المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌حرف الباء الموحدة

‌حرف الباء الموحدة

بدر الجمالي أمير الجيوش أبو النجم. كان مملوكاً لجمال الدولة أبي الحسن علي بن عَمَّار صاحب طرابلس، ملكه وهو صغير ورباه فظهرت عليه النجابة. فلم يزل ينتقل حتى ولي إمرة دمشق منق بل المستنصر العبيدي في شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وأربعمائة. وولي المستنصر معه الشريفَ ثقة الدولة ذات الجلالتين أبا الحسين يحيى بن زيد الحسيني ناظراً على الأعمال. فباشر بدر الإمرة سنةً وثلث سنة. ثم خرج منها في رجب سنة ست وخمسين. ثم أعيد إلى إمرتها في شعبان سنة ثمان وخمسين، بعد سنتين فباشرها سنتين. ثم بلغه أن ولده قتل بعسقلان فتوجه من دمشق في رمضان سنة ستين، فلما كان بمسجد القدم خارج دمشق، عمد بعض الجند والعامة إلى قصره فأحرقوه. ولم يزل ينتقل في الإمرة من دمشق إلى صور حتى ملكها. وأخرج صاحبها عين الدولة أبا الحسن محمد بن عبد الله بن عياض بن أبي عقيل، وكان قاضيها، فغلب عليها وتولى إمرتها.

ثم أقام بدر بعكا إلى أن تغلب ناصر الدولة ابن حمدان على الأمر بمصر، ونقصت حرمة الخليفة المستنصر باستبطائه ناصر الدولة، واستبداده بأحوال المملكة دونه. فشكا المستنصر حاله لبعض من يثق به، فأشار عليه بمكاتبة بدر وأن يفوض إليه أمر مصر ليكفيه من يعارضه فيها. فكتب إليه كتاباً يحثه فيه على القدوم، وبالغ في الاستعانة به حتى قال في ذلك الكتاب:

فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي

وإلَاّ فأدركني ولمَّا أُمزَّقِ

فلما قرأ الكتاب قويت رغبته في ملك مصر، فلم يملك نفسه أن صاح: لبيك، لبيك، لبيك. وتوجه في أسرع وقت بعد أن جمع معه عسكراً علم صدق نيَّتهم في طاعته، وركب البحر في وسط الشتاء في مائة مركب، فوصولا سالمين حتى

ص: 91

دخل دمياط. وزعم أهل البحر أنهم لم يعهدوا صحواً متمادياً في كانون الثاني، وما بعده مدة أربعين يوماً، إلا في تلك الأيام. وسار في البر من دمياط إلى ظاهر قليوب. فأمر المستنصر العسكر بتلقيه فتلقوه. فدخل في جمادى الأولى سنة ست وستين وأربعمائة. فقربه وبالغ في إكرامه. ولم يكن أحد منهم علم باستدعائه إياه، وإنما ظنوا أنه قدم زائراً، فبالغوا في إكرامه وضايفته. فلما عرف بدر أنه استوفى ضيافة الجميع، دعاهم إلى دعوى صنعها لهم فلم يتخلف عنه منهم أحد. فقرر مع جماعته أن يوكل كل واحد منهم بأمير من تلك الأمراء، يُظهر أنه قائم على رأسه لخدمته، وجعل الأمارة معهم أنه إذا تكامل أكلهم، ورفع السماط، وخرج

هو إلى قضاء حاجته في المسترفق، أن كل من يتوجه إلى قضاء حاجته فيا لمسترفق يتوجه بمن هو موكَّل به معه. فإذا دخل الخلاء قتله، ويتوجه الذي يليه بعده كذلك. فقتلوا الجميع في تلك اللحظة من غير أن يشعر الثاني بما جرى للأول. فلما تم له الأمر، قرَّر في إمرة كل أمير من كان موكلا به، حتى في داره وجواريه وماله. ثم صبّح المستنصر، فاخبره، فقرره في وزارته، وفوض إليه الأمور كلها، وعاهده على ذلك. وجعل إليه أمر القضاة والدعاة، ولقبه السيد الأجل أمير الجيوش كافِلَ قضاة المسلمين، هادى دعاة أمير المؤمنين، وصار هو الذي يولي القاضي والداعي فيكون كل منهما نائباً عنه. وكان فيما تضمنه تقليده:(وقد قلدك أمير المؤمنين جوامع تدبيره. وناط بك النظر في كل ما ولى لسريره) .

وكانت خلعته نظير خلع القضاة بالطرحة. وكانت إذ ذاك تسمى الطيلسان المقوّر مع اللثام والذؤابة التي تسمى الآن العذبة، وكان إذ ذاك يسمى الحنك وفي طوقه العقد المنظم بالجوهر. فشرع في تدبير الأمور، واستبد بها، وتجرد أولاً لقمع المفسدين إلى أن أبادهم، وأنشأ دولة جديدة، واستعاد البلاد التي غلب عليها الولاة والقضاة، وهي عسقلان وصور وطرابلس. وأنشأ داره بحارة برجوان، وتعرف بدار المظفر. واستدعى بجمع كثير من الأرمن، فاتخذهم جنده

ص: 92

وخدمه ثم طاف البلاد حتى أزاح عنها المتغلبين من العرب وغيره، فأوقع بهم بالإسكندرية ثم بطوخ وبدمياط، إلى أن صفت له البلاد. ثم توجه إلى الصعيد الأعلى، حتى بلغ أسوان، فقتل كبير الدولة الذي كان يغلب عليها فهزمه وقلته وبنى بها مسجد النظر.

واتفق أنه كان له ولد كبير فعصى عليه، واستولى على الإسكندرية فحاصره حتى أخذه. فلما قبض عليه قتله بيده، وأباد من أعانه وساعده. وبنى بها الجامع الكبير المعروف بجامع العطارين. وفي أيامه أخِّر باب زويلة إلى حيث هو. وكان قبل ذلك بموضع الغرابليين الآن. وكذا صنع بباب الفتوح، وضعه حيث هو وكان قبل ذلك على رأس حارة قراقرش. وبسبب ذلك صار جامع الحاكم داخل البلد، بعد أن كان خارج بابها.

