المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ذكر من اسمه محمد

وأربعين وخمسمائة. وكان فقيهاً. وكان فقيهاً شافعياً عارفاً بالمذهب، تفقه على سلطان بن رَشا المقدسي المقدم ذكره. وعلى جماعة بمصر وغيرها.

وصنف كتاب الذخائر في عشرين مجلدّة، جمع فيه بين الطريقتين: طريقة العراقيين والمراوزة. وهو أول من جمع بينهما. وأكثر فيه من الفروع والنقول الغربية. وأفرد كتاباً في الجهر بالبسملة، وكتاب تجويز اقتداء بعض المخالفين في الفروع. وكان حج من طريق عيذاب في البحر.

ولما ولي القضاء سار فيه سيرة حسنة، ولم ينقم عليه شيء إلا أنه كان على غير مذهب القوم، مع أنهم كانوا يشترطون على من ولي القضاء أن لا يحكم إلا بمذهبكم. ولما ولي الصالح طلائع بن رُزَّيك الوزارة صرفه، وذلك في شعبان سنة تسع وأربعين وأفاد يونس بن محمد المقدسي وأبو عبد الله ابن ميسر: أن الذي ولي بعد مجلى هو المفضّل بن كامل. ثم بقي هو إلى سنة خمسين وخمسمائة فمات فيها.

قال صاحب كتاب نجم المهتدي ورجم المعتدي: كان مُجَلّي من أعيان الفقهاء الشافعية المشهورين والمشار غليه في فنونه. وهو الذي نشر مسألة الدور بالديار المصرية، حتى أنه كان إذا عقد عقداً أمر الزوج بتقليده وعلمه المسألة، ويعتذر عن ذلك بأن العوام يكثرون الحلف بالطلاق وفي ذلك حيلة في خروجهم بتقليده في تلك المسألة عن الحرج.

وقال الشيخ جمال الدين الإسنوي: كتاب الدَّخائر متعِب لمن أراد استخراج المسألة منه، لأن ترتيبه غير معهود: وفيه أوهام جميعها بعض الحمويين الذين قدموا مصر ولكن اعتراضاته واهية في الغالب ظاهرة التحامل.

‌ذكر من اسمه محمد

محمد بن أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى، شهاب الدين

ص: 323

ابن القاضي شمس الدين الخويي الأصل منسوب إلى خُوَي - بمعجمة مصغر - مدينة من أذربيجان الدمشقي المولد شافعي من المائة السابعة.

ولد في رجب سنة ست وعشرين وستمائة، وسمع من ابن الزَّبيدي، وابن صالح، وأبي المُنجَّا ابن اللَّتِّي، والعَلَم السخاوي، وابن الصلاح وغيرهم.

ورحل إلى بغداد، ثم إلى خراسان، وأخذ عن القطب تلميذ الفخر الرازي، والعلاء الطاوُسي وغيرهما.

ومهر في الفقه والكلام والطب والأدب.

وروى عنه التاج ابن أبي جعفر، وعمر بن الحاجب، وجمال الدين ابن الصابوني، وغيرهم.

وقطن دمشق، ثم دخل القدس قاضياً، ثم جفل إلى الديار المصرية في الفتنة العظمى بهولاكو، فولى قضاء الغربية فأقام بالمحلة مدة، ثم ولي قضاء القاهرة والوجه البحرين مشاركاً للوجيه البهنسي حسب سؤال البهنسي، فإن أنهى إلى السلطان أنه لا يقوى عل قضاء الإقليمين فقرر الخوَيي معه، صار كل منهما مستقلاً بعمله.

نقلت ذلك من تاريخ الجزري التاجر. وذكره القطب الحلبي في تاريخ مصر فقال: كان إماماً جامعاً لعدة فنون، وصنف شرح " فصول " ابن معطي في النحو، والملخص للقابسي، والمطلب الأسمى في إمام الأعمى، ونظم (علوم الحديث) لابن الصلاح، و (كفاية المتحفظ) و (الفصيح) لثعلب.

وكان حسن الأخلاق سخي النفس جميل المحاضرة، حسن المعتقد على طريق السلف، سليم الفطرة، جميل الهيئة، كثير التواضع، كثير الإقبال على أهل العلم، شديد الميل إليهم، ديناً مهيباً منصفاً منقطع القرين في زمانه. وله نظم لطيف فمنه.

أضحى على تركي المدام يلومني

فأجبته لما أطالَ مَلامِي

العقلُ أنفس حِلْيَةٍ يسكو الفتى

فخرا فكيف أزيله بحرامِ

وله:

بخفي لطلفك كلَّ سوء أتقى

فَامْنُن بإرشادي إليه ووفِّقِ

أحسنتَ في الماضي وإن واثقٌ

بك أن تجودَ عليَّ فيما قد بقي

ص: 324

أنت الذي أرجو فمالي والوَرَى

إن الذي يرجو سِواك هو الشَّقي

أنت الذي مازلتَ ترزقين ولو

لا أن وصلتَ الرزق لي لم أرزقِ

أنت الذي وقيتني صَرْفَ الرَّدَى

إذ كنت جاراً للعدو المحنق

أنت الذي نجيت من كيد العِدَى

إذا أجمعوا كيدي بكل تحذلق

أنت الذي شرفتني بفضائل أَسمْو

بها درج العلاء وأرتقى

أنت الذي سوغت لي خَلْقاً وَلَوْ

لا أنت لم أبصر ولا لم أنطق

نِعَمٌ توالت معجزات وصفها

فأدام تواصلها بغير تفرق

وباشر القضاء بالقاهرة خمس سنين، فاتفقت وفاة ابن الزكي قاضي دمشق في ذي الحجة سنة خمس وثمانين فنقل إلى قضاء دمشق، فباشره حتى مات في الخامس والعشرين من رمضان سنة ثلاث وتسعين وستمائة.

محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن بُجَيْر - بموحّدة وجيم مصغَّر - ابن عبد الله بن صالح بن أسامة الذُّهْلِي أبو الطاهر نزيل مصر.

أصله من البصرة، مالكي من المائة الرابعة، ولد في شعبان سنة ثمانين ومائتين وقيل سنة تسع وسبعين وقيل سنة سبع وستين وهو غلط.

وذكر أنه حفظ القرآن وله ثمان سنين. وفي هذا السِّن كان أول سماعه للحديث - وهو سنة ثمان وثمانين - من يسف بن يعقوب القاضي، وموسى ابن هارون الحمَّال، وأبي مسلمِ الكَجِّي، وأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، ومحمد بن يحيى بن المنذر المَرْوزي ومحمد بن عثمان بن أبي سُوَيْد، وأبي خليفة الجُمَحِيّ، وغيرهم، وتفرّد بالرواية عن ثعلب وجماعة من شيوخه.

روى عنه الدارقُطْني، وعبد الغني بن سعيد، وتمَّام بن محمد الرازي، ومحمد بن

ص: 325

نظيف الفرَّاء، وأبو العباس ابن الحاج الإشْبيلي، وأبو الفتح محمد بن أحمد الرَّمْلي، ومحمد بن الحسن الصيرفي، وأحمد بن الحسين العطار، وأبو الحسن أحمد ابن محمد بن نصر الحُكَيميّ، وأبو الحسن محمد بن الحسين ابن الطفَّال المصري، وهو آخر من حدث عنه.

قال أبو عمر بن الحدّاد: كان أبو الطاهر محدّث زمانه وطال عمره.

وقال غيره: كان يشهد عند عمر نب أبي عمر المالكي قاضي القضاة بالعراق ثم ولي قضاء مدينة المنصور ونحو أربعة أشهر في سنة تسع عشرين وولاه المستكفي قضاء الشرقية في صفر سنة أربع وثلاثين نحو خمسة أشهر. ثم ولي قضاء مصر في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة. فباشر مدة طويلة. وأضيف إليه قضاء دمشق فاستخلف عليها أبا الحسن بن حَذْلَم وأبا علي بن هَرَوان.

وقال الفرغاني: كان من شهود أبي الحسين بن أبي عمر القاضي وله به خاصّة. وكان ولي لقضاء واسط فنكبه بَجْكَم التُّركي بها، ثم تخلص بعد أن أشرف علي الهلكة. وكان فقيهاً من مذهب مالك، ثقة ثبتا مُسنداً في الحديث أديباً كاملاً جليلاً. وكان من بيت جليل. كان أوبه من شيوخ القضاة بالعراق وولي بها أعمالاً جليلة.

وقال عبد الغني بن سعيد: قرأت على القاضي أبي الطاهر جزءاً فلما فرغت قلتُ: كما قرأت عليك؟ قال: نعم إلا اللَّحْنة بعد اللحنة. فقلت: فسمعتَه أيها القاضي مُعُرَباً؟ قال: لا. قلتُ: فتلك بتلك. ثم لزِمت تعلُّم النحو من حينئذ.

قال: ثم سألته عن أول ولايته القضاء فقال: سنة عشر وثلاثمائة قال: وكان قد ولي البصرة وكان يقول: كتبت بيدي - يعني الأخذ عن الشيوخ - سنة ثمان وثمانين ومائتين ولي تسع سنين.

وقال طلحة بن محمد بن جعفر: استقضي المَّتقي لله سنة تسع وعشرين وثلاثمائة أبا الطاهر محمد بن أحمد الذُّهلي، وله أُبُوَّة في القضاء كان سديد المذهب، متوسطاً في الفقه، على مذهب مالك، وكان له مجلس يجتمع إليه المخالفون ويناظرون بحضرته، وكان يتوسط بينهم ويتكلم بكلام سديد.

ص: 326

وقال عبد الغني بن سعيد: كَانَ مفوَّهاً شاعراً، حسن البديهة، حاضر الجواب والحجة، عَلَاّمةً، عارفاً بأيام الناس، غزير الحِفْظ، لا يملَّه جليسه من حسن حديثه، جَواداً. سمعت الوزير ابن كِلِّس يقول: لي الأستاذ كافور: اجتمِعْ بالقاضي وقُل لَهُ: بلغني أنك تَنْبَسط مع جُلَسائك، وهذا الانبساط يُذهب هَيْبة الحُكْم. قال: فجئته فأعْلَمْتُهُ فقال لي قل للأستاذ: لستُ ذا مال أفيض بِهِ على جليسي فلا يكون أقلّ من خُلُقي. قال: فأعدتُ الجواب عَلَى الأستاذ فقال: لا تعاوِدْهُ فقد وضع القَصْعة. يعني أنه عرَّض لَهُ بطلب مَا يوسّع عَلَى خواصّه من المال. ووضع القَصْعَة: كناية عن الطلب، لأن العادة جرت أن من احتاج يضع إناء بَيْنَ الرؤساء ليجعل كل منهم فِيهَا مَا تطيب بِهِ نفسه فإذا انتهى ذَلِكَ أخذها صاحبها بما فِيهَا. وهذا الآن فِي عُرف أهل العصر يقال: طوفوا لفلان بطاسة عَلَى الرؤساء. أَوْ نحو هَذَا من الكلام.

قال عبد الغني: وبلغني أن أباه خلَّف مالاً كثيراً فأنفقه وَكَانَ يذهب إِلَى قول مالك وربما اختار.

وقال الخطيب: حدَّث ببغداد، ونزل مصر وحدَّث بِهَا فأكثروا عنه، وَكَانَ ثِقَةً. وولَاّه عمر بن أبي عمر قضاء واسط وأقام بِهَا مدةً طويلةً.

وقال ابن ماكولا: كَانَ آخر من حدَث عن ثعلب وَكَانَ ثقةً ثبتاً كثير السماع فاضلاً.

وقال أبو محمد بن أبي زيد: كَانَ فقيهاً أديباً مُسْنداً لَهُ قدر وجلالة.

وقتال ابن زُولاق: كَانَ كثير الحديث واسع الذاكرة عُنِي بِهِ أبوه، وسَمَّعَهُ. وأول مَا دخل مصر سنة أربعين بعد أن ولي قضاء دمشق لأن أهل دمشق آذوه وكتبوا فِيهِ محضراً وساعدهم كافور، فوردت كتب المطيع بصرفه عن قضاء دمشق، فصُرف أقبح صرفٍ، وقرئت الكتب عَلَى المنبر فِي جامع مصر، وولي عِوَضه الخَصيبيّ فاستمر أبو طاهر بمصرٍ فلمَّا مات الخصيبيّ وولي ابنه ثُمَّ مات ابنه عن قُرْب وبقيت مصر بغير قاضٍ، فُكُلِّك كافور فِي ولاية أبي الطاهر فامتنع، وعيّن عثمان بن محمد بن شاذان قاضي الرَّمْلة بسعاية جعفر بن الفضل الوزير، فشاع بمصر موت عثمان المذكور، فبذل عبد الله بن وليد لكافور ثلاثة آلاف دينار فاجتمع الشهود وأعيان مصر عَلَى الرِّضَا

ص: 327

بأبي طاهر فركِب أبو طاهر إِلَى كافور وهو فِي مجلس المظالم ومعه رجال الخَصيبيّ، فجاءوا قاصدين كافور فصرفه فمضى إِلَى دار نحرير الخادم وعنده الشهود والأعيان، فركِب نحرير إِلَى كافور فكلَّمه فأرسل إِلَى الشهود وقال لهم: اختاروا قاضياً. قالوا: اخترنا أبا الطاهر فإنه جاورنا فما رأينا إِلَاّ خيراً. وأثنى عَلَيْهِ يحيى بن مكّيّ بن رجاء والحسن بن أيوب الصيرفي. فولاّه كافور، فانصرف إِلَى الجامع وتسلم ديوان الحكم والأحباس وباشر بِحُسْن سياسة فأحبه الناس وأَلان لهم جانبه.

وَكَانَ سهلاً فِي الأحكام لا يتشدد لما كَانَ أهل دمشق عاملوه بِهِ، وَكَانَ فِي أحكامه فِي مصر كالمحجور عَلَيْهِ لكثرة جلوس كافور للمظالم فِي كل سبت.

وكان يوقّع إِلَى الشهود، وقبض كافور يده عن الأحباس وتسلّمها منه فِي شوال سنة خمسين وردّ أمرها إِلَى الحسن بن أيوب ويحيى بن مكّيّ. وعدَّل فِي ولايته جماعةً من الأشراف.

ورفعت إِلَيْهِ امرأة أن زوجها أشعر الذَّكَر وأنها لا تُطِيقه فحكم عَلَيْهَا بأن لا تمنعه يوم يتنوَّر ثُمَّ قال لَهُ: تَنَوَّرْ أنت كل يوم إن شئت.

وقال عبد الغني بن سعيد: كَانَ ربما اختار خلاف مالك ومن ذَلِكَ القضاء بشاهد ويمين. وَكَانَ يحكى عن أبيه وإسماعيل القاضي أنهما كانا لا يحكمان بِهِ وَكَانَ إِذَا شَهد الواحد وَلَيْسَ معه غيره ردّ تِلْكَ الشهادة.

قال ابن زولاق: وَلَمْ يزل أبو الطاهر ينظر فِي الأحكام حَتَّى قدِم جوهر بعسكر المُعِزّ فانزعج أهل مصر لذلك، فندب الوزير ابن الفرات أبا جعفر مسلماً الحسينيّ وأبا إسماعيل الزينيّ، وأبا الطاهر القاضي فِي جماعة من وجوه البلد، فخرجوا إِلَى جوهر وكلّموه فِي الأمان، فكتب لهم سِجِلاًّ ورفع قدر القاضي وخلع عَلَيْهِ.

ثم دخل جوهر مصر وأقرّ القاضي عَلَى حاله، لكن ألزمه أن يحكم فِي المواريث يقول أهل البيت وَفِي الطلاق وَفِي الهلال. وَكَانَ القاضي يتراءى هلال رجب وشعبان ورمضان كل سنة بسطح الجامع، فأبطل ذَلِكَ وصار الهلال بالعدد شهراً ثلاثين وشهراً تسعاً وعشرين، فِي الصيام والفِطر وغير ذَلِكَ.

ثم وصل المعز فتلقاه وجوه أهل البلد إِلَى الإِسكندرية، فخلع عَلَى القاضي وحمله

ص: 328

وسايره فِي الركوب وقال لَهُ: كم رأيت يا قاضي خليفةً؟ فقال: واحداً والباقي ملوك. وَكَانَ رأى من العباسيين عشرةً أولهم المعتضد.

وَكَانَ النعمان بن محمد قدِم صحبة المُعِزّ فلم ينظر فِي شيء من الأحكام، مع أن المعزّ كَانَ أشركه مع القاضي. وقدم صحبة المعزّ أيضاً عبد الله بن محمد ابن أبي ثوبان، فولاّه المعز النظر فِي المظالم فتبسَّط فِي الأحكام وسمع الشهادات وسجّل عَلَيْهِ بقاضي مصر والإِسكندرية. وانفرد شهود يشهدون عَلَيْهِ فِي أحكامه كما تقدَّم فِي ترجمته. فقال لَهُ الحسين بن كهمش فِي قصّة جرت: أنت أمرت أن يُكتَب فِي إسجالك قاضي مصر. فهل صرفت أبا الطاهر أَوْ اشتركت معه؟ فأوقِفنا عَلَى سجلّك حَتَّى تستقيم الشهادة عَلَى أحكامك. فبلغ المعز فقال: يُمْضَى مَا حكم بِهِ محمد بن أحمد، فانقطع الشهود عن ابن أبي ثوبان. واعتل فأتى ذَلِكَ عَلَى نفسه فمات ومات النعمان أيضاً. فأمر المعز علي بن النعمان بالنظر فِي الحكم، وَكَانَ يحكم هو وأبو الطاهر ويشهدون عند علي بن النعمان فيما يحتاج فِيهِ إِلَى الشهادة عَلَيْهِ.

فلما ولي العزيز ردّ أمر دار الضرب والجامعَيْن بالقاهرة ومصر إِلَى علي بن النعمان، وَلَمْ يزل الطاهر يتعاطى الأحكام إِلَى أن حصل لَهُ فالج أبطل شِقَّه.

واتفق ركوب العزيز إِلَى الجيزة فِي صفر سنة ستين ولقيه أبو الطاهر عند باب الصّناعة فرآه عَلَى تِلْكَ الهيئة فقال: ما بقي إِلَاّ أن يقدّدوه. وأمره أن يستخلف ولده أبا العلاء. ثُمَّ فِي اليوم الثالث قلَّدَ العزيز علي بن النعمان، وَكَانَتْ مدة ولاية أبي الطاهر ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة عشر يوماً، واستمر بعد صرفه عن القضاء سنة وعشرة أشهر يُكتَب عنه الحديث. وتأخَّرت وفاته إِلَى سلخ ذي القعدة سنة سبع وستين، وعاش ثمانياً وثمانين سنة.

وفي كتاب الغرباء لابن الطحان، أنه مات فِي سنة ثمان وستين وهو غلط من الناسخ. فإن ابن الطحان ثَبْت. وقال: كَانَ ثقة ثبتاً سمعت منه.

وهو الَّذِي ذكرته من صرفه عن الحكم جزم بِهِ ابن زولاق وهو أخبر بحال بلده.

وأما الخطيب فذكر أنه استعفى من القضاء قبل موته بيسير. وكذا مقدار مَا أقام فِيهِ فِي القضاء. وهو من تحرير ابن زولاق.

ص: 329

وقال القطب الحلبي: وجدت بخط عبد الغني بن سعيد أن مدة ولايته ثماني عشرة سنة، وكأنه ألغى الكثير فِي السنة الأولى وَفِي السنة الثانية، لأنه ولي فِي

وصرف فِي صفر.

ويقال إن أبا الطاهر دخل عَلَى كافور فِي مجلس المظالم وهو لابس خُفَّين أحدهما أحمر والآخر أسود، فرآهما كافور عند قيامه فأراه الحاضرين وطيَّر بِهِ، وحمل ذَلِكَ عَلَى عدم اهتباله وقلة تأمُّله وكثرة تفريطه، فبلغه فاعتذر بأنه لبسهما فِي العكس وهو لا يشعرُ، وَكَانَ هو فِي الأصل لا يتأنق فِي مأكل ولا مشرب ولا ملبس.

وذكر علي بن سعيد فِي كتابه جني النحل: أن أبا الطاهر كَانَ فِي خلافة المطيع يلبس السواد ويضع على رأسه دنّيَّة طويلة يزيد عَلَى الدماغ. فتحاكم إِلَيْهِ زوجان فبُدر من المرأة فِي حق زوجها كلام فال لَهَا: اسكتي، هَذَا القاضي هو أبو الطاهر، متى زدتِ من هَذَا المعنى نزع الخف الَّذِي عَلَى رأسه وقطعه عَلَى دماغك. فقال لَهُ أبو الطاهر: قم يَا كذا يَا كذا إِلَى لعنة الله، من أين لَكَ أن هَذَا خُفِّ!.

قال ابن زولاق: تقدم إِلَيْهِ رجل بامرأة يجحد ابنةً لَهُ منها فكاد يلاعِن بينهما إِلَى أن قُدِّر أن الرجل اعترف بابنته، فأمر بحمله عَلَى جمل والبنت بَيْنَ يديه ونودي عَلَيْهِ: هَذَا جزاء من يجحد ولده.

وجاءت إِلَيْهِ نصرانية أسلمت وَلَمْ يُسلم زوجها ولهما ولد صغير فقال: لا يصير مُسلِماً بإسلام الأم: فأنكر الناس ذَلِكَ فضجُّوا، فقيل: إن مذهب أهل البيت أنه يصير مُسلماً وهو قول الشافعي. فحكم بإسلامه، فدعا لَهُ الناس وأعجبهم حكمه. وَلَمْ يحكم بمصر أحد ممّن ولي قضاءها ممَّن كَانَ قضى ببغداد غير يحيى بن أكثم وهذا، إِلَاّ أن ابن أكثم مَا قضى بمصر إِلَاّ قليلاً جدّاً لما كَانَ مع المأمون.

قال الخطيب: كَانَ أبو الطاهر قَدْ ولي القضاء بمدينة المنصور.

ص: 330

محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الكناني أبو بكر الحداد المصري الفقيه المشهور شافعي من المائة الرابعة.

وُلد لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين ومائتين. وذلك حين مات المُزَنيّ.

واشتغل فِي الفقه ففاق الأقران ولازم أبا عبيد وتدرَّب بِهِ فِي معرفة الأحكام.

وسمع الحديث من أبي يزيد القَرَاطِيسِيّ، وعمر بن عبد العزيز بن مِقْلَاص، وأبي الزِّنْبَاع روْح الفرج، ومحمد بن جعفر بن أعين، وعبد الله بن محمد الخفَّاف، وأبي عبد الرحمن النَّسائيّ فأكثر عنه ولازمه.

روى عنه أبو محمد ابن زولاق، وأبو منصور الباورديّ وهو من أقرانه وكتب عنه غالب مصنَّفاته.

قال ابن يونس: كَانَ فِيهِ بَأْوٌ وفصاحة لسان، وَكَانَ يحسن النحو والفرائض ويدخل عَلَى السلاطين، وَكَانَ حافظاً للفقه عَلَى مذهب الشافعي كثير الصلاة متعبداً، وولي القضاء بمصر خلافة عن ابن هَرَوَان قاضي الرملة.

وقال أبو محمد ابن زولاق: كَانَ فقيهاً متعبّداً يحسن علواً كثيرة، منها: علم القرآن، وعلم الحديث، والأسماء والكنى، والرواة، والنحو واللغة، واختلاف العلماء، وسِيَر الجاهلية، وأيان الناس، والأنساب، ويحفظ شعراً كثيراً، وينظم ويختم فِي كل يوم وليلة ختمةً. قائماً فِي صلاة ويصوم يوماً ويفطر يوماً ويقرأ القرآن فِي ركعتين يوم الجمعة قبل الصلاة. وَكَانَ حسن الثياب رفيعها حسن المركوب طويل اللسان غير مطعون عَلَيْهِ فِي قول ولا فعل مجمعاً عَلَى صيانته وطهارته، وَكَانَ من محاسن مصر حاذقاً بعلم القضاء حسن التوقيعات.

ص: 331

وكان أول مَا ولي القضاء فِي شوال سنة أربع وعشرين وثلاثمائة بأمر الإِخشيد محمد بن طُغْج بعد صرف أبي محمد عبد الله بن أحمد بن ربيعة بن زبر وَكَانَ القاضي يومئذ ينظر فِي المظالم ويوقّع فِيهَا، فنظر فِي القضاء خلافةً لحسين ابن أبي زُرعة وترك الحسين النظر فِي الحكم أصلاً. فكان ابن الحداد يجلس فِي الجامع وَفِي داره وَفِي دار ابن أبي زُرعة ويوقّع فِي الأحكام والأنكحة ويكاتب خُلَفاء النواحي. وَكَانَ ابن أبي زُرْعة يواصل ابن الحداد بالعطايا وبلغه أنه بنى داراً فأرسل إِلَيْهِ ثلاثمائة دينار معونةً.

ودخل عَلَيْهِ وبيده قطعة عنبر يشمُّها فناولها لَهُ فشمَّها وردّها فلم يقبَلْها.

ووقعت بينهما مغاضبة فانقطع ابن الحداد عنه حَتَّى سعى أبو محمد الحسن ابن طاهر بينهما حتى اصطلحا.

وقال ابن أبي زُرعة: مَا كَانَ لَنَا بُدّ من نصيب يُشير إِلَى حدة خلق ابن الحداد.

قلما توفي ابن أبي زرعة ولَّى الإِخشيد قضاء مصر لمحمد بن بدر ثُمَّ ولَّى ابن الحدّاد القضاء بمصر مرّة ثانية بعد صرف محمد بن بدر خلافة للحسين بن هَرَوَان وذلك فِي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وخرج الحسين من مر واستمرّ ابن الحدّاد.

وَكَانَ محبباً إِلَى الناس وأرسل إِلَيْهِ الحسين قبل أن يسافر هديَّة تساوي ثلاثمائة دينار وحضر ابن الحداد بطيلسان أسود وعمامة سوداء، واتفق أنه حكم بشهادة واحد ويمين طالب الحق، وكان الشاهد من شهود أبي عبيد فضرب أبو بكر عَلَى فَخِذه وقال: قَدْ حكمتُ بشهادتك وحدك وليست لأحد بعدك. واختص بمجلس ابن الحداد أربعةٌ يجلسون عن يمينه وعن يساره، منهم: سليمان ابن رُسْتُم، وأبو الحسن بن رجاء، والحسين بن كهمش.

وكان قوالاً بالحق، ماضي الأحكام، ويُكرمه كثير من الناس بسماع كلامه وبديع أحكامه، وَكَانَ يتشبَّه بقضايا أبي عبيد ويحكيه فِي أقواله، وَلَمْ يزل مستقيم الأحوال ماضي الأفعال إِلَى أن وصل كتاب الإِخشيد من دمشق لمحمد بن علي بن مقاتل أن يسلّم القضاء لعبد الله بن وليد. وصُرف الحسين وهَرَوَان. وَكَانَتْ ولاية أبي بكر الثانية تسعة أشهر.

ص: 332

واستمرَّ ابن الحداد عَلَى رياسته لا تُعمل فِي البلد قضية حَتَّى يُراجع فِيهَا فيُفتى فِيهَا أَوْ يُشير بالرأي، وشقّ عَلَيْهِ مع ذَلِكَ عزله عن الحكم، فبلغ ذَلِكَ الحسين بن هَرَوَان وكتب إِلَى ابن الحداد كتاباً حلف لَهُ فِيهِ: بالله لأدعنَّ عبد الله بن وليد يُضَرب فِي مجلسك بَيْنَ يديك بالسوط بعد قيام البينة بما نُسب إِلَيْهِ. فلم يتمّ لَهُ ذَلِكَ. وقُدّرت وفاة الحسين واستمرّ ابن الحداد إِلَى أن ولي عمر بن الحسن العباسي فاستخلفه فِي الأحكام، فكان يجلس فِي دار العبّاسيّ يومي الخميس والسبت وفي دار نفسه يوم الاثنين. وإذا حجَّ العباسيّ يجلس بالجامع كما مضى فِي ترجمة عمر بن الحسن العباسي. قلما ولي الخَصيبيّ كَانَتْ بينهما منافسات ومعارضات.

قال ابن زولاق فِي أُمراء مصر: حضر ابن الحداد يوماً مجلس كافور فِي المظالم والقاضي يومئذ الخصيبي، فعارضه أبو بكر ابن الحداد فِي شيء فقال لَهُ: كم تُعارضني! وواحد مثلي لا يوجد ومائة ألف مثلك عَلَى المزابل! فتألم ابن الحداد من ذَلِكَ فاتَّفق أنه عارضه مرة أخرى وقال: إِلَى كم تُعارضني. فقال: أعارضك إِذَا أخطأت وأدق عُنُقك. وحسر أبو بكر عن ذراعه فأظهر كافور إنكار ذَلِكَ، فسعى الخصيبي أن يحجب ابن الحداد وأعانه قوم عند كافور، فسفر نحرير الخادم فِي ابن الحداد عند كافور واستأذن لَهُ، فأذِن لَهُ بعد تَمَنُّع فقال: أَيُّها الأستاذ، هَذَا الشيخ أبو بكر الفقيه الفاضل المتقن. فقال كافور: والخصيبي أيضاً من أهل العلم. فقال: أَيُّها الأستاذ ولا سَوَاءَ. هَذَا الشيخ عالم وقته، وهو الَّذِي يُتَجَمَّل بِهِ. والخصيبي خاطب الشيخ بما لا يصلح. فقال كافور: وَقَدْ خاطبه الشيخ أيضاً بما لا يصلح. فاغتاظ ابن الحداد وقال مُتَمَثِّلاً:

فلو كنت ضَبّيّاً عرفتَ قَرابتي

فبادر أبو محمد كاتب كافور يده عَلَى فم ابن الحداد ومنعه أن يتمّ البيت وهو:

ولَكِنَّ زَنْجِيّاً عَظِيمَ المَشَافِرِ

وهو من شعر الفرزدق: فقام ابن الحداد وانصرف وتأخَّر نحرير. فقال كافور: أيش قال الشيخ؟ شتمني؟ فقال لَهُ: لا. وَلَمْ يقم نحرير من عند كافور حَتَّى قرّر أنّ ابن الحداد يحضر المجلس بعد أن قال لَهُ نحرير: أَيُّها الأستاذ لَيْسَ الشيخ ممن يتجمّل بالحضور بل الشيخ بحضوره يجمّل وتَأَخُّرُهُ عظيم يُكتب بِهِ إِلَى الآفاق فتحصل

ص: 333

الشفاعة. فقال لَهُ كافور: مَا حجته. وتقدّم بإكرامه وأن يرسل إِلَيْهِ بشيء، وتعصَّب الوزير جعفر بن الفرات لابن الحداد وعاد إِلَى حضور المجلس.

قال ابن زولاق: وَكَانَ ابن الحداد لسَعَةِ علمه وكثرة حفظه إِذَا حضر المجلس لا يكاد يتكلم إِلَاّ بما تقدم إِلَيْهِ عالم، لأنه كَانَ كثير التحرز صيّناً عفيفاً كثير الديانة يحاسِب نفسه بل أنفاسه. وَكَانَ الخصيبي يتوسع فِي الكلام بما اختار من غير تحفُّظ، فيُنكر عَلَيْهِ ابن الحداد. فطال عَلَى ابن الحداد الأمر فِي ولاية الخصيبي حَتَّى قال مرَّةً: اصرفوا الخَصِيبيّ ولو بابن مرحبا. يشير إلى طبيب كَانَ بمصر.

قال ابن زولاق: وحضر ابن الحداد جنازةً فِيهَا غالب أهل البلد، فلما قعدوا فِي المصلّى لَمْ يحضر ابن وليد، فالتفت ابن الحدَّاد إِلَى بعض أتباعه فقال لَهُ: امضِ إِلَى محمد بن وليد فقل لَهُ:

يَا بيت عاتكة الَّذِي عنّا انعزلْ

حَذَرَ العِدَى وبِهِ الفُؤادُ يُوَكَّلُ

إني لأَمنحُك الصدودَ وإنني

قَسَماً إِلَيْكَ من الصُّدود لأميلُ

وتجنُّبي بيت الحبيبِ أزوره

أرضى البغيضَ بِهِ حديثٌ مُعْضِلُ

قال فخرج الناس يتحدثون بهذه القصة. فقال يحيى بن مكي بن رجاء: عندي خطّ ابن الحدَّاد بالطعن عَلَى ابن وليد وأنه غير أهل للقضاء. فقال لَهُ الخصيبيّ: أحضره لي. فأتاه فدفعه لمسبِّح بن عبّاس وقال لَهُ: ظفرت عَلَى من حصف ففعل. فتعصب أتباع ابن الحداد وسبُّوا مُسبِّحاً ووثبوا بِهِ فجاء إِلَى الخصيبي فقال: أنا رجل غريب وَمَا جرى عليّ قليل. وأعاد لَهُ الخط. فبلغ ابن الحداد فأطلق لسانه فِي ابن رجاء وقال: إنما سُئلت عن قاضٍ يفعل كذا وكذا فأجبت أنه لا يصلح.

قال ابن زولاق: واتفق أن كنيسة أبي شنودة انهدم جانبها، وبذل النصارى مالاً كثيراً ليطلق لهم عمارتها فاستفتوا الفقهاء. فأفتى ابن الحدّاد بهدم عمارتها، ووافقه أصحاب مالك وأفتى محمد بن علي بأن لهم أن يرِمّوها ويعمروها. فثارت العامة بِهِ وهمُّوا بإحراق داره فاستتر، وأحاطوا الكنيسة. فبلغ ذَلِكَ الأمير فاغتاظ، فأرسل وجوه غلمانه فِي جمع كثير، فاجتمع عليهم العوامّ ورمَوْهم بالحجارة، فراسلوه، فأرسل إِلَى ابن الحدّاد فقال: اركب إِلَى الكنيسة، فإن كَانَتْ قائمة فاتركها عَلَى

ص: 334

حالها، وإن كَانَتْ دائرة فاهدمها. فوجَّه ابن الحدَّاد وصُحبته عليّ بن عبد الله بن النّواس المهندس وكثُرَ الزِّحام، فلم يزل يرفق بهم اللفظ ويلين لهم القول ويُعلمهم أنه معهم حَتَّى فتحوا الدروب. ودخل الكنيسة فأخرج جميع من فِيهَا من النصارى وأغلق الباب ودفع للمهندس شمعة. ودخل المذبح وكشفه وقال: يبقى خمس عشرة سنة ثُمَّ يسقط منها موضع ثُمَّ يبقى إِلَى تمام أربعين سنة ويسقط جميعها. فأعاد الجواب فتركها وَلَمْ يعمرها، فلما كَانَتْ سنة ست وستين عُمرت كلها ولو تُركت لسقطت.

قال ابن زولاق: كَانَتْ الإخشيدية كلها تَكْرَه ابن الحدّاد لكراهتهم فِي الشافعية ولغاظته عليهم، وكان كثير التردّد إليهم مع ذَلِكَ، فاتفق أن الإِخشيد الكبير غضِب عَلَى بعض حشمه وهو مقبل المُغَنِّي فحبسه، فسُئل ابن الحداد أن يشفع فِيهِ فشفع فِيهِ فأجابه وقال: أنا أرسله إِلَيْكَ. فأرسل إِلَى مقبل فقال: خُذ العود وتوجَّه إِلَى ابن الحداد فإنِّ لَهُ. فتوجَّه إِلَيْهِ وشكره عَلَى شفاعته، فأخرج العود وقال: قَدْ أُمرتُ بأمرٍ. ففطِن ابن الحدّاد وقال والله مَا سمعته إِلَاّ فِي دور الناس من السطح. فرجع مقبل وحلف للإِخشيد أنه حمل العود منه فوجد ابن الحداد جالساً فِي جمع كثير من العلماء والفقهاء والشهود فخِفتُ عَلَى نفسي، فعذره.

قال أبو عمر الكندي: اعتلّ حمزة بن محمد الكِنانيّ فركِبت أنا وابن الحداد إِلَيْهِ فقال: يَا أبا القاسم، جئتك عائداً وزائراً، وقضيت أن أقعد عندك إِلَى الظهر، وَكَانَ عند حمزة جماعة فجلسوا وأخذ أبو بكر وحمزة فِي المذاكرة فِي الحديث والرجال وَمَا يتعلَّق بذلك من فنّ حمزة، وَكَانَ ابن الحدّاد يفي بالعلوم لا يبقى علم إِلَاّ شارك فه مع حسن المذاكرة إِلَى أن اتَّفق أن قال حمزة: مَا يردُ القيامة أحد بميزان أثقل من ميزان قُحافة لأنَّ أبا بكر فِيهِ. فقال أبو بكر الَّذِي أقول: مَا يرد القيامة بميزان أثقل من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أباها فِيهِ. ونهض فانصرف.

قال ابن زولاق: وَكَانَ ابن الحداد إِذَا صلَّى عَلَى جنازة يطيل القيام فِي التكبيرة الآخرة حَتَّى يجاوز مَا نقل عن الشافعي.

قال عبيد الله بن عبد الكريم. فتسمَّعتُ عَلَيْهِ فسمعته يقول: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) إلى قوله: (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .

ص: 335

وحدَّث ابن الحداد بكتاب خصائص عليّ للنَّسائي عنه، فحكى أنه كَانَ فِي مجلس أبي القاسم ابن الإِخشيد مع جماعة فلما نهضت أمسكني فقلت: أحاجةً؟ فقال: نعم. أيّما أفضل أبو بكر وعمر أَوْ عليّ. فقلت: اثنان حِذاء واحد.

فقال: فأيما أفضل أبو بكر أَوْ علي؟ فقلت: إن كَانَ عندك فعليّ، وإن كَانَ بَرّاً فأبو بكر. قال ابن زولاق: وهذا أعجب مَا بلغني عنه فِي ذَلِكَ.

قال: ويُشبه هَذَا مَا بلغني عن محمد بن عبد الحكم أن رجلاً سأله فاستعفاه، فأبى، فقال لَهُ: إن أخبرتَ أحداً عمَّا أقول لَكَ كلَّمتُ أحمد بن طولون فضربك بالسياط عَلِيَّ أفضل.

وَكَانَتْ ولاية ابن الحداد الأولى كما ندّم من جهة الإِخشيد خلافة للحسين ابن أبي زُرْعَة. وَكَانَ ينظر فِي المظالم ويوقّع فِيهَا. ورُميت فِي ولايته عدّة رقاع فِي الجامع منها رقعة فِيهَا أبيات شعر وهي:

قولوا لحدَّادِنا الفَقِيه

العَالِم الماهِر الوَجِيهِ

ولِيتَ حُكماً بغير عهدٍ

وغير عقد نظرتَ فِيهِ

ثم أبحتَ الفُروجَ لمَّا

وقَّعتَ فِيهَا عَلَى البَديهِ

هذي فَعالٌ حملتَ فِيهَا

وِزْرَكَ مع وِزِر مَنْ يليهِ

وهل ترى ذا ولست فِيهِ

بجَائزٍ من مُخَالِفيهِ

أنكرتَ حالاً من ابن عمرو

مَا أنْتَ فِيهِ ومُرْتَضِيهِ

وخُنْتَ عَهداً والله ربّى

لناقض العهد مُبْتليهِ

والمكرُ فِي الناس داء سُوء

والعُجْب أيضاً لمرتديهِ

لكنَّهُ فيك عير نفيّ

للأمر والنهى يَشْتَهِيهِ

وأجاب جماعة من المصريين عن هَذِهِ الأبيات وَلَمْ يكن ابن الحدّاد اطلع عَلَيْهَا، فلما سمع الأجوبة أنكر تواتر القافية، فبحث عن ذَلِكَ إِلَى أن عرَّفوه بالحال. وَكَانَ من جملة مَن أجاب عنه محمد بن الوجيه بقصيدة جاء منها:

مَا ضَرَّ نَارَانَ وهو طامٍ

أن مَرّ كلبٌ فَبَالَ فِيهِ

ونسبوا إِلَى ابن الحداد أنه رفع لَهُ حكم عن ابن حماد فأنشد:

لستُ ابن حمَّاد ولا ابن زَبْرِ

ولا السَّرَخْسي ولا ابنَ بَدْر

فبلغه ذَلِكَ فقال: لعنة الله عَلَى أول من قالها.

