المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ذكر من اسمه إبراهيم

‌القضاة على ترتيب المعجم

‌حرف الألف

‌ذكر مَن اسمه إبراهيم

إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن عَمرو بن حبيب بن سعد بن حبيب بن كليب بن شجنه بن غالب ابن عائذ بن يَيْثَع بن مُليح بن الهوُن بن خزيمة القاريِّ، بتشديد المثناة من تحت. نسبة إلى القارَة القبيلة المعروفة، وهم حلفاء بني زُهرة، ولذلك يقال له الزهري. مصري من أهل المائة الثالثة، كان ممن أخذ عن مالك واللّيث وابن لَهِيعة. روى عنه عثمان بن صالح وسعيد بن كثير بن عُفَير وغيرهما.

قال أبو عمر الكندي: لما مات لَهيعة بن عيسى في ذي القعدة سنة أربع ومائتين، ولَاّه السري بن الحَكَم أميرُ مصر القضاءَ لعشر بقين من ذي القعدة، وجمع له القضاء والقصص.

وذكره ابن يونس في تاريخه فقال: كان صالحاً صَدوقاً، متشدداً، أغل للسّرى في القول، وقال له: تحدّون الزاني وأنتم تزنون! وتقطعون السارق وأنتم تسرقون! وتجلدون في الخمر وأنتم تشربون؟ فلم يزل يرفق به حتى وُلّى. وشدد على الناس وصمم في الحق، فاختصم إليه رجلان في شيء، فأمر بالكتابة على أحدهما بإِنقاذ الحكم، فتشفع المحكوم عليه بابن أبي عون إلى الأمير السري بن الحكم، فأرسل إليه السرى أن يتوقف عن الحكم إلى أن يصطلحا، فإن لم يصطلحا أنفذ الحكم. فجلس إبراهيم في منزله، وامتنع عن القضاء، فركب إليه السرى وسأله الرجوع، فقال لا أعود إلى ذلك المجلس أبداً، ليس في الحكم شفاعة. فلما

صمم على الامتناع، ولي السرى إبراهيمَ بن الجراح، وذلك في جمادى الأولى سنة خمس ومائتين.

ص: 22

ومات إبراهيم بن إسحاق بعد انفصاله بشهر واحد في جمادى الآخرة من السنة.

قال الدَّارَقُطني في كتاب الرواة عن مالك، حدثنا الحسن بن رشيق، حدثنا الحسن بن آدم العسقلاني، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر، قال: أنا حملت رسالة الليث إلى مالك وأخذتُ جوابها، فكان مالك يسألني عن ابن لَهِيعة فأخبُره بحاله فيقول لي: فابن لهيعة ليس يذكر الحج؟ فسبق إلى قلبي أنه يريد السماع منه. وأخرجها البَيْهَقي. وفي روايته يريد مشافهته والسماع منه.

وذكره ابن الجوزي في حوادث سنة خمس ومائتين من المُنتظم، قال: جُمع له القضاء والقصص بمصر، وكان رجلاً صالحاً، مات في جمادى الآخرة.

إبراهيم بن البكاء. هو ابن محمد البجلي. يأتي.

إبراهيم بن الجراح بن صَبِيح التميمي، ثم المازني، مولى بني تميم. أصله من مَرْو الرّوذ، وسكن الكوفة ثم مصر، فولاّه السرى بن الحكم بعد امتناع إبراهيم بن إسحاق. وذلك في مستهل جمادى الأولى سنة خمس ومائتين، فاستكتب عمرو بن خالد الحراني، وجعل على مسائله معاوية بن عبد الله الأسواني، وكان قد سمع من يحيى بن عقبة بن أبي العيزار، وأبي يوسف، وكتب عنه الأمالي، روى عن علي بن الجعد وأحمد بن عبد المؤمن وأحمد بن عبد الله البكري، وذكره ابن حِبان في الثقات، وقال: كان من أصحاب الرأي، سكن مصر، يُخْطِئُ.

ص: 23

قال يحيى بن عثمان بن صالح: لما ولَّي السًّرىُّ إبراهيمَ بنَ الجراح القضاءَ أمر بمصلاّه، فوضع في المسجد الجامع، فاجتمع المصريون فألقوه في الطريق، فجلس إبراهيم للحكم في منزله، ولم يعد إلى الجامع.

وقال الطَّحاوي حدثنا علي بن عمرو بن خالد الحراني قال: سمعت أبي يقول ما أصبحت أحداً من القضاة مثل إبراهيم بن الجراح، كنت إذا علمت له

المحضر وقرأته عليه أقام عنده ما شاء الله أن يقيم، حتى ينظر فيه ويرى فيه رأيه، فإذا أراد أن يُمضي ما فيه، دفعه إليَّ لأنشئ له منه سجلاً فأجد بحافته: قال أبو حنيفة كذا، قال ابن أبي ليلى كذا، قال مالك كذا. قال أبو يوسف كذا. وعلى بعضها علامة له كالخط. فأعلم أن اختياره وقع على ذلك القول فأنشئ عليه السِّجل.