وكان شديد الهيبة، مخوف السطوة، سريع البطش، وفيه يقول أبو يَعلى ابن الهبَّاريّة في منظومته التي عرف بالصاد والباغم:

كان بمصر بَدرُ

له عليها الأمرُ

يَقتلُ كل ساعة

من أهلها جماعة

ويشرب الدماءَ

حتى تُخَال ماءَ

أصلحها بسيفه

وجوره وحيفهِ

جزاء كلُ فعل

لديه سوءُ القتل

لما عصاه ولدُه

وبان منه نكدُه

أراده حَتْفاً بيده

ثم رَمَى بجسده

فغضب المستنصرُ

قبلى في جثماني

ثم غزا لواته

إذا ظنهم حماته

فحين قيدَ الأسرى

قال اقتلوهم صبرا

عشرون ألفاً كانوا

حتى جرى الميدان

فيا لنيل من دمائهم

ولج في فنائهم

ص: 93

وهو على ظهر الفَرَسْ

كضَيْغَم إذا افتَرَسْ

وكان بدر جواداً يسمع المديح ويثيب عليه، حتى قيل إن احتياجه في كل شهر من السكر كان مائة قنطار بالركل الشامي.

وكان من تدبيره أنه عمد إلى مصر بعد الغلاء المفرط، فنادى بإباحة الزرع لمن زرع وبذر، بغير خَراج، ثلاث سنين، فكثر الزراع لرغبتهم في عدم وزن الخراج. فما مضى الثلاث حتى استغنوا. فوضع الخراج في الرابعة. واقتصر فيما يقال على جباية النصف، وسمح للزراع بالنصف، ثم صار بعد ذلك يستوفي الخراج، بعد أن عُمِّرت الأرض كلها.

وكان من مكارمه ما ذكره ابن ميسر في ترجمة علقمة بن عبد الرزاق العُلَيْمي أنه وفد عليه، فوجد أشراف الناس وأكابرهم على بابه، فلم يتيسر له

الوصول إليه، إلى أن اتفق أنه خرج يوماً يريد الصيد، فوقف له على تل. فلما اجتاز به أشار إليه بورقة في يده، وصاح بأعلى صوته:

نحت التجارُ وهذه أعلاقُنا

دُرِّ وجود يمينك المبتاعُ

قَلِّب وفتِّشها بسمعك إنما

هي جوهرٌ تختاره الأسماعُ

كسَدت علينا بالشآم وكلما

قل النَّفاقُ تعطل الصنَّاعُ

فأتاك يحملها إليك تجِارها

ومطيّها الآمال والأطماعُ

حتى أنَاخُوها ببابك والرجا

من دونك السِّمسارُ والبَيَّاعُ

فوهبت ما لم يعطه في دهره

هرِمٌ ولا كعبٌ ولا القعقاع

وسَبقتَ هذا الناسَ في طلب العلا

والناسُ بعدك كلهم أتباعُ

يا بدرُ أُقسم لَوْ بِكَ اعتصم الوَرَى

ولجوا إليك جميعُهم ما ضاعوا

قال: فلما شرع في الإنشاد، أمسك عنان فرسه، فلما فرغ كان في يده بازي، فدفعه لبعض أتباعه وجعل يستعيد الأبيات. فأمر بإحضاره مجلسه. فلما دخل عَلَيْهِ قال مَن أحبني فَليخْلَع عليه، فما توجه من حضرته إلى بسبعين حملاً، وأجازه من ماله بعشرة آلاف درهم.

ص: 94

وهو أول من ولي الوزارة والقضاء من ذوي السيوف، وأول من أقام للأرمن دولة بالديار المصرية. وكان الذي في القضاء، لما ولي بدرٌ الجمالي القاهرةَ، الحسنَ

ابن أبي كُدَيْنه كما سيأتي في ترجمته. فسيًّره بدر الجمالي إلى دمياط فقتل بها، وقتل معه ولده.

وكان القضاء قبل هذه السنة قد صار مبتذلاً مهاناً جداً، حتى كان يقول

حدثونا لم فصل.. بحيث إن ابن أبي كدينة وكذا الوزير هذا، ولي القضاء والوزارة في مدة عشر سنين ثلاث عشرة دفعة، منها في سنة تسع وخمسين خاصة، خمس مرات. فلما ولي بدر استناب عبد الحاكم بن وهيب المليجي، ثم صرفه وقرر جلال الملك ابنَ عبد الكريم ألف ارقي.

وذكر ياقوت في معجم الأدباء في ترجمة أسع بن مهذب، ابن أبي المليح مَمَّاتي الكاتب الشاعر عن جمال الدين القفطي، قال: بلغني أن بعض تجار الهند قدم إلى مصر، ومعه سمكة مصنوعة من عنبر، قد تأنق فيها، فعرضها على بدر الجمالي، فسامها منه. فقال لا أنقصها على ألف دينار، فاستغلاها فردها صاحبها، فسأله أبو المليح فقال هل وكان حينئذ كاتباً تحت يد كاتب الجيش، بباب بدر أمير الجيوش: كم سمعت فهيا؟ قال: ألف دينار. فدفع له الألف ينار وأخذها. فلما كان بعد مدة كان أبو المليح في داره يوم بطالة، فشرب، فقال لمن عنده: قد اشتريت سمكة، فأحضروا لي المقلي والنار. فأحضروا له مقلي من حديد وفحماً، فأخرج تلك السمكة فوضعها فوق ذلك الفحم بعد أن ألقت فيه النار. ففاحت روائحها وتزايدات حتى امتلأت بيوت الجريان. واتصل ذلك ببدر الجمالي وهو في درا له على النيل، فخشي أن تكون

خزائنه احترقت فتفقدها فوجدها سالمة. فقال: اكشفوا عن هذا الدخان من أين يأتي؟ فتتبعوه فوجوده من بيت المليح. فأخبروه الخبر، فاستكشف عن حقيقة الخبر حتى عرفها.