ومدحه أحمد بن محمد الكَحَّال بقصيدة يقول فِيهَا:

كالشَّافعي تَفَقُّهاً والأَصْمَعِي

تَفَهُّماً والتابعين تَزَهّدا

وبلغ الأبيات محمد بن موسى المعروف بِسِيبوَيْه فمدح ابن الحداد بقصيدة جاء منها:

ص: 336

مَا يضرّ البحر أمسَى زاخراً

أَن رَمَى فِيهِ صَبّى بِحَجَرْ

قال ابن زولاق: وصار ابن الحداد من ولاية الخصيبي فِي كرب شديد. فاتَّفق أن جعفر بن الفرات تأهب للحج وَقَدْ غاب الإِخشيد ونحرير الخادم عن البلد، فاغتنم ابن الحداد الفرصة وتجهز للحج فركب محمله وهو يقول: قَدْ تركت مصر للخصيبي.

وسُمع وهو سائر يقول: اللهم لا تُمِتْنِي فِي دار غُرْبة. فاتفق أنه لما رجع توعَّك فِي الطريق فاستمرَّ فِي ضعفه إِلَى أن دخل من أبواب المدينة فمات وهو سائر فِي المحمل فِي الأرض الَّتِي بُنيت فِيهَا القاهرة، فصُلي عَلَيْهِ فِي مصر، ودُفِن فِي القرافة وقبره معروف.

قال ابن زولاق: مات فِي صفر سنة أربع وأربعين.

وقال ابن خلِّكان: مات فِي المحرم سنة خمس وأربعين. وابن زولاق أَعرف بِهِ فإنه ذكر أن مولده فِي رمضان سنة أربع وستين: وقال فِي آخر ترجمته: عاش تسعاً وسبعين سنة وخمسة أشهر، فهذه المدة مطابقة لِطرفي كلامه وهو تلميذه وبلديّه بخلاف ابن خلكان.

ص: 337

محمد بن أحمد بن قاسم بن زيد الصقلي ويلقب بالرشيد عماد الأحكام، وقيل هو محمد بن قاسم. وقيل: أحمد بن قاسم. وهو أثبت. فقد ذكره القاضي الرشيد أحمد بن الزبير فِي كتاب جنان الجنان، وأنشد لَهُ مديحاً فِي الأفضل تقدم ذكره فِي أخيه قاسم. ولي بعد نعمة الله ابن الجليس.

محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسي القاضي شمس الدين ولد سنة

وقدم الديار المصرية، فشهد فِي بعض المراكز ورافق المجد إسماعيل، وتقدم فِي الفقه ومعرفة الشروط، وناب فِي الحكم، وترقت بِهِ الأحوال.

ولما مات ابن منصور عَيَّنَه القاضي أوحد الدين كاتب السر فاستقر فِي ثاني عشري ربيع الآخر سنة ست وثمانين وسبعمائة. فباشر بعفة ونزاهة وصرامة وشدة وعفة. وتوفر عَلَى يده من أوقاف الأسرى مَا صيّره حاصلاً للوقف فأكثر من ثلاثة آلاف دينار بعد أن اشترى من الفائض ريعاً ووقفه، وجعل مصرفه مصرف الأصل.

وكانت لَهُ صولة عَلَى الشهود وكتّاب الحكم، لا يمشي عَلَيْهِ قضية من القضايا فِيهَا تدليس ولا دَسِيسة.

وصُرِف بالمجد إسماعيل فِي رمضان سنة اثنتين وتسعين. وَكَانَ إسماعيل نائباً عنه، فوقعت بينهما وحشة فعزل إسماعيل نفسه. وأراد أن يعتكف العشر الأخير من رمضان بالطَّيْبَرسِيّة. فجاءته الولاية فِي اليوم الثاني فخرج من معتكفه واستمر..

محمد بن أحمد بن أبي دُوَاد الإِيادي أبو الوليد.

قال

لما فُلج أحمد بن أبي دُوَاد فِي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ولي

ص: 338

المتوكل ولده أبا الوليد القضاء مكان أبيه والمظالم، فلم يزل إِلَى أن عزله ووكل بضياعه وضياع أبيه، ثُمَّ صولح عَلَى ألف ألف دينار، وأشهد عَلَيْهِ وَعَلَى أبيه ببيع تِلْكَ الضياع لأمير المؤمنين، وأخرجهما فِي سُرَّ مَنْ رَأَى إِلَى بغداد. إِلَى أن مات أبو الوليد ومات أبوه بعده بدون الشهر فِي أول العشر الأخير من المحرم سنة أربعين ومائتين.

محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن السُّلمي المَنَاوي صدر الدين أبو المعالي، شافعي من المائة التاسعة.

ولد فِي شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين، واشتغل بالفقه فِي صباه، وحفظ التنبيه وغيره. وأسمِع عَلَى ابن عبد الهادي، والمَيْدُومي، ومن بعدهما. وخرج لَهُ الحافظ ابن زرعة مَشْيَخَة فِي خمسة أجزاء سمعتها عَلَيْهِ. وسمعتُ عَلَيْهِ غيرها. وولي نيابة الحكم قديماً. وسكن مصر قاضياً بِهَا منفرداً. لكنه نائب.

فلما كَانَ فِي سلخ شوال سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ولي المنصب فِي زمان مِنْطَاش. وحضر معه جمع كثير من الأمراء والأعيان وفرح الناس بِهِ لأنه كَانَ عارفاً بالأحوال لد دُرْبَةٌ بالأحكام مع حسن ملتقاه وتأليفه القلوب عَلَى محبته. وَكَانَ شكلاً مهيباً مع كثرة المباسطة والمفاكهة مع خواصه. متنعماً من المأكل والمشرب والمنكح والملبس، وَقَدْ ولي تدريس المنصورية بعد الشيخ ضياء الدين وكذلك الشيخونية.

وصنف تخريج أحاديث المصابيح وحدث بِهِ، وسمعْت عَلَيْهِ بعضه، وشرع فِي شرح جامع المختصرات، فلم يزل فِي الولاية إِلَى أن التمس منه منطاش اقتراض مال الأيتام فامتنع، فتهدده وتوعده، فأصرّ عَلَى المنع، فبلغ ذَلِكَ ابن أبي البقاء فبذل مَا التمس منه. فعزل الصدر بعد أن كان العسكر خرجوا لقتال برقوق لما بلغهم خروجه من الكرك. فرجع الصدر من مخيمه إِلَى منزله واستقر بدر الدين ابن أبي البقاء وذلك فِي سابع عشر ذي الحجة من السنة فكانت ولايته سنة وأربعين يوماً.

ثُمَّ أعيد المناوي بعد صرف الكركي فِي ثاني المحرم سنة خمس وتسعين وسبعمائة ثُمَّ التمس منه الظاهر أن يقرضه مَا فِي المودع لما عزم عَلَى السفر إِلَى حلب فامتنع أيضاً، فسعى البدر ابن أبي البقاء ثانياً فأجيب، وصرف المناوي أيضاً من المخيم

ص: 339

فِي ثالث عر ربيع الآخر سنة خمس وتسعين. واستقر ابن أبي البقاء وخلع عَلَيْهِ فِي المخيم، ثُمَّ أعيد الصدر فِي حادي عشر شعبان سنة سبع وتسعين. فسار عَلَى سيرته إِلَاّ أنه تعاظم فِي هَذِهِ الولاية الثالثة.

واستمر إِلَى أن غضب منه الظاهر بسبب قضية سأله فِيهَا فأغلظ فِي الجواب فاحتمله، وسأل عن أحوال نوابه فوصف لَهُ التقي الزبيري فعرفه، فقرره فِي الحكم فِي جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وسبعمائة، فباشر مباشرة حسنة إِلَى أن صرف فِي خامس عشر شهر رجب سنة إحدى وثمانمائة.

وأعيد الصدر المناوي فكان لَهُ يوم مشهود، إِلَاّ أنه لما وصل إِلَى باب الصالحية سقطت عمامته، فصادف بعد استقراره موت الظاهر فِي شوال من السنة، ثُمَّ سار صحبة العسكر لقتال نائب الشام تَنَم، فحصل النصر، وعظم قدر القاضي لأن السلطان جعله من أوصيائه، وَكَانَ فِي هذه السفرة بزي أكابر الأمراء من كثرة الغلمان والحشم والخدم والخيام، فلما رجع رجع فِي صورة الملوك لا يلتف لأحد ولا يأذن لأحد من الشهود وغيرهم فِي الجلوس، بل يؤدون شهادتهم وهم قيام عَلَى أرجلهم.

ثم بعد رجوعهم بقليل فِي أول سنة ثلاث وثمانمائة ورد الخبر بطَرْق اللنكية البلاد الشامية، فتجهز العسكر لقتالهم، فخرجوا فِي سنة ثلاث وثمانمائة، فلما انهزم العسكر المصري من اللنكية أسِرَ القاضي صدر الدين، فبلغ اللنك فاستحضره فدخل وعليه ثوب قصير وهو فِي حبل، فقال لَهُ: يَا قاضي، أنا كافر، تنادي عليّ فِي بلدكم أني كافر وقتالي واجب! فأنكر. فقال: تحلف وأقيم عَلَيْكَ البينة ثُمَّ أقطع رأسك وآمر أن يلقى إِلَى الفيلة.

فحكى القاضي جمال الدين ابن الكشك أنه كَانَ حاضراً هو وقضاة دمشق قال: فقمنا فأكببنا عَلَى يديه حَتَّى صرفه، ثُمَّ ادعى شخص أنه من ذرية خليفة بغداد، فأحضر اللنك قضاة دمشق والصدر المناوي، فجلس الصدر فوقهم فأمر بِهِ اللنك فأقيم وأجلس تَحْتَ نواب قضاة دمشق. وقال لَهُ: المسخوط عَلَيْهِ لا يجلس فَوْقَ أحد. قال فكنت أمرّ بِهِ وهو فِي غرفة محتفظاً بع فكان يناديني فأطلع إِلَيْهِ وأتحدث معه.

واتفق أن اللنك أمره أن يكتب إِلَى الناصر فرج كتاباً يأمره فِيهِ بإطلاق أَطْلَمِش قريب اللنك وكان محبوساً بالقلعة من عهد الظاهر. فقال لَهُ الصدر: لستُ فِي هَذِهِ المرتبة، وإنما أكتب إليهم أشفع فِيهِ فقال لَهُ: كذبتَ هَذِهِ كتبهم إليّ أنه لَيْسَ فِي دولتهم

ص: 340

بأعظم منك. وأخرج كتاباً فِيهِ وصف الصدر بذلك وأزيد. وأمر بتقييده والزيادة فِي إهانته. فلما رحلوا من دمشق استمر مأسوراً إِلَى أن مرّوا بنهر الزاب، فيقال إن البغل الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عثر فِي النهر فسقط الصدر وهو مقيد فغرق. فبلغ اللنك ذَلِكَ فاتهم الموكل بِهِ أنه ارتشى منه وأطلقه. وأخذ فِي التفتيش عَلَيْهِ حَتَّى استخرج من آخر النهر وَقَدْ تغير وجهه، وتمعَّط شعر لحيته، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أواخر شهر رمضان سنة ثلاث وثمانمائة، فأكمل إحدى وستين سنة.

محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر الإسماعيلي ثُمَّ الصالحي أبو بكر المقدسي، ابن أخي الحافظ عبد الغني صاحب العمدة، حنبلي من المائة السابعة.

ولد فِي رابع عشر صفر سنة ثلاث وستمائة، وعني بالعلم، فأحضر علي ابن طَبَرْزَدَ عدة أجزاء، وسمع عَلي الكندي، والحرستاني، وابن مُلاعب، والشيخ الموفق ومَن بعدهم.

وسمع ببغداد من الفتح ابن عبد السلام والموجودين إذ ذَاكَ فأكثر، وخرّجت لَهُ مَشْيَخة فِي عشرة أجزاء عَلَى حروف المعجم. وحدث بِهَا إِلَاّ الأخير.

وأخذ الفقه عن الشيخ الموفق وغيره، وأقام ببغداد مدة يشتغل، وتزوج بِهَا ورزق أولاداً، ثُمَّ تحوّل إِلَى مصر بعد الأربعين إِلَى أن صار شيخ المذهب علماً وصلاحاً وعلو إسناد.

روى عنه الدمياطي، والشريف الحسيني، ومسعود الحارثي، وعبيد الإِسْعردي، والبدر الفارقي، والقطب الحلبي، وآخرون.

قال القطب فِي تاريخه: سمعتُ عَلَيْهِ صحيح مسلم، ومعجم شيوخه إِلَاّ الجزء الأخير، فإن المنية أدركته قبل أن يحدث بِهِ.

وقال التَّقِيّ عُبَيد: كَانَ مشهوراً بمكارم الأخلاق وحسن الطريقة. وولي قضاء القضاة لما قررت المذاهب أربعة وأفتى ودرس.

وقال البرزالي: كَانَ حسن السمت، وضيء الوجه، منور الشيبة، لَهُ معرفة بالفروع والأصول، مع كثرة البر والصلة، والعبادة، والتواضع، والتودد.

ص: 341

وقال القطب الحلبي: كَانَ سخيّاً، كريمَ النفس، حسنَ الصورة والأخلاق، كثيرَ الصمت، جليلَ القدر، من بيت العلم والزهادة، مع معرفة المذهب. وولي القضاء، ومشيخة الخانقاه السعيدية.

وقال الذهبي: كَانَ إماماً محققاً كثير الفضائل والصلاح مليح الشكل.

وقال القطب اليونيني: كَانَ من أحسن المشايخ صورة مع الفضل والدين والكرم وسعة الصدر، قال: وهو أول من درس من الحنابلة بالصالحية، وأول من ولي قضاء القضاة وتولى مشيخة الشيوخ بخانقاه سعيد السعداء، قال: وَكَانَ الصاحب بهاء الدين يتحامل عَلَيْهِ ويُغْرى بِهِ الملك الظاهر، وَكَانَ لا يلتفت إِلَيْهِ ولا يخضع لَهُ.

وكانت ولايته القضاء فِي ذي الحجة لما قرر الظاهر بيبرس القضاة أربعة، فلما كَانَ فِي ثاني شعبان سنة سبعين أمر بالحوطة عَلَى داره، وعزل عن القضاء، واستمر مذهبه بغير قاض، وتأخرت وفاته إِلَى يوم السبت فِي ثاني عِشْرِي المحرم سنة ست وسبعين وستمائة، ودفن بتربة عمه، وَكَانَ الجمع وافراً. وَكَانَ السبب فِي محنته أنه نسب ودائع كَانَتْ عنده لأناس ماتوا عن غير وارث فاعتقل بسبب ذَلِكَ سنتين، ثُمَّ أفرج عنه ولزم بيته يدرس ويفتي ويتعبد إِلَى أن مات.

محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم ابن صخر بن عبد الله بن إبراهيم بن أبي الفضل الكناني الحموي قاضي المسلمين بدر الدين أبو عبد الله الشافعي من المائة الثامنة.

ولد فِي سنة تسع وثلاثين وستمائة بحماة ونشأ بِهَا، وَكَانَ والده يسلك طريق الزهاد وينتمي إِلَى الشيخ أبي البيان نَبَأ بن محمد بن محفوظ القدوة المشهور، ولذلك كَانَ ابن جماعة المذكور ينسب بيانياً. ومات أبوه إبراهيم فِي ذي الحجة سنة خمس وسبعين بحماة.

ص: 342

واشتغل ببلده، ثُمَّ قَدِمَ دمشق، فأخذ عن النووي، والتقي ابن رَزِين، وجمال الدين ابن مالك، وغيرهم فِي عدة فنون. وسمع الحديث بحماة والشام ومصر من جماعة منهم: والده، وأحمد بن عبد الدائم، وابن عزّون، وابن أبي اليسر، والرشيد العطار والرَّضِيّ ابن البرهان، وابن علاّق، وشيخ الشيوخ بحماة، وأجاز لَهُ الرشيد بن مُسْلِمَة، ومكي بن علان فِي آخرين.

وخرج لَهُ البرزالي مشيخة، وتصوف وتنزل فِي الخوانق، ثُمَّ ولي قضاء القدس والخطابة فِي سنة سبع وثمانين. قلما وقع بَيْنَ القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز وبين الوزير ابن السلعوس، وتمالأ الوزير عَلَى القاضي فِي سلطنة الملك الأشرف خليل عَلَى مَا تقدم فِي ترجمته، وَكَانَتْ بينه وبين ابن جماعة صحبة لما كَانَ بدمشق، عينه للقضاء، واستقدمه عَلَى خيل البريد فِي سلطنة الأشرف خليل فِي ثاني عشر شهر رمضان سنة تسعين وستمائة.

فلما وصل بدأ بالسلام عَلَى الوزير وأفطر عنده، وذلك فِي تاسع عشر رمضان فجمع بينه وبين الأشرف فولاه الإقليمين، ثُمَّ أفطر فِي تِلْكَ الليلة أيضاً عند الوزير وخاطبه بقاضي القضاة وصرح بعزل القاضي تقي الدين، وأرسل إِلَى القاضي بدر الدين الخلعَة والتقليد، فأصبح يحكم بَيْنَ الناس يوم الجمعة.

ثم أضيفت إِلَيْهِ خطابة الجامع الأزهر، فلبس الخلعة، وركب إِلَى بيت الوزير ثُمَّ إِلَى الجامع فخطب، ثُمَّ أمر لَهُ بتدريس الصالحية فانتقل إِلَيْهَا ودرّس بِهَا، فلما كَانَ الجمعة المقبلة، أمر الأشرف أمير المؤمنين الحاكم أن يخطب بِهِ فخطب، فلما نزل من المنبر أمر القاضي أن يصلي بهم الجمعة ففعل، وذلك بالقلعة، واستمر القاضي يخطب بالقلعة واستناب فِي الجامع الأزهر صدر الدين ابن شيخه القاضي تقي الدين ابن رزين.

فلما قُتل الأشرف، وقُبض عَلَى ابن السلعوس، صرف البدر، وأعيد القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز، وذلك فِي أول المحرم سنة ثلاث وتسعين.

ورحل القاضي بدر الدين إِلَى الشام عَلَى قضائها، فاستمر إِلَى أن أعيد إِلَى قضاء الديار المصرية بعد موت الشيخ تقيّ الدين ابن دَقيق العيد، وذلك فِي شعبان سنة اثنتين وسبعمائة.

فشغر منصب القضاء من صفر إِلَى شعبان. فاستقر إِلَى أن رجع الناصر من

ص: 343

الكرك، فصرف فِي صفر سنة تسع وسبعمائة. ثُمَّ أعيد بعد سنة وشهرين فِي العشرين من ربع الآخر سنة عشر وسبعمائة، فاستمر إِلَى أن كف بصره، فشق عَلَيْهِ مفارقة المنصب فصنف جزءاً فِي صحة ولاية الأعمى، وسبقه إِلَيْهِ أبو سعيد ابن أبي عصرون بدمشق، ثُمَّ تلاه القاضي شرف الدين البارزي بحماة.

ونُمِيَ إِلَى الملك الناصر أن القاضي أضر وهو يكتم ذَلِكَ، وَكَانَ ذا حضر الموكب يقدمه نقيبه فيمشي عَلَى حسه، فأمر مرة بمنع نقيبه من المشي أمامه ففعل، فعثر فِي طرف الإيوان. فعرف الناصر الحال، فدس عَلَيْهِ من يعرفه أن يطلب الاستعفاء ففعل، فأعفي وبقيت معه عدة وظائف. وَكَانَ ذَلِكَ فِي عاشر جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبعمائة.

وتأخرت وفاته بعد ذَلِكَ ست سنين وهو منقطع بمنزله بشاطئ النيل جوار الجامع الجديد، وَكَانَ قَدْ ولي خطابته وإمامته منذ فتح، واستمر بيد ذُرّيته نحواً من مائة سنة.

ووصف بأنه كَانَ قابض اليد عمّن يقصده ويستعينه، فسئم الناس منه لطول ولايته، وصار هو غير مكترث بأحد لأمنه ممن يسعى عَلَيْهِ.

فاتفق أنه كَانَ متوجهاً إِلَى درس الخشابية فصدفه شيخ عتيق من أهل مصر، فقال: اللهم أزِلْ عن المسلمين مَا يكرهون. فقال القاضي بدر الدين: آمين، اللهم آمين. ثُمَّ قال لشخص معه: إن هذا قصدني بدعائه، فسمعه الشيخ فقال: لا والله يَا مولانا. فقال: بل الأمر كما أقول لَكَ: فإن الناس طالت عليهم مدتي، وبَعُدَ عهدهم بقاضٍ جديد وحاشية جديدة.

وكان القاضي كثير الاحتمال، فلم يصل للرجل منه مكروه.

ودخل إِلَيْهِ البصير الحمامي وَكَانَ لَهُ مرتب عَلَى الأحباس فسأله أن يصرفه لَهُ فامتنع، فغاب أياماً ثُمَّ دخل إِلَيْهِ ومعه درج طويل فِيهِ نحو عشرين زجَلاً أوله:

قاضي القضاة المفدّى

ذو الكائنات المطاعهْ

سألته عن أبيه

فقال: أنا ابن جماعهْ

وشرع يقرأ من الدرج فأمره بالسكوت، وصرف لَهُ من عنده شيئاً فأخذه وانصرف بالدرج معه.

ص: 344

وَكَانَتْ لَهُ مشاركة فِي أكثر العلوم، وَلَهُ فِيهَا تصانيف لطاف، واختصر عدة تصانيف منها: علوم الحديث لابن الصَّلاح وغَيَّر ترتيبه وسماه المَنْهلَ الرَّوي،، واختصر مبهمات القرآن للسُّهيلي وزاد فِيهِ أشياء كثيرة، أظنه لخصها أيضاً من ذيل ابن عساكر. وكذا صنع فِي مناسبات أبواب البخاري، أخذ كتاب ناصر الدين ابن المُنَيِّر فاختصره اختصاراً بالغاً وَلَمْ ينسبه إِلَيْهِ، لكنه هو بعينه لَمْ يزد فِيهِ سوى شيء يسير.

وله تصانيف أخرى فِي عدة فنون حَتَّى فِي الهيئة والهندسة، وَلَهُ نَظْم كثير أورد منه ولده عز الدين فِي معجم الأدباء كثيراً. وخرج لنفسه أربعين تساعية، وخرج لَهُ البرزالي مشيخة فِي مجلدة سمعناها عَلَى حفيده شرف الدين بسماعه منه. ودرس فِي الإِقليمين فِي عدة جهات، وَكَانَ يعجبه أن يقيم بدمشق أَوْ القدس وَفِي ذَلِكَ يقول:

يَا لهفَ لن تدوم خطابتي

بالجامع الأقصى وجامع جِلَّقِ

مَا كَانَ أهنَى عيشنا وألذّهُ

فِيهَا وذاك طرازُ عمري لو بَقِي

الدين فِيهِ سالم من هَفْوَةٍ

والرزق فَوْقَ كفاية المسترزِقِ

وذكره القطب الحلبي فِي تاريخ مصر فقال: ودرّس فِي عدة مدارس، وولي مَشْيَخَة الخانقاه لمعرفته بطريق القوم، وَلَهُ معرفة بالتفسير والفقه والحديث وَلَهُ تصانيف مفيدة، وأفتى سنين كثيرة، وخطب بدمشق وبالقدس، وفيه رياسة وتودد ولين جانب وكيس أخلاق ومحاضرة حسنة. وَكَانَ قوي النفس فِي ذات الله، من بيت علم وعبادة. قال: حججت معه سنة تسع عشرة، وقرأت عَلَيْهِ فِي بعض الحاج وانتفعت بِهِ، وولاني تدريس الحديث بمكانين.

وقرأ بخط الجمال البشيشي فيما جَمَعَه من أخبار قضاة مصر: كَانَ شديد الميل إِلَى القضاء يجتهد فِيهِ بكل مَا يسعه طرفه لا يقدم عَلَيْهِ شيئاً، وَكَانَ عارفاً بأحوال الزهاد والعباد، وأقام مدة بالديار المصرية يقصد بالفتوى ولا يقصدون عالماً غيره، وولي مَشْيَخَة خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة مدة، وَكَانَ كثير التودد لين الأخرق عفيفاً عن الأموال، كثير العبادة، وحج مراراً كثيرة.

ويقال إن فتواه عرضت عَلَى الشيخ محيي الدين فاستحسن كتابته عَلَيْهَا.

وقرأت بخطه كَانَ ابن دقيق العيد قبل أن يلي القضاء مُحِباً فِي تحصيل الكتب،

ص: 345

فاتفق أنه اشترى كتباً من تركة، فجاء أمين الحكم يطالبه فلم يجد معه الثمن، فرفعه إِلَى القاضي بدر الدين المذكور، فتوسط بينه وبين أمين الحكم أن تكون جامكيته بالكاملية فِي وفاء دَينه وَفِي الفاضلية بكلفته، وَلَمْ يكن بيده حينئذ غيرهما وقال لَهُ القاضي: يَا شيخ تقي الدين، أنا أغار من هَذِهِ الاستدانة. فقال: مَا يوقعني فِيهَا إِلَاّ محبة الكتب.

قال جمال الدين المذكور: كَانَ من حق القاضي أن يقوم عن الشيخ بثمن الكتب بل بجميع مَا عليه من الدَّين، وَكَانَ ذَلِكَ يلزمهم من عدة جهات. قلت: هَذَا مما يتعجب من مثله مع كثرة مَا كان للقاضي يومئذ من متحصل الأنظار والمرتبات عَلَى جهات المملكة واتساع أموال مودع الحكم، فلو صرف لَهُ ذَلِكَ من زكاة يتيم واحد لأمكنه، فكيف أغفل ذَلِكَ واقتنع بالمعاتبة! والله إن هَذَا لشيء عجيب.

وقرأت بخط البشيشي فِي ترجمة الزرعي: أن الملك الناصر لما عاد إِلَى السلطنة بعد إقامته فِي الكرك وسلطنة المظفر بيبرس، كَانَ الزرعي ممن ينوب عن ابن جماعة، فسأل الناصر مَن يثق بِهِ عمن يصلح للقضاء فوُصِف لَهُ الزرعي، فاستدعى بِهِ فعينه وألبسه الخلعة وأمره أن ينزل كم اهو إِلَى الصالحية ويسلم عَلَى ابن جماعة ففعل، فلم يشعر ابن جماعة وهو فِي مجلس الحكم والنواب بَيْنَ يديه والموقع يكتب والقاضي يعلم وتارة يحكم والنقيب يقدم الخصوم والقصص إِلَاّ والزرعي قَدْ دخل لابساً التشريف. فظن ابن جماعة أنه خلع عَلَيْهِ بقضاء الشام، فنهض لَهُ قائماً وهنأه، واستمر الزرعي قائماً عَلَى قدميه وابن جماعة واقفاً لوقوفه فقال لَهُ النقيب: مَا الَّذِي وليتم؟ فقال: مكان مولانا قاضي القضاة. فنكس ابن جماعة رأسه. وخرج من القاعة يزاحم مَن فِي الباب من الخلائق وأكثرهم لا يشعر بشيء من حاله حَتَّى ركب ومضى، وجلس الزرعي مكانه وانعقد المجلس عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ومضى ابن جماعة فِي غاية الانكسار والخجل. وبلغ الملك الناصر ذَلِكَ فأعجبه جدّاً لأنه كَانَ تقم عَلَى ابن جماعة مسارعته إِلَى سلطنة المظفر بيبرس.

ومات فِي ليلة الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وَقَدْ كمل أربعاً وتسعين سنة وشهراً وسبعة أيام.

محمد بن أسعد الميانشي

ص: 346

محمد بن بَدْر بن عبد الله بن عبد العزيز الكِنَانِيّ مولاهم المصري من المائة الرابعة كَانَ أبوه مولى يحيى بن حكيم الكناني وَكَانَ صيرفياً موسراً ومن أجله صنّف أبو عمر الكندي كتاب الموالي.

وولد لَهُ محمد سنة أربع وسنتين ومائتين، ومات بدر ولمحمد عشرون سنة، واشتغل محمد عَلَى أبي جعفر الطحاوي حنفياً، وسمع الحديث من علي بن عبد العزيز البغوي بمكة، ومن غيره بمصر.

قال ابن يونس فِي تاريخه: كَانَ أبوه رومياً صيرفياً، وتفقه هو عَلَى مذهب الكوفيين، وجالس الطحاوي، وحدث عن علي بن عبد العزيز وجماعة من المكيين والمصريين، وَكَانَ ثقة.

وقال أبو عمر: يقال إن بدراً خلف ألف دينار عيناً سوى الرباع وغيرها وَلَمْ يخلف وارثاً غيره. وكتب محمد بن بدر الحديث، وتعلم الفروسية وركوب الخيل، ولازمه جماعة من المصريين، وكان من بداية أمره لَهِجاً بحب القضاء حَتَّى بلغ من شغفه بِهِ أنه اجتمع عنده فِي بستان لَهُ بالجيزة جماعة فجلي مجلس القاضي وجلسوا حوله كالشهود يستعرضهم، فعدل جماعة وأوقف جماعة، فاتفق أنه ولي القضاء حقيقة فأجاز من كَانَ عدله وأوقف من كَانَ أوقفه، فَعُدَّ ذَلِكَ من عجيب الاتفاق.

ولازم محمد بن بدر القضاة يخدمهم ويتعاطى أمورهم ويتقرب إليهم، وجهد حَتَّى جلس مع أبي جعفر الطحاوي أيام محمد بن عَبْدَة يكتب فِي الحكم.

وَكَانَ يجالس وصِيفاً صاحب الشرطة ويراجعه فِي الأمور الشرعية، فأنشأه الطحاوي، فلما ولي أبو عثمان ابن حماد القضاء خطب محمد بن بدر القضاء من العراق، فبلغ ذَلِكَ أخاه هارون بن حمّاد فأمر أخاه أبا عثمان أن يسعى فِي إفساد حاله، فجمع وجوه الناس من الشهود والتجار وأخبرهم بأن محمد بن بدر يروم ولاية القضاء فتكلموا فِيهِ واستصغروه عن ذَلِكَ، فأمرهم أن يكتبوا فِيهِ محضراً، فكتبوا أنهم لا يعلمون أن أباه خرج من الرق، ونسبوا محمداً إِلَى كل قبيح فِي لسانه وملبسه حَتَّى سراويله. وشهد فِي المحضر جماعة، فكتب كل منهم مَا زعم أنه اطلع عليه.

ص: 347

ومن جملة من كتب أبو الذكر الَّذِي ولي القضاء بعد أبي عبيد بن حربويه وعبد الرحمن بن إسحاق بن معمر الَّذِي ولي القضاء أيضاً، وأسجل أبو عثمان ابن حماد بِتَقْسِيقِه وكتب بذلك عدة نسخ، وأنفذ واحدة منها إِلَى العراق، وخلد نسخة منها بديوان الحكم، وأودع بقية النسخ عند أعيان المصريين.

واستقر محمد بن بدر فِي منزله فبالغوا فِي أمره، حَتَّى قال قائل: أَيُّها القاضي أَلا تُسلّم مَا فِي يد محمد بن بدر من المال لمواليه وتسألهم عتقه وأن يدفعوا لَهُ بغلاً وروايةً يستقى عَلَيْهَا الماء ليتكسب بذلك؟ فبلغ ذَلِكَ أبا هاشم المقدسي الَّذِي ولي القضاء أيضاً بعد ذَلِكَ، فأرسل إِلَى محمد بن بدر ليلاً فسأله عن حاله فحدثه بتعصبهم عَلَيْهِ، فركب معه إِلَى الأمير تكين وَكَانَ خاصّاً بِهِ، فسأله مساعدته وعرفه أنه مظلوم. فأرسل تكين إِلَى أبي عثمان يطلب منه المحضر ونُسَخه، فأرسل إِلَيْهِ بعضاً وأخفى بعضاً. فأطلق أبو هاشم لسانه فِي أبي عثمان.

ولزم محمد بن بدر باب أبي هاشم وصار يصانع الشهود الذين شهدوا عَلَيْهِ، ويتقاضى أشغالهم ويوفيهم حقوقهم إِلَى أن حضر عبد الله بن زَبْر إِلَى مصر قاضياً، فدخل إِلَيْهِ محمد بن بدر وعرفه حاله فوعده بالنصر، وساعده الطحاوي والحسين بن محمد المعروف بمأمون فخلا بهما ابن زَبر، وسألهما عن محمد بن بدر فقالا فِيهِ قولاً جميلاً. ثُمَّ حضر أبو بكر ابن الحداد فسأله عنه فأثنى عَلَيْهِ. فَعَدَّلَهُ ابن زَبر وأحضر مكتوباً شهد فِيهِ محمد بن بدر وأودى بشهادته عنده فقبله مع شاهد آخر، فأهدى محمد بن بدر لابن زَبر بسبب ذَلِكَ ألف دينار، قاله أبو عمر الكندي.

وقال ابن زولاق: كَانَ محمد بن بدر حسن الهيئة والمركوب والملبوس والمسكن. فلما صرف ابن زَبر وعاد أبو عثمان لَمْ يقبله. فلما عاد ابن زَبر قَبِله. ثُمَّ وليها أبو هاشم فاستكتبه. ثُمَّ ولي ابن قتيبة فقام محمد بن بدر بأمره. فكتب ابن قتيبة إِلَى محمد بن الحسن ابن أبي الشوارب قاضي القضاة وَكَانَ ابن قتيبة خليفته يذكر لَهُ محمد بن بدر ويثني عَلَيْهِ. فكتب ابن أبي الشوارب إِلَى محمد بن بدر بعهد القضاء بعد ابن قتيبة. فورد عَلَيْهِ كتاب العهد وَلَيْسَ عنده علم من ذَلِكَ. فتوقف الماذرائي عن نفاذ عهده ثُمَّ أمضاه. فحضر إِلَى المسجد وحضر مجلسه جماعة من شهود أبي عبيد وفيهم

ص: 348

من شهد فِي المحضر المكتتب عَلَيْهِ. وحضر عنده عفان البزار وهو من وجوه المصريين فأشار عَلَيْهِ بتعديل جماعة كانوا تأخروا عنه ففعل.

واستقامت أموره، وباشر مباشرة حسنة، فأعطى القضاء حقه، وَلَمْ يتهاون بشيء من الأمور حتى إنه ابتاع فِي ولايته للأيتام رباعاً بسبعة عشر ألف دينار، وَكَانَ يجلس يوم الجمعة بالغداة فيحضر إِلَيْهِ الأيتام مع أمهاتهم ومن يكفلهم وأمناؤهم فيشاهد أحوالهم ويسألهم عما غاب عنه، ويقضي شهواتهم، وسار عَلَى طريقة الاحتمال والتجاوز، فلم يظهر عَلَى أحد ممن شهد عَلَيْهِ حقداً ولا مجازاة عَلَى الإِساءة، وواصل الإحسان للشهود الَّذِين تأخروا عنه يقضي حقوقهم، ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم.

فلما دخل الإِخشيد أميراً تلقاه محمد بن بدر فِي جمع كبير من الشهود ولبس يومئذ السواد، وَلَمْ يكن لبسه قبل ذَلِكَ. فأعجب الإِخشيد بذلك، وأثنى أهل البلد عَلَى سيرته عند الإِخشيد، ودخل ذاك الوقت الوزير أبو الفضل ابن حِنزابة مصر، فخرج إِلَيْهِ محمد بن بدر فتلقاه وقضى حقه، ودخل عَلَيْهِ مرة ومحمد بن علي الماذرائي عنده مقبوضاً عَلَيْهِ فِي المصادرة فقال الوزير: هذا إسماعيل بن بيان وكيل جارية محمد بن علي فمهما جاءك فِيهِ فامضه. فقال حَتَّى تثبت وكالته عندي بشاهدين عَلَيْهَا. فقال لَهُ: أنا أقول لَكَ هو وكيل وتقول لي حَتَّى تثبت عندي! وخبرك عندي بالتفصيل وَلَيْسَ هَذَا موضعك، وإنما تريد أن يشيع هَذَا القول أقيموه فأُقيم واعتقل ساعة فِي داره، ثُمَّ خوطب فِيهِ فأطلق، ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ من تريد من الشهود؟ قال من شهودي الذين أقبلهم ففعل الوزير ذَلِكَ، وعظم محمد بن بدر فِي عينه وحسن موقع فعله عنده.

وكان ابن الحداد قَدْ تسلم من محمد بن موسى السرخسي لمحمد بن بدر، فلما ولي ابن بدر احتاط بنفسه وَلَمْ يكل إِلَى ابن الحداد شيئاً، فانقبض عنه، فلم يزل محمد ابن بدر يلي الحكم إِلَى شعبان سنة أربع وعشرين، فوردت ولاية عبد الله بن زبر عَلَى يد عبد الرحمن بن إسحاق ويحيى بن الحسين بن الأشعث فتسلما لَهُ من محمد بن بدر، فكانت ولايته سنتين.

ثُمَّ ولي مرة أخرى فِي ذي الحجة سنة سبع وعشرين، فركب إِلَيْهِ الشهود الَّذِين تخلفوا عنه واعتذروا إِلَى الناس بأن قالوا: مَا رأينا منه فِي الولاية الأولى إِلَاّ خيراً. فلما رأى ذَلِكَ تصلب فِي الأحكام، وتوقف عن قبول جماعة، وجدد شهوداً.

ص: 349

فاتفق الحال أنهم فِي كل وكالة يشهد أربعة، اثنان من شهوده واثنان من الشهود الأولين، فمشى الحال عَلَى ذَلِكَ إِلَى أن حضر أبو صالح خير الخادم وَكَانَ من أعيان الشهود فشهد عنده شهادة وشهد معه اثنان. فقال لَهُ: أين الرابع؟ فقال: أَيُّها القاضي أشهد عند أبي عبيد مع واحد وأشهد عندك مع ثلاثة! ونهض فبطل ذَلِكَ الشرط وتَبَسَّط ابن بدر فِي هَذِهِ الولاية فِي الإِساءة لمن كَانَ أساء إِلَيْهِ أولاً.

