملي في كل يوم ثلاثاء، إلى أن مرض المرض الذي توفي فيه، مع ما كان فيه من شغل البال بالدرس والحكم وغير ذلك.
ولما مات القاضي جلال الدين البلقيني استقدمه الملك الظاهر طَطَر، في قضاء الشافعية. فباشر بعفة ونزاهة، وشهامة ومعرفة، وصار يصمم في أمور لا يحتملها أهل الدولة. فتمالئوا عليه إلى أن صرف. فحصل له بذلك قَهرٌ أدَّاه إلى التّلف، ومات مبطوناً شهيداً في يوم الخميس سابع عشري شعبان سنة ست وعشرين وثمانمائة ودفن إلى جانب والده، وكثر الأسف عليه خصوصاً من طلبة العلم.
أحمد بن عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد بن مالك بن سعيد الفارقي، جلال الملك، ويكنى أبا أحمد، وهو ممن يكنى باسم نفسه. ولي القضاء في ثالث عشر المحرم
سنة خمس وخمسين وأربعمائة، عوضاً عن الحسن ابن أبي كُدَيْنة. وأضيفت إليه الوزارة عوضاً عن أبي الفرج البابلي. فاستخلف في الحكم أخاه علياً ثم صرف عن القضاء والوزارة في سابع عشر صفر منها. ثم أعيد في رابع ذي الحجة منها إلى القضاء. ثم صرف ثم أعيد بعد أربعة أيام. ثم صرف في النصف من جمادى الآخرة ثم أعيد في سادس عشري صفر سنة ثمان وخمسين. وأضيف إليه الوزارة في رابع جمادى الآخرة منها. ثم صرف من
الوزراء بعد أيام. ثم صرف من القضاء في ثامن المحرم، وأعيد في جمادى الأولى. ثم صرف يوم عيد النحر. ثم ولي الوزارة فقط في ثالث عشري صفر سنة إحدى وستين. ونكب عقب ذلك ونفى إلى الشام فمات بها. وكان في هذه المدة اليسيرة يتناوب ولاية القضاء مع ابن أبي كدينة، والوزارة مع جماعة.
ولما ولي في صفر سنة ثمان خمسين وأضيفت إليه الوزارة، دعي بقاضي القضاة الأعظم. ومدحه الشعراء، منهم علي بن بشر الصقلي الشاعر الكاتب
المشهور. ثم تناوب الولاية مع عبد الحاكم بن وهيب إلى أن نكب بسبب الوزارة كما تقدم. ومدحه علي بن بشر الصقلي الشاعر المشهور بقصيدة يقول فيها:
هو الملك الندبُ الذي لا إلى الهوى
…
يقومُ ولا عن واجب المجد يعقدُ
لقد حارت الأوهامُ فيه وقد عَلَا
…
إلى الغاية القُصوى إلى أين يَصْعَدُ
من النَّفر البيض الذين مديحهم
…
على ألسن الأيام غَضٌّ مُمدّدُ
كأنًّهْمْ عقدٌ على جيد عصرهم
…
يُفَصَّل منهم لؤلؤٌ وزبرجدُ
إذا ذُكر المحمودُ من كل معشر
…
خلالاً وأفعالاً فَأَحمدُ أحمدُ
أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد العسقلاني الأصل، المصري المولد والمنشأ، نزيل القاهرة. ولد في شعبان، سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، ومات أبوه في رجب سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وماتت أمه قبل ذلك وهو طفل، فنشأ يتيماً. ولم يدخل (الكُتَّاب) حتى أكمل خمس سنين، فأكمل حفظ القرآن وله تسع سنين. ثم لم يتهيأ له أن يصلي بالناس التراويح إلا في سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وقد أكمل
اثنتي عشرة سنة. وكان وصيّه الرئيس الشهير زكي الدين أبو بكر ابن نور الدين علي الخرُّوبي، كبير التجار بمصر، قد جاور في تلك السنة، واستصحبه معه، إذ لم يكن له من يكفله. وسمع في تلك السنة صحيح البخاري على مسند الحجاز عفيف الدين عبد الله النَّشَاوِرِي خاتمة أصحاب إمام المقام رضي الدين الطبري. ولم يضبط سماعه، لكنه يتحقق أنه لم يسمع الجميع، بل له فيه إجازة شاملة لمروياته. وكان سماعه بقراءة الشيخ شمس الدين محمد بن عمر السَّلاوي
الدمشقي، تحت سكن الخروبي في البيت الذي بباب الصفا، على يمنة الخارج إلى الصفا، ويعرف ببيت عيناء وهي الشريفة بنت الشريف عجلان. وبالبيت المذكور شباك يطل على المسجد الحرام ويشاهد من يجلس فيه الكعبة والركن الأسود، فكان المستمع والقارئ يجلسان عند الشباك دون مصطبة تحت الشباك المذكور، وكان يجلس فيها مؤدب صاحب الترجمة ومن يدرس معه. فكان المؤدَّبُ يأمرهم عند قراءة القارئ بالإنصات إلى أن يفرغ حتى ختم الكتاب. لكن كان صاحب الترجمة ربما خرج لقضاء حاجة، ولم يكن هناك ضابط للأسماء. والاعتماد على ذلك كان على الشيخ نجم الدين المرْجَانِيّ فإنه أعلمني بعد دهر طويل بصورة الحال، فاعتمدت عليه وثوقاً به.