فلما دخل أبو المليح الديوان على عادته استدعى به، فقال له وهو مغضب: ويحك أنا أستعظم شراء سمكة عنبر بألف دينار وأنا ملك مصر، فأتركها استكثاراً لثمنها، تشتريها أنت؟ ثم لا يقنعك حتى تقليها في النار؟ فتذهب في ساعة واحدة؟. ما سمحت بهذه إلا وقد نقلت أموال بيت المال إلى دارك! فقال:

ص: 95

لا والله ما فعلت هذا إلى غَيرة على الملك، فإنك اليوم سلطان نصف الدنيا، وهذه السمكة لا يشتريها إلا ملك، فخفت أن يقال إنك استعظمتها فتركتها، فأردت أن يقال إنك إنما تركتها احتقاراً لها، لأن كاتباً نصرانياً عند كاتب من الكتاب ببابك اشتراها وأحرقها، فيشيع ذلك فيعظم قدر ملكك بين الملوك، فأعجبه ذلك. وأمر له بضعف ثمنها وزاد في أرزاقه.

بدر بن بدر بن عالي وقيل ابن عبد الله بن عالي أبو النجم الخوَافي من المائة الخامسة أصله من خَوَاف بلدة بالمشرق، ولي القضاء بالديار المصرية بعد صرف حسين بن يوسف الرصافي في سنة خمس وتسعين وأربعمائة فلم تطل مدة ولايته حتى صرف في السنة المذكورة واستقر نعمة ابن بشير النابلسي.

بدر بن عبد الله بن عالي، وقيل هو بدر بن عالي والد المذكورة قبله، وهو قول ابن ميسر، وهو مقتضي قول ابن دانيال: ثم ابن بدر وأبو الفضل قضى.

ولي بعد حسين بن يوسف الرصافي.

وقرأت بخط الحافظ قطب الدين: بدر بن عالي بن نصير ذكر في قضاة مصر بعد عبد الله بن مكرم، وذكر أيضاً قبل مجلي بن جميع الأرسوفي. ثم قال ولم أرَ من ذكره غير ابن دانيال، كذا قال. وقد ذكره ابن ميسر، لكن سمي أباه بدراً ورأيت في رجز القاضي بدرِ الدين بن جماعة من نظمه، ما يتقضي أن بدر بن عالي ولي القضاء، وكذا ولده بدر بن بدر.

ص: 96

ويؤخذ من هذا أن بدر بن عالي ولي القضاء بعد عبد الله بن مكرم، ثم وليه مرة ثانية بعد الرصافي ويلي بعده ابنه بدر بن بدر، ولي بعده وأنه ولي مرة أخرى قبل مجلى ولم أعرف من حال بدر بن علاي ولا ابنه شيئاً.

بُشَيْر بن النَّضْر بن بشير بن عمرو بن يزيد بن ملحة بن عمرو بن بكر المُزّنِيِّ، لوالده إدراك، فإنه شهد فتح مصر واختطّ بها، وولاه - أعني بشيراً - عبدُ العزيز بن مروان القضاء لما مات عابس، وذلك في سنة ثمان وستين. مات بعد مضي سنة واحدة وذكره سعيد بن عُفير في الأخبار. وقال خلف بن ربيعة عن أبيه عن ابن لهيعة: وليها بشير بن النضر. قيل ما لبث أن مات. قال ربيعة: فسألت أهله فقالوا: مات سنة تسع وستين أو في سنة سبعين. وذكر أبو عمر الكندي من طريق جعفر بن ربعية أن بشير بن النضر المزني وكان قاضياً قبل ابن حُجَيْرة في زمن عبد العزيز قال في قوله تعالى: (وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) قال: الوارث: الصبي.

ص: 97

وجمع لبشير بين القضاء والقصص وبيت المال. وكان رزقه في كل سنة ألفَ دينار. وذلك أنه كان له على القضاء مائتا دينار، وعلى القصص مثلها، وعلى بيت المال مثلها، وفي العطاء، مثلها، وفي الجوائز مثلها، فلا يحول الحول وعندها منها شيء. وكان يقتدي به لورعه. وكانوا يهدون له في الأعياد وفي المواسم، فلا يقبل لأحد شيئاً. وكان شديد التواضع.

بَكَّار بن قُتَيْبَة بن عُبَيْد الله بن أبي بَرْذَعة بن عُبيد الله بن بشير بن عبيد الله بن أبي بكرة، أبو بكرة، الثقفي ثم البكراوي. كذا نسبة ابنُ عساكر، وساق نسبة من عند أبي عمر الكندي، فأسقط عبيد الله بين قتيبة، وأبي برذعة، وعبيد الله بين أبي برذعة، وبشير بن عبيد الله، وكذا في تاريخ أبي جعفر الطحاوي. وأما ابن يونس فأسقط عبيد الله الأول وأثبت الثاني وهو المعتمد. وفي سير النبلاء للذهبي: بكار بن قتيبة بن أسد بن عبيد الله، ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، وهو حنفي. أخذ الشروط والفقه عن هلال بن يحيى الرأي، وعن عيسى بن أبان، وطلب الحديث فاكثر عن أبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون، وصفوان بن عيسى، وعبدا لصمد بن عبد الوارث، ومؤمل بن إسماعيل وغيرهم من مشايخ البصرة، كأبي أحمد الزبيري، وعبد الله بن بكر، وعفان، حسين بن حفص الأصبهاني، وإبراهيم بن أبي الوزير، وحبان بن هلال، وأبي عاصم، وعثمان بن الهيثم، وسعيد بن عامر الضَّبْعي، ويحيى بن حماد، ومكي بن إبراهيم، وعبد الله بن رجاء، وروح بن عبادة، وأبي الوليد الطيالسي، وأبي عامر العَقدي، ويعقوب بن إسحاق، ويحيى بن يونس، وحسين بن مهدي، وقريش بن أنس في آخرين.