وأسقط عبد الله بن وليد بإشارة أبي الذكر، فلزم عبد الله بن وليد داره وأرسل إِلَى بغداد يسعى فِي قضاء مصر، وبذل لأبي الشوارب مالاً فكتب بعهده، فورد عَلَيْهِ فِي شهر رمضان سنة ثمان وعشرين، فركب إِلَيْهِ الشهود فتوجه إِلَى الحسين بن عيسى بن هَرَوان وَكَانَ بمصر فأقرأه العهد وسأله الإعانة، وَكَانَ الإِخشيد حينئذ يقاتل محمد ابن رائق. والحسن أبو المظفر أخو الإِخشيد يخلفه عَلَى مصر. فركب ابن وليد إِلَيْهِ وأخبره بالقصة فتوجّه سليمان بن رستم إمام المسجد الجامع ويحيى بن مكي بن رجاء إِلَى الحسين بن عيسى فَحسَّنا لَهُ قضاء مصر، وضمِنا لَهُ أن مح بن بدر يخلفه، فركب الحسين إِلَى الحسن أبي المظفر ووعده بشيء، فكاتب أخاه ففعل، فأرسل أبو المظفر إِلَى ابن بدر أن يخلف الحسين فأجاب وقال: لو أمرتني بلبس السيف والمنطقة لفعلت. ووقف أمر ابن وليد.

ثم ورد عَلَى ابن بدر كتاب الإِخشيد بأن يخلف الحسين بن عيسى فشق ذَلِكَ عَلَى ابن وليد واعتل حَتَّى أشرف عَلَى الموت، فدار بَيْنَ العامة: عبد الله بن وليد - أبرد من حديد. عبد الله بتن وليد - هو ذا يموت شهيد. فِي كلام ساقط يشبه ذَلِكَ.

قال ابن زولاق: وعدّل ابن بدر فِي هَذِهِ الولاية جماعة، فذكر لي ابن الحسين بن علي الدقاق أن ابن بدر قال لَهُ: مَا ترى فِي قبول شهادة ابن يحيى الصيرفي؟ قال: فقلت لَهُ: مَا رأى بأساً إِلَاّ أتي سمعته يقول: إن طُغْجاً أودع بدراً ستين ألف دينار ومات وهي عنده. فقال لي: هَذَا رجل سوء. فلما أصبح ابن بدر أرسل إليَّ وكالةً فشهِدن فِيهَا وغدوت عَلَيْهِ فأدّيتها فقبل شهادتي.

فلما كَانَ سلخ صفر وافي ابن زَبْر، فأقام أياماً، ثُمَّ ولاه الإِخشيد خلافة عن ابن أبي الشوارب أيضاً، فتسلم من ابن بدر فكانت ولاية ابن بدر هَذِهِ سنة وشهرين،

ص: 350

ووليها ابن زَبْر شهراً واحداً وثلاثة أيام وفَجِئَه الموت، فرد الأَخشيد القضاء إِلَى الحسين ابن عيسى بن هَرَوان فاستخلف ابن وليد، فلما كَانَ فِي شوال سنة تسع وعشرين وثلاثمائة صرفه وأعاد ابن بدر، فاستخلف أبا الذكر عَلَى الفرض، وشرط عَلَيْهِ أن يحكم للمطلقة ثلاثاً بالسّكنى والنفقة اتباعاً لمذهب أبي حنيفة، وباشَر الحكم إِلَى شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة فمات وسِنّه يومئذ ست وستون سنة وَكَانَتْ ولايته الأخيرة أحد عشر شهراً وولي بعده أبو الذِّكر محمد بن يحيى ابن مهدي.

قلت: وَقَدْ ذكره مُسلمة بن قاسم فِي الصلة الَّتِي جعلها ذيلاً عَلَى تاريخ المحدّثين الكبير للبخاري فقال: كَانَ حنفي المذهب وَلَيْسَ هناك فِي الرواية. وَكَانَ صاحب رشوة فِي قضائه وَلَمْ يكن عندهم بالمحمود وأرخ وفاته فِي شعبان كما تقدم.

ومن شيوخه مقدام بن داود الرعيني.

وقد ذكره ابن عساكر فِي تاريخ دمشق مختصراً جدّاً. فقال: محمد بن بدر بن عبد العزيز المصري سكن دمشق مدة وحدث بِهَا وبمصر عن علي بن عبد العزيز، ثُمَّ رجع إِلَى مصر وولي القضاء بِهَا ومات بِهَا. كتب عنه أبو الحسين الرازي والد تمام. وذكره فِي شيوخه ثُمَّ نقل وفاته عن أبي سعيد بن يونس فقال: مات محمد بن بدر فِي يوم الاثنين لست وعشرين ليلة خلت من شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة، كتبت عنه.

واتفق فِي ولاية محمد بن بدر الأخيرة أن الإِخشيد أنشأ قيسارية البَزّ فِي سوق الحماد وأراد أن يبني السقيفة، فتقبل محمد بن عبد الله الخازن قطعة من حَبس السري ابن الحكم فِي الموضع المعروف بالمدينة المقابل لقيسارية الإِخشيد. وأمضى محمد بن بدر وأسجل من يشهد فِيهِ يوم موته، فكان ذَلِكَ آخر شيء حكم فِيهِ ومات فِي عشي ذَلِكَ اليوم.

ولما اعتل وقرب شهر رمضان خوطب فِي الركوب لرؤية الهلال، فقال: إن وجدت خفّة ركبت وإلا فاركبوا مع ابني أحمد، وَكَانَ إذ ذَاكَ صغيراً، فمات محمد ابن بدر لثلاثٍ بقين من شعبان وكان سِنّه حين مات ستاً وستين سنة، وَلَمْ تكمل ولايته الأخيرة سنة بل تنقص قدر شهر.

ص: 351

محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي الإِخْنَائِيّ أبو عبد الله تقي الدين المالكي من المائة الثامنة ولد فِي رجب سنة ستين وستمائة.

وكان فِي أول أمره شافعياً، ثُمَّ تحوَّل مالكياً، واستمر أخوه علم الدين شافعياً ونشأ فِي صيانة وديانة.

واستنابه ابن مخلوف، فلما مرض راسله الناصر عمن يصلح للقضاء فقال: أما أولادي فليس فيهم أهلية لذلك، وأجود الجماعة تقي الدين الإِخْنَائِيّ، وَكَانَ إذ ذَاكَ دون الجماعة فِي أعينهم، وإنما قدمه ابن مخلوف لأنه كَانَ متديناً متقشفاً سالكاً طريق السلف فِي مأكله وملبسه ومجلسه.

وكان ابن مخلوف قصير الباع فِي العلم، فكان يعجبه من يكون كذلك. فلما مات ابن مخلوف فِي سنة ثماني عشرة، طلب الناصرُ تقيَّ الدين فخلع عَلَيْهِ وولاه القضاء عوضاً عن ابن مخلوف، وذلك فِي جمادى الآخرة منها.

فعظم ذَلِكَ عَلَى المالكية قاطبة، وَكَانَ المترشح منهم للمنصب جماعة فلم يحضروا عنده، ولا ناب أحد منهم عنه، ولا ركبوا معه ازدراء لَهُ. فمشى عَلَى طريقته فِي الصيانة والديانة والتقشف فِي الملبس والمركب والتواضع مع حسن السمت.

ص: 352

وصار الناصر كلما سمع بحسن سيرته يزيد فِي تعظيمه، وطالت مدته لذلك بحي إنه لَمْ يل المنصب قبله من المالكية مثله فِي ذَلِكَ، فإنها كَانَتْ اثنتين وثلاثين سنة وأشهراً.

وحصل لَهُ فِي أيام الناصِر رَمد أشرف منه عَلَى العمى، فأمر الناصر نوابه أن يباشروا الحكم عنه ويحضروا المواكب. وَلَمْ يعزله إِلَى أن قدرت عافيته وعاد إِلَى أحسن مَا كَانَ عَلَيْهِ.

وكان كثير الحط عَلَى الشيخ تقي الدين ابن تيمية وأتباعه، وهو الَّذِي عزّز الشهاب ابن مِرَى، وكان عَلَى طريقة الشيخ تقي الدين ويتكلم عَلَى الناس بلسان الوعظ لما قدم مصر. ونفقت لَهُ سوق واستقر فِي جامع أمير حسين يعمل المواعيد، إِلَى أن جرت مسألة التوسل فتكلم فِيهَا بكلام شيخه فأنكروا عَلَيْهِ. وبلغ ذَلِكَ القاضي فطلبه وعزّزه وطوف بِهِ وبالَغ فِي إهانته وتألم لَهُ كثير من الناس. فلم تَمضِ إِلَاّ أيام قليلة حَتَّى وقع من ابن شَأس نظير مَا وقع من ابن مِرى، فرفع أمره إِلَى القاضي وشهد عَلَيْهِ جمع كثير من الأعيان والعدول، والتمس من القاضي تعزيزه فدافع عم ذَلِكَ، وأظهر التعصب لَهُ، ونال بعض الشهود منه أذى فِي الباطن، وكثرت الشناعة بسبب ذَلِكَ حَتَّى قيل فِيهِ - وقيل إنها من نظم الشيخ برهان الدين الرشيدي:

يَا مالكياً شادَ أحكامه

عَلَى تقي الله بأقوى أساس

مقالة فِي ابن مِرَى لُفِّقَتْ

تجاوزت فِي الحدِّ حدّ القِياس

وَفِي ابن شاس قط مَا أثرت

فهل أباح الشَّرع كُفر ابن شَأس

وشاعت الأبيات حَتَّى بلغت القاضي فعظم عَلَيْهِ لكنه سكت عَلَى مَضَض، واعتذر عنه بعض أتباعه بأنه رأى أن الذي وقع من ابن شَأس فلتة لسان فأقال عثرته منها. بخلاف ابن مرى فإن ذَلِكَ كَانَ معتقده، وَلَمْ يزل الإِخْنَائِيّ يباشر القضاء إِلَى أن حصل لَهُ رمد فِي صفر سنة خمسين وسبعمائة فاشتد بن فأرسل يستعفي من الحكم فأعفي ومات عقب ذَلِكَ.

محمد بن جوهر بن ذَكَا النابلسي يكنى أبا الفرج إسماعيلي من المائة الخامسة.

ص: 353

ولي قضاء مصر من قِبَل الأفضل ابن بدر أمير الجيوش فِي خلافة المستعلى. ثُمَّ صرف فِي السابع من صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة. وَكَانَتْ ولايته بعد وفاة محمد بن رَجَا.

قال ابن مُيَسّر: صرف عن قرب لأنه كَانَ يعادي إبراهيم بن حمزة الشاهد. فلما ولي الحكم أسقطه بسعي إبراهيم إِلَى أن وصل إِلَى الأفضل أن القاضي أحدث فِي مجلس الحكم بمصر، فأمر بعزله فِي ربيع الأول منها، وَكَانَتْ ولايته شهراً واحداً.

محمد بن الحارث: هو ابن أبي الليث يأتي ذكره.

محمد بن الحسن بن عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب أبو الحسن من المائة الرابعة.

ولد سنة اثنتين وتسعين ومائتين وسمع من أبي العباس بن مسروق. روى عنه الحسين بن محمد الكاتب. وَكَانَ أحد الأجواد لكنه لَمْ يكن محموداً فِي الولاية. منسوباً إِلَى الارتشاء فِي الأحكام شاع ذَلِكَ وكثر الحديث بِهِ.

قال ابن الصابئ: ضمن ابن أبي الشوارب القضاء بمال مرتب لمعز الدولة فكان يحال بِهِ، فلا يخلو بابه من مطالب، وربما ضحوا وحملوا الجوارح والكلاب فأرسلوها ببابه فتكثر الشناعة بذلك، فدخل أبو عبد الله ابن الداعي إِلَى معزّ الدولة فقال: رأيت علياً فِي المنام وحمَّلني إِلَيْكَ رسالة. فارتاع معز الدولة وقال: مَا هي؟ قال: يقول لَكَ: هب لي مَا عَلَى ديوان الحكم من المال. ففعل.

وأرسل لما ولي القضاء الحسين بن محمد المطلبي فتسلّم لَهُ القضاء بمصر، وقُرِئ عهده من قِبَل القاهر ثُمَّ وصل أبو جعفر بن قتيبة فناب عن ابن أبي الشوارب فِي القضاء، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الثامن عشر من جمادى الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.

ص: 354

وكان ولي القضاء ببغداد من قِبَل المستكفي فِي صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، ثُمَّ قُبِض عليه فِي صفر سنة أربع وثلاثين، ثُمَّ قلده المطيع قضاء الشرقية والحرمين ومصر وسُرَّ من رأى وبعض السواد وبعض عمل الشأم. ثُمَّ صرف عن جميع ذَلِكَ فِي صفر سنة خمس وثلاثين. وعمل فِيهِ ابن سُكَّرة الشاعر قصيدة أبدع فِي هجائه فِيهَا:

ولقد جنى قاضي القضا

ة حسينُ نَجْلُ أبي الشواربْ

هَذَا الَّذِي هَتَكَ الشرا

ئع بالبَدائع والمَثالِبْ

هَذَا المُضَمِّر للفُرو

ج وللدماء بغير راكبْ

وكانت وفاته فِي شهر رمضان سنة سبع وأربعين وثلاثمائة.

محمد بن الحسن بن عبد العزيز بن أبي بكر عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي يكنى أبا بكر.

ولي قضاء مصر مضافاً إِلَى قضاء الرَّمْلَة وطَبَرِيَّة والإِسكندرية وغير ذَلِكَ. فاستخلف أوّلاً ابن وليد، ثُمَّ استخلف أخاه عمر بن الحسن. وَكَانَ خطيب الجامع العَمْريّ بمصر وإمامه وإليه إقامة الحج وإمامة الحرمين. قال الخطيب..

محمد بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن اليازُوري إسماعيلي من المائة الخامسة. تقدم ذكره فِي ترجمة والده.

قال سليمان بن علي بن عبد السميع العباسي: ولي محمد بن الحسن هَذَا القضاء بمصر نيابة عن أبيه، ولقب خطير الملك وأمين الملك ذا الرياستين. وأضيف إِلَيْهِ جميع أعمال مصر، وإلى أخيه جميع أعمال بلاد الشام وأفرد كل منهما بما إِلَيْهِ من ذَلِكَ. فلم يزل أمرهما مستقرّاً طول ولاية أبيهما الوزارة إِلَى أن قبض عَلَيْهِ كما تقدم فِي ترجمته. فقتل هو بعد أن نفي هو وأولاده إِلَى تنيس سنة خمسين وأربعمائة.

ص: 355

محمد بن الحسن بن أبي الدبس الطرابلسي طرابلس الغرب. كَانَ قاضيها فاستدعى بِهِ الوزير يعقوب بن كِلِّس فأمره بالنظر فِي الأحكام، وفوض إِلَيْهِ قضاء دمياط وبلبيس والفرما وغيرها، عوضاً عن محمد بن النعمان. كل ذَلِكَ نكاية فِي علي بن النعمان القاضي. والقاضي لا يعترضه فِي شيء، ووقع فِي حق محمد بن الحسن هَذَا مما تقدم ذكره فِي ترجمة علي بن سعيد الجَلْجُوليّ.

محمد بن الحسين بن رَزين بن موسى بن عيسى بن موسى بن نصر الله العامري المعروف بابن رَزين الحموي الأصل تقي الدين من المائة السابعة.

ولد سنة ثلاث وستمائة، وسمع من كريمة الزبيرية والصَّريفيني. وأخذ عن الموفق ابن يَعيش النحوي. وقرأ عَلَى ابن الصلاح بدمشق ولازمه وسمع منه الكثير، وتميز فِي حياته، وأفتى ودرس مدة.

ثم رحل إِلَى مصر لما جفل أهل الشام من التتار، وناب فِي الحكم بالقاهرة، ولازم ابن عبد السلام. ومن محفوظاته (المستصفي) للغزالي و (المفصَّل) للزَّمَخْشَري. ثُمَّ درس بالصلاحية جوار الشافعي، ودرس بالظاهرية، واشتهر بالكتابة عَلَى الفتاوى فكان يُقصد من البلاد.

روى عنه الحافظ الدمياطي، والبدر ابن جماعة، ومن قبلهما الشيخ محيي الدين النووي.

واستقر فِي قضاء القاهرة والوجه البحري، ثُمَّ أضيف إِلَيْهِ قضاء مصر بعد أبي الصلاح الصفراوي، وعزل فِي آخر سنة ست وسبعين.

محمد بن الحسين بن يوسف الرصافي

.

ص: 356

محمد بن رجاء أبو الطاهر ولي القضاء بعد محمد بن عبد الحاكم فلم يول إِلَى أن مات ثلاث وتسعين وأربعمائة وتولى بعده محمد بن جوهر.

محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حَكمُون بن إبراهيم ابن محمد بن مُسْلم القُضَاعي أبو عبد الله.... .

وأسند ابن عساكر عن الشيخ نصر المقدسي أنه قال: قدم علينا القضاعي رسولاً من المصريين إلى الروم، فذهب وَلَمْ أسمع منه. ثُمَّ إني رويت عنه بالإجازة. قال ابن عساكر: يعني لَمْ يرضه فِي أول الأمر لدخوله فِي الولاية عن المصريين.

قرأت عَلَى المسند أبي عبد الله محمد بن علي بن أحمد بن عبد الله بالإسكندرية عن أحمد بن أبي الحسن بن عبد العزيز بن المصفى فِي آخرين قالوا: أنبأنا أبو البركات ابن زُوَين، أنبأنا أبو القاسم ابن مُوقا، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الخطاب الرازي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي قاضي مصر، حدثنا أبو مسلم محمد بن أحمد بن علي البغدادي، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا أبو نصر التمار وعلي بن الجَعْد وعبد الأعلى بن حماد وكامل بن طلحة وعبيد الله العَيْشِيّ قالوا: حدثنا حَمَّاد بن سَلَمَة، عن أبي العُشَرَاء الدَّارميّ، عن أبيه قال: قلت يَا رسول الله! مَا تكون الذكاة إِلَاّ من اللَّبَّةِ والحَلْق. فقال: (لو طَعَنْتَ فِي فَخِذِها لأَجْزَأكَ) . قال التمار: ثبت أن سفيان

ص: 357

الثوري سمع هَذَا الحديث من حماد بن سلمة. قلت أخرجه أبو داود عن أحمد بن يونس، عن حماد بن سلمة فوقع لَنَا بدلاً عالياً.

وأخرجه الترمذي من طريق وكيع ومن طريق يزيد بن هارون كلاهما عن حماد وقال: غريب لا نعرفه إِلَاّ من حديث حماد. ولا نعرف لأبي العُشَرَاء عن أبيه غير هَذَا الحديث. كذا قال. وَقَدْ جاءت عن أبي العُشَرَاء عدة أحاديث جمعها تمام الرازي فِي جزء مفرد. وجاء هَذَا الحديث من رواية غير حماد. وأخرجه النَّسائي من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن حماد. وابن ماجه من رواية وَكِيع.

قال ابن طاهر فِي ترجمة محمد بن شافعي: مات القضاعي فِي سنة تسعين أَوْ نحوها.

وقال ابن عساكر: ذكر أبو بكر بن موسى الحداد، أن القضاعي مات سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة وقال أبو محمد الأكْفاني: حدثنا أبو محمد الكناني، ورد الخبر من مصر بموت القاضي القضاعي فِي ذي الحجة سنة أربع وخمسين. وكذا ذكر أبو إسحاق الحبال أنه مات فِي ذي الحجة وتبعه ابن ناصر، وزاد ليلة الجمعة سابع عشرة. وذكر ابن ميسر أن قبره معروف بجانب الخندق يزار ويتبرك بِهِ.

محمد بن شاذان بن زكريا الجوهري، يكنى أبا بكر. بصري قدم مصر.

ذكره أبو سعيد ابن يونس فِي الغرباء قال: وَكَانَ صاحب بكّار بن قتيبة قاضي مصر وخليفته على مصر لما خرج إِلَى الشام.

وقال غيره: أقامه أحمد بن طولون يحكم بَيْنَ الناس عوضاً عن بكّار بن قتيبة لما غضب عَلَى بكار وسجنه. وَكَانَ محمد بن شاذان يمضي الأحكام، وَقَدْ تقدم بيان ذَلِكَ فِي ترجمة بكار.

قال أبو سعيد: كتب عنه بمصر - يعني الحديث - ومات فِي المحرم سنة أربع وسبعين ومائتين.

وقال مُسْلمة بن قاسم فِي (تاريخه) الَّذِي ذيل بِهِ عَلَى البخاري: كَانَ يرى رأي أبي حنيفة، وخلف بَكَّاراً فِي الحكم.

ص: 358

محمد بن صالح بن علي بن يَحْيى بن عبد الله بن محمد بن عُبيد الله ابن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي.

يعرف بابن أُمِّ شَيْبَان، وهي والدة يحيى جدّ والده، وهي تيميَّة من ذرية طلحة بن عُبيد الله، وهو كوفي نزل بغداد وَكَانَ قَدِمها مع أبيه فِي سنة سبع وثلاثمائة، فلقي الشيوخ ثُمَّ استوطنها سنة ست وعشرين ويكنى أبا الحسن.

وكان مولده فِي سنة ثلاث وتسعين، وقيل فِي يوم عاشوراء سنة أربع وتسعين.

وأخذ عن أبي بكر بن مجاهد، وعبد الله بن زيدان البَجَلي، ومحمد بن محمد بن عُقبة وغيرهم. وصاهر قاضي بغداد أبا عمر محمد بن يوسف المالكي.

وكان يتفقه لمالك، فلما ولي قضاء القُضاة ببغداد أضيف إِلَيْهِ قضاء مصر والشأم وغيرهما. فشرط شروطاً، منها: أن لا يتناول عَلَى القضاء أجراً ولا يقبل شفاعة فِي فعل مَا لا يجوز ولا فِي إثبات حقّ. ورتب لكاتبه فِي كل شهر ثلاثمائة، ولحاجبه مائة وخمسين، ولمن يعرض عَلَيْهِ الأحكام مائة، ولخازن ديوان الحكم ولمن معه من الأعوان ستمائة، وتسلَّم عهده من المطيع، وكان الَّذِي أنشأه أحمد بن عبيد الله الشيرازي.

قال طلحة بن محمد بن جعفر: كَانَ أبو الحسن عظيم القدر، وافر العقل، واسع العلم، كثير الطَّلب للحديث، حسن التصنيف، مُدمِناً للدَّرْس والمذاكرة والنظر فِي فنون العلم والآداب متوسطاً فِي الفقه مالكي المذهب. قال: ولا أعلم من تقلَّد القضاء من بني هاشم بمدينة السلام قبله. قال: وَكَانَتْ ولايته القضاء بمدينة المنصور عوضاً عن أبي السائب عتبة فِي ربيع الأول سنة أربع وثلاثين. ثُمَّ قلده المطيع قضاء الشرقية مضافاً إِلَى مدينة المنصور فِي رجب سنة خمس وثلاثين فصار عَلَى قضاء الجانب الشرقي بأسره، ثُمَّ فِي شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين جمع قضاء بغداد لأبي السائب، وقلَّد أبا الحسن قضاء مصر وأعمالها والرملة وبعض الشأم.

ص: 359

قال: وَكَانَ عض الدولة كثير الغض من أهل بغداد والازدراء لأهلها حَتَّى قال: مَا وقعت عيني فِي هذا البلد عَلَى أحد يستحق اسم الفضل أَوْ أن يُسمَّى برجل غير نفسين - فلمّا تأمَّلت وجدتهما ليسا من أهل بغداد -: أحدهما أبو الحسن ابن أمّ شَيبان ومحمد بن عمر العلوي، وأصلهما من الكوفة.

قال أبو الفتح ابن أبي الفوارس: مات أبو الحسن فجأة فِي جمادى الأولى سنة تسع وستين وثلاثمائة. وَكَانَ نبيلاً سرياً فاضلاً وَلَمْ يُرَ فِي معناه مثله فِي الصدق.

محمد بن عبَّاد بن مُكْنِف أقامه كَيْدَر أمير مصر يحكم بَيْنَ الناس لما عزل عيسى بن المُنْكَدِر وحُمِل إِلَى العراق، فأقامت مصر بغير قاض من ذي القعدة سنة أربع وعشرين ومائتين إِلَى أن قدم المأمون إِلَى مصر فِي أول سنة سبع عشرة، فأمر يحيى بن أكثم بالقضاء فِي المسجد الجامع، فجلس يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم إِلَى أن رحل المأمون وقرر هارون بن عبد الله فِي القضاء.

وكان محمد بن عباد كُوفيّاً، يجلس للمظالم ويقضي بَيْنَ الناس عند دار أبي عَون، وَكَانَ لَهُ صاحب مسائل، ويحضر عنده الوكلاء، فلمَّا وَلِيَ هارون فسخ كثيراً من أحكامه.

محمد بن عبد البر بن يحيى بن علي بن تمام بن يوسف أبو البقاء السبكي بهاء الدين مشهور بكنيته.

ولد فِي ذي الحجة سنة سبع وسبعمائة، واشتغل بدمشق والقاهرة كثيراً، ومهر وبرع، وتفقه على عَلَى القطب السنباطي، والمجد الزنكلزني، وعلاء

ص: 360

الدين القونوي، والزين الكَتْنَانِيّ وأخذ النحو عن أبي حَيَّان ولازمه حَتَّى كَانَ والده يغضب منه ينهاه عن الاشتغال فِيهِ، وبلغ بِهِ ذَلِكَ إلى أن وجد بيده نسخة من سيبويه بخط ابن خروف فانتزعها من يده وقطّعها بالسكّين، ومع ذلك ففاق أبو البقاء أقرانه فِي النحو. وسمع الحديث عَلَى الحجار، والواني، وغيرهما وناب عن قريبه الشيخ تقي الدين السبكي فِي الحكم.

ولما خرج إِلَى قضاء دمشق لَمْ يخرج معه من أقاربه غيره.

قال الصَّفَدي: لَمْ يوافق عَلَى مباشرة النيابة حَتَّى سأله قريبه مراراً وتحمل عَلَيْهِ برفقته القضاة الثلاثة فسار سيرة جميلة، ورتبه تنكز مُصدّرا بالجامع فشغل الناس وأفتى.

ثُمَّ ولي قضاء بدمشق استقلالاً عوضاً عن قريبه تاج الدين ثُمَّ صرف عن قريب ودخل القاهرة فولي وكالة بيت المال وناب فِي الحكم عن عز الدين ابن جماعة. ثُمَّ ولي قضاء العسكر بعد موت تاج الدين المناوي، وولي قضاء القضاة لما استعفى عز الدين ابن جماعة.

وتوجه إِلَى مكة وَكَانَ الَّذِي اعتنى بِهِ عند يلبغا دواداره وطشتمر، وذلك فِي ثالث عشري جمادى الآخرة سنة ست وستين وسبعمائة.

قال الصَّفَدي: سألته أن يكتب لي شيئاً من نَظْمه فقال:

أَأَعرِضُ أشعاري عليم وإنّها

لَمُخْتَلَّةُ الأوزانِ ناقصة المعنى

وأنت خلَيلُ الوقت وارِثُ علمِه

إِلَيْكَ يشير الفضل أن مُشْكِلٌ عَنّا

وإن قريضي بَيْنَ أزهار رَوضِكم

أخو البقلة الحَمْقاء فِي الروضة الغنّا

قال: وباشر القضاء أحسن مباشرة، وتباين هو وقرينه بهاء الدين ابن تقي الدين، فضار كل منهما بذم الآخر. وَكَانَ مهيباً وقوراً إِلَاّ أنه كَانَ مَسِيكاً قليلَ الإِفضال عَلَى الطلبة، حَتَّى يقال غن أعظم مَا كَانَ يعطى لمن يبالغ فِي الإِحسانِ إِلَيْهِ أربعين درهماً.

ص: 361

وقرأت بخط صاحبنا الشيخ جمال الدين عبد الله بن أحمد البشبيشي: حصل بَيْنَ أبي البقاء السبكي ورفيقه برهان الدين الإخنائي المالكي منافسة اقتضت كلام كل منهما فِي الآخر، ودام ذلك بينهما، حَتَّى اتفق أن شخصاً من طلبة الشافعية كَانَ يطالع فِي تفسير الزمخشري مما عدل فِيهِ عن الصواب وأساء فِيهِ الأدب عَلَى مقام النبوة، فكان ذَلِكَ الطالب يقرأ فِي الكراس وهو يمشي، فسمعه بعض اليهود وَكَانَ بينهما وحشة، فقال لبعض من حضر: اسمعوا مَا يقول هَذَا واضبطوا، وتوجه إِلَى البرهان الإِخنائي فطلبه من عنده فأحضر فادُّعِي عَلَيْهِ بِمَا فَاة بِهِ فأنكر، فأقيمت عَلَيْهِ البينة فاعتقله.

فبلغ ذَلِكَ بهاء الدين السبكي فخشي من بادرة الإِخنائي، فتوجَّه إِلَى أبي البقاء فاستنهضه فِي خلاص الطالب، فقال لَهُ أبو البقاء: ينبغي للطالب أن يثبت أن بينه وبين مَن شهد عَلَيْهِ عداوة، فتحيل البَهَاءُ فِي ذَلِكَ إِلَى أن أقام البينة عند أبي البقاء بالعداوة، فأشهد عَلَى نفسه بثبوت العداوة جماعة منهم الشيخ جمال الدين الإِسناوي، وأرسل إِلَى الإِخنائي يعرفه بذلك، فأجابه غداً أشاور السلطان وأضرب عنقه.

فخشي البهاء من بادرته، فاستشار أبا البقاء فِي ذَلِكَ فقال: الَّذِي أراه أن تتوجه أنت إِلَيْهِ وتأخذه بالرغبة والرهبة، وتوسع الحيلة إِلَى أن يخلص هَذَا الطالب، وإلا فالرجل جَسور وَقَدْ يحمله ذَلِكَ عَلَى أن يقتل الرجل وينكر أن يكون علم بالعداوة، فإن رجع وإلا فأعلمه أني حلفت أنه متى سفك دمه لأُقِيدَنَّه بِهِ لكونه يقتل مسلماً بغير حق.

فتوجه إِلَيْهِ الشيخ بهاء الدين وَكَانَ عارفاً بالأمور، وهو يلح، فلما رأى لجاجه ذكر لَهُ مَا قال أبو البقاء وعرفه أنه أحد من شهد عَلَيْهِ بثبوت العداوة وكذلك الجمال الإِسنوي، وأنه متى استمر على لجاجه راسل السلطان بحقيقة الحال، فتحير الإِخنائي وخضع وقال: فما الرأي؟ قال: الرأي إطلاقه، فأذعن وأمَر بإطلاقه.

فتوجه الرجل إِلَى أبي البقاء فتشكر لَهُ، فأمر لَهُ بمبلغ وأرسله إِلَى الشيخ بهاء الدين، وشرط عليه أن لا ينظر بعد ذَلِكَ فِي كلام الزمخشري، وتأكدت الوحشة بَيْنَ القاضيين

ص: 362

حَتَّى قال مرة في بحث جرى بينهما: قال مالك، فقال أبو البقاء: البحث مع مالك! فعظم ذَلِكَ عَلَى الإِخنائي، وقال: لو غيرك قالها، وبلغ كبار المالكية ذَلِكَ فأعظموه وأطلقوا ألسنتهم فِي أبي البقاء.

واتفق أن أبا البقاء كَانَ يتصلب فِي الأحكام ولا يحابي أحداً من كبار الدولة فيما يتصل بِهِ من الأحكام، فاتفق أن الأشرف أراده أن يبتاع بيت كتبغا وهو وقف، فالتمس من أبي البقاء إعمال الحيلة فِي تبطيل وقفيتها فلم يجب لذلك، فعاوده فِي ذَلِكَ فأصر، فمضى عَلَى ذَلِكَ مدة. فاتفق أنه خرج من الموكب، ودخل السلطان داخل القصر وأمر بدره فلما رآه قال لَهُ: يَا قاضي، لأي معنى أسألك فِي شيء لا مشقة عَلَيْكَ فِيهِ فلا تفعل! فأجابه بغلظة: اسمع يَا مولانا السلطان، إن كنت مَا تعرفني فأنا أعرفك نفسي، والله الَّذِي لا إله إِلَاّ هو لو علمت أحداً يصلح القضاء فِي هَذَا العصر غيري مَا توليت وخرج مغضباً بغير سلام، فوجد من كَانَ فِي نفسه من أبي البقاء من أكابر الدولة الطريق إِلَى الوقيعة فِيهِ، فتكلموا مع السلطان فِي عزله، وتولية برهان الدين خطيب القدس، وبالغ بعضهم فِي وصفه.

فلما جاء الموكب الآخر خرج القضاة فجلسوا فِي الجامع عَلَى عادتهم إذ ذَاكَ، فدخل رجل فأطبق دواة القاضي أبي البقاء، وقال لَهُ: السلطان يأمرك أن تلوم بيتك، فصُرف عن القضاء فِي خامس جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين ووقع الترسيم عَلَى أمنائه وحاشيته.

واستقر البرهان ابن جماعة فِي الولاية، وخلع عَلَيْهِ، ونزل القاهرة فِي موكب عظيم إِلَى الغاية ما عهد نظيره بعد أن شرط شروطاً كثيرة أجيب إِلَيْهَا، فلما كَانَ فِي العشر الأخير من رجب أمر بإخراج أبي البقاء إِلَى الشام، فوصل إِلَى بلبيس ثُمَّ رفع إِلَيْهِ أن فِي جهته مالاً من المودع، فكشف عن ذَلِكَ فوجد الخلل من أمين الحكم، وَكَانَ يسمى إسحاق وَكَانَ قاصراً فِي الحساب، فدخل عَلَيْهِ الدخيل فقيل لأبي البقاء مَا جرى، فاستدعى بِهِ وسأله عن ذَلِكَ. وقال لَهُ: غررتني بتعويج رقبتك وسَدْل كمِّك وتشبهك بالكتّاب وأنت لا تحسن شيئاً! ثُمَّ قال لَهُ: أخبِرْني، هل فِي جهتي من هَذَا المال شيء؟ قال: لا والله. قال: فما الحيلة؟ قال: يتفضل مولانا ويساعدني عَلَى الغرامة. فقال: أنا أغرم مَا تضيعه! إن هَذَا لا يكون وسعي القاضي فِي براءة نفسه، وساعده جماعة من الأكابر عَلَى ذَلِكَ لِمَا

ص: 363

ظهر لهم من براءته، وظهرت إمارات التهمة عَلَى إسحاق من أنه صار يظهر الثروة الزائدة بعد الإملاق.

ثم اتفق موت بهاء الدين السبكي فاستقر أبو البقاء فِي تدريس المنصورية، والمدرسة المجاورة للشافعي، ثُمَّ شغر قضاء الشام ففوض إِلَيْهِ فِي المحرم سنة خمس وسبعين، فتوجه إِلَى الشام وباشر مباشرة فاضلة إِلَى أن مات فِي ثالث عشر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وسبعمائة.

محمد بن عبد الحاكم بن وهيب بن عبد الرحمن المَلِيحي يكنى أبا الفضل إسماعيلي من المائة السادسة.

قرأت بخط الحافظ قطب الدين الحلبي فِي تاريخ مصر: أنه ولي قضاءها بعد علي بن يوسف بن الكمال النابلسي فِي سنة سبع وثمانين وأربعمائة.

وذكر ابن ميسر فِي تاريخه: أن القاضي عند وفاة المستنصر - وهي سنة سبع وثمانين - كَانَ أبو الفضل ابن عبد الحاكم ويلقب فخر القضاة.

وذكر فِي حوادث سنة خمس وتسعين وأربعمائة فِي قضاة المستعلي: ابن الكحال ثُمَّ أعيد ابن عبد الحاكم ثُمَّ ابن رَجَا ثُمَّ ذَكا، ومات المستعلي وهو قاضٍ. وكأنّ هؤلاء كانوا يتناوبون المنصب وَقَدْ كَانَ بدر الجمالي أمير الجيوش يعظم هَذَا المَلِيجي ويزوره فِي بيته. وَكَانَتْ ولايته القضاء من قبل الأفضل ابن أمير الجيوش.

محمد بن عبد الدائِم بن سلامة ناصر الدين الشاذلي ابن بنت المَيْلَق وربما قبل لَهُ الملقي من المائة الثامنة ولد سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.

وسمع من جماعة من أصحاب النجيب، وحدث ببعض مسموعاته فِي حال ولايته القضاء.

ص: 364

ونشأ عَلَى طريق الوعاظ، واشتغل بالأدب فمهر ونظم الشعر الحسن، فكان يقص ببعض المجامع، ويجمع لَهُ مَا ينفقه عَلَى عياله، فاشتهر بَيْنَ العوام والجند، وَكَانَ حسن التأَتِّي، بهج الهيئة، جميل الشكل والقامة.

وولي الخطابة بالمدرسة الناصرية الحسنية بالرميلة، وحَسُن اعتقاد الناس فِيهِ، فصار يتعفف عن الَّذِي يحصل من الجباية فِي مجالس الوعظ ويفرق ذَلِكَ عَلَى الفقراء، فعظم قدره، واشتهر صيته، فاتفق أن الظاهر تغير عَلَى القاضي بدر الدين ابن أبي البقاء فالتمس من حاشيته من يصلح للقضاء، فذكروا لَهُ جماعة منهم الشيخ ناصر الدين المذكور. وَكَانَ حينئذ كثير التقشف ولبس الصوف الخشن والثياب البيض والطيلسان اللطيف، فاستدعاه الظاهر وفوض القضاء وخلع عَلَيْهِ ونزل معه جمع كثير من الأمراء والأعيان وسكن بحارة برجوان.

وساق القضاء بحرمة ومهابة، ولبس الملابس الفاخرة، والفُرش الهائلة، والخيل المسومة، حَتَّى صار فِي إصطبله نحو العشرين رأساً من الخيل والغزلان والنعام، وتشبه بأهل الدولة فِي استخدام البابا والفراش وغيرهما حَتَّى الشربدار، وأفرط فِي التقعير فِي أقواله وأفعاله.

وادعى أنه شرح مختصر المزني، فكان يدفع كراساً بخطه لمن يقرأ عَلَيْهِ فيضحك كل من يحضر من آحاد الطلبة، وجمع من الخلو من معرفة الأحكام والفقه جملة، إِلَى التعاظم المفرط والدعاوى الزائدة، والتف عَلَيْهِ قوم لأخلاق لهم فصاروا يحسنون أقواله وأفعاله.

ويقال لَهُ: إنه لَنَا حضر عند الملك الظاهر كَانَ عَلَيْهِ طيلسان صوف يساوي ديناراً، فلما تولى وحر الموكب كَانَ عَلَيْهِ ثياب تساوي ثلاثين ديناراً، فقال الظاهر لمن كَانَ سعى لَهُ عنده وأشار بطلب الطيلسان الصوف منه للتبرك ففعل: انظر الرجل الصالح كَيْفَ أمالته الدنيا بسرعة!.

ويحكى عن ابن ميلق أن رجلاً ولدت امرأته وهو مُقِلٌّ، فجاء إِلَيْهِ يلتمس منه شيئاً يعمل بِهِ لَهَا عصيدة فلم يسمح لَهُ بشيء، فخرج الرجل فرأى بَطْرِيك النصارى وَكَانَ يعرفه فسلم عَلَيْهِ، وشكى إِلَيْهِ ضرورته، فقال: تعال معي عَلَى الفتوح فجلس عنده، فجاءه عسل ودقيق وشمع فدفعه لَهُ كله فحمله، وجاء بالحمال إِلَى باب القاضي فقال لَهُ: ردَدْتَنِي خائباً وأنت قاضي المسلمين! ففتح الله

ص: 365

لي من كبير النصارى. وأراد أن يوبخه بذلك فما تأثر لذلك، فاستمر بقية أيام الظاهر الأولى.