وحفظ بعد ذلك كتباً من مختصرات العلوم، ولازم أحد أوصيائه أيضاً وهو الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن عيسى بن أبي بكر بن القطان المصري، فحضر دروسه. ثم حبب إليه النظر في التواريخ وهو بعد في المكتب،
فعلق بذهنه شيء كثير من أحوال الرواة. وفي غضون ذلك، سمع من نجم الدين ابن رَزِين وصالح الدين الزِّفْتَاوي، وزين الدين ابن الشَّيْخَة. ونظر في فنون الأدب من سنة اثنتين وتسعين، ففال الشعر ونظم مدائح نبوية ومقاطيع. ثم اجتمع بحافظ العصر زين الدين العراقي، وذلك في شهر رمضان سنة ست وتسعين، فلازمه عشرة أعوام، وحبب إليه فن الحديث، فما انسلخت تلك السنة حتى خرَّج لشيخه مُسنِد القاهرة أبي إسحاق التَّنُوخِيّ المائة العشاريات.
فكان أول من قرأها في جمع حافل الحافظ أبو زرعة ابن الحافظ العراقي.
ثم رحل إلى الإسكندرية فسمع من مسنديها إذ ذاك. ثم حج ودخل اليمن. فسمع بمكة المدينة وينبع وزبيد وتعز وعَدَن وغيرها من البلاد والقرى.
ولقي باليمن إمام اللغة غير مدافع، مجد الدين ابن الشيرازي. فتناول منه بعض تصنيفه المشهور المسمى:(القاموس في اللغة) . ولقي جمعاً من فضلاء تلك البلاد ثم رجع إلى القاهرة. ثم رحل إلى الشام فسمع بقَطْية وغزة والرملة والقدس ودمشق والصالحية وغيرها من القرى والبلاد.
وكانت إقامة بدمشق مائة يوم، ومسموعه في تلك المدة نحو ألف جزء حديثية: منها من الكتب الكبار، المعجم الأوسط للطبراني، ومعرفة الصحابة لأبي عبد الله ابن مَنْدَه، وأكثر مسند أبي يَعْلَى وغير ذلك.
ثم رجع وأكمل كتابه (تَغْليق التعليق) في حياة كبار مشايخه، فكتبوا عليه، ولازم الشيخ سراج الدين البلقيني، إلا أن أذن له. وأذن له بعد إذنه، شيخه الحافظ زين الدين العراقي. ثم أخذ في التصنيف، وأملى الأربعين المتباينة بالشيخونية من سنة ثمان وثمانمائة، ثم أملى من عشاريات الصحابة نحو مائة مجلس في عدة سنين. ثم ولي درس الحديث بالمدرسة الجمالية الجديدة فأملى فيها، ثم قطعه لما تركها في سنة أربع عشرة وثمانمائة. وتشاغل بالتصنيف، ثم ولي مشيخة البيبرسية ثم تدريس الشافعية بالمدرسة المؤيدية الجديدة. ثم ولي القضاء في السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وعشرين وثمانمائة. ثم عقد مجلس الإملاء في أوائل صفر منها إلى الآن.
أحمد بن علي بن منصور بن محمد بن محمد بن أبي العز بن صالح ابن وُهَيب الدمشقي شرف الدين أبو العباس الحنفي. من أهل المائة الثامنة. ولد في سنة عشر وسبعمائة تقريباً. وسمع الحديث واشتغل كثيراً ومهر، وأُذِن له في التدريس فدرس وأفتى وأعاد.
طلبه السلطان الملك الأشرف من دمشق فقدم ولم يذكر أمره للسلطان بواسطة بعض أهل الدولة، لغرض له كان في تولية غيره. فلم يوافقه السلطان على ذلك. وتذكر أمر شرف الدين فأمر بإحضاره، فخلع عليه في رابع شهر رجب سنة سبع وسبعين وسبعمائة. فباشر قليلاً ثم ترك، ورجع إلى الشام وذلك في شهر رمضان منها.
وكان صارماً مهيباً نزهاً، قَوَّالاً بالحق، لا يقبل لأحد هدية، ولا يعمل برسالة أحد من أهل الدولة، ولا يراعيهم، فكثرت عليه رسائلهم. فكره الإقامة بينهم وسأل العزل مرة بعد مرة. وكان مع ذلك قامعاً لأهل الظلم، منصفاً للمظلوم، كثير النفع للناس. وكانت مقاصده جميلة وأموره مستقيمة، إلا أنه لا يجد من يعاونه. وكان دمث الأخلاق، طارحاً للتكلف، كثير البِشر، جميل المحاضرة متواضعاً. وكان يباشر صرف الصدقات بنفسه ما بين دراهم وخبز.
وصنَّف مختصراً في الفقه، وأخر في أصول الدين. وصار كثير التبرم بالوظيفة. فاتفق أن حصل للأشرف مرض، فعالجه الأطباء، فما أفاد. فلازمه الجلال جار الله فاتفق أن شفي على يده. فكشر له ذلك، ووعده بتولية القضاء. فبلغ ذلك شرف الدين فعزل نفسه، وأوجب ذلك عنده، أنه سئل في أوقاف أراد بعض أهل الدولة حلها، فألح عليه فأصر وعزل نفسه.