وقال عبد الرحمن بنُ عبد الله بن عبد الحَكَم: لم يكن إبراهيم بن الجراح بالمذموم في أول ولايته، حتى قدم عليه ابنه إسحاق من العراق، فتغيّرت حاله وفسَدت أحكامه.

ويقال إن إسحاق أخذ من معاوية بن عبد الله الأسواني ألف دينار حتى قرره أبوه على مسائله. روى ذلك أبو عمر الكندي من طريق أمَنة بن عيسى، أن إبراهيم قال لأبيه: أرى أن تولى علي مسائل المصريين رجلاً منهم وتستريح. فولي معاويةَ فأخذ ابن إبراهيم منه القدر المذكور فلما ولي عيسى بن المنكدر بلغه ذلك، فسجن معاوية الأسواني بسبب ذلك.

وقال أبو الرِّقْراق: انحرف الناس عن عمرو بن خالد، لما كتب لإبراهيم بن الجراح، فأمره إبراهيم يوماً باكتتاب شيء فكتبه. ثم أرسل إليه إبراهيمُ فأمره أن يتوقف عن كتابته. فبحث عمرو بن خالد عن سبب التوقف، فإذا هو من قبل إسحاقَ بن إبراهيم بن الجراح. فقال عمرو: لله علي ألاّ أعود إلى مجلسه.

قال: فرجع الناس إلى عمرو بن خالد، فأقبلوا عليه.

ص: 24

وقال علي بن معبد بن شدَّاد: شهد الخصيب بن ناصح عند إبراهيم بن الجراح، فأتاني صاحب مسائله يسألني عن الخصيب فقلت: لا أعلم فيه شيئاً أعيبه عليه، إلا أنه شهد إبراهيم بن الجرَّاح.

ولم يزل إبراهيم بن الجراح على القضاء حتى توجه عبد الله بن طاهر بن الحسين من قبل المأمون إلى مصر، ليحارب عبيدَ الله بن السِّريِ، فحكى يحيى ابن عثمان بن صالح قال: قال عبيد الله بن السري لابن عبد الحَكَم لما حاربه عبد الله بن طاهر، ثم وقع بينهما الصالح: اكتب كتاب أمانٍ في أمر ابن طاهر. فقال له عبد الله بن عبد الحكَم: أصلَح الله الأمير، لست من أصحاب الوثائق. ولكن القاضي له علم بذلك، فأمر عبيدُ الله بن السّرى، القاضِي إبراهيمَ بن الجراح فكتب له الكتاب، فكان سبب سقوطه عند ابن طاهر.

وقال يونس بن عبد الأعلى: كان إبراهيم بن الجراح من أدهى الناس، فكتب الكتاب لابن السّرى، فنسى أن أخذ لنفسه أماناً، مع شدة استظهاره لابن السّرى، وجميع جنده، فحقدها عليه ابن طاهر وفعل به ما فعل.

وقال خلف بن ربيعة: لما طال على ابن السرى الحصار، طلب الصلح وشرط لنفسه شروطاً، فأجابه عبد الله بن طاهر إليها. وكتب له بذلك كتاباً فيه شروط فنظر فيها القاضي، فقال: ليست هذه الشروط بشيء، ولكن يجب أن تكتب كذا وكذا. فقال له: اكتب لي نسخة بما قلت، فكتب له نسخة بخطه وبعث بها إلى ابن طاهر فأجابه. ثم لما استقرت قدمه بمصر عزله، وأسقط مرتبته وأمر بكشفه ومحاسبته.

وقال علي بن أبي جعفر الطحاوي حدثني أبي قال: كان إبراهيم بن الجراح راكباً في موكب فيه جمع كثير من الناس، فبلغهم أنه عزل، فتفرقوا أولاً فأولا إلي أن لم يبقَ معه أحد. فقال لغلامه ما بال الناس؟ قال: بلغهم أنك عزلت فقال: سبحان الله! ما كنا إلا في موكب ريح.

ولما صرف عن القضاء قال: سمعت أبا يوسف يقول: سمعت أبا حنيفة في جنازة رجل، ينشد هذه الأبيات عند القبر:

لما رأيت المشيبَ قد نَزَلا

وبَانَ عنِّي الشبابُ فارتَحلا

ص: 25

أيقنتُ بالموت فانكَسرتُ له

وكل حيٍّ يوافِقُ الأجَلَا

كم من أخٍ لي قد كان يُؤنسني

فصار تحت الترابِ مُنجَدِلَا

لا يسمع الصوتَ إن هتفتُ به

ولا يردُّ الجواب إن سُئِلَا

لو خلَّد الله فاعلموا أحداًلَخَلَّدَ الأنبياءَ والرُّسُلَا

وكان عبد الله قد صرفه عن القضاء في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة ومائتين. فكانت مدة ولايته ست سنين إلا شهرين. وأقام عبد الله بن طاهر عطَّاف بن غَزْوَان ينظر في المظالم.