ثُمَّ غلب يَلْبُغا النَّاصِرِيّ عَلَى المملكة فلم يغيره، ثُمَّ غلب منطاش يلبغا عَلَى تدبير المملكة فصرفه فِي سلخ ذي الحجة سنة إحدى وتسعين، وقرر المناوي. فلما عاد الملك الظاهر من الكرك فِي صفر سنة اثنتين وتسعين، قرر المناوي مع أمين الحكم بمصر بدر الدين البيدفي أن يرفع إِلَى السلطان قصة تتضمن أن ابن الميلق فِي حال ولايته أذن فِي اقتراض مال من المودع يكمل بِهِ الحمل لحرمين، فأحضره الظاهر فأهين بإيقافه مع خصمه، وادعى عَلَيْهِ فلم يثبت لذلك، واندهش حَتَّى خرّ مغشياً عَلَيْهِ، فذكر لي بعض أصدقائه عنه أنه كَانَ يقول: ذكرت فِي تِلْكَ الحالة الوقوف بَيْنَ يدي الله تعالى حَيْثُ لا ينفع مَال ولا بنون. ومن لا يحبه يقول إنه حصل لَهُ قعر فسقط فِي يده.

وفي الجملة صار السلطان يهزأ بِهِ ويضحك منه، وَلَمْ ينفعل لَهُ بل قسى عَلَيْهِ، فسأله عما ادُّعِي بِهِ عَلَيْكَ فأجاب بجواب غير سديد، فسأل من حضر فعرف أن المال لازم لَهُ، فأخرجه موكلاً بِهِ فباع بستاناً لَهُ ووزن المال، ولزم بيته مقهوراً إِلَى أن مات غمّاً فِي سنة سبع وتسعين وسبعمائة.

محمد بن عبد الرحمن بن عمر كَانَ ينسب إِلَى أبي دُلَف العِجْلي القاضي جلال الدين القَزْوِينيّ.

ولد فِي سنة ست وستين وستمائة بالموصل، وسكن الروم مع والده، وولي بِهَا قضاء ناحيةٍ وَلَهُ نحو من عشرين سنة، وقدم صحبة أخيه الشيخ إمام الدين وهو

ص: 366

الأكبر، وتصدى للإِشغال، وأخذ فِي تِلْكَ الأيام عن شمس الدين الأيكي، وناب عن أخيه إمام الدين لما ولي القضاء، ثُمَّ ولاه السلطان بعده ووصله بمال كثير.

وسمع من العز أحمد بن إبراهيم الفاروثي وغيره. وولي الخطابة بالجامع الأموي، ثُمَّ ولي القضاء وجفل مع من جفل فِي وقعة قازان، فسكن الديار المصرية إِلَى أن ولي القضاء بعد عَمَى القاضي بدر الدين ابن جماعة سنة سبع وعشرين وسبعمائة.

وصنف (تلخيص المفتاح) فتلقاه العلماء فِي الأقطار بالقَبول وعَنَوْا بِهِ وشرحوه، وبرع فِي الفقه والنحو والتصريف والمعاني والبيان والأصول، وَلَهُ كتاب (الإيضاح) ، وَكَانَ جواداً مفضالاً كثير الإحسان، متأنقاً فِي المآكل والملابس والمساكن، وبلغ من العز والجاه وتعظيم السلطان لَهُ مَا لا مزيد منه.

وحج مع السلطان فِي سنة اثنتين وثلاثين فوصله بجملة، وَكَانَ إِذَا جلس فِي دار العدل لَمْ يكن لأحد معه كلام، ويرمّل على يد السلطان فِي دار العدل وتَخرج القصص الكثيرة، فترجع بشفاعته مقضية.

وَكَانَ ملجأ للسائلين فِي ذَلِكَ، وحصل لهم بوجوده رفق كبير إِلَى الغاية.

هذا مَا كَانَ فِيهِ من جميل المحاضرة، وحسن الملاقاة، وفصاحة اللسان، والجمال وحسن الصورة، وحلاوة العبارة، وحدة الذهن، والإنصاف فِي البحث والتأني، والذكاء المفرط، والميل الكبير إِلَى الأدب، وحسن الخَطّ.

قال الصفدي: كَانَ من كَمَلة الزمان وأفراد العصر فِي مجموعه.

ويحمى أن فقيهاً من جيرانه كَانَ يؤم ببعض المساجد نيابة عن صاحب ذَلِكَ المسجد بستين درهماً فِي كل شهر، وأنه أقام سنة وصاحب المسجد لا يسمع لَهُ بشيء، فَقَرُبَ عيد الفطر واحتاج إِلَى توسعةٍ، فطالب ناظر المسجد فَسَوَّفَ بِهِ، فتوسل إِلَى القاضي جلال الدين بعض جيرانه أن يرسل إِلَى الناظر يأمره بصرف معلومه، فأخذه التاجر وتوجه بِهِ إِلَى منزل القاضي فصلى معه المغرب، وذلك فِي أواخر شهر رمضان وهو بمنزله بجزيرة الفيل، فمدّ السماط فكان شيئاً فاخراً جدّاً، وَلَمْ يحجب عنه أحد.

ص: 367

ثُمَّ صلى معه العشاء والتراويح، ثُمَّ أتى بالحلوى وهي أنواع كثيرة بديعة، فِيهَا الكُنافة متبّلة بدُهن الفستق والقطر النبات، ثُمَّ أمره بالنوم عنده فعند السحر أعيدت تِلْكَ المآكل كلها وَمَا هو فوقها، ففي أثناء السحور سأل القاضي التاجر عن الرجل، فذكر لَهُ ضرورته فالتفت إِلَيْهِ وقال: يَا فقيه نحن ناس غرباء من هَذِهِ البلدة، وكلامنا ثقيل عليهم، وقطع الكلام فخجل الرجل. فلما كانت صلاة الصبح صلى معه وخرج فناول التاجر ورقة فقال: أعطيها لذلك الفقيه فوجدها خفيفة، ففتحها فإذا هي من ذهب، فأخذه الرجل وتوجه فوسع عَلَى عياله، فما انتصف النهار حتى جاء الناظر إِلَى التاجر يعاتبه عَلَى شكواه للقاضي فقال: معاذ الله! لَمْ أطلب منه إِلَاّ الشفاعة عندك. فصرف لَهُ مَا استحق لذلك النائب فِي الحال.

ولم يزل أمر القاضي جلال الدين مستقيماً حَتَّى نشأ ولده عبد الله، فإنه بسط يده فِي نواب البلاد والتمس منهم الهدايا، وكثرت القالة، وعظمت الشناعة، وانتشر الأمر حَتَّى بلغ السلطان وهو لا يقبل فِي الجلال ملاماً، ثُمَّ غلظ الأمر فاقتنى المماليك الحسان الخاصكية، واستخدم أوجاقية وركابين، وارتبط خيولاً مسومة وسابق عَلَيْهَا، ثُمَّ جاهر بسماع آلات الملاهي مع أنه ساكن فِي دار الحديث الكاملية، فرفع حاله إِلَى السلطان فأمر بإخراجه إِلَى الشام. فشق عَلَى أبيه فصبر إلى أن مضت سنة فتشفع ببعض الأمراء فأمر بعوده وعدل عن تِلْكَ السيرة إِلَى تعمير دار سكنه، فشرع فِيهَا وهي بطرف جزيرة الفيل، ففرض عَلَى نواب البر من القضاة بحمل الأخشاب والرخام وغير ذَلِكَ، وأفرط فِي ذَلِكَ حَتَّى كثر من ينكر عَلَيْهِ من الأمراء فضلاً من دونهم.

وكان عبد الله المذكور قليل المداراة، كثير المجافاة للناس، فتألبوا عَلَيْهِ ورتبوا فِيهِ قصصاً إِلَى السلطان كثيرة، بعضها منظوم، فأمر الناصر بعض الخاصكية يعرف القاضي أنه إِذَا حضر الموكب يستعفي من قضاء مصر، فإنه يستحيي أن يبدأه بالعزل ولا بد من ذَلِكَ ففعل فأجابه إِلَى مَا طلب، وولاه قاضياً عَلَى الشام عوضاً عن الَّذِي مات، وأمره بالمسير عَلَى خيل البريد، فاستشفع بأن يقيم أياماً قلائل يتجهز فِيهَا فأجابه إِلَى ذَلِكَ.

واستحضر مباشري الأوقاف فحاسبهم عَلَى مَا صار إِلَيْهِ وإلى أولاده من الأموال، فكان شيئاً كثيراً جدّاً، بحيث أنه ثبت فِي جهتهم للأشرفية المجاورة للمشهد النفيسي نحو من مائتي ألف، فأخرج كتبه وَكَانَتْ فِي غاية من النفاسة فباعها ووفّى بِهَا مَا عَلَيْهِ.

ص: 368

وباع ولدُه عبدُ الله من الأمتعة شيئاً كثيراً، حَتَّى قيل إنه باع من الصيني خاصة بأربعين ألفاً، ومن الجواري نحو العشرين من عشرة آلاف فما دونها، ومن الجواهر واللؤلؤ والزركش مائة ألف. ويقال إن جميع مَا أبيع لهم كَانَ بنصف قيمته. وبعد ذَلِكَ كله أكروا ستين محارة خارجاً عن الأحمال من الزاد والماء. ومع ذَلِكَ شق عَلَى أكثر الناس مفارقة القاضي جلال الدين لما كانوا يرون منه من الإحسان بعلمه وجاهه وماله، وَلَمْ يكن جوده مقصوراً عَلَى طائفة، بل يكرم الطلبة والفقهاء والفقراء.

وكان صرفه فِي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. وَكَانَ الناصر كثير الميل إِلَيْهِ حَتَّى أنه لما أراد الرحيل راسل السلطان أن يأذن لَهُ فِي توديعه فقال: لا أقدر أن أراه، فإنني متى رأيته وليته قضاء مصر. وذلك لكثرة ميله إِلَيْهِ ومحبته فِيهِ. وَلَمْ تطل مدته بدمشق بل أقام بِهَا إِلَى جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة ومات.

محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن علي بن صَدَقَة بن حَفْص الصَّفْرَاوِيّ شرف الدين أبو المكارم ابن القاضي رشيد الدين أبي الحسن ابن أبي الحسن ابن أبي المجد ابن عين الدولة الصفراوي الإِسكندراني الأصل، نزيل مصر، من المائة السابعة.

ولد فِي مستهل جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وكتب لابن درباس، وناب عنه فِي الحكم فِي سنة أربع وثمانين وخمسمائة وهو من أهل بيت علم وقضاء ومال، وَكَانَ أول أمره مالكي المذهب، فاتفق أن خطيب الجامع الأزهر عزل، فأمر صدر الدين ابن دِرْبَاس أبا المكارم أن يخطب وَكَانَ يوقع عنه فأجاد وأبلغ وأدى الموعظة أحسن تأدية، ولما صلى جهر بالبسملة، فلما فرغ شكره القاضي وأبلغ فِي الثناء عَلَيْهِ. فقال لَهُ بعض من حضر: جهرت بالبسملة وخالفت مذهبك، فقال:

فراقٌ ومن فارقتُ غير مُذمَّم

وأمِّمْ ومن يممت خير ميممِ

ص: 369

فاستحسن ذَلِكَ من حضر، واستمر شافعياً، وَكَانَ يقول: حَكَم من أقاربي سبعة عشر نفساً، منهم ثمانية بالإِسكندرية، وسائرهم بالفيوم والبحيرة.

ويقال إن دِرْباس لما استنابه توقف، وَكَانَ جمال الدولة أبو طالب صهر القاضي حاضراً فَأسَرَّ إليه لا تستعف، فإنك بعد ثلاثين سنة قاضي القضاة، فكان كذلك، ثُمَّ ناب بعد ذَلِكَ لمن ولي صدر الدين إِلَى أن استقل بالقضاء فِي سنة ثلاث عشرة وستمائة واستمر إِلَى أن مات فِي ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وستمائة، فكانت مدة حكمه نيابة واستقلالاً خمساً وخمسين سنة.

ولما تحول شافعياً تفقه عَلَى أبي إسحاق العراقي، وضياء الدين ابن دِرْبَاس، وأخذ أيضاً عن أخيه أبي القاسم، وروى عن والده، والسِّلَفِيّ، وأبي الطاهر ابن عوف، والصدر ابن دِرْبَاس، وأبي الطاهر ابن بُنان، واليسع بن عيسى بن حزم، ومحمد بن يوسف القرطبي. وأجاز لَهُ أبو الفرج ابن الجوزي وجماعة.

وذكره الحافظ المنذري وقال: علقتُ عنه شيئاً، وَكَانَ حسن الخط، لَهُ نظم ونثر ويحفظ من الشعر شيئاً كثيراً، وسمعته يقول: ولدت فِي جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ودخلت مصر فِي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وكتبت فِي الحكم عند صدر الدين ابن دِرْبَاس سنة أربع وثمانين، ثُمَّ ولي قضاء القاهرة والوجه البحري فِي سنة ثلاث عشرة وستمائة ثُمَّ ضم إِلَيْهِ مصر والوجه القبلي فِي سنة سبع عشرة وستمائة وأضيفت إِلَيْهِ من بلاد الشام غزة وغيرها، وَكَانَ عارفاً بالأحكام مطلعاً عَلَى غوامضها.

قرأت فِي تاريخ مصر لشيخ شيوخنا القطب: كَانَ هَذَا القاضي جواداً زاهداً، وَلَمْ تجب عَلَيْهِ زكاة قط، وَكَانَتْ وفاة والد أبي المكارم فِي سنة سبع وسبعين وخمسمائة وَلَهُ سماع من السِّلفي. سمع منه ولده ومن نوادره أنه ناظر فقيهاً فتبين لَهُ أن دعواه أكثر من علمه فأنشد:

وادعى أنه خبير بصير

وهو فِي العمى ضائع العكّاز

ومنها أنه تلقى الملك الكامل وَقَدْ قدم من سفر وصحبته الملك الناصر داود ابن المعظم فقال لَهُ الكامل لمّا سلم عَلَيْهِ: سلم عَلَى الملك الناصر، فسلم عَلَيْهِ وقال:

ص: 370

وكثرة النور تغشى ناظر المُقَلِ

فأعجب الكامل سرعة استحضاره. وكتب عَلَى نسخته من المقامات للحريري بط بعض الأكابر: وصار الحريري لَمَّا انتسبتْ إِلَيْهِ أجل من المطرز المذهب.

واتفق أن فخر الدين عثمان لَهُ بنت تزوجت بالريف ثعلب فمات فورثت منه. ثُمَّ تزوجت بالأمير شجاع الدين ابن علكان فأقر لَهَا انم جميع دوره ملك لَهَا، وكتب لَهَا بذلك مكتوباً، فلما وقف ابن عين الدولة عَلَيْهِ قال: كأنها استطابت الميتة فتعجلت الميراث، وكتب فِي آخر الإِسجال:

وكذا الحلاوة حين طاب مدامها

جُعلت مؤخرة عن الألوانِ

وثبت عنده لشخص عَلَى آخر دين فطلب اعتقاله، فقال: أنا أحتال لَهُ برهن فأنشده القاضي:

الجودُ طبعي ولكن لَيْسَ لي مال

وكيف يصنع من بالرهن يحتالُ

كتب لَهُ حسن بن محمود مدة، وَكَانَ فائقاً بذلك فاستقل بِهَا، ثُمَّ ولي وكالة بيت المال، فكتب لَهُ المخلص عبد الرحمن بن عبد الملك، وَكَانَ عارفاً بالفقه قادراً عَلَى النظم والنثر. ثُمَّ كتب لَهُ عبد الكريم بن علي العسقلاني، وَكَانَ عفيفاً جواداً، وَلَمْ يكن لَهُ سوى بغلة واحدة، فإذا كَانَ الربيع استأجر بغلة فِي كل يوم بثلاثة دراهم.

وقال علي بن سعيد المغربي فِي تاريخه: كَانَ أبو المكارم من أعجب الحُكام لأنه كَانَ من أهل الزهد والورع مع النوادر واللطائف، فكان بالأدباء أشبه منه بالقضاة. قال: وَقَدْ أجمع الملأ عَلَى أنه مع طول ولايته لَمْ يتهمه أحد بدرهم واحد أخذه عَلَى الحكم وَكَانَ السلطان الكامل يستطيب مجالسته ويستكثر منها. وسأله مرة عن سنّه فارتجل يقول:

يَا سائلي عن قُوَى جسْمي وَمَا فعلتْ

فِيهِ السنونَ ألا فاعلمه تَبْيينا

ثَاءُ الثلاثين أَحْسَسْتُ الفتورَ بِهَا

فكيف حالي فِي ثاء الثمانينا

ص: 371

قال وأنشدني لنفسه:

سَلَّتْ عَلَيْكَ سيوفَهَا الأَجْفَانُ

وتمايلتْ بك للهوى الأغصانُ

وتعطَّفَتْ بك للمعاطف رِقَّةٌ

أمستْ تُقِرُّ لَهَا الصَّبا والبَانُ

الله من تِلْكَ الجفونِ وسِحْرِها

يَا نائماً وغرامُه يَقْظَانُ

ومن نوادره أن خصمين تقدما إِلَيْهِ، فقال المدعي: قَدِم هذا من سفَر فقدمت إِلَيْهِ كذا وكذا زبدية من طعام. ثُمَّ قدمت من سفر فلم يقدم لي شيئاً. فقال: يَا وَفِي الدولة، اسمع مَا يقول كريم الدولة، فتبسم من حضر.

ومن نوادره أن القاضي شمس الدينِ ابن خَلِّكان استشفع عنده أن يوليه نيابة الحكم فامتنع، وقال لا خَلَّ كَانَ ولا عَسَلَ صار. فاتفق أن البدر السِّنْجَارِيّ لما قدم إِلَى القاهرة وخشي أبو المكارم أن ينضم ابن خَلِّكان عن نادرته فقال: لا شرقية ولا غربية. ثُمَّ قدم السنجاري فكان مَا ظنه أبو المكارم.

ولما صرف العماد ابن السكري أشار صدر الدين ابن شيخ الشيوخ عَلَى الكامل أن يقسم العمل شطرين، فولي ابن عين الدولة القاهرة والوجه البحري. وابن الخراط مصر والوجه القبلي، فلما صرف ابن الخراط فِي قضية ابن مرزوق، أضيف عمله إِلَى ابن عيد الدولة، فاستكمل القضاء بالديار المصرية، وذلك فِي سنة سبع عشرة وستمائة، وجمع لَهُ أبو الغيث منهال ابن عوز القضاة محمد بن منصور ابن منهال (سيرة) فِي مجلد وقال فِيهَا: كَانَ عالماً بأمور الشريعة مطلعاً عَلَى غوامضها بصيراً بالأحكام عارفاً بالسياسة حافظاً للقرآن ذاكراً للعلوم مستحضراً لأيام العرب ملازماً للصيام كثير الصدقة.

أسند الحديث عن السِّلَفي، وابن عوف. وَكَانَ يعرف الأنساب وأين العرب من أبدع الناس خَطّاً وأصحهم ضبطاً، وَكَانَ محاضره يستفيد منه أكثر مما يفيد، مع الورع

ص: 372

وكثرة الذكر فِي الخلوة، وموالاة الصيام والصدقة، لا يدخر شيئاً، ولا يعتني بلباس ولا غيره، لَهُ سجادة خضراء ومشط ومسبحة ومقراض وسواك، وبِذْلَةٌ واحدة إِذَا اتسخت غسلها ليلاً.

وَقَدْ أضيف إِلَيْهِ الحكم فِي عدة بلاد من الشام منها: غزة والخليل وبانياس وطَبَرية ودمياط وقَطيا ويَنبع. كل ذَلِكَ بعد الثلاثين، وَلَمْ يزل عَلَى حاله إِلَى سنة وفاته، فإن الملك الصالح أفرد عنه مصر والوجه البحري وولاها للبدر السِّنْجارِيّ وذلك فِي سنة سبع وثلاثين وستمائة، واقتصر فِيهِ عَلَى القاهرة إِلَى أن مات فِي تاسع ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وستمائة.

محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي بكر بن سعد المَقْدِسي القاضي شمس الدين ابن الدَّيْري الحنفي أبو عبد الله.

ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وقال مرة: سنة أربع وأخرى سنة ثلاث وأخرى سنة اثنتين. وَكَانَ يذكر أنه اختلف عَلَيْهِ قول أبيه وأمه، وَكَانَ أبوه تاجراً وحبّب إِلَيْهِ هو الاشتغال، فقرأ ببلده، ثُمَّ رحل إِلَى الشام وَلَمْ يكن لَهُ التفات إِلَى الحديث لا رواية ولا دراية.

وحدث بالبخاري عن تاج الدين المقدسي بسماعه من الملك الأوحد، وست الوزراء، فغلطوه وقالوا: إنما سمعه من وَزِيرَةَ والحَجّار، ووجد سماعه للثلاثيات وبعض الكتاب فقط، ومهر فِي مذهبه واشتهر بقوة الجَنَان وطَلَاقة اللسان والقيام فِي الحق.

ودخل القاهرة مراراً، وَكَانَ حسن القامة، مهاب الخِلقة، فلما مات ناصر الدين محمد بن العديم وكان أمر التَّفَهْنِيّ أن يتم، طلبه المؤيد فحضر من القدس، وولي القضاء فِي سنة تسع وثمانمائة، ثُمَّ صرف فِي ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة فولي التَّفَهْنِيّ، واستقر فِي مشيخه المؤيدية إِلَى أن مات ببيت المقدس فِي ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وَكَانَ دَخَله زائراً لأهله رحمه الله تعالى.

ص: 373

محمد بن عبد الله بن علي بن عثمان بن إبراهيم بن مصطفى صدر الدين ابن التركماني ولد جمال الدين ابن علاء الدين.

ولي القضاء للحنفية استقلالاً هو وأبوه وجده، وَكَانَ مولده فِي رابع شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة واشتغل ومهر وناب فِي الحكم عن والده، ونشأ نشأة حسنة، وولي القضاء بعد السراج الهندي فِي رابع عشر شهر رجب سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة وَقَدْ أكمل الثلاثين، فلم تطل مدته.

وكان حسن الصورة والسمت، فصيحاً وقوراً مهيباً، ولما ولي عرف الناس أن شيوخ العجم حسدوه لما مات أبوه وعين للقضاء، فإنهم اجتمعوا وقالوا: لا نرضى بِهِ لأنه حَدَث السن قليل العلم والمعرفة بالشروط، فولي السراج الهندي، فلما مات واستقر هَذَا ظَهَر من سيرته خلاف مَا وصفوه، واغتبط الناس بِهِ وأحبوه وعدوه من حسنات الدهر، وَكَانَ ينظم الشعر أحياناً واتفق أنه أصابه رمد فقال:

أفِرُّ إِلَى الظلامِ بِكُلِّ جهْدِي

كَأَنَّ النورَ يَطلُبُني بِدَينِ

وَمَا للِنّور من كَلَب ولكن

أراه حقيقةً مطلوبَ عَيْنِي

ولما حضرته الوفاة أوصى أن يكتب عَلَى قبره:

إن الفقير الذي أمسى بحُفرته

نزيل رب كثير العفو سَتَّارِ

يوصيك بالأهل والأولاد تحفظهم

فهم عِيَال عَلَى معروفك السَّارِي

ورثاه شهاب الدين ابن العطار بقوله:

وفاتك صدر الدين قاضي قضاتنا

قَد اغبر من زهر العلوم أَنيقُهُ

وقطّب بعد الضحك وجهاً وكيف لا

يُقَطِّبُ والنعمان مات شقيقهُ

ص: 374

محمد بن عبد الله بن قاسم، يأتي فِي محمد بن قاسم.

محمد بن أبي سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهَّر ابن أبي عَصْرُون محيي الدين أبو حامد ابن أبي سعد الشافعي، من المائة السابعة.

كان موصلي الأصل، سكن دمشق، وولي قضاء الديار المصرية بعد صرف زين الدين علي بن يوسف الدمشقي فِي الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، فِي سلطنة الملك العزيز عثمان ابن صلاح الدين، وصرف فِي سادس عشر المحرم سنة اثنتين وتسعين، وَكَانَتْ ولايته سنةً واحدةً، وأُمر بعد عزله بلزوم بيته فأغلق بابه وأقام فِيهِ ثُمَّ أذن لَهُ أن يخرج من مصر فتحول إِلَى دمشق، فأقام بِهَا إِلَى أن مات فِي شهر ربيع الأول سنة إحدى وستمائة.

وكان قَدْ سمع أباه، والسِّلفي وغيرهما، وحدث باليسير، وَكَانَ شجاعاً جواداً، وَكَانَ أبوه من أعيان الشافعية ومشاهيرهم، وَلَهُ تصانيف مشهورة، استوطن دمشق إِلَى أن مات فِيهَا.

محمد بن عبد الله بن محمد بن الخصيب بن الصقر بن حبيب الإصبهاني ولد سنة ثلاثمائة، وكتب الحديث، وَكَانَ ينوب فِي القضاء خلافة عن أبيه، واستقل بالقضاء بعد وفاة والده فِي النصف من المحرم سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، فلما خُلع عَلَيْهِ وركب إِلَى الجامع يوم الجمعة ثارت بِهِ العامة وشغبوا عَلَيْهِ وحَصَبوه فصاح: مَا الَّذِي يُنْقَم عليَّ وَقَدْ عمرتُ الأحباس ووفَّرتُها وفُرّقت فِي مستحقيها! وَمَا يضبط أحد قط أنني ارتشيت أنا ولا أبي، فما ارتدعوا عنه، وراسل الأمير وهو يومئذ كافور الإِخشيدي فأنفذ إِلَيْهِ غلامه مقبل الخادم يسأله عن حاله فأظهر تجلداً، وباحث من حضر من العلماء فِي شيء من المسائل واستمر إِلَى صلاة العصر.

ص: 375

وَكَانَ ضَمِنَ لكافور عَلَى ولايته مصر وعملها والرَّمْية وطَبريَّة مالاً، فحلّ الأجل فطالبه الوزير جعفر وتهدّده فهلع وخار طبعه، فاعتلّ سبعة أيام ومات، وقيل إنه مات مسموماً سمّه خادم لَهُ خصِيّ.

قال ابن زولاق: وَكَانَ كاتباً حاسباً يعرف الأدب وأيام الناس، وكتب الحديث، وخدم كافور قديماً، وأكل معه وسامره وَكَانَ جريّاً عَلَى مَا يريد. وَكَانَ يمازح صالح بن نافع ممازحة قبيحة فِي الصفاع، فعمل فِيهِ بعض الشعراء عَلَى لسان شخص كَانَ ينقر نقوش الخواتيم بيده.

إني إِلَى القاضي أمتُّ بحُرمةٍ

هي بيننا حق كفرض لازم

سِرٌّ لطيف فِي قَفاه وَفِي يدي

هي آية بَهَرَتْ عقول العالَم

فَقَفَاه ينتقد الأَكُفّ بحسّه

ويداي تَخْشَى فَضَّ نَقْشِ الخاتمِ

وَكَانَ ذَلِكَ فِي رمضان سنة سبع وأربعين، وَكَانَ جواداً وَقَدْ مدحه أبو الطيب المتنبي بالقصيدة التي أولها:

أَفَاضِل الناس أغراضٌ لِذَا الزَّمنِ

يقول فِيهَا:

قاض إِذَا التبس الأمرانِ عَنَّ لَهُ

رأيٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الماء واللَّبَنِ

وذكر ابن زولاق فِي ترجمة أبيه عبد الله بن محمد أنه كَانَ يباشر معه القضاء، وأنه كَانَ كثير التزوير، وأنه زوَّر عهداً عن المطيع لأبيه، وشاع عن الخَصِيبيّ أنه قال: العمل لولدي وإنما أنا معين لَهُ.

وكان الخَصِيبيّ يوقّع بيده وبخط أبيه توقيعات ويختِمها ويكتب فِي عُنوانها (محمد بن عبد الله) ، ثُمَّ استبدّ بالأنكحة وتقدّم إِلَى كُتّاب الشروط أن لا يكتبوا إِلَاّ للقاضي (محمد بن عبد الله) .

وامتدت يد الابن فعزل وولّى حَتَّى كَانَ هو المستقل بالأمر، وَلَيْسَ لأبيه إِلَاّ الاسم

ص: 376

فِي الغالب، وكان إِذَا بلغه أن أحداً سعى فِي قضاء مصر دبّر عَلَيْهِ المكايد واحتال عَلَيْهِ بكل حيلة إِلَى أن يبالغ فِي أذاه.

فبلغه أن أحمد بن إبراهيم الأندلسي أحد العدول بمصر سعى من بغداد، فدبّر عَلَيْهِ مكيدة عند كافور حَتَّى قبض عَلَيْهِ وهَمّ بقتله، وكذلك صنع بأبي بكر محمد ابن طاهر النقيب، ولولا أن أبا جعفر مسلماً العلوي توسَّط فِي أمرهما لَهَلَكا. ثُمَّ زاد أمر الولد فِي مخالفة أبيه حَتَّى تَبَايَنَا وتَعَادَيا وتَعَانَدَا فِي كل شيء، حَتَّى كَانَ الأب إِذَا قرَّب أحداً أبعده ابنه وبالعكس.

وانقطع الابن إِلَى كافور، وتولّى لَهُ عمارة داره وقال لَهُ: أنا ألبس الدُّرَّاعة ولا أريد القضاء. ووقع الإرجاف بمصر بوصول توقيع الأندلسي من بغداد، فاتفق أن مات ووصل التقليد بعد موته بخمسة أيام، وكذلك اتفق لمحمد بن طاهر المذكور من فجأة الموت، لكنه لَمْ يردْ لَهُ توقيع. وَكَانَ موت أحمد بن إبراهيم سنة اثنتين وأربعين، وموت محمد بن طاهر سنة ست وأربعين.

وقال ابن زولاق: إن الابن كَانَ فِي الغاية فِي قلة الدين وصَفَاقة الوجه.

قلت: وقع لابن عساكر فغي تاريخه الكبير مع سعة اطلاعه فِي ترجمة الخَصِيبِيّ هَذَا تقصير كبير فإنه قال مَا نصّه: محمد بن عبد الله بن الخَصيب ولي قضاء دمشق نيابة عن أبيه بن محمد، وَكَانَ أبوه يلي القضاء عَلَيْهَا من قِبَل المطيع لله أبي القاسم الفضل بن جعفر.

ذكر أبو محمد ابن الأكفاني أن عبد الله بن محمد بن الخصيب ولي القضاء بمصر فِي أيام المطيع فِي سنة أربعين وثلاثمائة إِلَى أن توفي فِي تاسع المحرم سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وولي ابنه محمد بن عبد الله فأقام ينظر شهراً ثُمَّ اعتلّ، ومات لستّ خلونَ من شهر ربيع الأول كذا قال ابن الأكفاني.

وبلغنا من وجه آخر أن محمد بن عبد الله كَانَ يقضي بمصر خليفة لأبيه فِي حياته وأبوه يحضر معه إِلَى أن مات فِي يوم الأربعاء لسبع خلون من ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة بعد وفاة أبيه بخمسة وأربعين يوماً هَذَا آخر كلامه.

ص: 377

والذي بلغه عن غير ابن الأكفاني فِي كونه كَانَ ينوب عن أبيه بمصر صحيح، وَمَا عدا ذَلِكَ القول قول ابن زولاق لأنه أعلم بأهل بلده.

قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي يمدح محمد بن عبد الله بن محمد الخصيب المصري القاضي وهو يومئذ قاضي أنطاكية فقال:

أفاضِلُ الناسِ أغراضٌ لذا الزَّمن

يخلو من الهمّ أَخْلَاهُمْ من الفِطَنِ

وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي جِيلٍ سَواسِيّةٍ

شَرٌّ عَلَى الحرِّ مِنْ سُقْمٍ عَلَى بَدَنِ

حَوْلِي بِكُلِّ مكان مِنْهُم خِلْقٌ

تُخْطى إِذَا جئتَ فِي استفهامها بِمَنِ

لا أَقْتَري بَلَداً إِلَاّ عَلَى غَرَرٍ

وَلا أَمُرُّ بِخَلْقٍ غَيرِ مُضْطَغنِ

وَلَا أُعَاشِرُ مِنْ أَمْلاكِهِمْ أحَداً

إِلَاّ أَحَقَّ بِضَرْبِ الرَّأْسِ من وَثَنِ

إني لأعْذِرهم هم مِمَّا أُعَنِّفُهُمْ

حَتَّى أُعَنِّفُ نَفْسِي فِيهِمُ وأنِي

فقر الجهول بلا عقل إِلَى أدب

فقر الحمار بلا رأس إِلَى رسن

وَمُدْقِعِينَ بَسُبْرُوتٍ صَحِبْتُهم

عَارِينَ مِنْ حُلَلٍ كَاسِينَ مِنْ دَرَنِ

خُرَّابِ بَادِيَةٍ غَرْثَيَ بُطُونُهُمُ

مَكْنُ الضَّبَابِ لهمُ زَادٌ بِلا ثَمَنِ

يَسْتَخْبِرُونَ فَلَا أُعطِيهمُ خبرِي

وَمَا يَطِيشُ لهم سَهمٌ مِنَ الظِّننِ

وخَلَّةٍ فِي جَلِيسٍ أتَّقِيهِ بِهَا

كَيما يُرَى أننا مِثلانِ فِي الوَهَنِ

وكلْمَةٍ فِي طَريقٍ خِفْتُ أعْرِبها

فيُهْتَدَى لي فلم أَقْدرْ عَلَى اللَّحَنِ

قَدْ هَوَّنَ الصَّبْرُ عِندي كل نازِلةٍ

وَلَيَنَ العَزْمُ حَدَّ المَرْكَب الخشِن

كمْ مَخْلصٍ وعُلاً خوْض مهلكةٍ

وَقَتْلَةٍ قُرِنَتْ بالذمّ فِي الجُبُنِ

لا يُعجِبَنَّ مَضِيماً حُسْنُ بِزَّتِهِ

وَهَل يَرُوق دَفِيناً جَوْدَةُ الْكَفَنِ

لله حالٌ أُرَجِّيها وتُخْلِفُنِي

وَأَقْتضي كَوْنها دَهْري وَيمْطُلُني

مَدَحْت قوماً وَإن عشنا نظمتُ لهمْ

قَصَائداً من إِناثِ الخيل والحُصُنِ

تَحْتَ العَجاجِ قَوافيها مُضَمَّرةً

إِذَا تُنُوشِدْن لَمْ يَدْخُلْن فِي أُذنِ

فَلَا أُحارِبُ مَدْفُوعاً عَلَى جُدُرٍ

وَلَا أُصَالِحُ مَغْرَوراً عَلَى دَخَنِ

مُخَيَّمُ الجَمْع بالبَيْدَاء يَصْهَرُهُ

حَرُّ الهَوَاجِرِ فِي صُمٍّ مِنَ الفِتَنِ

ألقى الكرامُ الأَولى بادوا مكارِمَهُمْ

عَلَى الخَصِيبيّ عند الفرضِ والسُّنَنِ

ص: 378

فهنَّ فِي الحَجرِ منه كُلَّما عَرَضَتْ

لَهُ اليَتَامَى بَدَا بالمجْدِ والمِنَنِ

قاضٍ إِذَا التَبَسَ الأَمْرَانِ عنَّ لَهُ

رَأيٌ يُخَلِّصُ بَيْنَ الماء واللَّبَنِ

غَضَّ الشباب بعيدٌ فَجْرُ لَيْلَته

مُجَانِبُ العَينِ لِلْفَحْشَاءِ والْوَسَنِ

شَرَابُهُ النَّشْحُ لا لِلرِّيِّ يَطْلُبُهُ

وطَعْمُهُ لِقِوامِ الجسمِ لا السِّمَنِ

النائلُ الصِّدْقَ فِيهِ مَا يَضُرُّ بِهِ

والوَاحِد الحَالَتين السِّرِّ والعَلَنِ

الفاصِلُ الحُكْمَ عَيَّ الأوَّلون بِهِ

والمُظْهِرُ الحقَّ للسَّاهي عَلَى الذَّهنِ

أَفْعَالُهُ الهَتِنُ بنُ العارِضِ الهَتِنِ اب

ن العارِضِ الهَتِنِ ابن العارض الهَتِنِ

قَدْ صَيَّرَتْ أول الدنيا أوَاخِرَها

آباؤُهُ مِنْ مٌغارِ العِلْمِ فِي قَرَنِ

كَأَنَّهُمْ وُلدُوا مِنْ قَبلِ أَنْ وُلِدُوا

أَوْ كَانَ فَهْمُهُمُ أيامَ لَمْ يَكُنِ

الخَاطِرينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أبَداً

مِنَ المَحَامِدِ فِي أَوْقى مِنَ الجنَنِ

للناظرِينَ إِلَى إقْبَالِهِ فَرَحٌ

يزيلُ مَا بِجِباهِ القَوْمِ مِنْ غَضَنِ

كَأَنَّ مال ابن عبد الله مُغتَرفٌ

من رَاحَتَيْهِ بأرض الرُّومِ واليَمنِ

لَمْ نَفْتَقِدْ بِكَ من مُزْنٍ سوَى لَشَقٍ

وَلا مِنَ البحرِ غيرَ الرّيحِ والسُّفُنِ

وَلا منَ اللَّيِ إِلَاّ قُبْحَ مَنْظَرِهِ

وَمِن سَواهُ سوى مَا لَيْسَ بالحسَنِ

مُنذُ احتْبَيْتَ بأَنطاكيةَ اعتدلت

حَتَّى كَأَنَّ ذَوِي الأوْتارِ فِي هُدَنِ

وَمُذْ مَرَرْتَ عَلَى أَطْوَادِها قُرِعَتْ

منَ السُّجودِ فَلَا نَبْتٌ عَلَى القُنِنِ

أَخْلَتْ مَوَاهِبُك الأَسْوَاقَ مِنْ صنع

أغنى نَدَاكَ عن الأعمال والمِهَنِ

ذا جودُ من لَيْسَ من دَهرٍ عَلَى ثِقةٍ

وَزُهْد من لَيْسَ فِي دنياهُ فِي وَطنِ

وهَذِهِ هَيْبَةٌ لَمْ يُؤْتِها بَشَرٌ

وذَا اقْتِدارُ لِسانٍ لَيْسَ فِي المُنَنِ

فَمُرْ وأوْمِ تُطعْ قُدّستَ من جَبَلٍ

تَبارَكَ اللهُ مَجْرِي الرُّوح فِي حَضَنِ

محمد بن عبد الله بن محمود جار الله أبو الثناء الحنفي.

ص: 379

قدم من الشرق وهو متأهل فِي عدة فنون، فصاهر السراج الهندي وناب عنه، وولي مشيخة سعيد السعداء فثار عَلَيْهِ أهلها وكتبوا عَلَى باب داره.

يَا خانقاه شيخنا

عن اللواط لَمْ يتب

لا تعتبيه واصبري

عَلَى أذى الجار الجنب

فاتفق أن الأشرف مرض فعالجه فعوفي، وَكَانَ حسن المعرفة بالطب، فولاه قضاء الحنفية لكثرة تشكي شرف الدين أحمد بن منصور وتضجره من الإقامة بمصر، فأذن لَهُ فِي العود إِلَى دمشق واستقر الجار مكانه فاستعظم الناس ذَلِكَ لما يعرفوه منه من البَأْوِ وكونه عارياً من الفقه.