وقرأت بخط صديقنا تقي الدين المقريزي قال: لما مات صدر الدين ابن التُّرْكُمانِي، عين قاضي القضاة ابنهُ جماعة شرفّ الدين ابن منصور المذكور. فخرج البريد بطلبه. فقدم في ثالث عشر ذي الحجة سنة ست وسبعين وسبعمائة، فطلع في يوم الخميس خامس عشرة، فأجلس على باب خزانة الخاص، فخرج طشتمر الدوادار فوجده، فأخذه صحبته إلى منزله، ثم أمره أن يقيم عنده إلى أن يستدعي به. وعين طَشْتَمر الشيخ جلال الدين التِّبّانِيّ، فطلب فامتنع. وأصر على ذلك. فطلب نجم الدين أحمد بن إسماعيل، فقدم في ثامن عشر المحرم سنة سبع وسبعين وسبعمائة، فقرر في القضاء. وكان المنصب شاغراً بعد موت صدر الدين ابن التركماني شهرين ونصف شهر. وكان نجم الدين قاضياً بدمشق، فاستقر عوضه ابن عمه صدر الدين علي بن أبي العز.
وكان لما قدم القاهرة انتصب للإقراء بالمدرسة المنصورية
فقرأ عليه جماعة في الفقه وفي أصول الفقه وكانت وفاته بدمشق يوم الاثنين لعشرين من شعبان سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة. وكان من محاسن الدهر وقضاة العدل.
أحمد بن عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض، تقي الدين ابن عز الدين المقدسي الحنبلي، كان ربيب الشيخ شمس الدين ابن العماد، حنبلي من المائة الثامنة. ولد سنة.. وسمع من جماعة من مشايخ القطب
الحلبي فمن بعدهم. خرَّج له ابن رافع مشيخةً عنهم وحدث بها. قال القطب: سمعت عليه الجزء الثالث منها، بقراءة المخرّج. وتولى المنصب بعد موت سعد الدين الحارثي في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبعمائة. قرأت ذلك بخط القطب الحلبي.
واستمر فيه مدة طويلة إلى أن صرف في نصف جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. ويقال أن السبب في عزله
أن ولده صدر الدين محمداً، تساهل في بيع الأوقاف، فأفحش في ذلك، حتى قام في إنكار ذلك الأمير بدر الدين جَنْكَلِي ابن البابا، فأعلم السلطان بما يصدر من الصدر المذكور، ومن جمال الدين عبد الله ولد القاضي جلال الدين القزويني، فعزل القاضيين جميعاً.
فأما الجلال فإنه لم ينشب أن ولاه قضاء دمشق، فخرج هو وولده. وأما ابن عوض فتعلق به أصحاب الديون، فوكل به وبولده مدة، حتى صولحوا وأفرج عنهما. واستمر تقي الدين بالقاهرة إلى أن مات في تلك السنة.
وقال الكمال ابن حبيب: تقي وافق اسمه فعله، ووافق علمه فضله. نصر المحق. وعمل الأمر المتسق. ومات سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
أحمد بن عيسى بن موسى بن عيسى بن سَلِيم بن سالم بن جميل بن راجح بن كثير بن مظفر بن علي بن عامر القاضي عماد الدين، أبو عيسى العامري الأزرقي
المُقَيْري بقاف مصَغَّر الكركي، من المائة الثامنة. ولد بالكرك في شعبان سنة إحدى أو اثنتين وأربعين وسبعمائة واشتغل بها، وحفظ المنهاج، وقرأ على والده وغيره. وكان أبوه من تلامذة الشيخ تقي الدين السبكي. ومات في سنة ثلاث وستين وسبعمائة. ورحل إلى الشام والقاهرة في طلب الحديث. وسمع بمصر من أبي نعيم ابن الإسْعَردي ويوسف بن محمد الدَّلاصي في آخرين، تجمعهم مشيخته التي خرّجها له أبو زرعة ابن شيخنا العراقي، وسمعتها عليه لما حدّث بها بعد صرفه من القضاء.
وقد حدث هو قبل ذلك ببلده بعد الثمانين. وولي قضاء الكرك بعد والده وعظم قدره، وأحبه أهل بلده حتى كانوا لا يفعلون شيئاً إلا مشورته، ولا يصدرون إلا عن رأيه. ومن كَرِه إقامته من النواب وغيرهم، أثار عليه العامة حتى يرحل هو البلد. وولي أخوه علاءُ الدين كتابة السر بها، فصار مدارها عليهم. ودخل القاهرة مراراً، منها في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. فلما سُجن الملك الظاهر برقوق بالكرك خَدَمه. فلما تمكن وعادّ إلى السلطنة، قرر علاء الدين في كتابة السر بالقاهرة عوضاً عن ابن فضل الله، وعماد الدين في القضاء، عوضاً عن بدر الدين ابن أبي البقاء.
ولما ولي العماد القضاء باشر بصرامة، وإنفاذ للحق، وحكم بالعدل، وعدم التفات لشفاعة أحد، أو رسالة كبير أو صغير. وكان ممسكاً في بذلك المال، سمحاً
بالوظائف، فاستكثر من النواب وخصوصاً أولاد العلماء، فاستناب ولد شيخنا ابن الملقَّن، وولد شيخنا العراقي، وولد شهاب الدين العُرْياني، وولد فلان وفلان. حتى صار بعض الناس يقول: هذه دولة الأبناء.