ص: 98

وذكر ابن عساكر في الرواة عنه، ولده بكر بن بكّار، وفيه نظر، لأنه سيأتي في قضيته مع مسوى بن عبد الرحمن أنه قال: ما نكحت قط. روى عنه أبو داود

السجستاني خارج السنن، وابن خزيمة، وأبو عوانة في صحيحيهما، ويحيى بن محمد بن صاعد، وابن جَوْصَا، وأحمد بن عبد الله الناقد. والحسن بن محمد ابن النعمان، ومحمد بن محمد بن أبي حذيفة الدمشقي، وأكثر عنه الطحاوي جداً، وروى عنه أيضاً محمد بن سليمان بن حَذْلَم الدمشقي، وأبو الميمون عبد الرحمن البجلي، ومحمد بن العباس بن زِيَرْك وصاعد، وابن جَوْصَا، وأحمد بن عبد الله الناقد. والحسن بن محمد ابن النعمان، ومحمد بن محمد بن أبي حذيفة الدمشق، وأكثر عنه الطحاوي جداً، وروى عنه أيضاً أحمد بن سليمان بن حَذْلَم الدمشقي، وأبو الميمون عبد الرحمن البجلي، ومحمد بن العباس بن زِيَرْك وصاعد بن عبد الرحمن البَجَلي، والحسن بن حبيب الحَصَائِري، وعلي بن الحسين بن محمد بن النضر، وأحمد ابن محمد بن بشر وأحمد بن محمد بن فضالة، وأبو الحسين محمد بن علي بن أبي الحديد، وجعفر بن محمد بن موسى، وإبراهيم بن إسحاق الصَّرَفَنْدِي، وأبو الطاهر أحمد بن محمد بن عمرو المديني، وأبو العباس محمد بن يعقوب الأصم. وهذان خاتمة أصحابه.

وكان له اتساع في الفقه والحديث. قال أبو بكر ابن المقرئ في فوائده: سمعت محمد بن بكر الشَّعْرَانِي بالقدس يقول: سمعت أحمد بن سهل الهروي يقول: كنت ألازم غرياً لي إلى بعد العشاء الآخرة، أو نحو هذا. قال وكنت ساكناً في جوار بكار بن قتيبة، فانصرف بعد العشاء إلى منزلي فإذا هو يقرأ (يَدَاؤُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةَ فِي الأرْضِ) الآية. فوقفت أتسمَّع عليه طويلاً، ثم انصرفت فقمت في السَّحَر على أن أصير إلى منزل الغريم، فإذا هو يقرأ هذه الآية يرددها ويبكي فعلمت أنه كان يقرؤها من أول الليل.

وفي فوائد المشرف بن علي التَّمِّار من رواية أحمد بن سعيد، سمعت سعيد ابن عثمانَ يقول: سمعت بكار بن قتيبة يقول:

لنفسي أبكى لستُ أبكي لغيرها

لعَيْبِي في نفسي عن الناس شاغل

وقال أبو عمر الكندي: قال محمد بن الربيع الجيزي: ولي من قبل المتوكل، فدخلها يوم الجمعة لثمان ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين ومائتين. ويقال أنه لقي، وهو قاصدٌ مصر، محمد بن أبي الليث بالجفار وهو الرمل الذي بين غزَّة والعَريش راجعاً إلى العراق مصروفاً، فقال له بكرا: أنا رجل

ص: 99

غَريب وأنت رجل قد عرفت البلد، فدلني على من أُشاوره وأسكنُ إليه، فقال له عليك برجلين أحدهما عاقل، وهو يونس بن عبد الأعلى، فإنني سعيت في سفك دمه، وقدر علي فحقَن دمي. والآخر موسى بن عبد الرحمن بن القاسم فإنه زاهد. قال: فصفهما لي، فوصفهما له. فلما دخل بكار مصر ودخل الناس رأي شيخنا بالوصف الذي وُصفهما لي، فوصفهما له. فلما دخل بكار مصر ودخل الناس رأى شيخنا بالوصف الذي وُصِفَ له به يونس بن عبد الأعلى فظن أنه هو فأكرمه. فبينما هو في الحديث معه إذ قبل: جاء يونس بن عبد الأعلى فأعرض عن الرجل وتلّقَّى يونسَ فأكرمَه، وأتاه موسى بن عبد الرحمن فأعظَمه واستشاره وأخذ برأيه. وحمل يونس بكاراً على فسخ قضية الحارث بن مسكين في دار

الفيل ففعل.

واشتهى بكرا أن يرى الحارث بن مسكين فعُرِّف بزمانه فركب إليه، وسلم عليه في داره بسوق وردان. فاتفق أن بكاراً قال لموسى بن عبد الرحمن بعد ما تخصص به: يا أبا هارون من أين المعيشة؟ قال: من وقف أبي، قال: يكفيك؟ قال قد تَفَّيت به. وقد سأل القاضي، فأسأل؟ قال: سل. قال: هل ركب القاضي دينٌ بالبصرة لم يجد له وفاء حتى تولى القضاء؟ قال: لا، قال: فرزق ولداً أحوجه إلى ذلك؟ قال: لا. قال فعيال؟ قال ما نكحت قط. وما عندي سوى غلامي قال: فأجبره السلطان على القضاء وخوفه؟ قال: لا، قال: فضربت آباط الإبل من البصرة إلى مصر، لغير حاجة إلا لتلي الدماء والفروج؟ لله علي أن دخلت عليك أبداً. فقال: أقِلني يا أبا هارون، قال: أنت ابتدأت بمسألتي ثم انصرف عنه فلم يعد إليه.