فلما ولي ساس الناس سياسة جميلة، وصفح عمن أساء إِلَيْهِ، وَكَانَ فِي نفسه مهذّباً غير فحاش، واعتمد فِي ولايته عَلَى شمس الدين محمد القرمي صهره عَلَى ابنته، فأغراه القرمي بأن يضاهي قاضي الشافعية فِي لبس الطرحة والاستنابة فِي البلاد، فأنشأ مودعاً للحنفية، وَكَانَ السراج الهندي أراد ذَلِكَ فِي أيام يلبغا فلم يتم لَهُ ذَلِكَ، فسعى الجار عند بَرَكة فألبس الخلعة، فسعى ابن جماعة حَتَّى أبطل ذَلِكَ وساعده أكمل الدين، وقال فِيهِ الشعراء، من ذَلِكَ قول ابن العطار:

أمرت تركياً بمودع حكم

حنفي لأجل منع الزكاة

رَبّ خُذهم فإنهم إن يعيشوا

يُخشَ أن يأمروا بترك الصلاة

وقال المجد إسماعيل:

أراد الجَارُ جَوْراً فِي اليتامى

وَفِي الأموال حَيْفاً وَفِي الأَيَامَى

فالبرهان قَدْ قطع اعتداه

ولو قَدْ مُكِّنَ القرمي ياما

ومما مدح بِهِ جار الله:

للهِ جارُ اللهِ حاكِمُنا الَّذِي

مَا مِثلُه يُسعَى لَهُ ويُزَارُ

حُبَّاً لَهُ وكرامةً مِن ماجِدٍ

حَسْنَت خلائِقُه ونِعْم الجارُ

ص: 380

ومات قاضياً فِي رابع عشرين رجب سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة.

ورثاه الشهاب ابن العطار:

قاضي القضاة جلالُ الدين مات وَقَدْ

أعطاه مَا كَانَ يرجو بَارِئُ النَّسَمِ

حاشاه أن يُحْرِم الراجي مكارِمَهُ

أَوْ يرجع الجارُ منه غيرَ مُحْتَرِم

محمد بن عبد الله الميَاروداني نسبة إِلَى جزيرة فِي دجلة.

قال مسلمة بن قاسم: ولي القضاء بمصر سنتين، ثُمَّ رجع إِلَى بغداد فمات بِهَا سنة عشر وثلاثمائة، وَكَانَ حنفي الفقه متعصباً فِيهِ، ولعله ولي الحكم فِي بعض بلاد مصر.

محمد بن عبد المولى أبو عبد الله ابن أبي محمد بن محمد بن عبد الله ابن عتبة اللخمي اللُّبْني المالكي، واللبني: بضم اللام وسكون الموحدة بعدها نون منسوب إِلَى لُبْنَة، بُلَيدة بالقرب من المهدية.

ولاه الوزير رضوان عقود الأنكحة وَمَا يتعلق بذلك خاصة بعد موت الأعز أبي المكارم أحمد بن أبي عقيل، وذلك فِي شعبان سنة ثلاث وثلاثين، فباشر ذَلِكَ ثلاثة أشهر إِلَى أن استقر فِي القضاء فر الأمناء هبة الله بن حسن ابن الأزرق، ثُمَّ ولاه أبو علي أحمد ابن الأفضل القضاء رابع أربعة كما تقدم بيان ذَلِكَ فِي ترجمة الفقيه سلطان بن إبراهيم.

محمد بن عبد الواحد بن الحسين.

ولاه حسن ابن الخليفة الحافظ عبد المجيد الفاطمي بعد القبض عَلَى أبي عَلي

ص: 381

ابن الأفضل وعزل القضاة الأربعة الَّذِين رتبهم أبو علي كذا فِي شرح أرجوزة ابن دانيال حَيْثُ قال:

ثُمَّ وليه ولد الميسر

أعني سناء الملك رب المفخر

ثُمَّ أبو الفخر ونَجْل جعفراً

ثُمَّ محمد ولي بلا مِرا

وبعد هَذَا ولي الرعيني

ثُمَّ سنا الملك بغير مَيْن

فذكر بَيْنَ ابن ميسر سناء الملك اثنين فأبو الفخر هو صالح ونجل جعفر هو أبو الثريا نجم. ومحمد هو محمد بن عبد الواحد بن حسين كذا قال. وَلَمْ يذكر هَذَا ابن ميسر ولا غيره. والذي يغلب عَلَى ظني أن محمداً هَذَا هو ابن ميسر سناء الملك أيضاً فيكون ولي ثلاث مرات. وأما ولد الرعيني فيقال هو حسن بن قاسم بن طاهر وَقَدْ تقدم مَا فِيهِ فيمن اسمه حسن.

محمد بن عَبْدَة بن حَرْب البَصَريّ العَبَادَانيّ أبو عُبَيد الله - بالتصغير - حنفي من المائة الثالثة.

وُلد سنة ثماني عشرة ومائتين. وروى عن أبي الأشعث، وعمر بن شَبَّة، وأبي موسى الزمن، وأبي الربيع الزَّهْراني، وإبراهيم بن الحجَّاج، وهُدْبَة بن خالد، وعبد الأعلى بن حَمَّاد، وَعَلَى بن المديني، فِي آخرين.

روى عنه عبد العزيز بن جعفر الخِرَقي، وَعَلَى بن لؤلؤ، وأبو حفص ابن الزيات، وعلي بن عمر الحربي، وآخرون.

قال الدارَقُطني: لا شيء: سمعت الحسن بن أحمد السبيعي يقول: كَانَ يُظهر جزءاً من سماعه ويحدّث بِهِ، ثُمَّ صار يأخذ كُتب الناس ويحدّث بِهَا فانكشف أمره.

وقال البَرْقانيّ: تركه أبو منصور ابن الكرخي وغيره، وَكَانَ ابن أبي سعد لا يكتب حديثه.

وقال ابن عديّ فِي الكامل: كَانَ يحدّث من كُتُب قوم عن لَمْ يَرَهم، كتبت عنه ببغداد والموصل، وادَّعى أنه كتب عن بكر بن عيسى وكذب فِي ذَلِكَ، فإن بكراً

ص: 382

مات بعد مولده بثلاث سنين فكيف يكتب عنه! والضعف عَلَى حديثه بيّن، وبكر هَذَا كتب عنه أحمد بن حنبل ومات سنة أربع ومائتين فكيف يكتب عنه ووفاته قبل مولده بهذه المدة! قال: وَكَانَتْ كتبه الَّتِي تحدث منها محكوكة الظهر، وحدث بأحاديث انفرد بِهَا الحفاظ الأجلاد، يعني فسرقها منهم.

وقال ابن زُولاق: ولي من قِبَل خُمَارَوَيْه بن أحمد بن طولون فِي سنة ثمان وسبعين، وَكَانَ ينظر فِي المظالم قبل ذَلِكَ، ثُمَّ أظهر ولاية من المعتمد، وَكَانَ بَيْنَ موت بكّار وولايته فترة بقيت فِيهَا مصر بغير قاضٍ سبع سنين، نظر فِيهَا ابن عَبْدَة فِي المظالم أربعاً قبل أن يلي القضاء.

قال ابن زولاق: كَانَ يذهب إِلَى قول أبي حنيفة، وَكَانَ متملكاً جباراً سخيّاً جواداً مفضالاً، كَانَ له مائة مملوك مَا بَيْنَ خصيّ وفحل، وَكَانَ يعرف الحديث.

واعتذر ابن زُولاق: عمَّا رُمي بِهِ من الكذب بأن موسى بن هارون الحافظ ببغداد، كَانَ خرّج لنفسه مجلساً عن جماعة من الشيوخ وحدث بِهِ وكتب عنه، فاتفق أن بعض أصحاب الحديث خرج لأبي عبيد الله مجلساً صادف بعض أولئك الشيوخ ببعض تِلْكَ الأحاديث فحدّث بِهِ أبو عبيد الله، فظنَّ من لَمْ يطلع عَلَى صورة الحال أن أبا عبيد الله سرقه من موسى وَلَيْسَ كذلك، وإنما وقع ذَلِكَ اتفاقاً. قال: وَقَدْ قال القاضي أبو الطاهر الذُّهْليّ: إنه كتب المجلس المذكور عن موسى بن هارون، ثُمَّ كتب المجلس الآخر عن أبي عبيد الله.

وقال الخطيب: حدثني محمد بن علي بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله يعني الحاكم: سمعت أبا علي حامد بن محمد الهروي يقول: كَانَ أبو عبيد الله القاضي ببغداد منصرفاً من قضاء مصر وَكَانَ فِي مصر يعرف بأبي عبيد الله بن حربويه وَكَانَ أولاً يحدّث عن أبي الأشعث وطبقته ثُمَّ ارتقى إِلَى بندار وأبي موسى ثُمَّ ارتقى إِلَى إبراهيم بن الحجاج وأبي الربيع. قال: فحكى لي إبراهيم بن حمزة قال: فقال لي يوماً: يَا أبا إسحاق، عزمتُ عَلَى أن أحدّث عن الحَوضيّ والطيالسيّ.

ص: 383

فقلت: الله الله أَيُّها القاضي كنّا نُرْجَم. قال الخطيب: صاحب هَذِهِ القصة هو أبو عبيد الله بن عبدة بن حرب لا أبو عبيد بن حربويه فإن أبا عبيد بن حَرَبْوَيْه كَانَ أحد الثقات الأمناء الصادقين.

قلت: لعله ظنَّ أنهما واحد وَلَيْسَ كذلك.

ومن منا كيره مَا أخرجه الخطيب فِي أماليه من طريقه، عن إبراهيم بن الحجاج، عن حماد عن قَتَادة، عن أنس رفَعهُ: فِي الجنة دار يقال لَهَا دار الفرح لا بدخلها إِلَاّ من يُفرح الصبيان. قال الذهبي فِي الميزان: هَذَا نكرة.

واستكتب ابنُ عبدة أبا جعفر الطحاوي وأغناه وَكَانَ مهيباً يرعبه الشهود ويلزمون مجلسه، فاتفق أنه حضر المسجد الجامع فلما كَانَ قرب انصرافه نظر إِلَى شاهد لَمْ يحضر فاستدعى بِهِ فقال: ما أَخَّرَك. قال: شُغل. قال: فلك أشغل مني!؟ وأمر بِهِ إِلَى السجن ثُمَّ شفع فِيهِ فأطلقه.

ويقال إنه بنى داراً عظيمة كَانَ يدَّعي أنه صرف عَلَيْهَا مائة ألف دينار ثُمَّ يقول: صرفت عَلَيْهَا هَذَا القدر سوى أصل ثمنها، ودرهمي دينار والسعيد من قضى لي حاجة. يعني فيكون مصروفها ضعف مَا ذكر.

وَكَانَ أبو الجيش يجلّه ويعظّمه ويُجرى عَلَيْهِ كل شهر ثلاثة آلاف دينار، وفوض إِلَيْهِ مع القضاء النظر فِي المظالم والمواريث والأحباس والحِسبة، وَلَهُ مجلس فِي الفقه يحضره الفقهاء من الحنفية والشافعية، ومجلس للحديث يحضره الحُفَّاظ، وَكَانَ يُطْعِم الناس فِي داره. وأما فِي العيد فلا يتأخَّر عنه أحد من وجوه البلد من فقيه ومتفقِّه وشاهد وصاحب حديث ووجوه الكُتَّاب والقُوَّاد والتجار. وَكَانَ الطحاوي يجلس بَيْنَ يديه فإذا حضر الخصوم قال: من مذهب القاضي - أيَّده الله - كذا - ومن منه بعض تيهٍ فقال لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي أنت فِيهِ؟ والله لو أرسلت بقَصبةٍ فنُصِبت فِي حارتك لترين الناس يقولون: هَذِهِ قَصَبة القاضي. فاحذَرْ يَا أبا جعفر.

ص: 384

وَكَانَ القاضي قويَّ النفس، كثير الجُرْأَة، حَتَّى أن أبا الجيش حصل لَهُ غيظ من أكابر جيشه فتوسَّط بينهم القاضي إِلَى أن انصلح الحال فشكره أبو الجيش. وَكَانَ فِي جملة مَا قال لهم القاضي: أنا أشد السيف والمِنْطَقَة وأَحْمِلُ عن الأمير. وَمَا زال حَتَّى تراضوا فشكر لَهُ الأمير ذلك.

وقال الطحاوي: كَانَتْ لأبي الجيش شهادةٌ، فأمر بإحضار الشهود، وَكَانَ كلما كتب كاتب شهادته يقرأها الأمير ويكتب الشاهد: أشهدني الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وأدام عزه وعُلاه. فلما قرأها قال للقاضي: مَن هَذَا؟ قال: كاتبي. قال: أبو مَن؟ قال: أبو جعفر. فقال لي: وأنت يَا أبا جعفر فأطال الله بقاءك وأدام عِزَّك وعلاك.

قال: وأراد الطحاوي أن يقاسم عمه فِي رَبع كَانَ بينهما فحكم القاضي بالقسْمة، وأرسل إِلَى أبي جعفر قال: تستعين بِهِ عَلَى ذَلِكَ.

واتفق إِمْلَاك عند أبي الجيش فحضر القاضي وأبو جعفر فقرأَ الكتاب وعقد النكاح، فخرج خادم بصينيَّة فِيهَا مائة دينار وطيب فقال: كُمّ القاضي. فقال: القاضي: كُمَّ أبي جعفر. ثُمَّ خرج إِلَى الشهود وكانوا عشرة بعشرة صوانٍ والقاضي يقول: كُمَّ أبي جعفر. فألقيت كلها فِي كُمّ أبي جعفر ثُمَّ خرجت صينية أبي جعفر فانصرف يومئذ بألف دينار ومائتي دينار سوى الطِيب.

قال ابن زولاق: وَلَمْ يزل محمد بن عبدة ينظر فِي القضاء وغيره مما فوَّض إِلَيْهِ وهو يصطنع الناس وينفع كل من قصده، إِلَى أن قُدّر قتل أبي الجيش فوصل تابوته إِلَى مصر فصلَّى عَلَيْهِ القاضي.

واستقر فِي إِمْرة مصر ولده جيش، والقاضي مستمر عَلَى حاله إِلَى أن خُلع جيش ووقع الاختلاف والشغب، وقُتل علي بن أحمد الماذرائيّ وجماعة، وثارت الفتنة، وَكَانَ القاضي خرج ينظر فبلغه الخبر فرجع إِلَى داره وأغلق أبوابه واستتر مدة طويلة، وشغر القضاء. فعمد محمد بن أبَّا خليفة هارون بن أبي جيش إِلَى أصحابه

ص: 385

فضيق عليهم، واعتقل الطحاوي وطالبه بحساب الأوقاف، واستمر أبو عُبيد الله مُسْتَتراً عشر سنين، ورضي منه الأمير وغيره بذلك، فلم يطلبوه ولا سألوا عنه.

قال: وَكَانَ علي بن أحمد قَدْ أودع عند القاضي مالاً جزيلاً، وأودَع عند إبراهيم بن هارون العباسي نحو ذَلِكَ، فطلب أبو بكر محمد بن علي الماذرائيّ المال من القاضي فقال: أمرني أبوك أن أشتري لكم بِهِ ضياعاً بالبصرة وأعمال العراق ففعلتُ. وطلب من العباسي فقال: أرسل من يتسلَّم المال. فعاد الرسول فقال لَهُ: وجدت الأكياس عَشَّش عَلَيْهَا العنكبوت. فشكر الماذرائيّ للعَبَّاسِيّ ذَلِكَ واشترى لَهُ داراً بخمسة آلاف دينار ووهبها لَهُ.

وكانت مدة أبي عبيد الله إِلَى أن استتر ست سنين وسبعة أشهر، وأقامت مر بغير قاضٍ مدّة إِلَى أن ولَّى هارون بن أبي جيش أبا زُرعة القضاء فِي سنة أربع وثمانين ومائتين فباشره إِلَى أن وُلِّي محمد بن سليمان الكاتب إمرة مصر فأعاد ابن عبدة إِلَى القضاء وذلك فِي مستهل ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين، فسار سيرة جميلة، وقُرِئَ عهده بالجامع من قِبَل المكتفي، فلما كَانَ فِي العشر الأخير من جمادى الأولى مِنْهَا أمسك عن الحكم وسار صحبة محمد بن سليمان الكاتب إِلَى العراق وذلك بأمر محمد بن سليمان الكاتب، أخذ صحبته جميع وجوه أهل البلد إِلَى العراق فأقام محمد بن عبدة بالعراق حَتَّى مات.

ويقال إنه خرج فِي تجمّل زائد، وَكَانَ يُوصَف بسَعَة الصدر وكثرة الجود والصدقة، وَكَانَ أبو زرعة أيضاً قَدْ سافر وبقيت مصر بغير قاض إِلَى أن قدم أبو عبيد بن حربويه فِي رجب سنة ثلاث وتسعين.

وكان مسير محمد بن سليمان فِي مستهل شهر رجب سنة اثنتين وتسعين ومائتين لثلاث خلون منها. وعاش أبو عبيد الله بن عَبدة إِلَى سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة فمات عن خمس وتسعين سنة.

ص: 386

محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زُرعة ابن أبي زُرعة بن إبراهيم الثَّقفي مولاهم الشافعي الدمشقي.

قال ابن عساكر: ولي قضاء مصر فِي سنة أربع وثمانين ومائتين فِي إمارة خمارويه ابن أحمد بن طولون كذا قال. وسيأتي أن الَّذِي ولاه هارون بن خُمارويه. قال وروى عن

روى عنه محمد بن يوسف الهَرَويّ، والحسن بن حبيب الحَصائِرِي وآخرون.

قال أبو سعيد ابن يونس: ولي قضاء مصر، وَكَانَ محمود الأمر فِي ولايته ثقة، فلما عزل رجع إِلَى دمشق، وهو أول شافعي ولي قضاء مصر.

قال ابن الحداد: قال لي ولده الحسين: كَانَ أبي يتعصب للشافعي، وَكَانَ شرط لمن يحفظ مختصر المزني مائة دينار، وَكَانَ الغالب عَلَى أهل دمشق قول الأوزاعي، فكان أبي هو الَّذِي أدخل دمشق مذهب الشافعي وحكم بِهِ. وتبعه مَن بعدهُ من القضاة، وَكَانَ حسن المذهب، عفيفاً عن أموال الناس، شديد التوقف فِي الحكم، وَكَانَتْ فِيهِ سلامة، وَكَانَ لَهُ مال وضياع كبار بالشأم.

ويقال إنّ جَدَّ جَدِّه إبراهيم كَانَ يهودياً فأُسلم. وقيل إن ولايته من قبل هارون بن خُمارويه لأنه كَانَ فِي عهده أن اختيار القضاة إِلَيْهِ، وقيل بل ولَاّه المعتضد.

وقال ابن زولاق: حدثني عبيد الله بن عبد الكريم: كَانَ أبو زُرْعَةَ دَاهِيةً أول مَا قدم مصر لزم قبر أحمد بن طولون يبكي ويقرأ، فبلغ ذَلِكَ خُمارَوَيه فأعجبه، فدخل عَلَيْهِ أبو زُرعة ومعه رغيف فقال: هَذَا الرغيف ختمت عَلَيْهِ عشر ختمات، وختمت عَلَيْهِ عشرة آلاف (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فقبله منه وتبرّك بِهِ.

ص: 387

وولي قضاء الشام ثُمَّ ولاه هارون قضاء مصر. وقال تمام الرازي: حدثنا أبو عبد الله بن مروان، حدثنا أبو الفيض قال: لمّا قدِم المعتضد لحرب خُمارويه بن أحمد بن طولون أخرج معه إِلَى العراق أبا خازم عبد الحميد، وولَّى عوضه أبا زُرْعَة، ثُمَّ ولَّى عبيد الله بن الفتح المظالم، ثُمَّ ولَّى خُمارويه عبيد الله بن محمد العمري، ثُمَّ أقرَّه عَلَى الأردُنّ وفلسطين وأعاد أبا زرعة إلى دمشق إِلَى أن قُتل خُمارويه.

ثم إن هارون بن خُمارويه ولَّى أبا زُرْعة قضاء مصر وضمّ إِلَيْهِ فِلَسطين والأردُنّ وحمص وقِنَّسرين والعواصم، فاستخلف أبو زرعة عَلَى دمشق أحمد بن المعلى، وأبا الحارث بن أحمد بن علي، وفارس بن أحمد، ثُمَّ بعَّده مدة فِي سنة تسع وتسعين، ووُلّي أبو زرعة القضاء من قِبَل الخليفة فدخلها.

قرأت بخط الحافظ أبي محمد بن أبي القاسم ابن عساكر، أن والده أخبره قال: قرأت بخط أبي الحسين الرازي قال: سمعت جماعة من شيوخ أهل دمشق منهم عبد الرحمن بن عبد الله بن راشد قالوا: لما اتَّصل بأبي أحمد الموفق أن أحمد بن طولون خلعه بدمشق وكتب بذلك كتباً إِلَى سائر أعماله، أمر الموفّق بلعن أحمد بن طولون عَلَى المنابر. فلما بلغ ابن طولون أمر بلعن الموفَّق عَلَى المناب بالشأم ومصر.

وكان أبو زُرْعة محمد بن عثمان ممَّن خلع الموفَّق ولعنه، وقف قائماً عند المنبر بدمشق يوم الجمعة، فلما خطب الإمام ولعن الموفّق قال أبو زرعة: نحن أهل صِفِّين وأهل دمشق، وَكَانَ فينا من حضر الجَمَل ونحن القائمون عَلَى من عاند أهل الشام وأنا أشهدُ الله وأشهدكم أني خلعتُ أبا أحمق - يريد أبت أحمد - كما يُخلع الخاتم من الإِصبع، فالعنوه لَعَنَهُ الله.

قال: فلما رجع أحمد بن الموفق - يعني المعتضد الخليفة - من وقعة الطواحين الَّتِي كَانَتْ بينه وبين خُمارويه فيما حدثني بِهِ إبراهيم بن محمد بن صالح، وذلك فِي سنة إحدى وسبعين ومائتين. قال لأبي عبيد الله أحمد بن محمد الواسطي: انظر مَن انتهى إِلَيْكَ - ممَّن كَانَ يُبغضُ دولتنا من أهل دمشق فليُحمَل إِلَى الحضرة. قال: فحمل يزيد ابن محمد بن عبد الصمد، وأبو زُرْعةَ عبد الرحمن بن عَمْرو، وأبو زرعة محمد بن عثمان القاضي، حَتَّى صاروا بهم إِلَى أَنْطاكِيَّة مقيَّدين، ثُمَّ حملوا إِلَى بغداد. فبينما

ص: 388

الخليفة يسير يوماً إذ بُصِرَ بمحامل الشاميين فقال لأبي عبد الله الواسطي: مَنْ هؤلاء؟ قال: هؤلاء أهل دمشق. قال: وَفِي الأحياء هم؟ إِذَا نزلت فأذكروني بهم.

قال إبراهيم: فحدَّثنا أبو زُرْعَةَ عبد الرحمن بن عَمرو سنة إحدى وثمانين أنه لما نزل وجلس فِي مجلسه أحضرنا الواسطي فأوقفنا بَيْنَ يديه مذعورين فقال: أيكم القائل: قَدْ خلعت أبا أحمق من هَذَا الأمر كنزعي خاتمي هَذَا من إِصبعي؟ قال: فَرَبَّت أَلسِنَتُنا فِي أفواهنا حَتَّى خُيّل إلينا أننا نُقتل. فأما أنا فأُبلستُ، وأما يزيد بن عبد الصمد وَكَانَ تمتاماً فخرس.

وكان أبو زرعة محمد بن عثمان أَحدثَنا سِنّاً فتكلَّم فقال لَهُ الواسِطيّ: أمسك حَتَّى يتكلَّم من هو أكبر سِنّاً منك. فقلنا: أصلحك الله هو رجل متكلّم يتكلّم عنا. وَكَانَ هو المتكلم بالكلمة الَّتِي يطالبها القوم منَّا. فقال: والله مَا هُنا هاشمي صريح ولا قرشي صحيح ولا عربيّ فصيح ولكنَّا قوم مُلِكنا - يعني قُهِرْنا - وذكر أحاديث كثيرة فِي السمع والطاعة، ثُمَّ أحاديث فِي العَفْو والإِحسان ثُمَّ قال: أنا أشهدكم أن نسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وَمَالي عليَّ حرام غم كَانَ فِي هؤلاء من قال هَذِهِ الكلمة ووراءنا حُرَمٌ وعِيال وضُعَفاء، وَقَدْ تسامع الناسُ بهلاكنا وَقَدْ قَدرْتَ وإنما العفو بعد القُدرة فقال للواسطي: أطلقهم لا كثَّر الله أمثالهم. قال: فأَطلقنا.

قال: فاشتغلت أنا ويزيد بن عبد الصمد عند عثمان بن خُرَّزاد فِي نُزَه أَنْطاكِيَة، وسبق أبو زرعة الجميع إِلَى حِمص حَتَّى ورد دمشق قبلنا بأيام كثيرة، فتحامل أهل دمشق عَلَى أبي زُرْعَة بسببنا فكتبوا فِيهِ كتاباً ذكروا فِيهِ مثالب لَهُ، وتوجَّه أبو زرعة إِلَى مصر فسبقه كتابهم إِلَى خُمارَوَيه فدفعه إِلَيْهِ، فأقسم لَهُ أن هَذَا مختلق عَلَيْهِ وذكرهم بالجميل، فكتب لَهُ بولاية القضاء فرجع إِلَى دمشق قاضياً، ثُمَّ وضع يدع فِي كل من تكلَم فِيهِ حَتَّى أفضى لَهُ إِلَى شيخين كانا يلبسان الطويلة فمُدَّا فِي خضراء دمشق فضُربا بالدِّرَّة.

ص: 389

قال ابن عساكر عن غيره: إنه مات فِي شوال سنة إحدى وثلاثمائة. قال: وَكَانَ حافظاً للحديث وَكَانَ يُرمَى بالنَّصب.

وقال الحسن بن القاسم بن دُحَيم الدمشقي: وُلد لأبي زرعة وَلد فسماه الحسين وكنّاهُ أبا عبد الله، ثُمَّ ولد لَهُ آخر فسماه الحسن وكنّاه أبا محمد. قال فكتبت لَهُ رقعة أقول فِيهَا: لَوْ عقق القاضي عن ولديه معاوية وعمراً مَا كَانَ إِلَاّ ناصبيّاً.

قال ابن زُولاق: كَانَ أبو زرعة يَرْقى من وجع الضرس يقرأ عَلَيْهِ ويدفع إِلَى صاحبه حشيشةً فيسكن، فاتَّفق أن أبا زُنبور الوزير الماذرائي اشتكى ضرسه فجاءَ إِلَى أبي زرعة وسأله أن يرقيه فوضع رأسه فِي حجره وشرع غي الرُّقية، فقال: لَهُ فِي خِلال ذَلِكَ: أسألك أن تترك شيئاً حَتَّى تنفعك الرُّقية؟ قال: مَا هو؟ الكَذِب! فقال: سبحان الله. قال: الَّذِي عندي قلتُ لَكَ. قال: أَفعلُ فرقاه فلما فرغ قال لَهُ: سكن الوجع؟ قال: لا. قال: سبحان الله. فقال أبو زُنبور: شرطتَ أن لا أكذب فكرهت أن أقول: سكن وهو لَمْ يسكن. فحصل لأبي زرعة بذلك خجل شديد وَكَانَ يألفه هِرٌّ ولا يفارقه. وَكَانَ يمسح عَلَى ظهره وهو يقضي بَيْنَ الناس.

وزوّج أبو زرعة ولده الحسين ببنت أبي زنبور الماذرائي، وَكَانَ اسم أبي زنبور الحسين لن احمد وَكَانَ حينئذ بدمشق، فكتب أبو زنبور أسامي مائة نفس فِي دَرْج ووعدهم بأن يكونوا عنده قبل صلاة الصبح. فحضروا فأخرج إليهم مائة غلام بمائة قَدَح غالية، ومائة قُمقُم ماء ورد، ومائة مُشط، ومائة مِرآة، ومائة مِبْخَرة. ثُمَّ عقد النكاح. فخرج مائة غلام بمائة طَست ومائة إبريق وعشرة موائد. فعقدوا عَلَى كل مائدة عشرة أنفُس، فأكلوا، ثُمَّ عشرة موائد. فعقدوا عَلَى كل مائدة عشرة أنفُس، فأكلوا، ثُمَّ عشرة أنفُس، فأكلوا ثُمَّ غسلوا أيديهم، فأُلقيت عَلَى أيديهم مائة منديل، وأُعيدَ عليهم الطيب والبَخُور، وأُخرجت مائة صينيَّة فِيهَا الدنانير وتماثيل النَّدّ والعنبر فألقيت فِي أكمام الناس، وَكَانَ إِملاكاً مَا سُمع بمثله. ثُمَّ كَانَ العُرس بعد ذَلِكَ أعظم من الإِملاك.

وكان أبو زرعة كثير الشفَقَة، رقيق القلب، يغرَم عن الفقراء والمستورين إذَا أَفلسوا، حَتَّى كَانَ بعضهم إذَا أراد أن يتنزَّهَ أخذ بيد رفيقه فادَّعى عَلَيْهِ عند القاضي

ص: 390

فيعترف ويبكي ويدَّعي أنه لا يقدر عَلَى وفائه ويسأَل خصمه فِيهِ فلا يُجيبه فيغرم عنه.

وحكى بعض الشاميين أنه حصلت لَهُ إضافة فقال لبعض أصدقائه: قدّمني إِلَى القاضي فلعلَّه يُعطيك عني شيئاً أنتفع بِهِ. ففعلتُ وقلت: أيَّد الله القاضي: لي عَلَى هَذَا الرجل ستّون درهماً صحاحاً. فقال: مَا تقول؟ فأقرّ. فقال: أعطه حقَّه، فبكى وقال: مَا معي شيء. فقال لي: إن رأيت أن تنظِره؟ فقالت: لا. قال: فصالِحه. فقلت: لا. فقال إنك لقيط فما الَّذِي تريد؟ قلت: السجن. فقال: لا تفعل. فأدخل يده تَحْتَ مصلَاّه فأخرج دراهم فعدَّ لي ستين درهماً فدفعتها للرجل وآليت أن لا أفعل ذَلِكَ بعدها.

وحكى أبو زرعة أنه كَانَ عند عبيد الله بن سليمان بن وهب وهو وزير وَكَانَ قدِم دمشق قال: فقال لي: يَا أبا زُرعة، بلغني أن القضاة والشهود يركبون بخفاف بغير سراويل، فقال: معاذ الله أَيُّهَا الوزير. قال: واتفق أني كنت بغير سراويل فعاهدت الله إن سلِمتُ من التفتيش أن لا أعود، فسهَّل الله أن نهضت قبل أن يمتحنني بالتفتيش.

قال ابن زولاق. وَكَانَ أبو زرعة أحد الأكَلة، فيقال: إنه أكل سَلَّةَ مِشمِش، وسَلَّة تين، وسَلَّة خَوْج.

قال: وَلَمْ يزل أبو زرعة عَلَى القضاء إِلَى سلخ صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين إِلَى مَا صرفه محمد بن سليمان الكاتب لمحمد بن عَبْدَة، ثُمَّ خرج محمد بن سليمان وهما معه فولَّى محمد بن سليمان أبا زرعة قضاء الشأْم. وتأخرت وفاة أبي زرعة إِلَى سنة اثنتين وثلاثمائة فمات فِي شهر ربيع الآخر منها. ويقال مات سنة إحدى وثلاثمائة. حكاه ابن عساكر. وقيل: مات فِي شوال سنة ثلاث وثلاثمائة.

قال محمد بن يوسف الهرويّ: قلت لأبي زرعة القاضي: مَا أكثر حمل إسماعيل بن يحيى المُزَنيّ عَلي عن الشافعي. فقال: لا: بل مَا أكثر ظُلم المزني للشافعي.

ص: 391

محمد بن عثمان الحَرِيريّ الحنفي شمس الدين.

ولي بعد عزل شمس الدين السَّرُوجِيّ فِي ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة إِلَى أن مات سنة ثمان وعشرين، فولي إبراهيم المعروف بابن عبد الحق إِلَى أن طُلب منه بيع بعض الأوقاف فامتنع، فعُزل من مصر خاصة، ووليه عمر الرازي فِي مستهل رجب إِلَى أن مات فِي ثالث عشري رمضان كله من سنة سبع عشرة، فأعيد الحَرِيريّ.

محمد بن عطاء الله بن محمد بن أحمد بن محمود ابن الإِمام فخر الدين محمد بن عمر شمس الدين الهَرَوِيّ الرازي الأصل.

كان اسمه شمس ثُمَّ تَسَمَّى محمداً، وَكَانَ يذكر أنه من ذرية الإِمام فخر الدين. ومولده فيما يقال سنة ثمان وستين وسبعمائة، واشتغل بالعلم فِي بلاده حنفياً ثُمَّ تحول شافعياً، وتولع بالحفظ فذكر أنه حفظ تفسير الزهراوين من الكشاف وصحيح مسلم، وكثيراً من البخاري. وَكَانَ ذهنه جيداً ومشاركته حَسنة، إِلَاّ أنه كَانَ كثير المجازفة مقتدراً عَلَى الاختلاف فِي الحال من غير تلعثم.

قدم البلاد الشامية فِي سنة أربع عشرة وثمانمائة فحج ورجع إِلَى الشام، فقرر فِي تدريس الصلاحية، ثُمَّ ولي القضاء فِي جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وثمانمائة بعد عزل الجلال البلقيني، ثُمَّ صرف فِي ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين، فأعيد الجلال فِي سادسه، ثُمَّ وليه ثانية فِي سابع ذي القعدة سنة سبع وعشرين بعد ابن حجر، ثُمَّ صرف فِي ثاني رجب سنة ثمان وعشرين، فأعيد ابن حجر وخرج الهروي هارباً ممن لَهُ عَلَيْهِ ظلامة، فما طلع خبره إِلَاّ من بيت المقدس. فاستمر عَلَى تدريس الصلاحية إِلَى أن مات فِي ذي الحجة سنة تسع وعشرين وثمانمائة.

ص: 392

محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحديد العسكري الفقيه من المائة الرابعة.

لما ولي محمد بن موسى السرخسي بعد أحمد بن حماد. ورد كتابه عَلَيْهِ وَعَلَى عليّ بن أحمد بن إسحاق. يعني فتسلما القضاء من ابن حماد. وَكَانَ عزله فِي صفر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.

فكان ابن أبي الحديد يركب إِلَى دار ابن إسحاق وهو أسنّ منه وأَفْقَه. ثُمَّ دخل السرخسي البلد فِي جمادى الآخرة.

محمد بن عَلي بن مَعْبَد القدسي المعروف بالمدني المالكي، كَانَ مؤذناً بالمسجد النبوي.

ولي قضاء المالكية مرتين: الأولى سنة عشر وثمانمائة بعد عزل الجمال يوسف البساطي، ثُمَّ عزل فِي سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، فأعيد البساطي. ثُمَّ أعيد ثانية فِي سابع عشري شوال منها بعد عزل البساطي. ثُمَّ عزل فِي ثامن عشر ربيع الآخر سنة ست عشرة. فولي الشهاب أحمد الأموي.

ومات فِي ربيع الأول سنة تسع عشرة وثمانمائة عن سبعين سنة. وَكَانَ مشكوراً فِي أحكامه موصوفاً بالعفة مع قلة العلم.

محمد بن علي بن منصور صدر الدين الدمشقي الحنفي. أخو القاضي شرف الدين من المائة الثامنة.

ولد بدمشق سنة سبع وسبعمائة ونشأ بِهَا وأخذ الفقه عن البرهان ابن عبد الحق وسمع الحديث من الحجار والبندنيجي وغيرهما.

ص: 393

وروى عنه شمس الدين محمد بن علي المصري الزَّراتِيتي، ومحب الدين ابن جمال الدين ابن هشام وغيرهما.

وكان واسع العلم، لين الجانب، مهذب الخلاق، كثير التودد والبشر.

استدعاه برقوق بعد موت جار الله، فولاه القضاء فِي ثامن رمضان سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة فباشر مباشرة حسنة، وَكَانَ متحفظاً فِي أحكامه نَزِهاً، مات فِي حادي عشر ربيع الأول سنة ست وثمانين وسبعمائة.

محمد بن علي بن وَهْب بن مطيع بن أبي الطاعة القُشَيْرِيّ أبو الفتح المعروف بابن دَقِيق العيد، الإِمام العلم الشهير الماهر فِي الفقه والحديث ومعرفة طرق الاجتهاد، تقي الدين.

ولد بطريق مكة فِي المحرم سنة خمس وعشرين وستمائة، ويقال إن والده طاف بِهِ عَلَى يديه ودعا لَهُ بالعِلم والعمل.

ونشأ مع أبيه بقوص، وتفقه عَلَى مذهب مالك ومَهَر فِيهِ ودرس بقوص، ثُمَّ تَمذهب للشافعي، ورحل قاصداً ابن عبد السلام ولازمه، وبَرَعَ فِي علم الحديث وأصول الفقه حَتَّى فاق الأقران.

وصنّف التصانيف المشهورة، وَلَهُ النظم الرائق، والدين المتين، والأحكام المسدّدة، والنوادر العجيبة، ومن أعظم مَا حكى عنه أنه كَانَ يقول: ما تكلمت بكلمة ولا فعلتُ فعلاً إِلَاّ أعددتُ لَهُ جواباً بَيْنَ يدي الله تعالى، وَكَانَ الَّذِي أشار بِهِ عَلَى المنصور لاجين الضياء العبدي. فقال: أدلك عَلَى محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن ادهم؟.

وولي القضاء بعد موت التقي عبد الرحمن ابن بنت الأعز ثامن عشر جمادى

ص: 394

الأولى سنة خمس وتسعين وستمائة، فباشره إِلَى أن مات فِي سنة اثنتين وسبعمائة. وَكَانَ قَدْ عزل نفسه يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر سنة ست وتسعين ثُمَّ أعيد فِي اليوم الثاني.

قرأتُ بخط صاحبنا الشيخ جمال الدين بن عبد الله بن أحمد البشبيشي الشاهد: أخبرني قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، عن والده، عن أبي حيّان النحوي، أن ابن دقيق العيد شرح الإِلمام وأنه جاء فِي نحو ستين سِفْراً أَوْ أكثر من ذَلِكَ، وأن بعض المالكية حَقَدَ عَلَيْهِ انتقاله عن مذهب مالك وحسد الشافعية كيْفَ صار منهم، وأنه ارتَصد غيبة الشيخ فصادف فرصَة فأخذ الكتاب فوضعه فِي فسقية الصالحية، فلما فَقَدَ الشيخُ الكتابَ تألم، وأصبح الناس فرأوا ماء الفسقية أسود فبحثوا عن ذَلِكَ فوجدوا الكتابَ داخل الفسقية، وأن القطعة الموجودة بأيدي الناس كَانَ بعض الطلبة انتسخها، انتهى.

وفي سياق هَذِهِ القصة مُجَازَفَات كثيرة، وَقَدْ كنت أسمع شيخنا حافظ العصر أبا الفضل ابن الحسين يحكى أن الشيخ أكمل الإِمام فجاء فِي عشرين مجلداً، وأن بعض المحدثين حسده عَلَيْهِ فَتَرَقَّبَ وفاته فأخذ الكتاب فأعدَمه. وَكَانَ شيخنا فِي بعض الحيان يسمى الَّذِي اخذ الكتاب وهو من الحنابلة فلا أُوثر تسميته، لأن شيخنا كَانَ يجزم بذلك.