وكان بالكرك فقير مغربي يقال له أبو عبد الله الركراكي، وكان يعادي القاضي، فقدم على برقوق فعرَفه، لأنه كان يلازمه بالكرك ويتروَّج عليه بالزهادة والدعاء ونحو ذلك. فلم يزل يغري السلطان بالعماد حتى صرفه عن القضاء، في ثاني المحرم سنة خمس وتسعين وسبعمائة.
ولما صرف من القضاء واستقر الصدر المناوي أبقى السلطانُ مع العماد تدريس المدرسة الصلاحية بجوار الشافعي، وتدريس الحديث بالجامع الطولوني. ونظر الصالح بجوار البيمارستان والتدريس الصالحي المذكر بالقبة، فاقتنع بذلك، وانجمع عن الناس، وأقبل على العبادة.
وكان يستحضر المنهاج. وهو أول من كتب له عن السلطان (الجناب العالي) ، وذلك بعناية أخيه صاحب ديوان الإنشاء. فاستمرت لمن ولي القضاء بعده.
وكان إذ هو ببلده موصوفاً بالعفة والحرمة. ذكر لي الشيخ تقي الدين المقريزي. أنه سمعه يحلف - وكان بجواره - أنه لم يتناول في طول ولايته القضاء بالكرك وبالديار المصرية رشوة، ولا تعمد الحكم بشيء باطل.
قرأت بخط الجمال البشبيشي: كان عفيفاً خيراً، عديم الغرض في أمور الدنيا، صِفراً من العلوم. وكان يوصف بالكِبْر المفرط والتعاظم، وما أظنه كان يقصد بذلك إلا عدم مداخلة الناس ليتستر بذلك عن وقوفهم على مرتبته في العلم، فيستر ذلك بذلك، وإلا فلقد كان ديناً.
ولما أراد السلطان السفر إلى الشام، طلب منه مالاً يقرضه من المودع الحكمي، فما أعاد عليه جواباً، ثم عاد في المجلس الآخر، فاخرج من كُمه مصحفاً، وقال مخاطباً للسلطان: سألتك بالله مُنزل هذا القرآن لا تتعرض لمال الأيتام. وإن كان لابد من ذلك، فهذا المنصب يوليه السلطان لمن شاء! فسكت عنه.
ثم لما عاد من السفر حصل بينه وبين الدوادار الكبير منازعة بسبب قضية تتعلق به، لم يقبل فيها شفاعة. فسعى فيه حتى صرف في سادس عشرين ذي الحجة سنة أربع وتسعين. واستمر بَطالاً إلى أن رحل إلى خطابة المسجد الأقصى.
وقرأت بخطه أيضاً: ولي الخطابة وتدريس الصلاحية، والإمامة في سابع عشر رجب سنة تسع وتسعين، فسار إليها، وباشر منجمعاً عن الناس،
مقبلاً على عبادته، فإنه كان يلازم قيام الليل، ويواظف على التلاوة، ويسرد الصيام، مع العبد عما يشين دينه.
قال: ولقد لزمته فما رأيت منه ما يعاب، سوى شدة الاحتجاب أيام ولايته القضاء، ومُقَيْرَة التي نسب إليها: بلد صغير من أعمال الكَرَك.
قلت: وهو جد صاحبنا الحافظ تاج الدين ابن الغرابيلي لأمه.
ثم لما شغرت خطابة القدس في سنة تسع وتسعين وسبعمائة طلبها من السلطان فأجابه، وضم إليه تدريس الصلاحية بالقدس. فتوجه إلى القدس. فباشرهما إلى أن مات في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانمائة.
أحمد بن قاسم بن زيد الصِّقِلّي، القاضي الرشيد، الملقب عماد الأحكام، من المائة السادسة.
قرأت في كتاب جنان الجنان لابن الزبير: كان أحمد بن القاسم قاضي القضاة بمصر في أيام الأفضل ابن أمير الجيوش، فدخل عليه يوماً وبين يديه دواة عاج، مكللة بالمرجان، فأنشده بديهاً:
أُلينَ لداودَ الحديدُ كرامةً
…
يُقدَّره في السَّرْد كيف يُريدُ
ولَانَ لك المرجانُ وهو حجارةٌ
…
على أنه صَعب المراس شديدُ
قال: وكان قد أجرى الماء إلى قرافة مصر، فكتب إليه يسأله أن يجري الماء إلى داره:
أيا مولَى الأنَام بلا احتشامِ
…
وسَيِّدهم على رَغم الحسودِ
لعبدك بالقَرافة دار نُزلٍ
…
لموجود الحياة أو الفقيدِ
لموجودٍ يعيشُ بها لوقت
…
ومفقودٍ يواري في الصَّعيدِ
وفي أرجائها شَجر نضيدٌ
…
بهيُّ الحسن من وَرَقٍ وعودِ
قال: وله قصيدة عارض بها الشريف الرضى أولها:
إنْ لم أزُرْكِ ولم أقنع برؤياكِ
…
فللفؤاد طَوافٌ حول مَغْنَاكِ
يا ظبيةً ظَلتُ في أشراكها عَلِقاً
…
يوم الوداع ولم تعلَق بأشراكي
رعيتِ قلبي وما راعيتِ حُرمته
…
يا هذه كيف ما راعيت مَرْعَاكِ!