وقد استبعد صاحبنا جمال الدين البشبيشي صحة هذه الحكاية من جهة أن ابن أبي الليث كان حينئذ محبوساً بالعراق، لأن خروجه من مصر كان في سنة إحدى وأربعين قبل مجيء بكار بخمس ينين.

وأجرى المتوكل على بكار في الشهر مائة وثمانية وستين ديناراً. فلم تزل تجري عليه طول حياته.

قلت: وهي على حساب خمسة ونصف وثمان كل يوم، فلعلها كانت ستة فحط الكُتَّاب منها نقص الأهلة.

ص: 100

وكان بكار عارفاً بالفقه كثير البكاء والتلاوة. وكان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وغرض من تقدم إليه وما حكم به على نفسه. وكان يكثر الوعظ للخصوم ولا سيما عند اليمين. وكان يحاسب أمناءَه في كل وقت، ويسأل عن الشهود.

وكان إبراهيم بن أبي أيوب يكتب للحارث بن مسكين، فلما دخل بكار مصر حضر إليه وكان ذكر عنده بسوء، فقال له: انصرف فلا حاجة لنا بك. فخرج فرآه أهل الخصومات الذين بباب بكار، فثاروا عليه ومزقوا ثيابه وضربوه، فقيل أبكار إن لم تُدْركه قُتِل، فقام فنادى: كفوا فقد أشركناهم في الكتابة مع كاتبنا. فرجع الذين وثبوا عليه، ينفضون ثيابه ويعتذرون إليه. ولولا هذه الحيلة من بكار كان إبراهيم قتل، ثم لم يستعمله بكار.

ولما أمر المتوكل ببناء المقياس في الجزيرة كتب إلى بكار أن يندب إلى المقياس أميناً، فاختار لذلك أبا الرداد عبد الله بن عبد السلام المؤدب فاستمر ذلك في ولده، وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين. وكان الذي يتولى أمر المقياس النصارى، فأمر المتوكل ألا يوليه إلا مسلماً يختاره. ذكر ذلك ابن زولاق.

وذكر أبو عمر الكندي أن كتاب المتوكل بذلك، ورد على يزيد أمير مصر، فأقام أبا الرداد المعلِّم، وأجرى عليه ابن وهب صاحب الخراج كل شهر ستة دنانير. وكانت وفاة أبي الرداد المذكور في سنة ست وثمانين ومائتين.

ودخل أبو إبراهيم المُزّنِيُّ علي بكار في شهادة، ولم يكن رآه قبلها لاشتغال المزني بنفسه، وإنما اضطر إلى أداء الشهادة. فلما أداها قال له: تَسَمَّ، فقال: إسماعيل بن يحيى المُزني، قال: صاحبُ الشافعي؟ قال: نعم. فاستدعى من شهد عنده أنه هو، فقبل شهادته. قال الطحاوي: ما أدري كم كان يجيء أحمد بن طولون إلى بكار وهو على الحديث، فما يشعر به بكار إلا وهو جالس إلى جنبه، فيقول: ما هذا أيها الأمير؟ هلا تركتني حتى أقضي حقك! أحسن الله مجازاتك.

وقال أبو حاتم ابن أخي بكار: قدم على بكار رجلٌ، من أهل البصرة، ذكر أنه كان رفيقه في المكتب، فأكرمه جداً، ثم احتاج إلى شهادة فشهد مع رجل مصري عند بكار، فتوقف عن الحكم، فظن أهل مصر أنه لأجل المصري، فسئل في خلوة عن ذلك، فقال: المصري على عدالته ولكن السبب البصري، وذكر منه أمراً رآه

منه في الصغر، قال: لا تطيب نفسي إذا ذكرت ذلك أن أقبل

ص: 101

شهادته. وذكر أنه أكل معه أرزاً في سمن وعسل فنفد العسل الذي من ناحية بكار، ففتح من جهة صاحبه حتى جرى العسل، فقال له (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) فقال له بكار: أتهزأ بالقرآن في مثل هذا؟! فبقيت في نفسه عليه.

ومات رجل من المتقبلين وعليه مال للأمير وله أطفال، فطلب عاملُ الخراج من أحمدَ بن طولون أن يأمر القاضي ببيع داره فيما عليه، فأرسل ابن طولون إلى بكار في ذلك، فقال: حتى يثبت عليه الدين، فأثبتوه وسألوه البيع، فقال: حتى يثبت عندي أنه ملكه، فأثبتوه ثم سألوه البيع، فقال: حتى يحلف من له الدَّين، فحلف ابن طولون، فقال بكار: أنا الآن فقد أمرت بالبيع.

ومات آخر وعليه مال، وله دار حُبس، فقال عامل الخراج لأحمد: إن كباراً يرى بيع الحبس. فسأله ففعل كما فعل في المرة الأولى. فلما ثبت الدَّين، وثبت وضع يده عليه، وأنه حبُس، قال ابن طولون أبكار: مُر بيعه على مذهبك. فسكت ساعة، فعاوَده، فقال: أيها الأمير إنك قد بنيت المسجد الجامع والمارستان، والسقاية والصهريج، وحبست على ذلك ما شاء الله، فلا تجعل لغيرك على أحباسك سبيلاً. فسكت أحمد.

وكان بكار في غاية العفاف والسلامة. واتفق أن دخل عليه بعض أمنائه وهو مخرّق الثياب. فقال: بعثتني أحفظ تركة فلان فصنع بي جاره هذا، فقال أحضروه: فأحضره الأعوان، فقال له بكار: أنت صنعتَ هذا باميني؟ قال: نعم. فقال خذوه، فأخذه الأعوان فسقط ميتاً، فدهش بكار، فقال له أمناء القاضي: هذا عَمِلَه اليوم، مات مرتين، فاستوى الرجل جالساً، فقال كذبوا والله ما مِتُّ إلا الساعَة ورقد. فجعل بكار برشُّ عليه المَاوَرد ويُشٍمُّه الكافور ويَرْفُق به، ويعِده إلى أن قام فصرفه. واقبل على أعوانه، فقال هددتموه وجررتموه فلو وافق أجله.