وقال أبو عمر الكندي: حدثني أبو الطاهر المديني: سمعت حَرملة بن يحيى يقول: مرض إبراهيم بن الجراح وهو على قضاء مصر فأوصى بوصية، وأمر بإحضار الشهود ليشهدوا على وصيته. فقرئت عليهم الوصية فكان فيها، وإن الدين كما شرع، وإن القرآن كما خلق. قال حرملة فقلت: أشهد عليك بهذا؟ قال: نعم.

وقال سعد بن عبد الله بن عبد الحكم: انصرف أبي من عند ابن طاهر وقد ألقى إليه كتاباً من ابن السرى فيه أيْمان بالإطلاق والعتاق. فقال: مثله يستحلف بهذه الأيمان؟ فقلت: أصلح الله الأمير. إن الذي يجري الله عز وجل على يديك من حقن الدماء وصلاح ذات البَيْن، يسهل مثل هذا عليك. قال: أشهد عليّ بما فيه.

وقال أبو سعيد بن يونس، حدثنا علي بن سعيد وغيره، قالوا حدثنا أحمد ابن عبد المؤمن، حدثنا إبراهيم بن الجراح، حدثنا يحيى بن عقبة بن أبي العَيزار قال: كنت مع أبي فلقي محمد بن سُوقَة، فسلم عليه وسأله. ثم افترقا، ثم التقيا، فسلم

عليه وسأله، فقال أبي: ألم ألقك آنفاً؟ قال بَلَى، ولكن أخبرني نافع عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا لقي أحدكم أخاه في اليوم مراراً فليسلم عليه، فإن الرحمة ربما حدثت.

ص: 26

وقال ابن الجوزي في المنتظم: أصله من مَروْ الرّوذ وعُزل سنة عشر ومائتين وعاش إبراهيم بعد ذلك إلى أن مات بالرملة سنة سبع عشرة.

وقال أبو سعيد بن يونس: مات في المحرم بمصر.

إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، تأتى تتمة نسبه في ترجمة جده محمد بن إبراهيم.

هو القاضي برهان الدين ابن الخطيب زين الدين ابن القاضي بدر الدين ابن جماعة، من أهل المائة الثامنة. ولد في نصف شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة وحفظ التنبيه بعد القرآن. واشتغل وأحضر على جَده. وأسمع عليه وعلى أبي نُعَيم ابن الإسعردي وأحمد بن كُشْتُغْدي وإسماعيل التفليسي وطبقتهم من أصحاب

النجيب وابن عزون وابن علاق. ثم رحل إلى دمشق وسمع بعدة بلاد، ونسخ الأجزاء، وسمع الكثير من المِزِّي والجزري والذَّهبي وحصَّل الأجزاء وكتب بخطه. ثم لما مات أبوه في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة استقر في خطابه القدس. وكان جهوري الصوت مديد القامة وقوراً، فاشتهر ذكره وعظم قَدْره. ثم استقر في تدريس المدرسة الصلاحية بعد موت الحافظ صالح الدين العلائي، فازداد رفعة. وكان قد لازَم الذهبي فأكثر عنه. وذكره الذهبي في المعجم المختص بالمحدّثين. قال: (الفقيه المحدّث المفيد، أحد

ص: 27

من طلب وعنى بتحصيل الأجزاء وقرأ وتميز، وهو في ازدياد من الفضائل. وقد ولي خطابة القدس بعد والده وقرأ علي كثيراً) انتهى. وقد رأيت بخطه أجزاء تدل على أنه لم يمهر في فن الحديث. ورأيت له جُزْءاً خَرَّجه لبعض الرَّحّالة، يدل على قصور كثير، مع كثرة ما كان عنده من المواد. ثم ولي قضاء

القضاة بالديار المصرية بعد صرف أبي البقاء، مطلوباً من بيت المقدس بعناية بعض أمراء الدولة فحضر على البريد يوم الأربعاء رابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة. وبات في تلك الليلة في صهريج منجك وأصبح يوم الخميس فخلع عليه. وركب معه معظم الأمراء على العادة إلى الصالحية وباشر بحُرمة ومَهابة وعِفة ونَزاهة.

قرأت بخط صاحبنا جمال الدين عبد الله بن أحمد البشبيشي رحمه الله، رأيته يوم ولي وقد خلع عليه بالطيلسان المقور. ثم ركب إلى أعيان الأمراء فسلم عليهم على العادة. قال: فاتفق أن بعض الفقهاء ازدراه لأنه لم يكن مشهوراً بالمهارة في الفقه. فوصفه بقلة المعرفة. فاتفق أنه دخل عليه فرأى كتبه مصفوفة فقال: يا مولانا قاضي القضاة، ما أحسن تصفيف هذه الكتب! ورمز إلى أنه قليل الاشتغال فيها، لأن كثرة الاستغلال تنافي حسن التصفيف غالباً. ففهمها وأسَرّها في نفسه. وكان ذلك الرجل يلي عقود الأنكحة، فالتمس منه الإذن بذلك، فأذن له. فاتفق أنه وقع له عقدٌ عقَده المذكور فيه خلل. فأحضره واستكشفَ أمره، فوجده فاسداً. فأمر بتعزيره، فضرب وصفع، وكشف رأسه وأرسل إلى الحبس حاسراً.

ثم اتفق أن بعض نواب القضاء بالشرقية دخل إليه، فسأله عن شيء فأجابه وشر كالضاحك، فتوهم القاضي أنه يستهزئ به، وليس كذلك، بل كان ذلك خلقة في ذلك الرجل. فأمر به فعُزِّر نظير ما عزّر الأول. فارتدع أهل البلد وهابوه.

وقرأت بخط صاحبنا الشيخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي: (كان خطيباً بليغاً، حسن الصوت، مهاباً عفيفاً، تاركاً للأغراض الدنيوية، جليلاً مليح الوجه جميل المحيّا، زائد الوقار، كثير الإفضال، عالي الهِمة، ماجداً جواداً

ص: 28

ممدحاً، عَزوفاً عن الضّيم) ، إلى أن قال:(وبالجملة فقد كان مفخراً تتجمل به الدولة، وتتبرك بوجوده الملوك) .

وقال البشبيشي أيضاً: (كان مهيباً عظيم القدر عند الملوك، محبباً للناس، على غاية من العفة والصيانة، والوقوف مع الحق، الجليلُ والوضيعُ عند سواه. مع عدم الغرض في أمور الدنيا. وكان يقرر فيما يشغر من الوظائف من يسبق، إذا كان مستحقاً. ولو طرأ عليه مَن هو أولى منه، أو مَن له جاه، فلا يلتفت إلى ذلك، بل السابق عنده هو المستحق) .

ثم اتفق أن محبّ الدين ناظر الجيش، عارضه في قضية من القضايا، فقال البرهان:(أنا لا أرضى أن أكون تحت حَجْر كاتب) . فصرف أتباعه، وصرح بعزل نفسه وأغلق بابه. فبلغ ذلك الملكَ الأشرف فانزعج، وأرسل إليه يسترضيه، فامتنع. فراسَله مراراً، فأصرَّ. فأرسل إليه أخيراً:(إن لم تحضر وإلا حضرت إليك) . فركب متخففاً بملوطة. واجتمع بالسلطان فرضّاه فَرَضِي بعد جهد. واشترط أشياء أجابه إليها. وخلع عليه ونزل

إلى منزله بجامع الأقمر، ومعه جَمْع من الأمراء والأعيان. فازداد بعد ذلك رفعة وعظمة وازداد مهابة عند الأمراء والعامة.

وكان عارفاً بالفقه، فصيحاً بليغاً، حسن الصوت بالقراءة. وله مشاركة في التفسير والعربية، ومحبة في الحديث وأهله.

ذكر لي القاضي جلال الدين البلقيني، أنه حضر دروسه، ووصفه بكثرة الاستحضار. قال: وكانت طريقته أنه يلقي الآية أو المسألة، فيتجاذب الطلبةُ القولَ في ذلك والبحث، وهو مُصْغ إليهم، إلى أن يتناهى ما عندهم، فيبتدئ فيقرر ما ذكروه، ثم يستدرك مَا لم يتعرضوا له، فيفيد غرائب وفوائد.

وذكر لي القاضي ولي الدين العراقي، أنه عرض له مراراً، أنه يُخرج له معجماً أو مشيخة، فلم يقدّر ذلك. ولم يزل أمره مستقيماً، إلى أن تجهز الملك

ص: 29

الأشرف إلى الحج. فلما وصلوا إلى ساحل البحر بأيلة غدر مماليك الأشرف به، وأرادوا القبض عليه فهرب، ورجع أكثر الناس. فصادف أن البرهان لقي طشتمر الدوادار وكان هو القائم في خلع الأشرف، فأغلظ له البرهان، وكان فِي جملة ما خاطَبه به:(أنت أثرتَ هذه الفتنة، وشققتَ عصا المسلمين. لئن أظفرني الله بك لأضرِبن عنقك) فأسرَّها طشتمر في نفسه، إلى أن صرفه عن القضاء بعد أن قرر عند الأمراء، أن القاضي برهان الدين كان يستقل الأشرف. فكيف تعظمون في عينه؟

وسمعه البرهان الإخنائي قاضي المالكية، لما خاطب طشمتر بذلك الكلام، فلامه على ما خاطب به طشتمر، وقال:(لا بأس أن تقتلونا جميعاً) . فما التفت إلى كلامه بل خاطبه بالسّب، ونسبه للعجز. ودخل الجميع إلى القاهرة فصرف بعد قليل وكان صرفه عن القضاء في الثامن عشر من شعبان سنة تسع وسبعين. وكان مدة ولايته الأولى ست سنين وأياماً. وتوجه إلى وظائفه بالقدس. واستقر القاضي بدر الدين ابن أبي البقاء، فباشر إلى أن كثر القول فيه، فاجتمع رأي بركة وبرقوق إلى صرفه، وإعادة البرهان. فطلب من القدس فحضر على البريد. وبات في صهريج منجك ليلة الخميس، ثالث عشرين شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة ثم صعد القلعة يوم الخميس فخلع عليه وشيّعه أكثر الأمراء. ووصل إلى الصالحية وصلى بها على العادة، وقال:(مَن فارقناه على شيء فهو على حاله) . وأبطل من استجده ابن أبي البقاء. فباشر البرهان بعظمة وعفة ونزاهة، وصلابة فِي الحكم وترفع على العظماء، وتواضع مع الفقراء، وبذلك المجهود من الإحسان إلى الفقهاء والفقراء.