أتحرقينَ فؤاداً قد حللتِ به
…
بنار حبك قهراً وهو مَأْوَاكِ!
وقال العماد الكاتب في الخريدة..
وقرأت بخط القطب الحلبي في تاريخ مصر أنه قرأ بخط الحافظ جمال الدين اليغموري قال: أحمد بن قاسم بن زيد الصقلي، كان من الطارئين على مصر، انتهى.
وسماه ابن ميسر، في قضاة مصر محمداً، ووافق على اسم أبيه وجده، ثم تردد في أنه أحمد أو محمد. فقرأت في تاريخه في حوادث سنة ست وعشرين وخمسمائة، أن قاسم ابن القاضي الرشيد أبي عبد الله محمد، ويقال أحمد بن قاسم الصقلي مات فيها. وكان أبوه قاضي مصر، ويقال كان يكنى أبا علي، وكان قدومه من صقلية إلى مصر سنة خمسمائة.
وكانت ولايته بعد صرف القاضي الجَليس نِعْمة بن بشير، وذلك بعد موت المستعلي الخليفة. وسماه غيره علي بن محمد بن قاسم، وقيل محمد بن عبد الله ابن قاسم. ولم يزد ابن دانيال في تسميته في نظمه علي الصقلي. فيغلب على الظن أنه أحمد بن قاسم. وأن محمد بن أحمد بن قاسم ولده، وأن ذلك سبب الاشتباه، وأن مَن سمَّاه علياً التبس عليه بكنيته فإنه أبو علي.
أحمد بن القاسم بن أبي المنهال التونسي، أبو طالب، إسماعيلي من المائة الرابعة. قال ابن زولاق: استدعاه الوزير ابن كِلِّس - وكان قاضي تونس - منها. فرد إليه أمر المظالم بمصر وأعمالها، وكتب له بذلك سجلاً عن العزيز. وأذن له فيه
في الحكم، وسماه القاضي. وأطراه فيه ومدحه. وقرأ سجله بحضرة الوزير. فنظر في المظالم وفي كثير من الأحكام. ذكر ذلك في ترجمه علي بن النعمان قال: وكان الوزير يعاكسه في أموره، وعلي يصبر عليه. كان أبو طالب المذكور على مذهب الإسماعيلية أيضاً، ولم يذكره مَن صنَّف في قضاة مصر، لكن تفويض الحكم إليه عن غير نيابة من ابن النعمان يقتضي أن يذكر. فلا مانع عندهم من تولية قاضيين في البلد الواحد. وما عرفت من أخبار ابن المنهال هذا شيئاً إلا ما ذكرته.
أحمد بن محمد بن بدر، أبو العباس بن أبي بكر.. روى عن الحسين بن محمد بن داود المعروف بمأمون، وعبد الرحمن بن أحمد الرشدِيني وغيرهما. روى عنه أبو عمرو الداني المقرئ، ومحمد بن الحسين بن بقاء، وعلي بن صالح الروذباري، وأبو ذرّ الهروي، وقال: لا بأس به، وأحمد بن بابشاذ وآخرون.
ووقع لنا حديثه متصلاً بالسماع في مشيخة أبي عبد الله الرازي في ترجمة الحسين بن أحمد بن الحسين الحاسب، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد
ابن بدر القاضي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن زَبْر قرأت بخط القطب الحلبي،
قال ابن ميسر: كان أبو العباس قاضي مصر، لزم بيته بعد أن صرف، وحدث فسمع منه جماعة. ذكر ذلك المسبحي وكانت وفاته سنة أربعمائة.
قلت: ولم أعرف الوقت الذي ولي فيه، ولا ذكر في نظم ابن دانيال، والمسبحي من أعرف الناس بالمصريين لا سيما من عاصره.
ويجوز أن يكون وصف بالقاضي، لكونه ناب عن بعض القضاة، كما وقع للقضاعي، أو خَلَفَ.
وكان ابن ميسر يقتضي أنه مات وهو غير قاض، والوقت الذي مات فيه كان القاضي فيه مالك بن سعيد الفارقي.
وكانت ولايته بعد عزل عبد العزيز بن محمد بن النعمان في رجب سنة ثمان وتسعين.
وكانت ولاية عبد العزيز في رمضان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
وكانت ولايته بعد ابن عمه الحسين بن علي بن النعمان في صفر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة.
نعم لما مات محمد بن النعمان عم الحسين هذا، بقيت مصر بغير قاض نحو عشرين يوماً، إلى أن ولي الحسين هذا. فلعل أبا العباس المذكور كان أذن له في تعاطي الأحكام إلى أن استقر الحسين، كما سيأتي بسط هذا في الذي بعده، ولعله هو، وذِكْر بدر في نسبه سهو أو تحريف.
أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن يحيى بن الحارث بن أبي العوام السعدي، الفقيه الحنفي، أبو العباس من المائة الخامسة.