وكان ابن طولون إذا حضر جنازة لا يصلي عليها غيرهُ، إلا أن يكون بكار حاضراً، ولما مات يحيى بن القاسم العلوي كانت جنازته حافلة، فحضر ابن طولون وبكار، وبعد أن صلى الناس على الجنازة فقال ابن طولون: حطوا النعش، وقال أبكار: تقدم فصل عليه. فقال له كم أُكبّر؟ قال: خمساً، فتقدم بكار فصلى عليه وكبر خمساً، وأعاد أكثر الناس الصلاة عليه مع بكرا.

ص: 102

وقدم قوم من أصحاب الحديث ليسمعوا من بكار فقال: من أي البلاد أنتم؟ قالوا: من الرملة قال: ما حال قاضيكم، قالوا: عفيف، فقال بكار: إنا لله، يقال قاض عفيف! فسدت الدنيا.

وكان بكار عثمانياً، فتظلّم إليه رجل فجعل ينادي: ذهب الإسلام! فقال له بكار: يا هذا نُحر عثمان، فما ذهب الإسلام، يذهب بسببك؟!. فلما وقع بينه وبين ابن طولون بكَّته بها ابن طباطبا النقيب.

وقال الطحاوي: جاء رجل إلى أبي جعفر محمد بن العباس التل الفقيه فقال له: في دار لرجل غائب وإني أريد إخراجها من يدي، فقال له: صِرْ إلى القاضي فسلِّمها له. فمضى وعاد، فقال: قلت له، فقال: أخرجوه، فقال له التل: صدق، عُد إليه واذكر له موضعها وحدودها ففعل، فقال: أخرجوه، فقال له التل: صدق، عُد إليه وسَمِّ له اسمَ صاحبها وأنه غائب، فقال أخرجوه، فقال التل: صدق، عُد إليه واذكر له الموضع الذي هو غائب فيه، فقال: أخرجوه. فقال التل: صدق: عُد إليه واذكر أنه لا ملك لك عليها، ولا على شيء منها بسبب من الأسباب. فقال: أخرجوه فقال التل: صدق. عُد إليه وقل له وأنا عاجز عن حفظها، فمضى ثم عاد فقال: عرفته ذلك. فقال: اكتبوا عليه بما ذكر كتاباً وأعطوه نسخته، واقبضوا الدار وأقيموا لها أميناً، حتى يحضر صاحبها، فقال له التل: ابتلِيتَ بقاضٍ فقيه.

قلت: والتل هذا يسمى محمد بن العباس بصري سكن مصر، ومات في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين ومائتين.

وقال بكار يوماً في مجلسه: ما حللتُ سراويلي على حلال قط، فقال له رجل ولا حرام؟ فقال: والحرام يذكر! وقال أبو مسعود الأسد: كنت أتردد أنا وأخي إلى بكار بسبب أحباسنا، فجئت يوماً فصعدت إلى الدرجة، فسمعته يخاطب وكيلاً له ويقول له بعثتك لتزوج امرأة فتزوجتَها أنت! وهو يعتذر، وبكار يوبخه، فلما مضى كلامه نزل، فعرفته وإذا هو من شهوده.

وكان الحسنُ بن محمد بن سنان ابن أخي يزيد بن سنان من وجوه المصريين، وكان يريد من بكار أن يقبل شهادته، فلم يفعل، فصعدت أنا إلى بكار فقال: متى جئت؟ قلت: حين كنت تعاتب فلاناً، فقال: خذ هذين الدينارين اكتم ما سمعتَ مني، فقلت: أفعل. ثم نزلت من عنده إلى الحسن

ص: 103

ابن محمد فقلت له: أريد عمامة وطيلساناً وأحدثك حديثاً، فأخرج إلي عمامة، وثوباً زهرياً فحدثته، فركب من ساعته فلم يرجع حتى طاف على وجوه المصريين. فبلغ ذلك بكارا فأرسل إلي فقال: أعرَّفتَ أحداً ما سمعتَ؟ قلت: لا أفشي سر القاضي، قال: فمن أين بلغ الخبر الحسن بن محمد؟ قلت: قد قيل إن الجن تَبول في الماء فلا يشرب أحد من ذلك الماء إلا علم بذلك الخبر فقال بكّار: فقد قيل. انصرف في حفظ الله. قال: وكان الحسن بن محمد أميناً عند القضاة.

وكانت ودائع بكار وغيره عنده وعند زوجته فاطمةَ بنت يزيد بن سنان، وعاش الحسن بن محمد إلى سنة تسع وتسعين ومائتين.

وقال ابن زولاق حدثني عبيد الله بن عبد الكريم قال: كان بكار يشتهي أن يسمع كلام المُزني، فاجتمعا يوماً في جنازة، فأشار بكار إلى أبي جعفر التل، أن يسأل المزني عن مسألة، فقال التل: ما رأيت أعجب من أصحابنا الشافعيين، لهم أحاديث في تحريم قليل النبيذ، ولنا أحاديث في تحليله، فمن جعلهم ألوى بأحاديثهم منا بأحاديثنا؟ فقال المزني. ليس يخلو أن تكون أحاديثُكم قبل أحاديثنا أو بعدها، فإن كانت قبلها، فهكذا نقول إنها كانت محلَّلة ثم حرِّمت، فما نحتاج إلى أحاديثكم. وإن كانت أحاديثكم بعد أحاديثنا فهذا لا يقول أحد، إنها كانت حلالاً ثم صارت محرَّمة ثم يحلِّل. فقال بكار سبحان الله! إن يكن كلام أدق من الشعر فهو هذا، واتفق فراغهم، فصاح المنادي انصرفوا.