وصاحبنا جمال الدين لَمْ يفرق بَيْنَ الإِمام وبين شرح الإِلمام، كأنه كغيره من الطلبة يظن أن الإِمام وَلَيْسَ كذلك، فالإِمام كتاب فِي أحاديث الأحكام عَلَى الأبواب، وَكَانَ استمداد الإِلمام منه، والموجود منه قطعة نحو الربع، لكنها مفرقة، وأكثرها فِي ربع العبادات وَلَيْسَ فِيهَا شيء من الاستنباط وإنما يذكر علل الحديث كثيراً. وأما شرح الإِلمام فهو الَّذِي يوجد منه قطعة من أول الطهارة.

قال الحافظ قطب الدين شيخ شيوخنا فِي حقه: قيل إنه لَمْ يتكلم عَلَى الحديث من عهد الصحابة إِلَى زماننا مثل ابن دقيق العيد، ومن أراد معرفة ذَلِكَ فعليه بالنظر فِي القطعة الَّتِي شرح فِيهَا الإِلمام، فإن من جملة مَا فِيهَا أنه أورد حديث البَراء بن عازِب أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع واشتمل عَلَى أربعمائة فائدة.

ومن تصانيفه شرح العُمدة أملاه عَلَى إسماعيل ابن الأثير لما قرأ عَلَيْهِ العمدة، وهو جم الفوائد. وشرح مقدمة المطرزي فِي أصول الفقه. وعمل الاقتراح فِي بيان

ص: 395

الاصطلاح. وخرّج الأربعين المسلسلة بأهل العلم. وشرح مختصر ابن الحاجب الأصلي والفرعي وَلَمْ يكملهما.

وذكر القطب أنه جمع أسماء كل من وصف فِي الأسانيد بالحفظ، وَكَانَتْ ولايته فِي العشرين من جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وسِنُّه يومئذ سبعون سنة. وباشر القضاء بنزاهة وعفة وقيام فِي الحق وصلابة فِي الحكم.

وَكَانَ إذَا تخاصم إِلَيْهِ أحد من أهل الدولة بالغ فِي التشدد والتثبت، فإن سمع مَا يكرهه عَزَلَ نفسه، فعل ذَلِكَ مراراً، وَلَمْ يَدخل عَلَيْهِ شيء فيما يتعلق بالقضاء، إِلَاّ أن جماعة من حاشيته كادوه فِي توليته الحكم لمن لا يصلح.

وكانوا إذَا اعتنوا بشخص عرفوه موضع الدرس فإذا حضر مع الشيخ أخذ فِي الكلام معه فيعجبه ويصفه بالفضل ويسأل عنه فيصفونه بزيادة عَلَى ذَلِكَ، ولكنه يحتاج إِلَى مَا يعينه عَلَى القيام بأوده، ويسألونه لَهُ فِي جهة معينة فيوليه.

وَكَانَ يحب أهل العلم ويكرمهم ويتفضل عليهم، وَلَمْ يكن للدنيا عنده قيمة، وَكَانَ مغري بتحصيل الكتب حَتَّى كَانَ قبل أن يلي القضاء يركبه الدَّين بسبب ذَلِكَ. ويقال إنه اشترى كتباً من تَرِكَة ليتيم فطالَبه أمين الحكم فلم يكن معه مَا يدفعه لَهُ، فأحضر مجلس القاضي بدر الدين ابن جماعة وادعى عَلَيْهِ، فعرّف البدر بحاله، فلَامَه عَلَى الاستدانة والابتياع وَلَيْسَ عنده مَا يوفى بِهِ، فاعتذر بمحبة الكتب، فتوسّط شخص بينه وبين أمين الحكم حَتَّى أحاله بمعلوم الكاملية. وعاب الناس عَلَى القاضي بدر الدين لكونه سمع هَذِهِ الدعوى وَلَمْ يوف الثمن عن الشيخ.

وكان كثير الورع والمحاسبة لنفسه حَتَّى قال التاج الدِّشناويّ: خلوتُ بِهِ مرة، فقال لي: فزتَ برؤية الشيخ زكي الدين المنذري؟ فقلت لَهُ: وبرؤيتك. فقال: كَانَ الشيخ زكيُّ الدين أديَنَ مِنِّي وسكتَ ساعة ثُمَّ قال: غير أني أعلم منه.

وانتزع فِي أيام ولايته كثيراً من الأوقاف كَانَتْ أخرجت إقطاعات، وهو أول من غيّر خِلَع القضاة من الحرير إِلَى الصوف، وَكَانَ يرتب مع الأوصياء من يباشر أحوالهم ويطالعه بِهَا، وكان يقول ضابط مَا يطلب مني أن يجوز شرعاً ثُمَّ لا أبخل، وَكَانَ يتكلم عَلَى الخواطر ويخبر بأمور ستأتي فيقع كما قال وجُرّب لَهُ

.

ص: 396

نبذة من نظمه أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسن إذناً مشافهة عن الحافظ أبي الفتح اليَعْمُري، أنشدنا قاضي المسلمين أبو الفتح محمد بن المجد علي بن وهب بن مطيع القشيري لنفسه يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يَا سائراً نَحو الحجاز مُشمراً

اجْهَدْ فَدَيْتك فِي المَسير وَفِي السُّرىَ

وتَدَرَّعَ الصبرَ الجميلَ ولا تكُنْ

فِي مطلب المَجْدِ الأثيل مُقَصرَا

اقصدْ إِلَى حَيْثُ المكارم والنّدى

يلقاكَ وجههما مضيئاً مُقمرا

وإذا سهرتَ الليلَ فِي طلب العُلا

فحذار ثُمَّ حَذَار من خدع الكَرَى

إنْ كَلّت النجبُ الركائب تارة

فأعِد لَهَا ذِكر الحبيب مُكررا

وابعث لَهَا سيَر المدام فإنها

بالذكر لا تنفك حَتَّى تَسْكَرَا

وإذا اختفت طرق المسير وظَلَّ مِنْ

أشكالها نظر البصير محيرا

فالقصد حَيْثُ النور يشرق ساطعاً

والطرف حَيْثُ ترى الثَّرَى مُتعطرا

قِفْ بالمنازل والمَناهل من لَدُنْ

وادي قباءَ إِلَى حِمى أمّ القُرى

وَتَوَخَّ آثار النَّبي فضَع بِهَا

متشرفاً خَدَّيك فِي عَفْرِ الثَّرَى

وإذا رأيتَ مَهَابط الوحي الَّتِي

نشرت عَلَى الآفاق نوراً أنورا

فاعلم بأنك مَا رأيتَ شبيهها

مذ كنتَ فِي ماضي الزمان ولا يرى

شرفاً لأمكنة تنزل بينها

جبريل عن رب السماء مُخَبِّرا

فتأثَّرت عنه بأحسن بهجة

أفدي الجمالَ مؤثَّرَا ومُؤَثِّرا

فتردد المختارُ بَيْنَ بعيدها

وقريبها متبدياً متحضرا

ص: 397

فَتَبرجَت بجماله وتَشَرَّفْتَ

بجلاله ورأت مقاماً أكْبَرا

واستودعت من سِرّه ما كاد أن

يبدي لَنَا معنى الكَمال مُصَوَّرَا

الله أكبر مَا أعزَّ جنابَه

وأجلَّ رفْعَتَه عَلَى كل الوَرَى

ولقد أقول إِذَا الكواكب أَشْرَقَتْ

وترفعتْ فِي منتهى شرف الذُّرَى

لا نَفخرنْ زهرٌ فإنّ محمداً

أعلى عُلاً منها وأشرف جَوهرا

أحيى الله ببعثه سُنَن الْهُدَى

وأعاد من عهد النبوة أَعْصُرَا

وأتى بِهِ والناس فِي ظُلَمِ الْعَمَى

مَوْتَى المعارف والقلوب فأنشرا

نلنا بِهِ مَا قَدْ رأينا مِن عُلاً

مع مَا نؤمل فِي القيامة أن نرى

فبه الملاذُ تقدُّماً وتأخرا

وَلَهُ الجميل مُحقَّقاً ومقَرَّرَا

لله مَا فِيهِ من الشرف الَّذِي

أعيا عَلَى حُسَّابه أن يَحْصَرَا

فسعادة أزلية سبقت وَمَا

هو ثابت أزَلاً فلن يَتَغَيرا

وسيادة بارَى الأنامَ بِهَا ولا

سيما إِذَا قدموا عَلَيْهَا المحشرا

وَزَهَادة مَا استصلحت شيئاً من الدن

يا لأن يُصغِي إِلَيْهِ وينظرا

وجلالة فِي الخُلْق حَتَّى أنَّه

أثنى عَلَيْهَا من بَرَاهُ وَصَوَّرَا

وطهارة فِي الخلق حَتَّى أنَّه

يندَى مع الأعراف مِسكاً أذْفَرَا

وتجاوزٌ يُنسى العيوب تكرماً

ويغادر الذنب الكبير مُحقرا

ومواهب يأتي لَهَا التَّأْمِيلُ مُسْت

قصَى فيرجع عندها مُستقصِرا

ومَهَابة مَلأَ القلوب بَهاؤها

واستنزلتْ كِبْرَ الملوك مصغَّرا

ولربما كفتِ القتال فلو غدت

للَّيْثِ نال بِهَا الفريسة مُخْدَرَا

وبديع لطف شمائل من دونها

ماء الغَمامة والنسيم إِذَا سَرَى

ص: 398

مع سطوة لله فِي يوم الوَغَى

تَعنو لشدّة بأسها أسْدُ الشَّرَى

متعادل الطرفين فِي طرق العلا

عدلاً وحاشاه بأن يَسْتَجْوِرَا

لا يُنكرُ المعروفُ من أخلاقه

فإذا استُبيح حِمَى الإِلهِ تنكّرا

عضبا لو أن البيض تدرك كنهه

دانت لَهَا رعباً فسالَت أنهرا

وقي لقرب جَنَابه وصحابه

شوقاً يجل يَسيره أن يُذكرا

أفنى كنوز الصبر من إسرافه

وجرى عَلَى الأحشاء منه مَا جرى

إن لاح صُبح كَانَ وجداً مقلقاً

أَوْ جنَّ ليلٌ كَانَ هَمّاً مسهرا

لا وَاخَذَ الله الزمانَ فإنه

أعني مرداي منه أن يتيسرا

أرجو وصال أحبتي فكأنما

أرجو المحال وجُودَه المتعذّرا

وأسير نحو مقامهم حَتَّى إِذَا

شارفتُ رُؤْيته رجعتُ القَهْقَرا

متلوناً فِي الحال والمتغير الأحْوِ

ال يلقى شربه متغيرا

يَا خاتم الرسل الكرام نداءَ مَنْ

وافى إِلَيْكَ مديحه مستعذرا

أنا ضيفك المدعو يوم معادنا ال

مرجوّ فاجعل منْ قرايَ الكوثرا

وبهذا السند إِلَى الإِمام القشيري قال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

شرف المصطفى رفيعٌ عمادُهْ

لَيْسَ يحصى لكثرة تعدادهْ

لَاحَ للمُهتدين منه سِراج

بيد الله قِدْحُه وزنادهْ

وبدا للغاوين سيف انتقام

مستحيل عليهم إغمادهْ

بعثه كل خير وميلا

دُ الهدي والتقى معاً ميلادهْ

فالمَعالي لِذاتِه وعلوم الغيْ

ب لذاتُه ومنها مِدادهْ

وَلَهُ فِي صفاته ومزايا

هُ كمالٌ تَشْجَى بِهِ حسَّادهْ

لا ينال العدو منها ولا يق

دَحُ فها عُتُوُّهُ وعتَادُهْ

بهرت كل من رآها كمالاً

وأقرت بفضلها أضدادهْ

ص: 399

ثابت الجأْشِ طاهر النفس

سمح الطبع فِي البذل الجزيل جوادهْ

حامل الكَلِّ وافر الفضل وافي ال

عَدْلِ هَيِّن المرام سَهْلٌ قيادهْ

أبطحيّ لَهُ من النسب الوا

فِرِ فَخْرٌ تنمَّى بِهِ أجدادهْ

وَلَهُ فَوْقَ فخرهم من مساعيه طري

قٌ لا يدعيه تِلادُهْ

وبه قَدْ تدارك الله أهل ال

أرض لما طغى عليهم عبادهْ

وغدا فيهمُ لإِبليس سوق

قائم بينهم بعيد كسادهْ

وضلال لو أن لاح للعَيْ

نِ غَطى وجه الصباح سوادهْ

فأتاهم نور مبين ودين

واضح حقه جلى سدادهْ

جاء من عند ربه بكتاب

محكم الرَّصف كامل إرشادهْ

هو غَض عَلَى الزمان لذيذٌ

درسُهُ لا يمله تردادهْ

أعجز العالمين طرّاً ومن غا

لَبَ بحراً أودت بِهِ أطوادهْ

سخِر الكون للرسول فأبدى

صامت نطقه وحيا جمادهْ

وَلَهُ الجذع حنَّ لما شجاه

بعد قرب المزار منه بعادهْ

وأجاب استدعاه الشجر المنقا

د طوعاً لما أريد انقِيادهْ

وأتى بانشقاق بدر الدياجي

خبر عنه ثابت إسنادهْ

كثرت معجزات أحمد حَتَّى

صار خَرْق العادات فِيهَا اعتيادهْ

هي كالدر فِي الغنا إن تؤلف كَا

نَ فضلاً أوْلا اكتفت آحادهْ

ثُمَّ لو لَمْ يكن لكان دليلاً

واضحاً حسن شرعه واعتقادهْ

ويقيناً بالله حقّاً فلا تلْ

قاه إِلَاّ عَلَى الإِله اعتمادهْ

وعلوم لَمْ يدرها قومه قبْ

ل وحُكْمٌ لا تقتضيه بلادهْ

وعباداته الَّتِي لَمْ يَحُل عنها

ملالاً وطال فِيهَا اجتهادُهْ

سعدتَ منه أنْجُمُ بالصُّحْ

بَة لَمّا اشتكى الفراق وسادُهْ

تَعَب للجسوم يبْدِيه اللَّ

هـ من راحة المعاد مرادُهْ

يَا رسول المليك دعوة من

زاد بع شوقه وصح ودادُهْ

لَكَ أشكو حالاً من الدين والدن

يا شديد غلوه واقتصادهْ

ص: 400

هو حَدّ بَيْنَ السرور وبَيْنِي

كدَّرَ العيش عكْسُه واطرادُهْ

فعليك السلام من ذي اشتياق

أنت فِي الحشر كنزه وعتادهْ

وبه إِلَيْهِ مخمس يشكو حاله:

ذَرُوا فِي السرى نحو الجناب الممنع

لذيذ الكرى واجفوا لَهُ كل مَضْجَعِ

وأهدوا إِذَا جئتم إِلَى خير مربع

تحية مُضْنىً هائم القلب موجعِ

سريع إِلَى داعي الصَّبابة طيِّع

يقوم بأحكام الهوى ويُقيمها

فكم ليلة قَدْ نازلته همومها

فسامرها حَتَّى تولَّتْ نجومُها

لَهُ فكرة فيمن يحب نديمها

وَطَرْفٌ إِلَى اللقيا كثير التطلُّعِ

وكم ذاق فِي أحواله طعم محنة

وكم عارضته من مواقف فتنة

وكم أنّةٍ يأتي بِهَا بعد أنِّةٍ

تَنِمُّ عَلَى سرٍّ لَهُ فِي أَكِنَّة

وتخبر عن قلب لَهُ متقطع

نعى صَبْرَه شَوْقٌ أقام ملازماً

وحب يحاشى أن يطيع اللوائما

وجفن ترى أن لا يرى الدهر نائماً

وعقل ثوى فِي سكرة الحب دائما

وأقسم أنْ لا يَسْتَفِيقَ ولا يَعي

أقام عَلَى بُعد المزار متيماً

وأبكاه بَرْق بالحجاز تبسما

وشوّقه أحبابه نظرُ الحمى

دعوه لأمر دونه تقطر الدَّما

فيا وَيحَ نفس الصب مَاذَا لَهُ دُعي

لَهُ عند ذكر المنحني سَفح عَبرة

وبين الرجا والخوف موقف عبرة

فحيناً يوافيه النعيم بنظرة

وحيناً ترى فِي قلبه نار حسرة

يجيء إِلَيْهِ الموت من كل مَوْضِعِ

سلامٌ عَلَى صفو الحياة وطيبها

إِذَا لَمْ تَفُزعَيْني بلقيا حبيبها

وَلَمْ تحظَ من إقباله بنصيبها

ولا استعطفته عبرتي بصبيبها

ولا وقعت شكواي منه بموقع

ص: 401

موكل طرفي بالسها المؤرق

ومجرى دموعي كالحيا المتدفق

وملهب وجد فِي فؤادي محرق

بعينك مَا يلقى الفؤاد وَمَا لقي

وعندك مَا تحوي ونخفيه أضلعي

وبه لَهُ:

تمنيت أن الشيب عاجل لمتى

وقرب مني فِي صباي مزاره

لآخذَ من عصر الشباب نشاطه

وآخذ من عصر المشيب وقاره

وبه لَهُ:

تهيم نفسي طرباً عندما

أستلمحُ البرقَ الحجازيا

ويستخف الوجد عقلي وَقَدْ

لبست أثواب الحجى زِيّا

يَا هل أقضّي حاجتي من منىً

وأنحر البزلَ المهاريَّا

وأرتوي من زمزم فهي لي

ألذ من ريق المهاريا

وبه لَهُ:

يَا مُنْيتي أَمَلي ببابِكَ واقِفٌ

والجُودُ يَأْتِي أن يكونَ مُضَاعَا

أشكو إِلَيْكَ صبابةً قَدْ أَتْرَعَتْ

لي فِي الهوى كأسَ النَّوى إتراعَا

ونِزَاعَ شوق لَمْ تزل أيدي النوى

تَنْمِي بِهِ حَتَّى استحال نِزاعا

وبه لَهُ:

عطيّتُهُ إِذَا أعطى سرور

فإن سلب الَّذِي أعطى أثابا

فأي النعيمين أَعُدُّ فضلاً

وأحمد عند عقباها إِيَابَا

أنِعمته الَّتِي كَانَتْ سروراً

أم الأخرى الَّتِي جلّت ثوابا

وله:

سحاب فكري لا يزال هامياً

وليل همي لا أراه راحلا

ص: 402

قَدْ أتعبَتْني همتي وفطنتي

فليتني كنت مهيناً جاهلاً

وله:

أفكر فِي حالي وقرب مَنيتي

وسَيْري حثيثاً فِي مصيري إِلَى القبرِ

فيُنشئ لي فكري سَحَائِبَ للأسى

تسحُّ هموماً دونها وابِلُ القَطْرِ

إِلَى الله أشكو من وجودي فإنني

تعبتُ بِهِ مذ كنتُ في مَبْدأِ العمرِ

نروح ونغدو للمنايا فجائعٌ

تكدره والموت خاتمة الأمر

محمد بن قاسم الصقلي. تقدم فِي محمد بن أحمد بن قاسم.

محمد بن أبي الليث الحارث بن شَدَّاد الإِيادي الخوارزمي الحنفي يكنى أبا بكر.

قال ابن يونس: ويقال إن أصله من بلخ ولد سنة

وتفقه عَلَى مذهب الكوفيين ثُمَّ دخل مصر فيما ذكر أبو عمر الكندي قبل أن يلي القضاء فِي سنة خمس ومائتين، فأقام بِهَا ثُمَّ قدم أبو الوزير صاحب الخراج ومعه عهد من قبل المعتصم فِي ربيع الأخر سنة ست وعشرين ومائتين وَكَانَ بفلسطين قاضٍ يقال لَهُ محمد بن الحارث بن النعمان الإِيادي، فكانا يتجاذبان مَا يرد من العراق إِلَى محمد بن الحارث القاضي، فانتسب محمد قاضي مصر لكنية أبيه فصار يقال لَهُ محمد بن أبي الليث لذلك. قال أبو عمر: كَانَ أول مَا صنع ابن أبي الليث لما ولي أن أرسل منادياً ينادي: برِئت الذِّمة ممن كَانَ فِي يده شيء من مال يتيم أَوْ غائب إن لَمْ يحضره. فتسارع الناس

ص: 403

إِلَى حمل مَا بأيديهم فأدخلوه ببيت المال، وأقام فِي قبض ذَلِكَ رجلاً يقال لَهُ حمدون بن عمر، ثُمَّ باشر الأحباس بنفسه ودونها بخطه وقضى فِي كثير منها.

وكان يقول: لقد هممت أن أضع يدي عَلَى كل حُبس بمصر حَتَّى الأهلية احتياطاً ثُمَّ لَمْ يفعل ذلك، فقيل إن الحارث بن مسكين كَانَ يقول: ليته فعل.

ودَسّ ابنُ الليث من ادعى عَلَى هارون بن عبد الله الَّذِي كَانَ قاضياً قبله أنه استهلك من مال بيت المال، فأمر بإحضاره مجلسه، ونُوظِر فِي ذَلِكَ مرة بعد أخرى إِلَى أن ثبت عَلَيْهِ مَا وقع عليه. وَكَانَ سبب ذَلِكَ أنه كَانَ يدفع المفتاح إِلَى مَن يثق بِهِ فحاز منه مالاً كثيراً. وَكَانَ ابن أبي الليث يمتهن هارون ويجلسه مع الخصوم بَيْنَ يديه إِلَى أن ورد عَلَيْهِ كتاب من العراق بعدم التعرض لَهُ فكف عنه.

وقال أبو عُمر: أخبرني ابن قُدَيد أن الواثق لما ولِي الخلافة ورد كتابه بواسطة ابن أبي دُواد على ابن أبي الليث بأن يمتحن الناس بخلق القرآن، فشدّد فِي ذَلِكَ وَلَمْ يترك فقيهاً ولا متحدثاً ولا مؤذناً حَتَّى أخذه بالمحنة، وملأ السجون ممّن لَمْ يجب، وهرب كثير من الناس، وأمر بأن يكتب عَلَى المساجد لا إله إِلَاّ الله رب القرآن المخلوق. ومنع الفقهاء من أصحاب مالك من الجلوس فِي المسجد الجامع.

وقال نصر بن مَرْزُوق: كنت فِي المسجد فسمعت صُراخاً ورأيت الناس قَدْ ماجوا، فنظرت فإذا هارون بن سعيد الأيلي وطَيْلَسانه تَحْتَ عضُده وعمامته فِي عنقه، ومَطَر غلامُ ابن أبي الليث يسوقه بعمامته وهارون ينادي بأعلى صوته: القرآن مخلوق. ثُمَّ أخرجه من المسجد فطوف بِهِ وهو عَلَى تِلْكَ الصورة.

وكذلك صنع بمحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، هجم عَلَيْهِ مَطَر فأخذ برِجله فوثَب محمد فأراد مطر أن يأخذ قَلنْسُوَتَه فبادر محمد فأخذها فجعلها فِي كُمّه، ثُمَّ أقامه مطر فطوف بِهِ ينادي بخلق القرآن فمضى عَلَى طائفة المعتزلة فقالوا لَهُ: الحمد لله الَّذِي هَدَاك يَا أبا عبد الله. وهرب أحمد بن صالح من ابن أبي الليث إِلَى اليمن ولزم يوسف بن أبي طَيْبه منزله فلم يظهر. وكذلك محمد بن سالم، ثُمَّ ظفر بِهِ فحمله إِلَى العراق. وهرب ذو النون الإِخْميمي ثُمَّ جاء فوضع يده فِي يده وأجاب.

ص: 404

قال أبو عُمر: كَانَ أحمد بن أبي أمية أوصى إِلَى يونس بن عبد الأعلى وابن الغَمر وغيرهما، ومات ولك يخلف إِلَاّ بنتاً، فوضع الأوصياء أيديهم عَلَى المال فقضى ابن الغَمر عن نفسه ديناً كَانَ عَلَيْهِ من ذَلِكَ المال، فطولب يونس بالمال لما ولي محمد بن أبي الليث فحمل مَا كَانَ حمل إليه منه، فبقيت بقايا فطولب بِهَا فشهد عَلَيْهِ اثنان أن المال حمل إِلَيْهِ، فأمر ابن أبي الليث بسجنه عدة سنين إِلَى أن حضر قاصد المتوكل، فأمر برفع المحنة، وانكشف عن محمد بن أبي الليث، فقيل لَهُ إن يونس بن عبد الأعلى يشهد عَلَيْهِ وهو فِي سجنه فأحضره وسأله عن محمد بن أبي الليث فقال: مَا علمت إِلَاّ خيراً، فقيل لَهُ: فإنه سجنك عدة سنين! فقال: لَيْسَ الذنب لَهُ. الذنب للَّذِي شهد عليّ فأطلقه القاصد.

ويقال إنه أقام فِي سجنه سبع سنين. فلما قدم يزيد التركي بعد ذَلِكَ من قبل المتوكل لاستخراج أموال الجروي أخرج ابن أبي الليث من السجن، وَكَانَ سجن لما عزل وأمره أن يحكم عَلَى بني عبد الحكم عليهم وحكم ببراءة يونس بن عبد الأعلى مما كَانَ رمى بِهِ شكراً عَلَى كلامه الماضي فِي حقه.

وقال نصر بن مرزوق كَانَ سعيد بن زياد المعروف بالقَطاس من أهل الدين والفضل، وَكَانَ شهد عند لَهِيعَةَ بن عيسى ومن بعده، وَلَهُ حلقة فِي المسجد، فلما ولي ابن أبي الليث بلغه أنه يذكره بالسوء ويرميه بالبدعة ويدعو عَلَيْهِ، فأحضره وأنكر عَلَيْهِ مَا بلغه عنه فجَحَدَ فصرفه، ثُمَّ بلغه أنه عاود ذَلِكَ.

وذكر لَهُ شخص أن القطاس لَمْ يعتق، فأقام شهوداً عند ابن أبي الليث بذلك، فأحضره وأقامه للناس، فأتى رجل يقال لَهُ ابن الأبرش فادعى رقبته وأقام شهوداً فشهدوا بذلك. فحبسه القاضي خمسة أيام، ثُمَّ حكم بشهادتهم، وأمر بِهِ فنودي عَلَيْهِ فبلغ ثمنه ديناراً، فاشتراه ابن أبي الليث ودفع الدينار لابن الأبرش، وأشهد عَلَيْهِ أنه أعتقه.

ونقل الطحاوي عن يحيى بن عثمان بن صالح أمه حضر ذَلِكَ. قال: وسمعت محمد بن العباس يقول: مَا علمت أن أحداً نَزَلَ بِهِ مَا نزل بالقطاس.

ص: 405

وَكَانَ ابن قُدَيْد يقول: أقبح مَا أتى بِهِ أهل المسجد شهادتهم عَلَى القطاس حَتَّى باعوه.

قال الطحاوي: وقلت لمحمد بن العباس: مَا كَانَ حال الذين شهدوا عَلَيْهِ، قال: لَمْ يكونوا عدولاً، وإنما رَدّ ابن أبي الليث أمرهم إِلَى رجلين فعدلاهم فحكم عَلَيْهِ بالرق.

قال الطحاوي: وأخبرني غير واحد من أهل الثقة أن الشهادة المذكورة كَانَتْ زُوراً.

وقرأت فِي بعض التواريخ أن محمد بن أبي الليث أولاً كَانَ ينكر القول بخلق القرآن حَتَّى كتب إِلَى ابن أبي دُواد ينكر عَلَيْهِ ذَلِكَ ويقول فِي كتابه: لقد أعظمت عَلَى الله الفِرْيَة. هل كَانَ الخلفاء الراشدون يقولون مَا قلت أَوْ يفعلون مَا فعلت؟ الويل لَكَ من ديان يوم الدين. ويقال إنه لما عزل رجل ليضربه فعجز فقال ابن أبي الليث: مَا كَانَ الله ليسلط أيدي الظالمين عَلَى أجساد تتجافى جنوبهم عن المضاجع.

قرأت عَلَى أم الحسن التنوخية، عن سليمان بن حمزة أنبأنا جعفر بن علي أنبأنا السلفي أنبأنا علي بن الحسين الموازيني، عن محمد بن سلامة القضاعي قال قرأت عَلَى محمد بن أحمد بن شاكر أن الحسن بن رشيق حدثه، حدثنا أحمد بن سعدون بن عباد المروزي قال سمعت أبا إبراهيم المزني يقول قال لي أبو بكر محمد بن أبي الليث القاضي: قطع العادة عداوة مستفادة.

وقال يحيى بن عثمان بن صالح: كَانَ يحيى بن زكريَّا مولى كندة مقبولاً عند القضاة وشهد عند ابن أبي الليث زماناً ثُمَّ أوقفه. وَكَانَ يجلس فِي الجامع فيرجف بعزل ابن أبي الليث ويشنع بذلك، فبلغ ذَلِكَ ابن أبي الليث فنهاه فعاد فأرسل إِلَيْهِ فحبسه زماناً.

وقال كَهْمَس بن مَعْمَر: لما أمر ابن أبي الليث بطَرح القلانس الطوال لَمْ يستمر عَلَى لباسها إِلَاّ محمد بن رُمح بن المهاجر فلم يعارضه محمد بن أبي الليث.

وقال إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن تَميم توقّف النيل فاستسقى أهل مصر فحضر ابن أبي الليث مع الناس وهو قاضٍ، فوثب بِهِ العامة فأخذوا قلنسوته، فلعب بِهَا بعض الصبيان. وَكَانَ ذلك بعدما فعل بقلانس الشيوخ بثمانية أيام.

وقال ابن قديد: قدم الحارث بن مسكين بعد أن أقام بالعراق خمس عشرة سنة، فاتفق موت حمدون بن عمر بن إياس وهو ابن أخت محمد بن أبي الليث، فحضر

ص: 406

الحارث بن مسكين جنازته، وأطال الجلوس عَلَى باب داره، فشكر لَهُ ذَلِكَ ابن أبي الليث، فأراد أصحاب ابن أبي الليث بعد ذَلِكَ أن يمنحوا الحارث فكفهم عنه ابن أبي الليث وقال لهم: أليس كَانَ بالعراق؟ قالوا: بلى. قال: فإذا كَانَ السلطان هناك كف عنه! فما لَنَا وَلَهُ فسكتوا عنه.

وقال يحيى بن عثمان: قدم قوصرة واسمه يعقوب بن إبراهيم من العراق عَلَى البريد فِي ربيع الأول سنة خمس وثلاثين، وقدم معه حسن الخادم المعروف بعَرَق الموت. فطالبوا بني عبد الحكم بمال عَلَى عبد العزيز الجروي، فأحضر بنو عبد الحكم براءة بينهم وبين الجروي فمال نجوهم قوصرة وتحامل عليهم ابن أبي الليث، وكتب إِلَى العراق بأن قوصرة مَال معهم، فجاء الأمر بعزل قوصرة عن البريد فخرج عن مصر، فلما كَانَ ببعض الطريق ورد عَلَيْهِ كتاب يأمره بالرجوع والكشف عَلَى محمد بن أبي الليث، فرجع وكشف عنه وبالغ فِي أمره وكاتب المتوكل بما صح من أمره، فورد عَلَيْهِ كتاب المتوكل بحبس ابن أبي الليث واستصفاء ماله فحبس، وحبس أولاده وأعوانه.

ووثب أهل مصر عَلَى مجلس ابن أبي الليث فرموا حُصُره وغسلوا موضعه بالماء وذلك فِي شعبان سنة خمس وثلاثين ومائتين.

ثم ورد كتاب المتوكل يأمر بلعن ابن أبي الليث عَلَى المنبر فلعن، وضجت العامة بلعنه وبقي بالسجن إِلَى شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين ومائتين فورد كتاب المتوكل صُحبة عبد الله بن عبد العزيز الجروي بمطالبة بني عبد الحكم بالمال وأذن لابن أبي الليث بالحكم عليهم فأخرج من السجن فحكم عَلَى زكرياء كاتب العُمريّ بمائة ألف دينار. واشتد الأمر عَلَى بَني عبد الحكم حَتَّى مات عبد الحكم بن عبد الله بن عبد الحكم فِي العذاب.

ثم ورد كتاب المتوكل بإطلاق بني عبد الحكم وردّ أموالهم عليهم وبأن يطاف بابن أبي الليث على حمار بإكاف. فطيف بِهِ فِي جميع الفسطاط وذلك فِي رمضان سنة سبع وثلاثين ومائتين ولم يزل فِي السجن إِلَى ذي القعدة سنة إحدى وأربعين ومائتين.

ص: 407

قال يحيى بن عثمان بن صالح المصري: كَانَ زي أهل مصر وجمال شيوخهم وأهل الفقه والعدالة منهم لبس القلانس الطوال، وكانوا يبالغون فِيهَا، فأمرهم ابن أبي الليث بتركها ومنعهم من لبسها وأن يتشبهوا بلباس القاضي وزيه، فامتنعوا. فجلس فِي مجلس حكمه فِي المسجد وَقَد اجتمع أولئك الشيوخ، فأقبل عبد الغني ومطر جميعاً فضربا رؤوس الشيوخ حَتَّى ألقوا قلانسهم.

قال ابن أبي الحَديد: حدثني عُتبة بن بِسطام قال رأيت قلانس الشيوخ يومئذ فِي أيدي الصبيان والرعاع يعبون بِهَا، وكانوا بعد ذَلِكَ لا يدخلون إِلَى ابن أبي الليث ولا يحضرون مجلسه بقلنسوة.

ولما عزل ابن أبي الليث استمر كثير من الشيوخ عَلَى ترك لبس القلانس. واتفق أن أهل مصر خرجوا إِلَى الاستسقاء فخرج ابن أبي الليث فبصُر بِهِ بعض المصريين فوثبوا بِهِ ورموا قلنسوته، فرأيت بعد ذَلِكَ يلعب بِهَا بعض الصبيان. وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ وبيم مَا فعله بقلانس الشيوخ ثمانية أيام.

ولما أذن المتوكل لابن أبي الليث بالحكم فِي أموال الجروي عَلَى بني عبد الحكم أخرج ابن أبي الليث من السجن، فأمره عبد الواحد بن يحيى أمير نصر أن يحكم فحكم عليهم بألف ألف دينار وأربعة آلاف. وحكم عَلَى زكرياء كاتب العُمَريّ بثمانية آلاف دينار، وذلك لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين ومائتين.

ومات عبد الحكم بن عبد الله بن عبد الحكم فِي العذاب لأنه كَانَ أَقَرَّ أنه صار إِلَيْهِ من مال الجروي تسعة آلاف دينار، فألزم بحملها، فلم يجد عنده مَا يرد بِهِ، فعذب حَتَّى مات فِي ذَلِكَ.

وذكروا أنه صار لقوصرة صاحب الخبر اثنا عشر ألف دينار، ولابن أبي عون ستة عشر ألف دينار، وعيسى بن صفوان النصراني كاتب قوصرة ستة آلاف دينار وأقرّ محمد بن هلال أن عنده من كال الجروي نيفاً وثلاثين ألف دينار أودعها عنده بنو عبد الحكم.

وقال أبو عمر: أخبرني أحمد بن الحارث بن مسكين، حدثني نصر بن مرزوق،

ص: 408

أن ابن أبي الليث لما أذن لَهُ فِي الحكم وضع يده عَلَى مَا وجده فِي بيت المال وهو نحو مائة ألف دينار. وعشرين ألف دينار، فبذرها كلها عطايا وجوائز، ودفع إِلَى كل مَن كَانَ معه فِي الحبس الألف والألفين إِلَى العشرة، حَتَّى قال لي جاري: إنه دخل إِلَيْهِ فقال لَهُ: إنك تكثر الدعاء لَنَا والثناء علينا فخذ من ذَلِكَ المال مَا شئت. قال: فأخذت مَا قدرت عل حمله قال فأرانيه فإذا هو كثير جداً. فقال: مَا استطعت أن أحمل أكثر من هَذَا.

وبعث إِلَى أبي قولة - رجل كَانَ ينادمه فِي أيام قضائه - بثلاثة آلاف دينار فتحدث أبو قولة بها يثنى عَلَيْهِ حَتَّى يبلغه فيزيده. فبعث أمير البلد فأخذها منه.

وقال عُتْبَة بن بسطام سألت ابن أبي الليث عن مذهبه فِي القَدَر فأجاب بجواب أهل السنة، وَلَمْ أسأله عن مذهبه فِي القرآن. وَقَدْ شهد عنده شاهدان فقبلهما. فقال لَهُ رجل أتقبلهما وهما لا يقولان بخلق القرآن؟ فلم يلتفت ابن أبي الليث لقوله، فلعله كَانَ يفعل ذَلِكَ لأجل رضا السلطان.

وقال يحيى بن عثمان: حدثني نوح بن عيسى بن المُنكَدِر، قال: رأيت ابن أبي الليث فِي مجلسه فِي الجامع وهو مشجوج فسألت عن ذَلِكَ فقيل لي: إن شيخاً ينادمه ضربه عَلَيْهِ فشجه.

وقال إبراهيم بن عبد الصمد: دعوته إِلَى وليمة فكان أجودنا شرباً.

وتأخرت وفاة ابن أبي الليث إِلَى سنة خمسين ومائتين فمات فِيهَا حينئذ ببغداد.

وقد مدح الحسين بن عبد السلام الشاعر المصري المعروف بالجمَل محمد بن أبي الليث بقصيدة طويلة ذكر فِيهَا سيرته فيما تقدم فِي المصريين يقول فِيهَا:

ووَليت حُكْمَ المسلمين فَلَمْ تَكُنْ

بَرِم اللِّقاء ولا بِفَظِّ أَزْوَرِ

ولقد بَجَسْتَ العِلْمَ فِي طُلَاّبِهِ

وفَجَّرْتَ منه ينابعاً لَمْ تُفْجَرِ

فحميتَ قولَ أبي حنيفة بالهُدَى

ومحمدٍ واليُوسُفِيِّ الأَذْكَرِ

ص: 409

وفتى أبي ليلى وقَوْلِ قَرِيعِهِمْ

زُفَرِ القِيَاسِ أَخِي الحَجاجِ الأَنْظَرِ

وَحَطَمْتَ قولَ الشافِعيِّ وصَحْبِهِ

ومقالة ابن عُلَيَّة لَمْ تُصْحَرِ

أَلْزَمْتَ قولَهم الحضيضَ فلم يجز

عَرْضَ الحضيضِ فَإِنْ بَدَا لَكَ فَاشْبُرِ

والمالكيةُ بعد ذِكْرٍ شائِعٍ

أَخْمَلْتَها فَكَأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرِ

إِنَّ ابنَ هُرْمُزَ أَوْ ربيعة لا يَرَى

مَاذَا تقوَّل بالمقال الأَجْوَرِ

كَسَّرْتَه فَهَوَى بِرَأْيِكَ كَسْرَةً

لَبِثَتْ عَلَى قِدَم المَدَى لَمْ تُجْبَرِ

أَعْطَتْكَ أَلْسِنَةٌ أَتَتْكَ ضَمِيرَها

وَأَتَتْكَ ألسنةٌ بما لَمْ تُضْمِرِ

وأَطَفْتَ بالأَيّلِيّ يَنْعَق صائِحاً

فِي كُلِّ مَجْمَعِ مَشْهَدٍ أَوْ مَحْضَرِ

ومحمدُ الحَكَمِيُّ أنت أَطَفْتَهُ

وأخاه يَنْعَقُ بالصِّياحِ الأَجْهَرِ

كُلٌّ يُنَادِي بالقرآن وخَلْقِه

فَشَهَرْتَهُم بمقالةٍ لَمْ تُشْهَرِ

لَمْ تَرْضَ أَنْ نَطَقَتْ بِهَا أفواهُهُمْ

حَتَّى المساجِدُ خَلْفَهُ لَمْ تُنْكِرِ

لما أَرَيْتَهُمُ الرَّدَى مُتَصَوَّراً

زعموا بأن الله غَيْرُ مُصَوَّرِ

أَحْجَرْتَ يُوسُفَ فِي خِزَانَةِ بَيْتِهِ

فَطَوَتْه عنك وطَالَمَا لَمْ يحجر

أأخليت من عُمَرِ الزناء مقامه

وعَمَرْتَ مِنْه مَدَاخِلاً لَمْ تُعْمَرِ

وَكَفَرْنَكَ الأَرْضُونَ حِين سَأَلْتَها

حَتَّى ابنُ صَالحٍ الْخَبِيثِ الأَكْفَرِ

وَثَوَى ابنُ سَالِمَ خُفْيةً فِي بَيْتِهِ

ثُمَّ امْتَطَى غَلَسَ الظَّلَامِ الأَسْتَرِ

فأُتِيَ بِهِ كَفُرَيْجَ أَوْ كَأَبِي النَّدَى

وَالنَّاسُ بَيْنَ مُهَلِّلٍ وَمُكَبِّرِ

وَكَذَاكَ دَاوُدُ بْنُ حَمّادَ اختَفَى

بَعْدَ الإِجابَةِ بِالْخَبِيثِ الأَغْدَرِ

أَسَفِي عَلَى شُمْطَانِهِ إِذْ أَفْلَتَتْ

مِنْ سَائِقٍ يَشْتَالُهَا أَوْ مُجْرِرِ

أَنْ لا أَرَى مَطَراً بنِصْفِهَا

وَالنِّصْفُ عِنْدَ مُحَلِّقٍ وَمُقَصِّرِ

وَدَعَوْتَ أَصْحَابَ الْوَصَايَا بِالَّذِيقَعَدُوا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَاثِ الأَوْفَرِ

فَأَتَاكَ مَنْ خَشِيَ الْعِقَابَ بِمَالِهِ

وَطَوَى الْوَصِيَّةَ كُلُّ عَوْدٍ مُجْسَرِ

فَجَعَلْتَ أَطْبَاقَ السُّجُونِ بُيُوتَهُمْ

لا يَأْنَسُونَ بِمُقْبِلٍ أَوْ مُدْبِرِ

ص: 410

وَثَنَيْتَ وَحْدَتَهُم بِيُونُسَ مُؤْنِساً

وَفَتَى أَبِي عَوْنِ الخَئُونِ الأَكْبَرِ

طَرَحُوا لَهَا الأَمْوَالَ خَلْفَ ظُهُورِهِمْوَلَقُوا السُّجُونَ بِقِعْدَةٍ وَتَصبُّرِ

أَرْضَى لَهُمْ ضَنْكَ السُّجُونِ وَضِيقَها

وَلَجَاجَ رَأْيكَ فِي الأَلَدِّ الأَفْخَرِ

لَمْ يُشْبِع الثُّلُثَانِ جُوعَ بُطُونِهِمْحَتَّى غَشُوا ثُلُثَ الضَّعِيفِ الأَفْقَرِ

فَكَأَنَّنِي بِكَ قَدْ حَشَوْتَ بِبَعْضِهِمْوَعْرَ السُّجُونِ وُكُلَّ حَبْسٍ أَقْذَرِ

وَبَطَشْتَ بالقَطُّوسِ بَطْشَةَ قَائِمٍ

بِالحَقِّ غَيْرِ مُقُصِّرٍ وَمُعَذّرِ

مَا زِلْتَ تَفْحَصُ عَنْ أُمُورِ شُهُودِهِفِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ الْمُبِينِ الأَظْهَرِ

فَرَبَطْتَهُ فِي رِقِّهِ وَمَنَعَتهُ

يَطَأُ الْحَرَائِرَ وَهْوَ غَيْرُ مُحَرَّرِ

والآخذوه رأوه فِي أيديهم

عند ابتياع بطائل مستكبر

هَذَا النِّدَاء وهَذِهِ أُذُنِي لَهُمْ

إِنْ جاء فِيهِ بِغَيْرِ فَلْسٍ أقشرِ

يُفْتَى وَيَنْظُرُ فِي المُكَاتِبِ دائباً

وَالْعَبْدُ غَيْرُ مُكاتبٍ وَمُدْبِرِ

وَأخَفْتَ أيام الطِّوَالِ وَأَهْلَهَا

فَرَمَوْا بِكُلِّ طَوِيلَةٍ لَمْ تُقْصَرِ

مَا زِلْتَ تَأْخُذُهُمْ بِطَرْحِ طِوَالِهِمْوَالْمَشْيِ نَحْوَكَ بالرُّؤُوسِ الحُسَّرِ

حَتَّى تَرَكْتُهم يَرَوْنَ لِبَاسَها

بَعْدَ الْجَمَالِ خَطِيَّةً لَمْ تُغْفَرِ

يَتَفَزَّعُونَ بِكُلِّ قِطْعَة خِرْقَةٍ

يَجِدُونَهَا مِنْ أَعْيُنٍ وَمُخَبِّرِ

فَإِذَا خَلَا بِهِمْ الْمَكانُ مَشَوْا بِهَاوَتَأَبَّطُوهَا فِي الْمَكَانِ الأَعْمَرِ

فَلَئِنْ ذَعَرْتَ طِوَالَهُم فَلَطَالَما

ذَعَرتْ وَمَنْ بِرُؤَائِهَا لَمْ يَذْعُرِ

كَانُوا إِذَا دَلَفُوا بِهِنَّ لِمِفْضَلٍ

أَمْضى عَلَيْهِ مِنَ الْوَشِيجِ الأَسْمَرِ

كَمْ مُوسِرٍ أَفْقَرْتَهُ وَمُفَقَّرٍ

أعْتَيْتَهُ مِنْ بَعْدِ جَهْدٍ مُفْقَرِ

مَا إِنْ عَلَيْكَ لَقِيتَ مِنْهُمْ وَاحِداً

أَوْفَى الْعَجَاجَ مُدججاً فِي مِغْفَرِ

لًبِسُوا الطِّوَالَ لِكُلِّ يَوْمِ شَهَادَةٍوَلَقُوا القُضَاةَ بِمِشْيَةٍ وَتَبَخْتُرِ

مَا لِي أَرَاهُمْ مُطْرِقِينَ كَأَنَّمَا

دُمِغَتْ رُؤُوسُهُمُ بِحُمَّى خَيْبَرِ

ص: 411

محمد بن محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السَّعْدِيّ الإِخْنَائِيّ تاج الدين أبو عبد الله ابن علم الدين ابن أخي الَّذِي قبله فِي الولاية كَانَ شافعياً عَلَى مذهب أبيه وجده ثُمَّ تحول مالكياً واشتغل بالكتابة وولي نظر الخزانة السلطانية وغيرها، وناب فِي الحكم، ثُمَّ ولي القضاء استقلالاً بعد عمه فِي سنة خمسين وسبعمائة.

وكان وسيماً رئيساً عفيفاً عارفاً بالأحكام، فأقام إِلَى صفر سنة ست وخمسين وسبعمائة فصرف بالسخاوي، فلبث نيفاً وسبعين يوماً ومات، فأعيد التاج فِي سابع جمادى الأولى منها فاستمر إِلَى ثامن صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة ومات قاضياً وقرر أخوه برهان الدين بعده.

محمد بن محمد بن عبد البر بن يحيى بن علي بن تمام السبكي الأنصاري الخزرجي أبو عبد الله، بدر الدين ابن أبي البقاء.

ولد سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ونشأ

وسمع من زينب بنت إسماعيل ابن الخباز، وعبد الرحيم بن أبي اليسر فِي آخرين. وتفقه عَلَى أبيه وغيره من علماء العصر، وفضل فِي عدة فنون وولي قضاء الشافعية بعد قتل الأشرف شعبان فِي ثامن عشر شعبان سنة تسع وسبعين وسبعمائة.

قرأت بخط الشيخ جمال الدين البشبيشي: كَانَ يقرر الدروس أحسن تقرير مع قلة مطالعته، وكان يعرف الفقه والنحو والأصول والمعاني والبيان، وليست لَهُ فِي

ص: 412

التاريخ والآداب يد، وَكَانَ دمث الأخلاق طاهر اللسان عفيف الفَرْج. وسلك فِي ولايته خلاف مَا ألف من البرهان ابن جماعة من عدم التوقف فِي الأمور وإجابة الرسائل. فاستكثر من النواب ومن الشهود ومن تغيير الحكام فِي البلاد لمن يبذل فِي ذَلِكَ المال، وكثرت الشناعة إِلَى أن وقعت كائنة الشيخ سراج الدين ابن الملقن.

وملخصها: أنه كَانَ يصحب برقوق قبل أن يلي السلطنة ويسمع عنده صحيح البخاري، وَكَانَ حسن السمت، بهي الشيبة، فعينه لقضاء الشافعية.

وكان من عزمه أن تكون ولايته مجاناً، فاستبطأه فأشار عَلَيْهِ أن يجتمع بالأمير بركة، فتوجه إليه فتكلم معه أستاداره أن يبذل للأمير مالاً، فكتب لَهُ خطه بألفي دينار أَوْ أكثر، فاجتمع بركة ببرقوق وأراه الخط فانزعج وأمر شاد الدواوين أن يستخلص منه المال، وغضب عَلَيْهِ وأبعده، فما خلص منه إِلَاّ بشفاعة الركراكي. وَكَانَ يدل عَلَى برقوق وحضر الشفاعة معه الضياء والبلقيني والأبناسي وغيرهم، كذا قرأت بخط البشبيشي وهو قَدْ أدرك الواقعة، فلما خلص لزم منزله وصرفه ابن أبي البقاء من النيابة عنه.

ثم كثرت الشناعة عَلَى ابن أبي البقاء فعزل بالبرهان ابن جماعة. وَكَانَ قَدْ أحضر عَلَى البريد من القدس فِي ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. ثُمَّ أعيد البدر ثانياً فِي يوم الخميس سلخ صفر سنة أربع وثمانين بعد صرف البرهان فسار عَلَى عادته، إِلَاّ أنه لَمْ يستكثر من النواب ولا الشهود.

واتفقت لَهُ كائنة بسبب تركة ابن مازن شيخ عرب البحيرة، وَكَانَ لما مات ترك أيتاماً وتركة واسعة جداً، فاختلس بعض معارفه من التركة مالاً كثيراً. ثُمَّ جاء إِلَى القاضي فالتمس منه أن أمين الحكم يضع يده ليستتر هو فسارع القاضي إِلَى ذَلِكَ، فشاع فِي الناس قصة الَّذِي اختلس، فنسبوا ذَلِكَ للقاضي وأمينه، إِلَى أن طلب الظاهر القاضي وكلمه بكلام سيئ فالتجم وَلَمْ يحسن يتخلص، فأغرمه فِي تِلْكَ الكائنة مائة ألف قيمتها إذ ذَاكَ خمسة آلاف دينار. فباع فِيهَا ثياباً وكتباً وغير ذَلِكَ. ولما أكملها عزل وقرر ابن ميلق فِي رابع شعبان سنة تسع وثمانين.

ص: 413

ثم أعيد ابن أبي البقاء الولاية الثالثة، وذلك فِي صفر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ثُمَّ صرف بالعماد الكركي فِي رجب سنة اثنتين وتسعين، ثُمَّ صرف العماد وأعيد المناوي.

ثم أعيد ابن أبي البقاء الولاية الرابعة فِي شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين، وصرف فِي شعبان سنة سبع وتسعين.

وعظم الخطب فِي ولايتيه الثانيتين بولده جلال الدين حَتَّى كَانَ الملك الظاهر يقول: لولا جلال الدين لما عزلت بدر الدين. لكن جلال الدين لا يطاق. ولما صرف المرة الأخيرة قرر معه تدريس الصلاحية بجوار الشافعي، ونظر الظاهرية، واستمر معه إِلَى أن مات فِي سابع عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانمائة بالقاهرة.

محمد بن محمد بن عبد المنعم بن داود بن سليمان البغدادي الحنبلي بدر الدين، ابن ناصر الدين، ابن الشيخ شرف الدين.

وكان الشيخ شرف الدين قدم من بغداد فأقام بدمشق وصحب التاج السبكي وغيره، وتمهر فِي مذهبه مع الكياسة والحشمة والمروءة وحسن الشكل والتواضع والسكون والوقار، ثُمَّ تحول إِلَى القاهرة وولي إفتاء دار العدل، وتدريس مدرسة أم السلطان الأشرف، عوضاً عن البدر حسن النابلسي، إِلَى أن مات فِي شوال سنة سبع وثمانمائة.

وخلفه فِي وظائفه ولده ناصر الدين، فلم تطل مدته فمات، وأنجب ولده القاضي بدر الدين فمات وتركه صغيراً، فنشأ طالباً للعلم حريصاً عَلَى جمعه إِلَى أن استقر فِي جهات والده، وناب فِي الحكم عن القاضي علاء الدين ابن المغلي، ثُمَّ استقل بولاية قضاء القضاة بعد موت القاضي محب الدين سنة خمس وأربعين.

ص: 414

محمد بن محمود بن محمد، ويقال: محمود بن محمد بن محمود جار الله النيسابوري.

محمد بن محمود بن محمد النيسابوري جار الله - نقدم فِي الجيم. ويقال كَانَ اسمه محموداً - فَتَسَمَّى محمداً.

محمد بن مَسْرُوق بن مَعْدَان بن المَرْزَبَان بن النُّعمان بن زيد بن شرحبيل بن يزيد بن امرئ القيس بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور الكندي الكوفي الأصل نزيل مصر يكنى أبا عبد الرحمن حنفي المذهب.

روى عن عبد الله بن الوليد الرصافي، والوليد بن جميع، وإسحاق بن الفرات، وسفيان الثوري، وأبي جناب الكلبي، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وأبي معشر، وشيبان بن عبد الرحمن، ومهدي بن ميمون.

روى عنه عبد الله بن وهب، وإسحاق بن الفرات، وسعيد بن أبي مريم، وسليمان بن عبد الرحمن، ومحمد بن خليل بن حماد البلاطي، وهشام بن عمار، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي - وهو ابن ابنه، وسعيد بن عفير، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وغيرهم وقع لَنَا حديثه فِي فوائد تمام.

قال سعيد بن عمرو البرذعي: سألت أبا زرعة عن محمد بن مسروق القاضي

ص: 415

فقال: شيخ حدث عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل عن سعيد بن زيد بحديث أوهم فِيهِ قلت: فما صوابه؟ قال: حدثنا أبو نعيم قال حدثنا الوليد حدثني من سمع سعيد ابن زيد.

وقال ابن يونس: قدم عَلَى القضاء بعد المفضل بن فضالة سنة سبع وسبعين، وذلك لخمس خلون من صفر، وخرج عنها فِي سنة أربع وثمانين ومائة واستناب إسحاق بن الفرات، ثُمَّ ورد الأمر بعزله فِي سنة خمس وثمانين.

ثم أسند من طريق ابن عُفَيْر قال: قدم علينا محمد بن مسروق الكندي عَلَى القضاء وَكَانَ متجبراً فأعدي عَلَى العمال وأنصف منهم ولحق جماعة البلد منه استخفاف. ثُمَّ ذكر قصته مع أمير مصر وامتناعه عن حضور مجلسه.

وذكر أبو عُمر فِي كتاب الموالي عن ابن وَزِير قال: كَانَ عبد الله بن محمد بن حكيم من أشراف الموالي ومن سُراتهم وذوي الجاه، وَكَانَ مقبولاً عن غوث والمفضل وغيرهما من القضاة، فشهد عند محمد بن مسروق فأوقفه فقال لَهُ: لِمَ أوقفت شهادتي. فقال: شهد عندي رجلان أنك طربت عَلَى غناء جارية عمرو بن يسار وهي تغني!.

ولما التقينا عند أسفل واضم

وأيقَن قلبي أنها أم جعفر

أتتني تزياها الصَّبا منذ نسمت

أفانين من مِسْك ذَكيّ وعَنْبَرِ

قال: صدقاً أصلحك الله امرأته الطلاق إن كَانَ غنّى بذلك غير امرأته وهي الطلاق إن لَمْ تكن كنيتها أم جعفر. فقال ابن مسروق: فإنهما شهدا عندي أيضاً أنك طربتَ وصفَّقتَ بيديك حين غَنَّت:

يوم اللِّوَى أبكاك نوح حمامةٍ

هَتُوف الضحى بالنوح ظلت تَفَجَّعُ

فادري ولا نبكي وتبكي وَمَا درت

بعولتها عند البُكى كَيْفَ تصنع

فقال: صدقاً أصلحك الله وَلَمْ أدر إِلَاّ الخير. قال: فإنا لا نقبل شهادة من فِيهِ هَذِهِ الأريحية عند السماع فإن السماع ليُثمل كما يثمل الشراب، انصرف راشداً. فقال: السلام عَلَيْكَ. فلما ولي العمري بعث إِلَيْهِ يقول: أخبرني مَا قال لَكَ ذَاكَ الجافي.

ص: 416

فأخبره فقال لَهُ العمري: نحن نقبل شهادتك. قال بعض من سمع هَذِهِ القصة: لَيْسَ بالجافي من حفظ تِلْكَ الأبيات.

قال أبو عمر الكندي: لما ولي محمد بن مسروق تشدّد في الحكم وأعدى عَلَى العمال وأنصف منهم وباعد الخصوم وأظهر التكبر عَلَى الأمراء وَكَانَتْ القضاة يحضرون مجالس الأمراء. فلما قدم ابن مسروق أرسل إِلَيْهِ الأمير عبد الله بن المسيب يأمره بالحضور فقال: لو كنت تقدمتُ إليك فِي هَذَا لفعلت بك وفعلت يَا كذا وكذا. فانقطع ذَلِكَ عن القضاة من يومئذ.

واتخذ قوماً للشهادة ورسمهم بِهَا وأوقف شهادة غيرهم فوثبوا بِهِ ووثب بهم وشتموه وشتمهم وتولع بأشرافهم حَتَّى خوصم إِلَيْهِ هاشم بن حُدَيْج فقال لَهُ: إنما أنت من السَّكون ولست من الملوك. فقال: لَيْسَ لهذا حضرنا والله لأحضرت لَكَ مجلساً أبداً، ومن تظلم إِلَيْكَ مني فأعده عليّ واقض لَهُ فِي مَا يَدّعيه بالغاً مَا بلغ.

وكانت أموال اليتامى والأوقاف والغائبين تحمل إِلَى بيت المال من عهد المنصور، فلما ولي محمد بن مسروق تحامل عَلَى أهل مصر شاعوا عنه انه يريد أن يحمل مَا فِي بيت المال من هذه الأموال إِلَى الخليفة فقام أبو إسحاق الحوفي وَكَانَ مثرياً فنادى فِي المسجد الجامع يدعو على محمد بن مسروق فأمر بإحضاره وناله بمكروه فازداد عند أهل البلد مقتاً.

وكان هارون بن سليم بن عياض يتكلم مع طائفة معه فِي العصبية فأرسل إِلَيْهِ محمد بن مسروق فقال مَا يؤمنك أن أكتب فيك إِلَى أمير المؤمنين بما تضرب بِهِ بَيْنَ الناس فلم يرجع. فأخذ جمعاً من جلسائه فضربهم وطوَّف بهم.

وقال يونس بن عبد الأعلى: لما تفاقم الأمر بَيْنَ ابن مسروق وبين أهل مصر وقف عَلَى باب المقصورة ونادى بأعلى صوته: أَيْنَ أصحاب الأكسِية العسَليَّة؟ أَيْنَ بنو البغايا؟ لَمْ لا يتكلم متكلمهم بما شاء حَتَّى يرى ويسمع؟ فما أجابه أحد بكلمة.

ص: 417

وقال يحيى بن بكير: مَا كَانَ بأحكام محمد بن مسروق بأس إِلَاّ أنه كَانَ من أعظم الناس تكبُّراً.

وقال الحارث بن مسكين: كَانَ محمد بن مسروق يُذلّ الجبارين فيما فضحه إِلَاّ ابنه يعني أن ابنه لما قدم عَلَيْهِ صار يأتي إِلَى من عنده مال من الودائع فيقول: أعطِنيه حَتَّى أتّجر فِيهِ فآخذ الفضل وأعيد لَكَ الأصل! فتلف عَلَى يديه شيء كثير.

ولم يكُن للقضاة قِمَطْر فيما مضى وإنما كَانَ الكاتب يحضر ومعه الكتب فِي المنديل فاتخذ محمد بن مسروق القمطر فهو أول من اتخذه بمصر، وَكَانَ يختمه فيودع فإذا جلس أحضر عنده.

وكان يروح من داره ماشياً إِلَى المسجد. وخوصم إِلَيْهِ وكيل زُبيدة فأمر بإحضاره فجلس مع خصمه متربعاً فأقامه وأمر بِهِ فَبُطِحَ وضُرب عَشر درر.

قال أبو عمر: اسم هَذَا الوكيل عبد الرحمن وَكَانَ مولى زبيدة فأرسل إِلَى زبيدة يشكوه. وشدد على عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري فخافه، فشخص إِلَى الرقة فشكاه للرشيد ورفده القرشيون فلم يزل حَتَّى أمر أبو البَخْتَريّ بعزله فبلغه ذلك فخرج عن مصر قبل أن يقدم الَّذِي ولي أبو البختري عوضه واستخلف إسحاق بن الفرات ويقال إنه مات بعد أن رجع إِلَى العراق.

محمد بن مَعْبَد - تقدم فِي محمد بن علي بن مَعْبد.

محمد بن مُكْنِف بن عَبّاد الكوفي قدم مصر وَكَانَ يَنْزِل عند دار أبي عون. أذن لَهُ كيدر أمير مصر لما عزل المعتصم عيسى بن المنكدر وسجنه ثُمَّ حوله إِلَى العراق، وبقيت مصر بغير قاضٍ، فأذن كيدر لمحمد فِي الحكم بَيْنَ الناس، فكان

ص: 418

الوكلاء يحضرون عنده وَلَهُ صاحب مسائل يسأل عن الشهود، فلما ولي هارون الزهري فسخ لمحمد بن مكنف أحكاماً كثيرة.

محمد بن موسى بن إسحاق السَّرَخْسيّ الحنفي من المائة الرابعة.

ولي بعد صرف أبي عثمان أحمد بن إبراهيم بن حمّاد فِي صفر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، فكتب إِلَى محمد بن علي بن أبي الحديد وعلي بن إسحاق المعدّل أن يتسلما من أبي عثمان فتسلَّما منه، وتوجه محمد بن موسى طالباً لمصر من العراق، فلما وصل إِلَى الفَرَما وجد الفتنة قائمة بمصر فتأخر دخوله إِلَى الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، فباشر الأمور مباشرة حسنة ووقف عن قبول كثير من الشهود تحرزاً من غير غَرَض، وتصلَّب فِي كثير من الأحكام، وَلَمْ يتساهل فِي شيء، واحتاط فِي أموال الأوقاف والأيتام، وَلَمْ يُطلق من الرِّزق إِلَاّ القليل.

وكان عبد الله بن محمد الخَصِيبيّ يقول: وليتُ قضاء الرَّمْلة وولي محمد بن موسى قضاء مصر فِي وقت واحد، فشاوَرني فيمن يكاتبه فأشرت عَلَيْهِ بأبي بكر ابن الحدَّاد، فبلغني أنه كتب إِلَى ابن أبي الحديد فالتقينا فاعتذر بأنه بلغه أن ابن الحداد كَانَ يعمل مع ابن قيس قال: فعذرته. قلتُ: كذا ذكر ابن زُولاق هَذِهِ الحكاية عن الخَصِيبيّ. والخَصِيبيّ كَانَ يكره ابن الحدّاد لسلاطته عَلَيْهِ بلسانه لمَّا ولي القضاء بمصر كما مضى فِي ترجمته فلا يُقبل قوله فِيهِ.

قال أبو عمر: كَانَ محمد بن موسى فقيهاً عَلَى مذهب الكوفيين، حافظاً لمذهبه، عفيفاً عن الأموال، سَتيراً، كثير الصمت. وأكثر الشهود التردد إِلَيْهِ فقال لهم: مَا لكم معاش عندنا، فلا يجيء أحد منكم إِلَاّ لحاجة أَوْ لشهادة.

وسأل بعض شهوده أن يشتري لَهُ خلاًّ بدينار فأرسل لَهُ حملين فاسترخصه وسأل سرّاً، فقيل لَهُ: إن الَّذِي أُحضر يساوي أربعة دنانير، فردّ الخلّ وطلب من نائبه أبي الحسن بن إسحاق أن يعمل لَهُ بَهَطَّة، فتوجه مهتمّاً بعمل ذَلِكَ، فوافاه غلام القاضي ومعه زنبيل فِيهِ جميع آلات ذَلِكَ.

وحكى متولي الأحباس فِي زمانه أنه باع ثمرة الأحباس مَرَّةً بخمسة آلاف دينار

ص: 419

وزيادة. قال: فعملت الحساب فنظر فِيهِ محمد بن موسى فوجد فِيهِ باسم المتولي لذلك خمسمائة دينار فسأله عنه: هل لَكَ فِيهِ شِركة؟ قال: لا. ولكن هَذَا حق العمل. فقال لَهُ: كم عملتَ هَذَا الحساب فِي يوم؟ فقال لَهُ: فِي ثلاثة أيام. فأطلق لَهُ ثلاثين ديناراً، فكلمه أبو الحسن بن إسحاق فما بلغه خمسين ديناراً إِلَاّ بعد جُهد. قال: وَكَانَ يحبّ مذاكرة العلم.

وانقبض عنه أبو بكر ابن الحداد لأنه بلغه أنه سأل عنه فقيل لَهُ إنه شافعي فقال: ليته كَانَ حنفياً. فانقطع عنه.

قال ابن زولاق: رأيت أبا الحسن محمد بن علي بن أبي الحديد ركب إِلَى دار محمد بن موسى حَتَّى ينظر بَيْنَ الناس وهو أفقه من محمد وأسنُّ بثلاث عشرة سنة.

واستمر محمد بن موسى إِلَى أن صُرف فِي الخامس والعشرين من شوال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بمحمد بن بدر. ورد كتاب محمد بن الحسن بن أبي الشوارب قاضي القضاة ببغداد وسائر الممالك بذلك فوقف فِي أمره محمد بن علي الماذرائي مدبّر المملكة. فلم يزل الطحاوي وغيره بِهِ إِلَى أن أذعن لَهُ فتسلم لَهُ ابن الحداد من ابن موسى، فتوجه ابن الحداد إِلَى ابن موسى ففرِح لمَّا قيل لَهُ إنه توجه إِلَيْهِ، وظن أنه جاء ليسلّم عَلَيْهِ، فلما تحقق أنه جاء بعزله قال لَهُ: هَذِهِ السلال بخواتمها. فقال: لا أتسَّم إِلَاّ مفتوحاً. ففُتحت وتشدَّد ابن الحداد فِي التسليم حَتَّى إن الشهود كتبوا: شهِد من تسمَّى فِيهِ أنهم حضروا مجلس محمد بن موسى القاضي. فقال ابن الحداد: لا تكتبوا - القاضي - فقال محمد بن موسى: لا تكتبوا فقال ابن الحداد: اكتبوا - السَّرَخْسّي. فقال: اكتبوا فإن هَذِهِ النسبة لا تزول عنا ليوم القيامة. وتعجب الناس من عقله وجلَده وعتب بعضهم ابن الحدَّاد عَلَى مَا صنع فقال: حاجةٌ فِي نفس يعقوب قضاها.

وقال ابن زُولاق: وَكَانَ بعد ذَلِكَ يظهر عَلَيْهِ الندم بما صنع. وتهيأ محمد بن موسى للرحيل فركب إِلَيْهِ الماذرائي وسأله التأنّي حَتَّى يكاتب فِيهِ لبغداد فامتنع. وباع جميع مَا فِي منزله حَتَّى بغلته ولِجامه وسرجه. ثُمَّ سأل الَّذِي اشترى ذَلِكَ أن يُعيره السرج واللِّجام إِلَى تِنيس ففعل. وسار فِي النيل إِلَى تنِّيس وخرج محمد بن بدر معه يودّعه ويشيّعه. فلما ودَّعه قال: يأمر القاضي بشيء؟ فقال: آمرك بتقوى الله. وإن كَانَ مَا قاله هؤلاء عنك حقاً فما يَحِلّ لَمْ أن تنظر بَيْنَ اثنين.

ص: 420

وأشار إِلَى شهوده فخجل محمد بن بدر وأطرق وانصرف. فكانت مدَّة السَّرَخْسيّ ستة أشهر وأياماً. ومات فِي سنة ثلاثين وثلاثمائة.

قلت: أخلَّ بذكره أبو سعيد ابن يونس فِي تاريخ الغُرَباء الذين قدموا مصر. واستدركه ابن الطحان فِي ذيله لكنه اختصره جدّاً، فلم يزد عَلَى أن قال: محمد بن موسى السَّرَخْسّي كَانَ قدم عَلَى قضاء مصر حُكي عنه.

ووجدت فِي تاريخ بغداد للخطيب مَا نصُّه: محمد بن موسى بن أحمد السَّرَخْسّي، قدم بغداد وحدَّث بِهَا عن أحمد بن إبراهيم بن مَزِيز من أهل سَرَخْس. روى عنه عبد الله بن عثمان الصفار. وَلَمْ يزد الخطيب عَلَى هَذَا، فما أدري أهو قاضي مصر أَوْ غيره؟ ولكن ظاهر تسمية جده أحمد أنه غيره. فإن اسم جد القاضي كما تقدم - إسحاق. ثُمَّ رأيت فِي المؤتلف: محمد بن أحمد بن إسحاق إبراهيم بن مزيز السرخسي وآل بيته وضبطوا - مَزِيز بوزن عظيم وزايين منقوطتين.

محمد بن نَامَاوَر بن عبد الملك أفضل الدين الخُوَنجِيّ شافعي من المائة السابعة.

ولد سنة تسعين وخمسمائة، واشتغل بعدة علوم، وغلبت عَلَيْهِ العلوم العقلية حَتَّى مهر فِيهَا، مع معرفة تامة فِي الفقه.

قال ابن أبي أصيبعة فِي طبقات الأطباء بعد أن أثنى عَلَيْهِ بأنه أوحد زمانه وأنه تميز فِي العلوم الحكمية وأنه اجتمع بِهِ سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وقرأ عَلَيْهِ بعض الكليات

ص: 421

لابن سينا. قال: وكان يعتريه فِي بعض الأوقات أنشداه خاطر لكثرة انصباب ذهنه إِلَى العلم. قال: ووجدته الغاية القصوى فِي سائر العلوم، وَكَانَتْ ولايته قضاء مصر إِلَى أن مات فِي خامس شهر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة ورثاه عِزُّ الدين الإِرْبليّ بأبيات منها:

قَضى أفضلُ الدنيا فلم يبق فاضل

وماتت بموت الخُوَنجِيّ الفضائلُ

أيدري بمن قَدْ سَارَ حامل نعشه

عداه أحبوه ومن هو حامل

لئن أَفَلَت شمس المعالي بموته

فما علمه عن طالب العلم زَائل

وَمَا كنتُ أدري أن للشمس فِي الثَّرَى

أُفُولاً وأن البدر فِي التُّرْبِ نَازلُ

محمد بن النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيُّون المغربي القيرَوَاني نزيل القاهرة إماميٌّ من المائة الرابعة.

ولد فِي ثالث صفر سنة أربعين وثلاثمائة بالمغرب، وقدم القاهرة صُحبة والده مع المُعِزّ وناب عن أخيه علي بن النعمان فِي آخر أمره، وولاه العزيز استقلالاً بعد موت أخيه فِي يوم الجمعة، لسبق بقين من رجب سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وخُلع عَلَيْهِ وقُلد سيفاً ونزل إِلَى مصر من يومه فِي قُبَّة عَلَى بغلٍ كَانَتْ بِهِ، فدخل الجامع فلم يقدِر عَلَى الجلوس فرجع إِلَى داره، وجلس ولده عبد العزيز وأولاد إخوته وجماعة الشهود حَتَّى قُرئ عهده فِي الجامع بعد صلاة الجمعة بالقضاء عَلَى الديار المصرية والإِسكندرية والحرمين وأجناد الشام.

وفُوّض إِلَيْهِ الصلاة وعيار الذهب والفِضَّة والمواريث والمكاييل، وذُكر فِي سِجِلّه أبوه وأخوه فأثنى عليهم.

ثم أرسل ابن أخيه الحسين بن علي إِلَى الجامع للحكم بَيْنَ الناس، وكاتب خُلَفاء النواحي.

ص: 422

فلما كان يوم الجمعة أول جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وثلاثمائة عقد لابنه عبد العزيز على بنت جوهر القائد في مجلس العزيز، وكان الصداق ثلاثة آلاف دينار، والشاهدان: محمد بن عبد الله العُتقيّ وعبد الله بن محمد بن رجاء، وخلع العزيز على الزوج وانصرف محمد بن النعمان في جمع كثير من الخواص.

ثم قرَّر عبد العزيز فِي نيابته، وصرف ابن أخيه الحسين بن علي.

قال المُسَبِّحيّ: كَانَ محمد بن النعمان خبيراً بالأحكام حسن الأدب والمعرفة بأيام الناس.

قال العُتقيّ فِي تاريخه: أمر المعز وهو بالمغرب قاضي بلاده النعمان بن محمد أن يعمل لَهُ أَسطُرْلابات وأن يُجلس مع الصانع بعض ثِقَاته، فأجلس النعمان ولده محمداً، فلما فرغ توجه بِهِ إلى المُعِزّ فسأله: مَنْ أَجلستَ مع الصانع؟ قال: ولدي محمداً. فقال: هو قاضي مصر. قال محمد بن النعمان: كَانَ المعز إذا رآني قال لولده وأَنَا صَبِيّ: هَذَا قاضيك! قال المسبحي: وعدّل محمد بن النعمان فِي أيامه نحواً من ثلاثين نفساً، وَكَانَ محمد بن النعمان جيّد النظر فِي الأحكام. تقدمت إليه امرأة طالبت زوجها بحقها فامتنع من دفعه لها، فسألت القاضي أن يحبسه فأمر بذلك، ثُمَّ نظر إليها فوجدها جميلة وظهر عَلَيْهَا السرور، فلما توجه إِلَى الحبس أمر القاضي بحبسها مع وزجها فغضبت فقال لَهَا: حبسناه لحقكِ ونحبسكِ لحقّه. فلما تحققت ذَلِكَ أفرجت عنه. فلما توجهت قال القاضي: رأيتها فرِحتْ بحبسه فخشيت أنها تخلو بنفسها لغيبة زوجها.

قال: وَكَانَ الوزير ابن كِلِّس كثير المعارضة لبني النعمان فِي أحكامهم، فاتفق أن الحسن بن الحسين بن علي بن يحيى الدقّاق زَوَّج ولده يتيمة تعرف ببنت الديباجي بإِذن محمد بن النعمان، فقام فِي ذَلِكَ بكر بن أحمد المالكي أحد الشهود وادَّعى فَسَاد العقد لكونها غير بالغ، وبالغ فِي ذَلِكَ فقال ابن النعمان: ثبت عندي بإقرارها أنها بلغت. فَحُملَت إِلَى القصر ورُفع أمرها إِلَى العزيز وكشف عنها فوجدت غير بالغ،

ص: 423

فتقدم إِلَى القاضي بفسخ النِّكاح فأحضر الوزير القاضي والشهود وتهدَّدهم وقال: يتقدم مولانا بفسخ هَذَا النكاح وبالوقوف عن قبول شهادة هؤلاء الشهود، ففعل. وكتب بذلك سِجلاًّ بإِمضاء ذَلِكَ، وفيه: أنه ثبت عنده أنها غير بالغ. ثُمَّ بالغ الوزير فِي الإنكار عَلَى الشهود فِي التساهل، وكان ذَلِكَ فِي سلخ جمادى الأولى سنة خمس وسبعين، وأمر بحفظ مال الصبية ثُمَّ ابتاع لها منه ربعاً.

ورُفع إِلَى محمد بن النعمان أن نصرانيّاً أسلم ثُمَّ ارتد وَقَدْ جاوز الثمانين، فاستتيب فأبى، فأنهى أمره إِلَى العزيز فسلَّمه لوالي الشرطة، وأرسل إِلَى القاضي أن يرسل أربعة من الشهود ليستتيبوه فإن تاب ضَمِنَ لَهُ عنه مائة دينار، وإن أصرّ فليقتل، فعرض عَلَيْهِ الإسلام فأبى فقُتل ثُمَّ أمر بتغريقه فِي النيل.

ورفع إِلَيْهِ رجل من ولد عَقِيل بن أبي طالب زوجته ومعها ابنة لَهَا جحدها فتلطف بِهِ النعمان فلم يجد فِيهِ حيلة، فأنهى أمره إِلَى العزيز فأمره بالملاعنة بينهما، وكتب فِي ذي القعدة سنة ثمان وسبعين إِلَى الجامع العتيق فاجتمع الشهود ووعظ الزوج فأبى إِلَاّ اللعان، فلاعن بينهما، ثُمَّ فرَّقَ بينهما.

ثم استخلف ولده عبد العزيز فِي الحكم وَكَانَ ينظر كل اثنين وخميس. وَفِي أول سنة إحدى وثمانين عدَّل جماعةً من الأشراف. وَفِي صفر سنة اثنتين وثمانين رتَّب رجلاً جعفريّاً بالجلوس فِي الجامع مع الفتوى عَلَى مذهب أهل البيت، فشغب عَلَيْهِ الفقهاء من أهل الجامع فبلغ ذَلِكَ القاضي فقبض عَلَى بعضهم وطوَّف بثلاثة منهم عَلَى الجِمال.

وعَلَتْ منزلةُ القاضي عبد العزيز وقطع النزول إِلَى الجامع، ونظر فِي الحكم فِي داره، وَلَمْ يكن أحد يخاطبه إِلَاّ بسيّدنا، فلما توفي العزيز سكن محمد بن النعمان فِي داره بالقاهرة ورتَّب ابنه عبد العزيز كل اثنين وخميس ينظر فِي الأحكام بمصر.

قال ابن زُولاق: مَا شهدنا لقاضٍ من القضاة بمصر مَا شاهدناه لمحمد بن النعمان، ولا بلغنا ذَلِكَ عن قاضٍ بالعراق، وَكَانَ مع ذَلِكَ مستحقاً لما هو فِيهِ من العلم والصيانة والتحفُّظ والهيبة وإقامة الحق. وفيه يقول أبو عبد الله السمرقنديّ:

وحيد فِي فضائله غريب

خطير فِي مفاخره جليلُ

تألَّق بهجةً ومضى اعتزاماً

كما يتألَّقُ السيفُ الصقيلُ

ويقضي السداد لَهُ حليفٌ

ويُعطى والغَمام لَهُ زميلُ

إذَا ركِب المنابر فهو قُسٌّ

وإن حضر المشاهد فالخليلُ

ص: 424

قال المُسبِّحيّ: وَلَهُ نظم كثير لَيْسَ بالقوي فمن أجوده:

أيا مُشْبِه البدر بدر السما

لسبع وخمس مضت واثنتين

ويا كامل الحسن فِي نَعْتِهِ

شغلتَ فؤَادي وأسهرتَ عيني

فهل ليَ فِي فِيكَ من مَطْمَع

وإلا انصرفتُ بخُفَّي حُنَينِ

قال: وَفِي ولايته رجم رجلاً خبازاً أصاب امرأة علويّة من زناء. وَكَانَ رجمه بسوق الدواب بقرب الجامع الطولوني وذلك سنة اثنتين وتسعين.

قال: ولمَّا حصل لَهُ التمكّن وعلت رُتبته لَزِمته الأمراض كالنّقْرس والقُولَنْج، وَكَانَ أكثر أيامه عليلاً، وولده عبد العزيز ينظر فِي الأحكام ويُسجل فِي دار أبيه وغيرها. وَكَانَ بَرْجَوان يعوده فِي كل خميس مع عَظَمة بَرْجَوان. قال: وَكَانَ فِيهِ إحسان لأتباعه مع حسن الخلق والبِذَّة والركوب وكثرة الطيب والبخور إذَا جلس فِي مجلسه وإذا ركب. وَكَانَ إذا أعطى عطاء كثَّره وعجَّله. وَكَانَتْ وفاته وهو عَلَى القضاء فِي ليلة الثلاثاء الرابع من صفر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، فركب الحاكم فصلَّى عَلَيْهِ فِي داره ودفنه تَحْتَ قُبَّتها، ثُمَّ نقل بعد إِلَى القرافة.

وكانت مدة ولايته أربع عشرة سنة وستة أشهر وعشرة أيام.

ووجد عَلَيْهِ من أموال اليتامى وغيرهم ستة وثلاثون ألف دينار، فأمر الحاكم بَرْجَوان أن يحتاط عَلَى موجوده، فأرسل كاتبه أبو العلاء فهداً النصراني فاحتاطوا عَلَيْهِ وشرعوا فِي البيع وَفِي تغريم الشهود الذين كانت الودائع تَحْتَ أيديهم، فمن أحضر ورقة بخط القاضي تُرك، ومن لَمْ يُحضر خطّ القاضي غُرم، إِلَى أن تحصّل قدر نصف الدَّين فدفع للمستحقِّين بقدر النصف.

وتقدَّم أمر الحاكم أن لا يُودَع بعد ذَلِكَ عنه أحد من الشهود مال يتيم ولا غائب، وأفرد موضع بزُقاق القناديل يوضع فِيهِ المال ويختم عَلَيْهِ أربعة من الشهود لا يُفتح إِلَاّ بحضور جميعهم فاستمر الأمر عَلَى ذَلِكَ مدة.

وكان محمد بن النعمان سلَّم لعبد الله بن محمد المداديّ أحد الشهود مال يتيم

ص: 425

وأراد الإِشهاد عَلَيْهِ بذلك فامتنع، فقال محمد: مَا كَانَ بالذي يودع الإشهاد. فاتفق أن المدادي مات فِي سنة تسع وسبعين وعنده ودائع كثيرة، فراسله يزيد بن السندي كاتب الحكم قبل أن يموت حَتَّى أشهد عَلَيْهِ بما عنده. فلما مات لَمْ يوجد أكثر ذَلِكَ، فباع القاضي داره بخمسة آلاف دينار فوفَّى بِهَا الودائع.

محمد بن هبة الله بن أحمد بن شكر أبو البركات نفيس الدين مالكي من المائة السابعة.

ولد سنة خمس وستمائة، واشتغل عَلَى مذهب مالك ومهر، وأول شيء وليه قضاء دمياط نيابة عن القاضي تاج الدين ابن بنت العز، ثُمَّ ولي القضاء بالقاهرة استقلالاً بعد موت شرف الدين السبكي فِي ذي القعدة سنة تسع وستين.

وكان الشيخ أبو عبد الله ابن النعمان يستعين بِهِ فيما يرومه من إزالة المنكرات وقمع اليهود والنصارى، وَكَانَ القاضي كريم النفس كثير الفتوّة حسن الاعتقاد كثير البر بأصحابه والمباسطة لهم، وَلَمْ يزل عَلَى حاله إِلَى جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين فعزل هو ورفقته جميعاً، وهم: تقي الدين ابن رزين الشافعي، والمعز الحنفي والحنبلي، وعاش بعد ذَلِكَ إِلَى ذي الحجة سنة ثمانين وستمائة فمات رحمه الله.

محمد بن أبي الفرج هبة الله بن مُيَسَّر أبو عبد الله القَيْسَرَانيّ الأصل المصري.

شافعي من المائة السادسة، قدم والده من قيسارية فِي ولاية بدر الجمالي وهو معه شاب، وَكَانَ بدر قَدْ استدعى بذوي الأموال واليسار فأنزلهم مِصر لِمَا كَانَ جرى لَهَا من الخراب بالغلاء الشديد، ففوض بدر لأبي الفرج الخطابة بالجامع العتيق بمصر، وَكَانَ فقيهاً شافعياً، فعمل فِيهِ أبو علي حسين بن سعيد العسقلاني الشاعر المعروف بالمُكَرْبَل قوله:

إن الشريعة قَدْ وَهَت أركانها

وتغيَّرت بالنقص أي تغيرِ

بوزارة ابن أسامة وشهادة اب

ن قَتادة وخَطابة ابن مُيسّر

ص: 426

ومات أبو الفرج سنة خمس عشرة، ونشأ ولده فاضلاً، وولي قضاء مصر فِي ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وخمسمائة بعد يوسف بن أيوب المغربي، ولُقِّب ثقة الدولة سناء الملك شرف الأحكام، فباشر القضاء واستكثر من قبول الشهود حَتَّى بلغت عدتهم فِي زمانه مائة وعشرين. وكانوا قبله ثلاثين.

ثُمَّ فوض إِلَيْهِ النظر فِي المظالم، فاستوضح أحوال المسجونين وأطلق منهم جمعاً كثيراً كانوا أيسوا من الخلاص لطول العهد بتركهم فِي السجن، فطالع بأمرهم الخليفة، وسأل فِي الإفراج عنهم فأذن لَهُ فِي ذَلِكَ.

قال ابن أَسْعَد الجَوّاني فِي كتاب النقط عَلَى الخطط: هو صاحب القيسارية بمصر، واستعمل منارة من النحاس ذات سواعد تُجَر قدّامه عَلَى عجلة تُوقَد فِيهَا الشموع ليالي الركوب إِلَى رؤية الهلال. وتفقّد المساجد. فلما عملها اجتازوا بِهَا فِي مكان فِيهِ أغصان سِدرة فعاقتهم عن جَرِّها فأمر بقطع السِّدرة أَوْ بعضها، فحذروه من ذَلِكَ وذكروا لَهُ حديث أبي داود " مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ الله رأسَهُ فِي النَّار ". فتمادَى عَلَى قطع بعضها وذلك فِي ليلة نصف شعبان فما أسنى بل قتل تِلْكَ السنة.

قال وكانت القضاة تركب فِي النصف من شعبان لتفقّد الجوامع والمساجد لما يحتاج إِلَيْهِ من الإصلاح. وَكَانَ كبراء الدولة يبذلون فِي ذَلِكَ عَلَى سبيل المساعدة لابتغاء الثواب، فيحصل للقاضي من ذَلِكَ مقدار جيد، فركب القاضي فِي نصف شعبان ورجع فما أتت بعد ذَلِكَ غلا دون السنة، بل قُتل فِي شهر ربيع الأول من السنة المقبلة. وَكَانَتْ لَهُ أسمطة عظيمة فِي المواسم وهو أول من عمل الفُستق الملبس بمصر، وَكَانَ مشهوراً بالكرم.

قال الشريف الجواني سمع القاضي ابن ميسّر أن الوزير المَاذَرَائيّ عمِل الكعك المسمى " افْطِنْ لَهُ "، يشير إِلَى مَا حكاه ابن زولاق أن الماذَرَائيّ عمل خُشْكَنَانا فِي العيد محشوّاً بالفُستق والسُّكر وفيه دنانير، فكان يعطى منه للشريف ويقول احتفظ بحشوه، ففطن لَهُ بعض الناس فسموه " افْطِنْ لَهُ ". فأحب ابن ميسر أن يصنع ذَلِكَ

ص: 427

فأمر بعمل الفُستُق المُلَبَّس بالسكر، وأمر بسبك قطع ذهب قدر الفستق فلبس منها بالسَّكّر قَدْر صحن، فلما مدّ سماط الحلوى وضع ذَلِكَ الصحن فِي الوسط وَكَانَ عَلَى المائدة خادم، فلما أكلوا أشار الخادم لصديق لَهُ أن يأكل من ذَلِكَ الصحن فأكل منه وتفطن لما فِيهِ، فصار يأكل ويمص النوى ويضعه فِي كمه إِلَى أن حصل على جُملة، ففطن لَهُ بعض من حضر فتزاحموا عَلَى ذَلِكَ الصحن وَتَنَاهَبوه فِي قُدّامه، وهو يضحك فسمي من يومئذ:" افْطِنْ لَهُ ".

وَكَانَ قبل ولايته القضاء يباشر مشارفة المقياس أميناً عَلَى ابن أبي الرَّدَّاد.

فلم يزل معه حَتَّى قُتل وأضيفت إِلَيْهِ بعد ولايته القضاء الوكالة.

وذكر ابن ميسّر فِي تاريخه: أنه أمر أن لا يحكم إِلَاّ بمحضر من أربعة فقهاء من جملتهم الفقيه سلطان بن رَشَا المقدسي الَّذِي ولي القضاء بعد.

ويقال إن سبب ذَلِكَ أنه كَانَ قاصراً فِي العلم، وإنما كَانَتْ رياسته بالكرم والجاه.

ويقال إنه كَانَ تفقه عَلَى مذهب الشافعي وَلَمْ يزل ينظر فِي وظائفه إِلَى خلافة الحافظ، فعزله فِي ربيع الآخر سنة ست وعشرين بصالح بن عبد الله بن رجاء؛ ثُمَّ أعيد فِي ثاني ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.

قال ابن ميسر فِي تاريخه: حكى لي خال والدي أن القاضي كَانَ أسقط شاهداً يقال لَهُ ابن الزعفراني، فسعى الزعفراني بأن رفع للخليفة الحافظ أن القاضي لما خلع أبو علي بن الأفضل الخليفة واعتقله دخل الشعراء فأنشدوه مدائح منها قول علي بن عباد الإسكندراني فأنشده قصيدة أولها:

تبسَّمَ الدهرُ لكن بعد تَعْبِيسِ

إِلَى أن قال:

هَذَا سُلَيْمانكم قَدْ رُدّ خاتَمُه

واستنزع المُلك من صَخْر بن إبليس

فلما أنشد هَذَا البيت قام القاضي فألقى عَلَى هَذَا الشاعر عرضيَّتَه طَرَباً فحقدها الحافظ، وأمر بإحضار الشاعر وَكَانَ يلقب جلال الدولة فاستنشده القصيدة فجحدها، فألزمه وأوهمه أنه لا يصل إِلَيْهِ منه بسببها مَضرة، فأنشدها إِلَى أن بلغ البيت المذكور فأشار إِلَى الغلمان فلَكَمُوهُ إِلَى أن مات بين يديه.

ص: 428

ولما كَانَ فِي السابع من المحرم سنة إحدى وثلاثين فِي وزارة بهرام عزل القاضي ونفى إِلَى تنِّيس فلما وصل إليها قُتل بِهَا عشية الاثنين ثاني شهر ربيع الأول من السنة.

محمد بن يحيى بن مهدي بن هارون بن عبد الله بن هارون بن إبراهيم الأَشوَانِيّ التَّمَّار أبو الذِّكْر - بكسر المعجمة وسكون الكاف - الفقيه المالكي من المائة الرابعة.

ولد فِي ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائتين، وتعاني التجارة فِي التمر، ويقال إن أصله من إِخْميم. وسمع من محمد بن عمر الأندلسي، واعتنى بالفقه فمهر فِيهِ حَتَّى كَانَ المشار إِلَيْهِ فِي مذهب مالك بمصر. وأول من نوّبه أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة، فإنه فوض إِلَيْهِ الفَرض للنِّساء، وتصدَّى للتدريس والإِفتاء.

قال ابن يونس: كَانَ لَهُ بمصر قَدْر ومنزلة جليلة، وهو الَّذِي تسلّم القضاء من أبي عبيد ابن حَرْبَويه لما انفصل من مصر وتولى قضاء مصر عبد الله بن إبراهيم بن مُكرَم البغدادي، فأرسل إِلَى أربعة من أهل مصر أن يختاروا من أهل مصر من ينوب عنه، فاختاروا أبو الذِّكر، وَكَانَتْ ولايته لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.

قال ابن يونس: وَكَانَ جَلْداً وَقَدْ حدَّث بشيء يسير، وَكَانَ عابداً وأصابه الباسور وَكَانَ يُضعفه عن إدمان التعبّد، وَكَانَتْ لَهُ حَلقة فِي جامع عمرو، ويتناظر عنده الفقهاء من القرويين وغيرهم، وَكَانَ يجلس للإِشغال بالعلم من الصبح إِلَى الزوال ثُمَّ بعد صلاة الظهر إِلَى العصر.

ص: 429

وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فِي " طبقات الفقهاء " بعد الحارث ابن مسكين فقال: ومن دون هؤلاء أبو الذكر محمد بن يحيى المالكي قاضي مصر تفقه عَلَى يوسف بن عيسى المغامي. أخذ عنه أبو الطاهر محمد بن عبد الغني.

وقال الحسن ابن زولاق نظر فِي الأحكام وتصلّب فِي حساب الأُمَناء وَكَانَ من جملتهم ابن الحدَّاد، وكانوا قَدْ تهيئوا لتوديع أبي عبيد ابن حربويه فمنعهم أبو الذكر، وَكَانَ لَهُ عندهم أموال فسلّموها ثُمَّ أُخْرجُوا وأسمعهم المكروه فتأخروا، ولو أمكنهم الذهاب مع أبي عبيد إِلَى العراق لفعلوا، فولى أبو الذكر القضاء إِلَى يوم الخميس ثامن عشر صفر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة فوصل أبو محمد إبراهيم بن محمد بن عبد الله الكُرَيْزِيّ من قبل ابن مُكرَم فباشر القضاء، وكانت مدة ولاية أبي الذكر ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وعاد يتعاطى الشهادة مع الشهود ويشهد عند الكُرَيْزيّ الَّذِي ولي بعده، ثُمَّ استنابه أبو جعفر ابن قُتيبة فِي الفَرض فباشره، ثم استنابه محمد بن بدر أيضاً في الفرض فباشره وزاد بأنه كان يحكم للمطلقة ثلاثاً بالسكنى والنفقة عملاً بمذهب مستنيبه تاركاً لمذهبه فِي ذَلِكَ.

ولما اعتل محمد بن بدر علّته الَّتِي مات فِيهَا استخلف أبا الذكر فِي النظر فِي الأحكام، فنظر إلى أن مات. فلما مات محمد بن بدر وذلك لثلاث بقين من شعبان أمر الإخشيد أمير مصر أبا الذكر أن ينظر فِي الأحكام، فركب إِلَى مسجد محمود لالتماس هلال رمضان عَلَى العادة، وركب معه الشهود وأعيان البلد وغيرهم من الناس. فلم يكمل عشرة أيام حَتَّى جاء كتاب الحسين بن عيسى باستخلاف الحسن بن عبد الرحمن بن إسحاق الجوهري. وتأخرت وفاة أبي الذكر إِلَى يوم الفطر سنة أربعين وثلاثمائة فمات وصلى عَلَيْهِ أخوه مؤَمَّل بن يحيى الأسواني، وبلغ أبو الذكر خمساً وثمانين سنة.

ص: 430

محمد بن يوسف شمس الدين الرِّكْرَاكِيّ المالكي من المائة الثامنة ولد سنة

تقريباً.

وقدم من المغرب وَقَدْ رَاهَق أَوْ بَلَغ الحلم، فلازم الاشتغال عَلَى مشايخ عدة من أبناء العرب وأبناء العجم، ومَهرَ فِي المعقول، وقرأ الأَصْلَيْن والعربية، وَكَانَ غاية فِي الذكاء، وحصل من الفقه طرفاً جيداً، فأول مَا اشتهر أمره أن نازع البرهان الإخنائي فِي تدريس المنصورية وانتزعها منه بمساعدة الأمير الكبير أُلْجَاي، وهو يومئذ ناظر المارستان.

وكان كثير الاستهتار بالكبار، والاستهزاء بالصغار، والازدراء بالجميع، فأغروا بِهِ، وتعصبوا عَلَيْهِ، وكتبوا فِيهِ محاضر ونسبوه إِلَى العمل بالسحر والنجوم، فطرح نفسه عَلَى أكمل الدين فحمله إِلَى الصدر التركماني فسمع الدعوى عَلَيْهِ وحَقَنَ دمه واستتابه، فأشار عَلَيْهِ أكمل الدين بالغيبة عن القاهرة فرحل إِلَى الشام فأقام هناك مدة حَتَّى مات الإِخنائي، وأكثر من كَانَ ساعده عَلَيْهِ.

فقدم القاهرة، ثُمَّ ثار عَلَيْهِ بعض المالكية وأراد تجديد مَا ذكر عنه، فحماه بعض الأمراء فلم يزل حَتَّى ولاه بدر الدين الإِخنائِي تدريس الحجازية فدرس بِهَا، وتصدر بالجامع الأزهر، ثُمَّ شغر درس الفقه بالشيخونية فقرّرهُ فِيهِ الأكمل، ثُمَّ درس بالقمحية بمصر، واتصل بالملك الظاهر، فَرَاجَ عَلَيْهِ وقرره فِي أول سلطنته وأجلسه عنده يوم المحاكمات.

ثُمَّ فسد الحال بينه وبين أكمل الدين إِلَى أن كَانَتْ كائنة برقوق وإخراجه إِلَى الكرك، فلما استقل منطاش بالتحدث فِي الدولة أمر بكتابة فتاوى وأخذ خطوط العلماء فِيهَا فيما يتعلق بالظاهر برقوق، فكتب أكثرهم وامتنع الركراكي، فأغرى أعداؤه منطاشاَ بِهِ فأهانه وأمر بضربه ثُمَّ قيد، فلم يثبت القيد فِي رجله فأعيد فِيهَا فانكسر فترك، فتحيروا فِي أمره، فمن قائل إن ذَلِكَ من جملة سحره، ومن قائل إن هَذَا صلاحاً، ومن قائل إن ذَلِكَ وقع اتفاقاً، وَقَدْ سئل الحداد الَّذِي

.

ص: 431

محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود العينتابي الحنفي.

ذكر لي أنه ولد فِي نصف رمضان سنن اثنتين وستين وسبعمائة بحلب. قال: وَكَانَ أبي قَدْ ولي قضاء عين تاب فنسب إليها، ثُمَّ قدم القاهرة وأول شيء ولي بِهَا من الوظائف التصوف فِي الظاهرية لما فتحت، ثُمَّ الخدمة بِهَا، ثُمَّ أخرج منها.

وتنقلت بِهِ الأحوال حَتَّى ولي الحبشية، ثُمَّ ولي نظر الأحباس، ثُمَّ أعيدت لَهُ الحسبة مضمومة إليها، ثُمَّ صرف.

ثم أعيد فِي الدولة الأشرفية. وولي القضاء فِي سابع عشري ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثمانمائة ثُمَّ صرف فِي أوائل صفر سنة ثلاث وثلاثين.

ثم أعيد فِي رجب سنة خمس وثلاثين ثُمَّ صرف فِي أوائل سنة اثنتين وأربعين.

وقد سمع من بعض شيوخنا كالشيخ زين الدين العراقي والشيخ تقي الدين الدجوي. وصنف شرح الطحاوي وأفرد رجاله، وشرح الكنز والمنار، وَلَهُ فِي العروض والتاريخ وغير ذَلِكَ. وكان قَدْ شرع فِي شرح عَلَى البخاري وكتب منه قطعة جيدة ثُمَّ كمل بعد ذَلِكَ، وَلَهُ تاريخ كبير لازم قراءته عند الملك الأشرف بَرْسَبَاي وحظي عنده.

ص: 432

محمود بن محمد بن عبد الله القَيْصَرِيّ جمال الدين ولد.. وقدم الديار المصرية فقطنها.

وكان ماهراً فِي عدة فنون فِي العربية والمعاني والبيان وغير ذَلِكَ، وتكسب فِي ابتداء أمره بتعليم مماليك بعض الأمراء، ثُمَّ نزل فِي طلبة الصَّرْغتمشية فِي غاية الضَّنْك وخُشونة العيش، ثُمَّ لَمْ يزل يترقى حَتَّى ولي الحِسبة بعناية الأمير اللفاف وذلك فِي ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة بعد قتل الملك الأشرف.

ثم صرف عنها لتغير الدول إذ ذَاكَ فِي سلطنة وَلَدَي الأشرف شعبان، ثُمَّ أعيد مراراً حَتَّى صحب الأمير بَرَكة واختص بِهِ وولاه نظر الأوقاف ونظر المارستان المنصوريّ، فلما قبض عَلَى بركة عُزل مِنْ جميع مَا بيده، وأمر برقوق أن ينادي لمن ظلمه فما ثبت عَلَيْهِ شيء وأقام فِي داره عاطلاً إِلَى أن سعى بعد مدة فِي الحسبة فأعيد إليها، ثُمَّ غضب عَلَيْهِ بكلام نقله عنه إلى قاضي القضاة صدر الدين ابن منصور، فأمر بأن ينفى إِلَى الشام، فخرج من القاهرة وأقام بتربة فِي الصحراء ليتجهز للسفر، فشفع فِيهِ الشيخ أكمل الدين فأمره أن يلازم داره، ثُمَّ أعيد إلى الحسبة ونظر الأوقاف، ثُمَّ ولي قضاء العسكر وقوي جاهه ثُمَّ ولي نظر الجيوش فِي أيامه تكلم منطاش وسافر صحبة العسكر.

فلما غلب الظاهر برقوق قبض عَلَيْهِ ثُمَّ أطلقه، فقد القاهرة مدة ثُمَّ توصل بصهره المعلم شهاب الدين الطولوني فتزوج جمال الدين ابنته، وَكَانَ الملك الظاهر تزوج ابنته الأخرى. فسعى لَهُ إلى أن ولي القضاء فِي النصف من شعبان سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، ثُمَّ أعيد إِلَى نظر الجيش فباشر مباشرة حسنة. وَكَانَ رئيساً مفضالاً جواداًَ مسعود الحركات، وَلَمْ يزل عَلَى عظمته إِلَى أن مات فِي سابع ربيع الأول سنة تسع وتسعين وسبعمائة.

ص: 433

محمود بن محمد بن محمود النيسابوري المعروف بجار الله تقدم فِي الجيم.

مسعود بن أحمد بن مسعود بن زَيْد الحارِثيّ نزيل القاهرة كَانَ أبوه تاجراً فقدم

وسمع الكثير من النجيب عبد اللطيف، وعبد الله بن عَلاّق، وإسماعيل بن عبد القوى ابن عَزُّون وطبقتهم فِي القاهرة.

ورحل إِلَى الشام فأكثر عن أحمد ابن أبي الخير، والرضى ابن البرهان، والجمال ابن الصيرفي، وشمس الدين ابن أبي عمر فِي آخرين. وتفقه لأحمد فمَهَرَ واشتهر، وصنف، وخرّج لجماعة، وروى العالي والنازل، ودرس بالصالحية والناصرية وغيرهما.

ثم ولي القضاء فِي شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعمائة، فباشره مباشرة مرضية مع يقظة واحتياط، وَكَانَ مفرط العصبية لمذهبه فِي الأصول والفروع. فحكى الشيخ شمس الدين ابن القماح أنه قال لَهُ كل مَا يلزم من يقول بالجهة أقول بِهِ، ويقال إنه دخل إِلَى الكاملية ليجتمع بابن دقيق العيد فلما رآه قال دَاعِية وامتنع عن مكالمته.

وقال الصَّفَدي فِي أعيان العصر: شرح " سنن أبي داود " شرحاً حافلاً لكن لَمْ يكمل. وشرح " المقنع " فِي مذهبه وأتى فِيهِ بفوائد ومباحث ونقول كثيرة وَلَمْ

ص: 434

يكمل أيضاً. وَكَانَ فصيح الإيراد حسن الحظ جدَّاً عذْب العبارة وافر الحرمة فاخر البزة.

وجرت للطوفي معه كائنة مشهورة مذكورة فِي ترجمة الطوفي، وَكَانَ أولها أن الحارثي تكلم فيمن بلغ رتبة الاجتهاد فقسم المجتهد إِلَى ثلاثة أقسام، فقال لَهُ الطوفي: فسيدنا من أي الأقسام؟ فسكتَ فغضب ولد القاضي وثار عَلَى الطوفي.

ثم جرت لَهُ معهم كائنة أخرى، وادعى عَلَيْهِ عند نائب الحكم بأنه رافضي فأنكر، فقامت عَلَيْهِ البينة فأمر بِهِ فضُرب وطوف بِهِ وسُجن ثُمَّ نفي إِلَى الشام، فتوجه من الطِّينَة إِلَى دمياط فأقام بِهَا مدة ثُمَّ توجه إِلَى قوص فأقام بِهَا مدة، ثُمَّ حج منها، ثُمَّ جاء إِلَى القدس.

ثُمَّ صرف الحارثي عن القضاء بعد سنتين ونصف من ولايته واستقر تقي الدين أحمد بن عوض، واستمر مقبلاً عَلَى الإفادة حَتَّى كَانَتْ وفاته فِي رابع عشر ذي الحجة سنة إحدى عشرة وسبعمائة. ودرس بالجامع الطولوني والصالحية وقَدَّمَ الفضلاء من أهل مذهبه عَلَى غيرهم.

مُسَلَّم - بتشديد اللام - بن علي بن عبد الله أبو الفتح الرَّسْعَني يلقب ثقة الملك الإسماعيلي من المائة السادسة.

ولي القضاء فِي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وصرف فِي ذي القعدة سنة ست عشرة. ولما ولي المأمون ابن البطائحي اتفق أن مات فِي ولايته عز الأمة محمود بن ظفر والي قوص فعمل عَزَاءه وبات فِي تربته ومعه أعيان الدولة، فحضرت صلاة الصبح فتقدم القاضي فأمّ الناس فحصل لَهُ زمع فَأُرْتِج عَلَيْهِ فِي قراءة الفاتحة فلحن، ثُمَّ قرأ (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) فوقف عند قوله:(نَاقَةَ الله) ساعة، ففتح عَلَيْهِ الوزير فلم يتيقظ ثم قرأنا وسقناها - بالنون بعد القاف - فأكمل المأمون الصلاة. ولما انفصل المجلس وكل الوزير بالقاضي من يحفّظه من القرآن مَا يصلى بِهِ، وصرفه عن القضاء وقرر لَهُ راتباً فِي كل شهر، وولي مكانه يوسف بن أيوب المغربي.

ص: 435

ومن سيرة مسلم المذكور أنه أراد التقرب من خاطر الأفضل وهو يومئذ سلطان مصر، فكتب إِلَيْهِ رقعة يقول إنه وجد فِي حاصل المواريث مالاً يبلغ مائة ألف دينار وَلَيْسَ لَهُ طالب من عدة سنين، ورَفْعُها إِلَى بيت المال أولى، وأراد بذلك التقرب إِلَى خاطره ليحظى عنده بذلك، فوقع فِيهَا: قلدناك قاضياً، وَلَمْ نجعلك ساعياً، ولا أرب لنا فيما لا نستحق قبضه، فاتركه عَلَى حاله حَتَّى يحضر مستحقه ولا تراجع فِي ذَلِكَ بعدها.

وفي ولايته أمر الخليفة بتوريث ذوي الأرحام، وَفِي أيامه قرر لشهود التركات جامكيات عَلَى الأموال الحشرية وكانوا يأخذون من أموال الأيتام ربع العشر يتوزعونه بينهم فِي مقابل الجامكية، فوفر ذَلِكَ عَلَى الأيتام بأمر الأمير المذكور، وَكَانَتْ وفاة الرسعني المذكور بعد ذَلِكَ فِي سنة

.

مظفر بن ظافر أبو العز

.

المُفضَّل بن فَضَالة بن عُبيد بن فضالة بن مَزيد بن نَوْف بن النُّعمان بن مَسْروق الرُّعَيني القتباني يكنى أبا معاوية.

جاء كتاب المهدي إِلَى موسى بن مُصْعَب بولايته وأجرى عَلَيْهِ ثلاثين ديناراً فِي كل شهر.

قال أحمد بن يحيى بن وزير: حدثني أبو ثمامة بن المُفَضَّل بن فضالة عن أبيه قال:

ص: 436

سألت يَزيد بن أَبي حَبيب عن مسألة فِي الأحكام وأنا قَدْ ناهزت الاحتلام فضحك وقال تحبُّ أن تكون قاضياً؟ بلغك الله ذَلِكَ.

وكانت ولاية المفضل القضاء فِي جمادى الآخرة سنة ثمان وستين.

قال أبو الطاهر ابن السَّرْح: رأيت المُفضَّل بن فَضَالة وأنا صبي، رجل أبيض عَلَيْهِ وَفْرة جسيم كأنه من رجال المغرب يعتمّ بعمامة سوداء عَلَى قلنسوة طويلة.

ويقال إن المفضل دعا الله أن يُذهب عنه الأمل فذهب فكاد أن يُخْتلَس عَقْلُه فدعا الله فرده عليه.

روى عن يزيد بن أبي حبيب، ومحمد بن عَجْلان، وعَيَّاش بن عَبَّاس القِتْبَانِيّ، وولده عبد الله بن عَيّاش، ورَبيعة بن سَيْف، وعبد الله بن سُلَيْمان الطويل، وعُقيل، ويونُس، وهشام بن سَعْد، وابن جُرَيْج، فِي آخرين.

وروى عنه ابنه، والوليد بن مسلم، وحَسَّان بن عبد الله الواسِطيّ، وأبو الأَسْوَد النَّضْر بن عبد الجَبَّار، وسعيد بن عيسى بن تَليد، وزكريا بن يحيى كاتب العُمَريّ، ويزيد بن خالد الرَّمْليّ، وقُتَيبة بن سعيد، ومحمد بن رُمْح، وغيرهم.

قال ابن مَعِين: ثقة. وَفِي رواية: رجل صدق. وَكَانَ يُجَبِّر، وإذا جاءه رجل قد انكسرت يده أَوْ رجله جَبَّرها، وَكَانَ يصنع الأرحية.

وقال أبو زُرعة: لا بأس بِهِ. وقال أبو حاتم وابن خِراش: صدوق.

وقال ابن يونس: كَانَ من أهل الفضل والدين ثقة فِي الحديث، من أهل الورع. ذكره أحمد بن شُعَيْب يوماً وأنا حاضر، فأحسن الثناء عَلَيْهِ ووثَّقهُ. وقال: سمعت قتيبة يذكر عنه فضلاً.

وقال الأجُريّ عن أبي داود: كَانَ مُجابَ الدعوة، وَلَمْ يحدث عنه ابن وهب لأنه قضى عَلَيْهِ بقضية.

وقال عيسى بن حماد: كَانَ مجاب الدعوة طويل القيام مع ضعف بدنه. وقال أشهب بن عبد العزيز: لَمْ يكن فِي قضاتنا أقوم بأمر اليتامى من المفضل بن فضالة. قال أشهب وسمعته يقول غير مرة: وليّ اليتيم كأبيه.

ص: 437

وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكَم: أخبرني بعض مشايخنا أن رجلاً لقي المُفضّل بن فَضالة بعد أن عُزِل عنِ القضاءَ فقال لَهُ: حَسِيبُك الله قضيتَ عليَّ بالباطل وفعلتَ وفعلتَ فقال لَهُ المُفضَّل: لكنَّ الَّذِي قضينا لَهُ يُطيّب الثناءَ.

وقال أبو زُرارة القِتْبَانِيّ: كَانَ المُفضَّل يجلس فِي مسجده يقضي بَيْنَ الناس فيمر بِهِ عبد الله بن عياش بن عَبّاس القِتْبَانِيّ فيقول: إذَا رأى اجتماع الناس عَلَيْهِ: أهذا الثور يُحسن القضاء!. ويضرب بإحدى يديه عَلَى الأخرى.

وقال أحمد بن يحيى بن وزير: كَانَ المُفَضَّل أول من طوّل السِّجلاّت ونسخ فِيهَا كتب الأحباس والوصايا والديون.

وقال يحيى بن بكير: كَانَ إسحاق بن معاذ بن مجاهد شاعراً، فخاصم إِلَى المُفضّل، وَكَانَ قَدْ هجا المُفضَّل، فأدخل يده إِلَى كُمّه ليخرج قصتهُ فأخرج الهجو فدفعه إِلَيْهِ وهو:

خَفِ اللهَ واسْمَعْ مِنْ مَقَالِي مُفضَّل

فإنَّكَ عن فَصْلِ الْقَضَاءِ سَتُسْألُ

وَقَدْ قَالَ أقْوامٌ عَجِبْتُ لِقَوْلِهِمْ

أَقَاضٍ لَهُ شَعْرٌ طَوِيلٌ مُرَجَّلُ

فرمى المُفَضَّل بالرقعة وقال: قم لا حَيّاك الله.

وكان إسحاق قَدْ مدح المفضل قبل ذَلِكَ بأبيات عَلَى هَذِهِ الروى ثُمَّ هجاه بهذه وهي طويلة يقول فِيهَا:

أَفِي الْعدْلِ أن أقصى وأخرج متعباً

وتدنى بلطف منك خصمي ويدخل

وتقبل منه فِي مَغِيبي شُهُودُهُ

وَبَيِّنَتِي ليست إذَا غَابَ تُقْبَلُ

وقال يحيى بن عثمان عن صالح بن أبيه: لَمْ يكن يتبع القاضي فيما مضى غير كاتبه ومن يقوم بَيْنَ يديه فِي مجلس الحُكم حَتَّى كَانَ المفضّل فِي ولايته الثانية فإنه رسم أقواماً بالشهادة فكانوا عشرة رجال فرأى الناس أن قَدْ أتى أمراً عظيماً.

ص: 438

وقال فِيهِ إسحاق بن معاذ:

سأدعو إلهي حَتَّى الصَّبَاح

لِكَيْمَا يُعيدُك كَلْباً هَزِيلَا

سَننتَ لنا الجَوْرَ فِي حُكْمِنَا

وَصَيَّرْتَ قَوْماً لُصُوصاً عُدُولَا

وَلَمْ يَسْمَعِ النَّاسُ فِيمَا مَضَى

بِأنَّ العدول عديداً قليلَا

وقال سعيد بن عُفَيْر: جعل المفضل صاحب مسائل يبحث لَهُ عن أحوال الشهود وَكَانَ كاتبه فُلَيح بن سليمان الرُّعَيْني فيقال: إنه كَانَ يرتشي من أقوام ليذكرهم بالعدالة لكونه رسم لذلك قال: فشكى الناس من كاتب المفضل ومن أمرائه ومن ولده.

وقال محمد بن رُمْح: كَانَ بيني وبين جار لي مشاجَرة فِي حائط فقالت لي أمّي: امضِ إِلَى القاضي المفضل بن فضالة ليأتي فينظر فِيهِ. فأخبرت المفضل فأتى العصر فدخل دارنا فنظر إلى الحائط ثُمَّ دخل إِلَى دار جارنا فنظر إِلَيْهِ فقال: الحائط لجاركم. وانصرف.

وذكر أبو عُبَيد الله محمد بن الربيع الجيزي فِي كتابه أخبار قضاة مصر عن فضالة ابن المفضل بن فضالة عن أبيه قال: كتبت إِلَى مالك فِي حُبس عمير بن أبي مدرِك الخولاني أسأله عنه وكتبت لَهُ نسخته حرفاً بحرف، وكتبت لَهُ إن الذين طلبوا إثبات الحٌبس هم من ولد البنين الذين كانوا أجازوا قضاء أبيهم فِيهِ واحتجوا بأن خير بن نعيم كتب لهم بإجازة الحُبس للآخر فالآخر من ولد البنين وأن القضاة قبلي لَمْ يقضوا لنساء البنين ولا لغيرهم فِيهِ بميراث. واحتجّ مَن طلب أن يكون ميراثاً بأن جدهم لَمْ يصرفه بعد انقراضهم إِلَى شيء من وجوه الأحباس. فكتب إليَّ: قَدْ نظرت فِي حبس ابن أبي مدرك وفيما احتج من أراد رده ميراثاً، فوجدت فِي كتاب ابن أبي مدرك الَّذِي جاء بن بنوه وأقروا بِهِ وأنفذوه: أن كل دار هي لَهُ حبس عَلَى بنيه، وثلث فضل خراجها بعد مسكن بنيه. فِي سبيل الله. قال: والطاحونة مثل ذلك.

ص: 439

وقال الحارث بن مِسكِين: سمعت المفضل بن فضالة وَقَدْ سأله رجل عن وطء الزوجة فِي دُبُرها؟ فقال إن أصحاب هَذَا لَمْ يجدوا أصفق وجهاً منه فأرسلوه إِلَي! لَوْ كَانَ هَذَا حلالاً مَا كَانَ فِي ذكره فِي المسجد خير.

وقال الحارث بن مسكين عن ابن القاسم سألت مالكاً عن النصراني الَّذِي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر وَكَانَ ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: مِسكين محمد، يقول لكم: إنكم فِي الجنة. أهو الآن فِي الجنة؟ مسكين فماله لا ينفع نفسه إذ كَانَتْ الكلاب تأكل ساقيه لَوْ كَانَ أُحرق بالنار استراح منه. فقال: اكتبوا للقاضي يضرب عنقه. وَكَانَ القاضي إذ ذَاكَ المفضل بن فَضالة فاجتمع القاضي والأمير فقتل ذَلِكَ النصراني.

قال أبو عمر: وتَحاكَمَ إِلَيْهِ أبو الكَرَوَّس وامرأته فخاطبه بأبيات يقول فِيهَا:

وَقَدْ أخَذْتَ مَهْراً لما كَانَ عندها

وهذي شُهُودِي حِمْيَرٌ والمعافرُ

فقال لَهُ: يَا أبا الكَرَوَّس إن شهدوا لَكَ بالبراءة حكمنا لَكَ. وإن شهدوا عَلَيْكَ فعلينا الوفاء.

وقد ذكره ابن سعد فِي الطبقة الخامسة من أهل مصر وقال: منكر الحديث. وَلَمْ يتابع ابن سعد عَلَى ذَلِكَ بل هو صدوق فِي الحديث كما قال أبو حاتم الرازي. وحديثه فِي الكتب كلها.

ولم يزل المفضل قاضياً حَتَّى مات المهدي وولي الهادي فصرفه، وولي عبد الملك الحَزْميّ، وذلك فِي شوال تسع وستين ومائة، فكانت ولايته سنة وثلاثة أشهر، فقدم الحَزْميّ مصر فِي أول سنة سبعين، ثُمَّ صرف الحزمي فِي جمادى الأولى سنة أربع وسبعين ومائة وأعيد المفضل إِلَى القضاء وذلك فِي شهر

ص: 440