ولي القضاء بمصر في جمادى الآخرة، وقيل في شعبان سنة خمس وأربعمائة وهو الصحيح. وكان ذلك في يوم السبت لعشرين منه، بعد قتل مالك بن سعيد الفارقي القاضي بشهرين أو ثلاثة، فإن قتله كان في ربيع الآخر، وبقيت مصر بغير قاض هذه المدة. وكان يتوسط فيها بين الناس أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، وأبو منصور المحتسب. وكان من يتطلع إلى القضاء جماعة، لكنهم في فَزَع مِمَّا جرى منهم ليعقوب بن إسحاق، وسليمان بن رستم، وسليمان بن النعمان، وأخوه القاسم، ومن يجري مجراهم. وصاروا يلازمون موكب الحكام بخلاف أبي العباس المذكور،
فإنه لزم داره. وكان ينظر في الفروض في أيام مالك بن سعيد ويُشهد، ولكنه لم يسأل الحاكم قط أن يكون في جملة من يدخله عليه، ولا أن يتعرف به.
وكان قد قدم مصر رجل مكفوف يقال له أبو الفضل جعفر، من أهل العلم بالنحو واللغة والغريب، قدم على الحاكم، فأعجب به وخلع عليه وأقطعه إقطاعاً، ولقبه عالم العلماء، وجعله يجلس في دار العلم التي أنشأها لتدريس اللغة والنحو، فخلا به الحاكم فجعل يسأله عن الناس واحداً واحداً، من يصلح منهم للقضاء. وكان الحاكم عارفاً بهم. وإنما أراد أن ينظر مبلغ علمه. فلم يزل يذكر حتى وقع الاختيار على أبي العباس، فقيل للحاكم ليس هو على مذهبك، ولا على مذهب من سلف من آبائك. فقال: هو ثقة مأمون مصري، عارف بالقضاء وبأهل البلد، وما في المصريين من يصلح لهذا الأمر غيره.
ولم يزل أبو الفضل حتى أحكم له الأمر مع الحاكم. فأمر بكتب سجله، وشطر عليه فيه أنه إذا جلس في مجلس الحكم، يكون مع أربعة من فقهاء الحاكم، لئلا يقع الحكم بغير ما يذهب إليه الخليفة.
فقرئ عهده بذلك، ووصف فيه أجمل صفة، وزكى فيه أحسن تزكية، وخلع عليه وحمل على مركب حسن.
وكانت الخلِعة غلالة وقميص دَبِيقِيّ مُعلَم مذهب، وثوب مُصْمَت وعمامة شَرْب كبيرة مذهَّبة وطيلسان مذهَّب. وقرأ سجله بالقصر وهو قائم على رجليه، بحضرة شيوخ الدولة. وكان مركبه بغلة مسرجة بلِجام فِضِّي مذهب،
وقيدت
بين يديه بغلة أخرى مسرجة ملجمة، وسار بين يديه الشهود والأمناء. وقرأ سجله بجامع مصر على المنبر.
وساق المسبّحي في تاريخه السِّجل بطوله، وأضيف إليه في الأحكام مصر وبرقة وصقلية والشام وقضاء الحرمين ما عدا فلسطين، فإن الحاكم كان ولاها أبا طالب ابن بنت الزيدي الحسيني، فلم يجعل لابن أبي العوام عليه أمراً. وكان أبو طالب تَرَفَّع عن قضاء مصر، إلا أنه كان يهاب الحاكم، وجُعل لأبي العباس النظر في المعيار، ودار الضرب، والصلاة والمواريث، والمساجد والجوامع، فباشر أبو العباس ذلك، وهو يترقب القتل. وكان يمكنه أن يستتر إلا أن حب الرياسة غلب عليه.
وكان يركب أيام الجمع مع الحاكم، ويطلع إليه يوم السبت يعرفه ما جرى من أمر القضاة والشهود والأمناء بالبلاد، وما يتعلق بالحكم. ويجلس يوم الأحد والخميس بمصر، ويوم الاثنين والثلاثاء بالجامع الأزهر، ويوم الأربعاء لراحته. فكان ينقطع في دار له بالقرافة يتعبد فيها إلى المغرب، ويخلو بمن يريد من الشهود وغيرهم.
ذكر ذلك كلَّه إسماعيلُ بن علي بن إسماعيل بن موسى الحسيني في كتابه أخبار قضاة مصر. وذكر أنه خلع عليه يوم العشرين من شعبان. وقرئ سجله بالقصر وبجامع مصر. فلم يزل على وظيفة القضاء إلى أن مات لعشرين ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة ثماني عشرة، فكانت ولايته اثنتي عشرة سنة وسبعة أشهر.
وكان مولده بمصر سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. وشهد عند محمد ابن النعمان سنة أربع وثمانين. وخلف الحسين بن النعمان على الفروض. وناب في الحكم عن الحسن بن كامل النائب عن الحسين بن النعمان. وكان من أهل الصيانة من صباه.
ولما مات صلّى عليه الظاهر ابن الحاكم وأخرج تراباً من كُمه، فمر أن يوضع في قبره تحت خده، ذكر ذلك ابن ميسر في تاريخه.