قال عبيد الله بن عبد الكريم: وكان بكار يخالف أصحابه في تحليل قليل النبيذ، ويذهب إلى تحريمه. وعاتب أبا جعفر التل صاحبُه على الشرب، قال: وكان بكار في غاية المعرفة بالقضاء، فاحتاج مرة إلى قبول شهادة رجل فسأل عنه فقيل له: ما يعرف حاله إلا ابنا الخلال الشافعيان، وكانا من جلساء المزني فأرسل إليهما، فسألهما فقالا: عامَلْناه وأوفانا. فقال لهما بكار: عاملكما وأوفاكما وأعفاكما؟ فقالا: لا، ترددنا إليه. فقال: وكان قادراً على الوفاء؟ قالا نعم. قال: فوقف عن قبول شهادته. قال: وكان

في مجلس ابن طولون، فتخاصم رجلان فقال له احكم بينهما، فنظر في القضية وتوجهت اليمين على أحدهما، فاستحلفه. فلما فرغ، قال له الخصم: استحلفه أيها القاضي برأس الأمير، فقال

ص: 104

بكار: يا هذا قد حلف بالله، أعظم من الأمير. فقال: بل استحلِفه برأس الأمير، فقال له بكار، تحلف برأسه؟ قال: لا، فقال له بكار: يا عدو الله، تحلف بالله خالق السموات والأرض، وتمتنع أن تحلف برأس مخلوق مثلك! قال: فحظي ذلك الرجل بعد ذلك عند أحمد بن طولون.

قال ابن زولاق: كان أبكار اتساعٌ في العلم والمناظرة، ولما رأى مختصر المزني وما فيه من الرد على أبي حنيفة شرع هو في الرد على الشافعي، فقال لشاهدَين من شهوده، اذهبا إلى المزني فقولا له: سمعتَ الشافعي يقول ما في هذا الكتاب؟. فمضيا: وسمعا المختصر كلَّه من المزني، وسألاه: أسمعتَ الشافعي يقول هذا؟ قال نعم. فعادا إلى بكار فأخبراه بذلك، فقال: الآن استقام لنا أن نقول أن الشافعي. ثم صنّف الرد المذكور.

ولما غضب أحمدُ بن طولون على بكّار سجنه، وكان السبب في ذلك أنه لما خرج إلى قتال الموفق، بسبب العهد حين ضيق الموفق، وهو ولي العهد، على أخيه المعتمد بذلك، وهو الخليفة حينئذ، حتى إنه لم يبق للمعتمد إلا الاسم، ضاق المعتمد بذلك، فكاتب أمراء الأطراف فوافقه أحمد بن طولون، وواعده أنه يحضر إليه ويحمله معه إلى مصر، ويجعلها دار الخلافة، ويذب عنه من يخالفه في ذلك. فتهيأ المعتمد لذلك، واهتم أحمد بأمره. فبلغ الموفق فنصب لأحمد الحرب، وصرح بعزله

ولعْنه، فصرح أحمد بخلع الموفق من ولاية العهد، وأمر بلعنه وخرج أحمد بالعسكر من مصر، واستحصب بكاراً. فلما كان بدمشق جاء كتاب المعتمد إلى ابن طولون بخلع الموفق من ولاية العهد ففعل، وأجاب القضاة كلهم إلى خلعه، وسماه بكار " الناكث " وأشهد على نفسه هو وسائر قضاة الشام الثغور، وطلب منهم أحمد أن يلعنوا الموفق، فامتنع بكار، فألح عليه، الشام والثغور، وطلب منهم أحمد أن يلعنوا الموفق، فامتنع بكار، فألح عليه، فأصر على الامتناع حتى أغضبه، وكان قبل ذلك له مُكْرِما معظماً، عارِفاً بحقه. وكان يجيزه في كل سنة بألف دينار. فلما غضب عليه أرسل إليه: أين جوائزي؟ فقال: على حالها، فأحضرها من منزله بخواتيمها ستة عشر كيساً، فقبضها أحمد. وكان قبل ذلك أرسله إلى ابنه العباس، لما خالف عليه ببرقة، فأجابه العباس إلى الرجوع إلى أبيه، ثم خلا ببكار فقال له: المستشار مؤتمن، أتخاف علي من أبي؟ قال: قد أمنك وحلف لك، ولا أدري يفي أم لا فامتنع العباس من الرجوع معهم.

ص: 105

وكان أحمد قد داوم النظر في المظالم، حتى استغنى الناس عن الشرطيين وعن القاضي حتى كان بكار ربما نعس في مجلسه واتكأ، ثم انصرف إلى منزله ولم يتقدم إليه اثنان. ولما ألحّ ابن طولون على بكار في لعن الموفق، وامتنع من إجابته خوطب في ذلك إلى أن قال بكار لأحمد بن طولون: ألَان لعنة الله على الظالمين. فقال علي بن الحسين ابن طباطبا، وكان نقيب الطالبيين بمصر: أيها الأمير إنه عَنَاكَ. فغضب أحمد وأمر بتمزيق ثيابه، وجروه برجله، وليس عليه إلا سراويلُ وخُفان وقلنسوة، مَسلوب الثياب.

وكان بِرجْل بكّارٍ عِلّة لا يستطيع التَرَبُّع، بل يمد رجله من تحت ثيابه فضربه رجل بعود حديد على رجله المدودة فقال: أوَّه، وضمّها. ثم حمل من بين يديه إلى السجن، وأقامه للناس يطالبونه بمظالم يدعونها عليه. فكان يحضر في مجلس المظالم بين يدي أحمد قائماً.

وكان الطحاوي يقول: ما تعرض له أحد فأفلح بعد ذلك. لقد تعرض له غلام يقال له عامر بن محمد بن نجيح، وكان في حجره، فرآه في مجلس المظالم، فقال بكار يا عامر ما تصنع ها هنا؟ فقال أتلفتَ عليَّ مالي، فقال: إن كنت كاذباً فلا نفعك الله بعقلك.

قال: فأخبرني من رآه ذاهل العقل، يسيل لُعابه، يَسُبُّ الناس ويرميهم بالحجارة، والناس يقولون: هذه دعوة بكار. قال: وتقدم إليه نصراني فقال: أيها الأمير إن هذا الذي يزعم أنه كان قاضياً، جعل رَبع أبي حُبسا، فقال بكار: نعم. ثبت عندي أن أباه حبَّس هذا الربع وهو يملكه، فأمضيت الحبس فجاءني هذا متظلماً فضربته فخرج إلى بغداد، فجاءني بكتاب هذا الذي يزعم أنه الموفق (لا تمض أحباس النصارى) فعرفت أنه جاهل، فلم ألتفت إليه. وقد شهد عند إسحاق بن معمر بأن هذا كان أسلم ببغداد على يد الموفق، فإن شهد عندي آخرُ مثل إسحاق ضربته عُنقه. فصاح أحمد بالنصراني، المُطْبَق المُطْبَق، فأخر فحبس.

ومن قضايا بكار: أن رجلاً خاصم آخر شافعياً في شفعة جوار، فطالبه عند بكار فأنكر، فطاوله بكار حتى عرف أنه من أهل العلم. فقال بكار للمدعي ألك

ص: 106

بينة؟

قال: لا قال لخصمه: أتحلف؟ قال: نعم. فحلَّفه، فحلفَ فزاد في آخر اليمين أنه ما يستحق تمليك هذه الشفعة، على قول من يعتقد شعفة الجوار، فامتنع. فقال له بكار: قُم فأعطه شفعته. قال فأخبر الرجل المزني بقضِيَّته، فقال له: صادفتَ قاضيها فقيهاً.

وقال الطحاوي: لما قَبض أحمد بن طولون يدَ بكارٍ عن الحكم وسجنه، أمره أن يسلم القضاء لمحمد بن شَاذانَ الجوهري كالخليفة له ففعل. ثم كان بكار إذا حضر مجلسَ المظالِم للمناظَرة يُعَادُ إلى السجن إذا انقضى المجلس. وكان يغتسل في كل يوم جمعة، ويلبس ثيابه، ويجئ باب السجن، فيرده السّجّان ويقول: اعذرني أيها القاضي، فما أقدر على إخراجك، فيقول: الله أشهد، فبلغ ذلك أحمد، فأرسل إليه: كيف رأيت المغلوب المقهور لا أمر له ولا نهي، ولا تصرُّفَ في نفسه. لا تزال هكذا حتى يرد عليّ كتاب المعتمد بإطلاقك.

ولما طالب حبس بكار طلب أصحاب الحديث إلى أحمد بن طولون أن بأذن لهم في السماع منه، فأذن لهم، فكان يحدثهم من طاق في السجن، فأكثر من سمع منه في آخر عمره، كان كذلك.

وقال ابن زولاق: ثم أمر ابن طولون بنقل بكار من السجد إلى دار اكتريت عند درب المصقلي فأقام بها مدة. فلما مات أحمد بن طولون

بلغ بكاراً فقال: ما للناس؟ قيل انصرف أيها القاضي إلى منزلك فقد مات أحمد فقال: الدار بأجرة وقد صلحت لي. وعاش بعد ابن طولون أربعين يوماً ومات في تلك الدار. فحضرت جنازته فما رأيت كبير أحد، فقلت ليحيى بن عثمان بن صالح. يموت مثل هذا الرجل وتكون هكذا جنازته! فما صليت العصر حتى ما فقدت أحداً، ولم أر فيها أحداً راكباً. وصلى عليه ابن أخيه محمد بن الحسن بن قتيبة، ودفن بطريق القرافة، والدعاء عند قبره مستجاب. ومات يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة سبعين ومائتين وقد قارب التسعين. وكانت مدة ولايته أربعاً وعشرين سنة وستة أشهر وستة وعشرين يوماً.

بكران هو لقب، واسمه عتيق بن الحسن، يأتي في حرف العين.

ص: 107

بهرامُ بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عوض بن عمر تاج الدين أبو البقاء الدَّمِيري، الفقيه المالكي، من المائة الثامنة. ولد في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة

واشتغل كثيراً، وأخذ عن مشايخ عصره، منهم شرف الدين الرَّهوني والشيخ خليل وسمع الحديث من محمد بن إبراهيم البياني وغيره، ومهر في الفقه وشرح مختصر شيخه الشيخ خليل شرحاً محموداً، انتفع به الطلبة لأنه في غاية الوضوح، يحُل ألفاظه من غير تطويل بدليل أو تعليل.

وصنّف المناسك في مجلدة وشرحها في ثلاثة أسفار. وشرح مختصر ابن الحاجب الأصلي، وألفية ابن مالك وكانت ولايته بعد خلع برقوق وإرساله إلى الكرك. فلما عاد من الكرك إلى السلطنة عزله، وولي الركراكي كما سيأتي بيان ذلك في ترجمته في حرف الميم في محمد بن يوسف.

وكان قد ناب عن الإخنائي والبساطي وابن خير، وولي تدريس الشيخونية، فلما مات ابن خير، في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فلما خرج منطاش لقتال برقوق لمَّا ظَهر من الكرك، استصحب معه الخليفة وقُضاة القُضاة، فأصاب القاضي طعنةٌ في صدره، وأخرى في شدقه. فلما استولى برقوق

على الخليفة والقضاة وصحبهم إلى جهته، صحبوه إلى القاهرة، وبهرام في غاية الضُرّ من الطعنتين، فاستمر عليلا، وصرف في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، فاستمر معزولاً عن الحكم متفرغاً للاشتغال بالعلم. وشغل الطلبة إلى أن مات في نصف جمادى الآخرة سنة خمس وثمانمائة، كذا أرخه البشبيشي وأرخه المقريزي في سابع ربيع الأول. وكان لين الجانب، عديم الشر، كثير البر قلَّ أن يمنع سائلاً يسأله في شيء يقدر عليه.

ص: 108