ومن جملة ما اتفق له، أن حاجب الحجاب آقبغا الكوكائي، كان في إقطاعه شيء موقوف، فأرسل القاضي عرفه به، وأن يسأل في التعويض عنه. فأجاب قاصده بأن السلطان أقطعني هذا. فاجتمع به بالقلعة فأعرض عنه. فأكب آقبغا على يد القاضي فلم يلتفت إليه. فقال ما ذنبي؟ قال:(ثبت عندي فسقك) ، وذكر له القضية. فأظهر التوبة والاستغفار، ونزل في الحال إلى بيت القاضي،

والمنشور معه فقال: (خذ هذا الإقطاع كله، تصرَّف فيه كيف شئت) . فقال: (بل نقتصر على القدر الموقوف) .

وفي هذه الولاية كتب مرسوم عن سلطان أن يكون للشافعي من النواب

ص: 30

أربعة. ولكل من الثالثة اثنان اثنان. وصعب عليه ذلك لكونه نوعاً من الحجر عليه. وكثر اعتراض أهل الدولة عليه في الأمور، فاظهر السآمة مع استمراره على عادته في التصميم فيما لا يسوغ، إلا أن اتفقت له كائنة ابن نهار وكان من أبناء الأجناد، وله وقف أراد أن يبيع منه شيئاً. فامتنع القاضي فألحّ عليه بالرسائل، فأصرَّ. فسأل في عقد مجلس بين يدي برقوق. فعقد فوقع من ابن نهار مخاطبة للقاضي بما لا يحتمله. فنفر البرهان من ذلك، وتوجه إلى ظاهر البلد. وشرع يتجهز إلى القدس. فبلغ ذلك الأميرَ فعرِّف القصة، فأمَر بضب ابن نهار بالسياط، وَطيفَ به. وأرسل إلى البرهان من ردَّة إلى منزله مكرَّماً. ثم صار يسارع إلى عزل نفسه إذا ألزم بما لا يسوغ عنده. فقلق الأمير من ذلك، وأكثر من شكواه إلى الأمراء. وكان له غرض صحيح في عزله، لأنه كان يخشى أنه لا يطاوعه على ما في نفسه من الاستبداد بالسلطنة. فصرفه في آخر يوم من صفر سنة أربع وثمانين وسبعمائة. فأقام بالقاهر قليلاً. وتوجه إلى بيت المقدس على وظائفه. فلم يزل إلى أن مات ولي الدين ابن أبي البقاء قاضي الشام. فأرسل برقوق إلى البرهان بتقليده قضاء الشام. فقبل وباشره أحسن مباشرة، بحيث إنه لم يجد في المودع الحكمي مالاً. فنمَّاه وَثَمَّرَه إلى أن صار فيه ما يفيض عن ألفي ألف درهم فضة كاملية.

وذكر الركراكي أنه عاتب برقوق، وكان صديقه، في عزل البرهان فقال: ما يجيب إلى ما أريد، ولا يزال يخالف. قال: فقلت له: ما أردت إلا من تزين مملكتك به. فقال: صدقت إلا أنه لا يداري الوقت بما يليق.

وذكر لي القاضي كريم الدين ابن عبد العزيز ناظر الجيش، أنه كان بدمشق لما ورد أمر برقوق بولاية البرهان قضاء الشام. قال: كان البرهان قدم دمشق من بيت المقدس في أمر مهم. فلما قضى أرَبه خرج منها وشيعه الأكابر، متوجهاً لبيت المقدس، فورد التقليد والخلعة بعد رحيله. فشيع نائب الشام في إِثْرهِ من أعاده، وقرأ عليه مرسوم السلطان، فأجاب بأن قال: لو ولاني قرية لقبلت. فلبس الخلعة وباشر، وتوجه إلى بيت المقدس، فخطبهم خطبة بليغة وودعهم. ورجع إلى دمشق فأقام بها، وكانت وفاته بدمشق وهو على قضائها في ثامن عشر شعبان سنة تسعين وسبعمائة.

ص: 31

إبراهيم بن علي بن أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن يوسف بن إبراهيم بن علي الدمشقي، ابن قاضي حصن الأكراد، برهان الدين ابن كمال الدين المعروف بابن عبد الحق. حنفي من المائة الثامنة.

وعبد الحق الذي نسب إليه هو الواسطي ابن خلف الحنبلي، وهو جده لأمه ولد سنة سبع أو تسع وستين وستمائة. وتفقه على الظهير أبي الربيع سليمان وغيره.

وأخذ الأصول والعربية عن ظهير الدين الرومي، والصفي الهندي، والمجد التونسي وغيرهم.

ورحل إلى القاهرة، فأخذ عن ابن دقيق العيد وأذن له بالإفتاء. وأخذ عن السروجي وغيره. وكان ذلك في سنة

ست وتسعين وستمائة.

وسمع على أبيه كمال الدين علي، وعمه نجم الدين إسماعيل. وشرف الدين الفَزَاري والفخر ابن البخاري وغيرهم. وتصدر للتدريس بدمشق، وحدث وخرَّج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخةً، حدث بها بالقاهرة، بقراءة التاج ابن مكتوم.

ثم طلب إلى مصر بعد وفاة شمس الدين الحريري فوصل في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، فولاه الناصر محمد بن قلاوون القضاء بالديار المصرية. ودرس في عدة أماكن. ولم يزل بها قاضياً إلى أن صرف عن الوظيفة هو والقاضي جلال الدين القزويني معاً. فرجع إلى دمشق واستقر مكانه الحسام الغوري.

وكان القاضي برهان الدين هذا، قد شرح الهداية، وصنف المنتقى في فروع المسائل، ونوازل الوقائع في مجلد، وإجارة الإقطاع في مجلد، ومسألة قتل المسلم بالكافر، ومسألة إجارة الأوقاف. واختصر السنن الكبرى للبيهقي واختصر التحقيق لابن الجوزي في أحاديث الخلاف.

وكان يقال إنه انتهت إليه رياسة المذهب في عصره. وكان يقرر الهداية تقريراً بليغاً.

ص: 32

وصرف عن القضاء في النصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة فرجع إلى الشام، فدرس بالعذراوية والخاتونية، رافعاً أعلام العلم إلى أن مضى لسبيله في ذي الحجة سنة أربع وأربعين بدمشق.

إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن عبد العظيم بن عبد الأعلى بن عبد الله بن عبد الكبير بن عامر بن كريز - براء ثم زاي مصغراً - ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس القرشي العبشمي الكُزَيْزِي البغدادي، من المائة الرابعة، ويكنى أبا محمد. ولد.. ونشأ بدمشق الشام وولى قضاء مصر من قبل أبي يحيى عبد الله بن إبراهيم بن مُكرَم. لعشرين من المحرم.

ولما ولي تَكِين إمرة مصر، أعيد إليها، فصرف أبا الذِّكْر الأسواني، وقرر مكانه أبا محمد الكريزي. وقدم مصر في صفر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، فتسلم القضاء من أبي الذكر لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر.

قال ابن ميسر في تاريخه: قدم تَكِين من العراق لعشر بقين من المحرم منها فصرف أبا الذكر، وولي مكانه أبا محمد الكريزي، نيابة عن أبي يحيى ابن مُكْرَم.

قال أبو محمد بن زولاق: لَمْ يكن بالمحمود في ولايته فنظر في الأحكام وتسلم ما في المودع من المال.

وغلب على أمره أبو علي أحمد بن علي بن أبي الحسن الصغير. ولم يكن بالماهر في العلم، ولكن كان يعرف العربية. وكان قد سمع من محمد بن أحمد ابن الجنيد، وغيره، وحدّث. أخرج عنه أبو بكر بن العربي في معجمه.

قال الحسن بن زولاق: تراءى الناس هلال رمضان. وخرج القاضي الكريزي على العادة فرجعوا. فأرسل تكين أمير مصر إلى الكريزي يسأله: (أَيْشٍ صح عندك من الشهر؟ (يعني رمضان. فأجابه: إن الذي صح عندي أن غداً لا من

ص: 33

شعبان ولا من رمضان. فقال تَكِين: (الله المستعان. يصرف أبو عبيد بمثل هَذَا) ؟.

وقال أيضاً: كان القضاة إذا قدموا البلد بدأوا بدار أمير مصر. فلما قدم الكُزَيْزِي بدأ بالجامع فصلى فيه ركعتين، وقرئ عهده فيه. ثم راح إلى دار الأمير وتسلم ما في المودع، وكان تحت يد جماعة من أمناء القاضي أبي عبيد، منهم علَاّن بن سليمان. وكان عنده خمسون ألف دينار، دفنها تحت درجة. وكان عند غيره أكثر من ذلك. وتصرف الكريزي في ذلك. وتصرف في شيء كثير من أموال الأحباس.

ثم قدم كتاب هارون بن إبراهيم بن حماد، الذي ولي قضاء بغداد، بعد ابن مُكرَم، يأمر بتسليم القضاء لعبد الرحمن بن إسحاق بن محمد الجوهري، فتسلمه من الكريزي لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة. وكانت ولايته سنة واحدة وأياماً. وعاش بعد ذلك إلى أن مات بحلب، في سنة سبع عشرة وثلاثمائة. وأرخه مسلمة بن قاسم سنة ثماني عشرة.

إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة السعدي الإخْنائي المالكي، من المائة الثامنة، يلقب برهان الدين ابن علم الدين. ولد بالقاهرة سنة.. وسافر مع أبيه إلى الشام، لما ولى قضاء دمشق. فسمع بها من أبي العباس الحجار والماكسيني، وإبراهيم بن ألواني، وتفقه شافعياً وحفظ التنبيه. ثم رجع إلى القاهرة فأقام بها، واشتغل في مذهب مالك، فمهر وتميز. ثم ولي الحسبة ونظر المارستان، ونظر الخزانة السلطانية. ثم قرر في قضاء المالكية بعد موت أخيه تاج الدين محمد، وكان ينوب عنه، وذلك في صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة واستمر إلى أن مات في ثاني شهر رجب سنة سبع وسبعين وسبعمائة.

وكان مهيباً صارماً نَزِهاً عفيفاً، نافذ الكلمة، عظيم الحرمة، مفضالاً، مصمماً لا يقبل رسالة ولا شفاعة. بل يصدع بالحق، ولا يغضي على باطل أصلاً، ولا يولي إلا مستحقاً، وكان مع ذلك كثير الحلم والستر على من لم

ص: 34

يجاهِر، فمن جاهَر تصدى له وقمعه. وكان قد اشتهر صيته بذلك. وكان مسعوداً في مباشراته.

وقد تعرض له جماعة من المغاربة في أمر منصب القضاء، فانتصف منهم، فَنَكل ببعضهم وشرَد منه بعضهم. فلم يَعُد إلى البلد إلا بعد موته.

وكان له في كل قلب رهبة، ولكل أحد إليه رغبة. وكان كثير الإفضال على أهل مذهبه وأصحابه.

إبراهيم بن محمد البَجَلي، أبو يحيى ابن البكَّاء المصري من المائة الثانية.

ولاه جابر بن الأشعث القضاء والنظر بين الناس، بعد موت هاشم البكري وكان موته في المحرم سنة ست وتسعين ومائة، وذلك أيام حصار الأمين ببغداد من جهة طاهر بن الحسين. فوثب الجند بمصر على جابر فخلعوه، وأمَّرُوا عليهم عباد بن محمد، وكان من شيعة المأمون. فعزل ابن البكاء وأعاد لَهِيعة بن عيسى إلى القضاء، وذلك في رجب سنة ست وتسعين ومائة فكانت

ولاية ابن البكاء خمسة أشهر، وصرف في شهر رجب. وعند عزله اجتهد عباد في أن ابن وهب يلي القضاء، فامتنع واستتر، ومات في خلال ذلك.

وقال ابن يونس: كان إبراهيم من أصحاب جابر بن الأشعث، فقرره في القضاء فمكث أشهرا، ثم عزل.

قلت: وذكر سعيد بن عُفَيْر أن ولايته كانت شهراً واحداً، ولم أقف له على ترجمة شافية.

إبراهيم بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح بن هاشم بن

ص: 35

إسماعيل بن إبراهيم بن نصر الله العسقلاني الأصل، ثم القاهري الكناني الحنبلي، برهان الدين ابن ناصر الدين، من المائة التاسعة. ولد في شهر رجب سنة ثمان وستين وسبعمائة بالقاهرة، واشتغل على أبيه وغيره، ونشأ على طريقة حسنة، وفوض إليه أبوه نيابة الحكم عنه، فباشرها بعقل وسكون. ثم لما مات أبوه ولي القضاء بعده في الثاني من شعبان سنة خمس وتسعين ولم يكمل الثلاثين. فسلك في المنصب طريقة

مُثْلى من العفَّة والصيانة وبشاشة الوجه، والتواضع والتودُّد. وأحبه الناس ومالوا إليه أكثر من والده، لما كان عند أبيه من التشدُّد والانقباض، ومات في ثامن شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانمائة وله أربع وثلاثون سنة. واستقر بعده أخوه موفق الدين أحمد وكان أصغر سناً منه. وأنجب البرهان ولدَه عز الدين أحمد ففاق سلفه في سعة العلم، ومعرفة الأدب. وناب في الحكم، ثم تركه تعففاً وتنزهاً، ودرس في عدة أماكن أمتع الله ببقائه.

إبراهيم بن يزيد بن مرة بن شرحبيل بن حَمِيَّة بن زَكّة بن عمرو بن شرحبيل بن هَرِم بن آزاد بن شرحبيل بن حُمْرَة بن ذي بَكْلان بن ثاَت بن زيد بن رُعَيْن، أبو خزيمة الرعيني المصري الثاتي بمثلثة ثم مثناة نسبة إلى ثات جده الأعلى.

ولاه يزيد بن حاتم أمير مصر بعد غوث بن سليمان، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وأربعين ومائة في خلافة المنصور. كذا قال أبو عمر الكندي. وفيه نظر. لأنه ذكر أن ولاية يزيد بن حاتم كانت في ذي القعدة من هذه السنة. فكيف يوليه قبل أن يتأمّر؟. وفي قول أبي سعيد بن يونس: إن الأمير حينئذ كان عبد الملك، نظرٌ أيضاً.

وكان عرض القضاء على حَيْوَة بن شريح، فقال: لست أفعل. فاصنع ما أنت صانع. فتركه وولَّي أبا خزيمة.

وقال أبو سعيد بن يونس: ولي قضاء مصر بعد أن عرضه الأمير أبو عون عبد الملك بن يزيد على السيف فقبل ذلك.

وقال أبو القاسم بن عبد الحكم في كتابه (فتح مصر) : كان سبب ولاية أبي خزيمة أن أبا عون شاور فِي رجل يوليه القضاء، ويقال إن الذي شاور في ذلك

ص: 36

هو صالح بن علي بن عبد الله بن عباس. فأشير عليه بواحد من ثلاثة، وهم: عبد الله بن عياش القِتْبَاني وحَيْوَة بن شُرَيْح وأبو خُزَيْمة، وكان حينئذ بالإسكندرية فأحضر، وعُرض عليه القضاء فامتنع. فأحضر السيف والنَّطْع، فخاف وأجاب. وكان قد عرض ذلك على حيوة بن شريح فأخرج لهم مفتاح بيته ودفعه

لهم، وقال: لقد اشتقت إلى لقاء ربي.

كذا قال. ولم يكن يومئذ عبدُ الملك أميرَ مصر، إنما كان أميرُها يومئذ حميدَ ابن قَحْطبة.

والذي يزيل هذا الخلاف أن إمْرَة مصر حينئذ كانت إلى صالح بن علي عم المنصور. وكان من ذكر من الأمراء نواباً عنه.

قال يحيى بن عبد الله بن بكير: سمعت ابنَ لَهيعة، وسئل هل كان أبو خزيمة القاضي فقيهاً؟ قال: والله ما كان يفتح لنا السؤال عند يزيد بن أبي حَبِيب إلا أبو خزيمة. وكان نافذاً في البيوع والطلاق والأحكام.

وقال ابن يونس: كان من الزاهدين العابدين. يقال إنه دخل على عبد الله ابن الحارث بن جَزْء الزَّبيدي الصحابي. وحدث عنه المُفَضَّل بن فَضَالة وخالد ابن حميد وجرير بن حازم والصباح بن أبان ورِشْدِين بن سعد.

وقال المُفضَّلُ بنُ فَضَالة: كان أبو خزيمة يعمل الأرسان، فيبيع كل يوم رَسَنَيْن واحداً ينفقه على نفسه وأخر ينفذه إلى إخوانه بالإسكندرية. فلما ولي القضاء. كتبوا إليه في ذلك، فقال معاذ الله أن أترك. فكان يعملها ويبعث بها إليهم.

وكان إذا غسل ثيابه أو شهد جنازة أو اشتغل بشغل له يختص به يأخذ من رزقه بقدر ما اشتغل، فيعيده إلى بيت المال، ويقول: إنما أنا عامل المسلمين،

ص: 37

فإذا اشتغلت بشيء عن عملهم، لم أستحق أن آخذ من مالهم شيئاً. وكان يقول أنا بين رجلين: إما حامد وإما ذام. ويدخل علي في اليوم الواحد خلقٌ كثير من الناس، أريد أن أُعد لكل واحد منهم جواباً، مخافة أن يَخْتِلَنِي عن ديني.

وقال إدريس بن يحيى الخولاني: أبو خزيمة خيرٌ مني، اختير فصلح وأنا لم أختر. فلم يزل أبو خزيمة على ولايته إلى أن مات في ذي القعدة سنة أربع وخمسين ومائة. فكانت مدة ولايته عشر سنين.

وذكر أبو عمر الكندي أن أبا خزيمة رفع إلى بعضُ بني مسكين شيئاً من أمر حُبُسهم. وكان بعضُ مَن مضى من القضاة ينظر فيه، فأراد أبو خزيمة ردَّ ذلك فقال له: إذا نحن لم ننتفع بقول من قبلك من القضاة عندك، كذلك لا يُنتفع عند من يجئ من بعدك من القضاة بقولك، فأنفذ ذلك.

ومما وقع في ولايته أن عبد الأعلى بنَ سعيد الجَيْشَاني تزوج امرأة من بني عبد كُلال، فقام بعض أوليائها في إنكار ذلك، وترافعوا إلى يزيد بن حاتم المهلَّبي أمير مصر، فأمر أبا خزيمة أن يفسخ نكاحها، لأنه ليس من أكفائها. فقال أبو خزيمة: ما أحلُّ ما حرم الله

ولا أحرِّم ما أحل الله. إذا زوجها الولي بإذنها فالنكاح ماض. فعادوا إلى يزيد بن حاتم. ففرق بينهما فقال في ذلك:

أأُعلنت الفَوَاحش في البَوَادي

وصار الناسُ أعوانَ المُرِيبِ

إذا ما عبتُهم عابوا مَقَالي

لما في القوم من تلك العُيوب

وودُّوا لو كفرنا فاستَوينا

وصار الناسُ كالشيء المَشُوب

وكنا نَسْتَطِبُّ إذا مَرِضنا

فصَار هَلاكُنا بيدِ الطبيب

قال أبو عمر الكندي: هذه المرأة هي أم شُرَحبيل بنت عبد الرحمن بن عبد الله بن مُرّة بن اليَسَع بن عبد كُلال. وكان الذي عقد نكاحها عمُّها يَعْفُر بن عبد الله. وكان الصَّداق ألف دينار. وكان التفريق بينهما قبل الدخول.

ص: 38