وذكر إسماعيل المذكور، عن أبي حفص الأدمي الفرائضي، أن ابن أبي العوام دخل على أبي الطاهر الذهلي القاضي، هو وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق، فقال الحكيمي الوراق - وكان من أهل العلم، وله تقدم في معرفة الشروط -: يا أبا حفص ترى هذين فإنهما لابد أن يصيرا رئيسي مصر، فما مضت الأيام والليالي، حتى ولي أبو العباس القضاء، وأبو يوسف المشيخة.
ولأبي العباس رواية عن أبيه عن جده، وروى أيضاً عن أبي بكر محمد بن جعفر بن أعين، وأبي بشر الدولابي، وأبي جعفر الطحاوي، وإبراهيم بن أحمد بن سهل الترمذي، ومحمد بن الحسين البخاري صاحب حريث بن أبي الورقاء، وأسامة بن أحمد بن أسامة، والقاسم بن جعفر بن محمد البصري، ومحمد بن محمد بن الأشعث، وأحمد بن علي بن شعيب المدائني وغيرهم.
وله مصنف حافل من مناقب أبي حنيفة وأصحابه. روى عنه القُضاعي الكتاب المذكور. وحدث به السِّلَفي عن الرازي عن القضاعي.
ومن الحوادث التي وقعت لابن العوام، أن حمزة اللباد الزَّوزني الملحد، الذي ادّعى أن روح الإله حلت في الحاكم، ركب في جَمْع من أصحابه، إلى أن دخلوا الجامع العتيق، معلنين بكفرهم. فتقدم منهم ثلاثة إلى مقر القاضي فناول أحدهم القاضي رقعة يأمره فيها الزوزني بالدعاء إلى مقالته. وكان الزوزني استفحل أمره، حتى كان يساير الحاكم إذا ركب ويخلو به. فقال له القاضي حتى أدخل إلى مولانا وأسمع كلامه فلم يقنع منه بالجواب وأطال معه الكلام في ذلك. فثار العامة بالرجل فقتلوه. ثم قتلوا رفيقه. وتتبعوا من كان على مقالتهم فقتلوهم في الطرقات. فبلغ ذلك الحاكم فشق عليه وأمر بتحريق مصر، فكان في ذلك ما اشتهر.
وكان ابن أبي العوام أولَ من نقل دواوين الحكم إلى الجامع. وكانت قبله تكون عند القاضي. ثم تنقل إذا مات أو عزل، إلى دار الذي يلي بعده. فاتخذ ابن أبي العوام مقرها في بيت المال بالجامع. وكان على من يكون قاضياً إذ ذاك في شهر رمضان، أن يصعد المنبر يوم الجمعة، ويصلح مظلته ويكبر خلف الخليفة أو ولي عهده، هو إذا ذاك عبد الرحيم بن إلياس. وأقطع الحاكم هذا القاضي تلبانة، وهي ضيعة معروفة بمصر، كتب له بذلك سجلاً.
وفي سنة تسع وأربعمائة، جلس ابن أبي العوام، وقد أمر بإحضار الشهود، وكانوا ألفا وخمسمائة فاسقط منهم في يوم واحد أربعمائة. فتظلموا للحاكم، فقال: الذي عدّلكم هو الذي أسقطكم.
وفي صفر سنة عشر وأربعمائة.
ولما ولي الظاهر ابن الحاكم أقرّ أبا العباس على القضاء.
أحمد بن محمد بن أبي زكريا يحيى بن أبي العوام، أبو عبد الله ابن عم أبي العباس المذكور قبله. حنفي من المائة الخامسة. ولي القضاء بمصر أولاً نيابة عن القاسم بن عبد العزيز بن النعمان، وهو وأبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي. فاتفق أنهما حضرا يشكوان من سوء سيرة القاسم، فدخل القاسم يشكو منهما كثرة مخالفتهما له، فصرفه المستنصر. وقرر اليازوري في القضاء مع الوزارة. وأمره أن يفوض أمر القضاء إليهما. ثم وليه استقلال في حادي عشر شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، من قبل المستنصر. وأضيف إليه النظر في المظالم، ودار الضرب، والصلاة والخطابة والأحباس. وخلع عليه وقرئ سجله على منبر القصر. ولقب قاضي القضاة نصير الدولة أمين الأئمة. فباشر ذلك إلى أن مات، في صفر أو في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عطاء الله بن عَوّاض بن نجا بن حمُّود بن نهار بن مؤنس بن محمد بن حاتم الزبيري الإِسكندراني المالكي، ابن التَّنَسِي، بفتح المثناة الفوقانية والنون بعدها مهملة. من المائة التاسعة ناصر الدين ابن جمال الدين. كان ينسب إلى جده لأمه ابن التنسي. ويسوق له نسباً إلى الزبير بن العوام. فيقال في حازم أو حاتم أنه ابن بُبْلَي بن جابر بن هشام ابن عروة بن الزبير بن العوام. وإلى ذلك سار فيه قول صهرهم صديقنا العلامة الأوحد البدر ابن الدماميني من أبيات يصفه فيها.
وأجاد فكرُك في بحار علومه
…
سُبْحاً لأنك من بين العوًّامِ
وكان مولده سنة أربعين وسبعمائة. واشتغل كثيراً ومهر. وعني بالعربية والفنون وشرح التسهيل، فوصل فيه إلى التصريف.
وكان عارفاً بالأحكام، كثير العناية بالتجارة، ولم يكن يدخل في المنصب إلا صيانة لماله.
وتولى القضاء بالإسكندرية في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. وتناوب هو وابن الربعي مدة، إلى أن استقر ابن التنسي في قضاء الديار المصرية في رابع عشري ذي القعدة سنة أربع وتسعين وسبعمائة. فتحول بأهل وعياله وأسبابه. فباشر بعفة
ونزاهة مع العقل والتودد للناس وطهارة الذيل، وسلامة الباطن، وقلة الكلام حتى كان يقال: لم يسمع منه ذم أحد، بقول ولا فعل.
وهو من بيت رياسة. ولي أبوه جمال الدين قضاء الإسكندرية وكذا جده شمس الدين. وكان جده الأعلى عطاء الله يلقب رشيد الدين.
قرأت بخط الشيخ جمال الدين البشبيشي في وصفه: أقام دهراً طاهر اللسان، لم ينل أحداً بمكروه. وكانت أيامه كالعافية، والرعية في أمان على أنفسهم وأموالهم، لا ينظر إلى ما بأيديهم، ولم يعرف الناس قدره حتى فقد. ولم يدخل عليه في طول ولايته خلل، ولا أدخل عليه أحد شيئاً من ذلك. قال: وفي الجملة كان هو وابن خير قبله من محاسن الوجود. انتهى.
ولم يزل على طريقته إلى أن مضى بجميل، ومات بالقاهرة في ليلة الخميس أول يوم من شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة.
أحمد بن نصر الله بن أحمد بن أبي الفتح بن هاشم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن نصر الله بن أحمد الكناني الحنبلي العسقلاني الأصل، نزيل
القاهرة. والده الملقب بناصر الدين سبط قاضي القضاة، موفق الدين عبد الله بن محمد الآتي ذكره
واسم أمه زينب. ولد في المحرم سنة تسع وستين وسبعمائة في السنة التي مات فيها جده، واشتغل ومهر.
قرأت بخط ابن أخيه القاضي العالم الفاضل البارع العلامة، عز الدين ابن برهان الدين، في ترجمة عمّه هذا، أنه كان حسن الشكل، كثير العلم، قوي الإدراك حسن المحاضرة، نزهاً فكهاً، له تعاليقُ في الفقه والنحو وغير ذلك، تدل على حسن بصيرته بالعلم.
ولما مات أخوه برهان الدين، واستقر في المنصب بعد أن سعى فيه غيره فما أجيب، كتب إليه الشيخ شهاب الدين المقري الأوحدي:
بإبراهيم قد مضت المنايا
…
وأخلفَهُ أخوه ذَا المُمجَّد
وأولى الناس في القرآن نَصّاً
…
وأجدرهم بإبراهيم أحمدْ
ولم تطل مدة الموفق في القضاء ولا عمره، فإنه سعى عليه في سنة ولايته، فصرف بعد سبعة أشهر، أو دونها بالنور الحكري، من جمادى الثانية سنة اثنتين وثمانمائة ثم أعيد في آخر السنة، فلم يلبث أن دهمت الناس الكائنة العظمى بالبلاد الشامية باللنكية. فخرج في سنة اثنتين مع العسكر المصري، ثم رجع بعد الهزيمة، فلم يلبث أن مات في يوم الاثنين حادي عشر رمضان سنة ثلاث وثمانمائة، ودفن من الغد.
أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر الحنبلي القاضي،
محب الدين التستري الأصل البغدادي، نزيل القاهرة، من المائة التاسعة. ولد في شهر رجب سنة خمس وستين وسبعمائة. واشتغل على أبيه وغيره، وسمع من أبيه، ومن الكِرْماني والسِّنْجَارِي في آخرين. ودخل الشام سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، فسمع بحلب من ابن المُرَحِّل وبدمشق من ابن المحب. واستمر إلى أن دخل الديار المصرية فحج منها وعاد. ثم قدم أبوه فولاه برقوق تدريس الحديث بالظاهرية التي بين القصريين. ثم شغر منصِب تدريس الحنابلة بها فوليه أبوه، واستمر مدرسين بالظاهرية البرقوقية وكان أبوه من أهل الفضل التام والأدب له النظم الفائق والترسل الرائق.
ولما مات استقر القاضي محب الدين في الدرسين، ونُوزع في ذلك فساعده جماعة إلى أن استمر فيهما. ثم ناب فِي الحكم عن القاضي علاء الدين
ابن المغلي الحنبلي الحموي، لما ولي قضاء الحنابلة. واستقل بالقضاء بعد موته في صفر سنة ثمان وعشرين وثمانمائة. ثم صرف بعز الدين القدسي في الثالث عشر من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين. ثم أعيد في صفر سنة واحد وثلاثين. واستمر إلى أن مات.
قرأت بخط العز ابن البرهان ابن نصر الله: وافق القاضي محب الدين، عمي موفق الدين، يعني الذي قبله في اسمه واسم أبيه وجده، ومذهبه ومنصبه، وسكنه بالصالحية.
قلت: وفارقه فِي اللقب، وأصل البلد، والنسبة إلى الجد الأعلى، وطول المدة، وسعة العلم، والتبسط في بيع الأوقاف، ونحو ذلك.
وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثمانمائة.