الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان مبعوثا إلى الأميين لا إليهم، فهم يعظّمونه ظاهرا وباطنا، لكن يقولون لا يجب علينا اتباعه؛ وهؤلاء كفّار بإجماع المسلمين.
وكذلك كثير ممن يظهر الإسلام يثبتون نبوته على رأي الفلاسفة، وأنه كان صاحب قوة قدسية، وقد يفضّلونه على جميع الخلق، ومع هذا لا يقرّون بما جاء به ولا يوجبون على أنفسهم اتّباعه ظاهرا وباطنا، ويقولون هو رسول إلى العامة أو إلى الجميع في الشرائع الظاهرة دون الحقائق الباطنة والحقائق العقلية، كما يقول مثل هذا كثير ممن يظهر الإسلام، وهؤلاء من أشدّ الناس تعظيما للقبور والسفر إليها ودعاء أصحابها، ولهم في ذلك كلام ذكرناه في غير هذا الموضع، وهؤلاء وأمثالهم قد يقولون إن زيارة قبره وقبر من هو دونه أفضل من الحج إلى البيت الحرام ومن صلاة الجمعة والجماعة في مسجده وغير مسجده.
[الفرق بين زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبين زيارة قبره]
والمقصود أن هذا المعترض وأمثاله لم يفرقوا بين السفر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيارته المجمع على استحبابها وبين السفر إلى زيارة قبر غيره، وإن كان عنده مسجد فإن ذلك مجمع على عدم استحبابه بل سووا بين المستحب بالنص والإجماع، وبين ما ليس بمستحب بالنص والإجماع، وظنوا أن المجيب سوى بينهما في نفي الاستحباب فقابلوه بأن سووا بينهما في الاستحباب فوقعوا في أنواع من الباطل المخالف للكتاب والسنة والإجماع.
ولو قال قائل: إن إتيان المساجد لا يستحب ولا يشرع كان كافرا حلال الدم، ولو قال لا يسافر إلى مسجد إلا إلى ثلاثة مساجد لكان قد قال ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وقاله علماء المسلمين، فمن لم يفرق بين هذا وهذا كان أجهل الناس.
وكذلك لو قال: لا يستحب السفر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارته المشروعة في المسجد كالصلاة والسلام كان مخالفا للإجماع. لكن من العلماء من لا يسمّي هذا زيارة لقبره ويكره هذه التسمية وهذا القول أشبه بالمعقول والمنقول. ولو قال يستحبّ السفر إلى جميع القبور والصلاة في المساجد المبنية عليها لكان مخالفا للنص والإجماع.
وهب أن المعارض سوى بينهما في نظره، وجوابه كيف يحلّ له أن يكذب على غيره ويحكي عنه التسوية بينهما في التحريم ويقول إنه حكى إجماع المسلمين على تحريم الزيارة مطلقا بسفر وغير سفر؟ ونحن نحكي لفظ الجواب الذي اعترض عليه لينظر ما نقله عنه وأبطله منه هل هو صدق وعدل، أم لا؟
ولفظ السؤال: ما تقول السادة العلماء في رجل نوى زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره، فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟ وهل
هذه الزيارة شرعية أم لا؟ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» «1» «ومن زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» «2» . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» .
ولفظ الجواب: الحمد لله «3» ، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين.
(1) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (7/ 2480) وابن حبان في «المجروحين» (2/ 73) وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 597/ 1168).
من طريق: محمد بن محمد بن النعمان بن شبل، قال: حدّثنا جدّي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا.
قال ابن حبان في ترجمة «النعمان بن شبل» من «المجروحين» : «يأتي على الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات» .
والحديث حكم عليه بالوضع كل من ابن الجوزي والذهبي في «ميزان الاعتدال» (3/ 237) والشوكاني في «الفوائد المجموعة» ص 118 والألباني في «الضعيفة» (45).
(2)
أخرجه الدارقطني في «سننه» (2/ 278/ 193) والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 488/ 4151) من طريق: هارون أبي قزعة، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكره.
وهذا إسناد ضعيف؛ هارون بن قزعة، ضعفه يعقوب بن شيبة، وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في «الضعفاء» وقال البخاري:«لا يتابع عليه» «لسان الميزان» (6/ 238).
بل قال الأزدي: «متروك» .
أضف إلى ذلك جهالة الرجل من آل حاطب.
ومع هذا فقد قام أحد المشوهين لعلم الحديث- وهو المدعو: محمود سعيد ممدوح في كتابه المتهافت «رفع المنارة بتخريج أحاديث التوسل والزيارة» بمحاولة يائسة لتحسين الحديث والاعتبار به.
فقال ص 274 بعد أن نقل كلام العلماء في تضعيف هارون، «لكن ذكره ابن حبان في «الثقات» (7/ 580)»!!.
قلت: وهذا تلبيس وتدليس، فإن ابن حبان ذكره في «الثقات» ولكنه قال:«يروي عن رجل من ولد حاطب المراسيل» .
ثم هب أن ابن حبان وثقه؛ فمتى كان يعتد بتوثيقه إذا خالفه كبار المجرحين، بل حتى ولو انفرد بالتوثيق؟ وهذا مما اتفق عليه أهل الاصطلاح والحديث.
وأغرب من ذلك قوله: «فالرجل ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به» !!.
ثم قال: «وقد قال الحافظ الذهبي: أجودها- كذا- (أي أحاديث الزيارة) إسنادا حديث حاطب» .
قلت: وهذا كذب وتدليس أيضا، فإن الذهبي إنما قال:«أجودهما حديث حاطب هذا» .
يعني أجود الحديثين (حديث ابن عمر السابق وحديث حاطب) هو حديث حاطب. وكذا قال شيخ الإسلام قبله.
وهذا من حيث اعتبار الإسناد، لا يعني تجويد الحديث كما هو واضح. والله المستعان.
ولمزيد من الفائدة انظر «السلسلة الضعيفة» (1021).
(3)
في «مجموعة الفتاوى» (27/ 104): «الحمد لله رب العالمين» .
أحدهما: وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوّزون القصر في سفر المعصية، ويقولون إن هذا سفر معصية؛ كأبي عبد الله بن بطة «1» ، وأبي الوفاء بن عقيل «2» ، وطوائف كثيرين «3» من العلماء المتقدمين؛ أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر، لأنه سفر منهي عنه. ومذهب الشافعي ومالك وأحمد أن السفر المنهي عنه لا تقصر فيه الصلاة.
والقول الثاني: أنه يقصر فيه الصلاة وهذا يقوله من يجوّز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة، ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوّز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، كأبي حامد الغزالي، وأبي محمد المقدسي، وأبي الحسن بن عبدوس الحراني، وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم لعموم قوله: «فزوروا «4» القبور» «5» . وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» رواه الدارقطني. وأما ما يذكره بعض الناس من قوله صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» . فهذا لا يرويه أحد من العلماء، وهذا مثل قوله:«من زارني وزار أبي [إبراهيم] في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» «6» . فإن هذا أيضا باطل باتفاق العلماء لم يروه أحد، ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني. وقد زاد فيها المجيب حاشية بعد ذلك، ولكن هذا وإن كان لم يروه أحد من العلماء في كتب الفقه والحديث لا محتجا به ولا معتضدا به، ولكن ذكره أبو أحمد بن عديّ في كتاب «الضعفاء» ليبين به ضعف راويه، فذكره من حديث النعمان بن شبل الباهلي المصري
(1) هو: الإمام أبو عبد الله؛ عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن عمر، المعروف بابن بطة، العكبري الحنبلي. ولد سنة أربع وثلاثمائة، في «عكبرا» وهي بليدة على نهر دجلة فوق بغداد. له من المصنفات:«الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية» و «الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة» و «إبطال الحيل» وغيرها. توفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. انظر: «تاريخ بغداد» (10/ 3721) و «طبقات الحنابلة» (4/ 153) و «البداية والنهاية» (11/ 321) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 529).
(2)
هو: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي الظّفري، أبو الوفاء الحنبلي.
ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، كان من كبار علماء الحنابلة، وله تصانيف كثيرة، أهمها كتاب «الفنون» الذي يقع في أربعمائة مجلد- ولا يزال هذا الكتاب في عالم المخطوطات-.
توفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
انظر ترجمته في: «طبقات الحنابلة» (2/ 259) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 443) و «شذرات الذهب» (4/ 35 - 40).
(3)
في «مجموعة الفتاوى» : «وطوائف كثيرة» .
(4)
في «مجموعة الفتاوى» : «زوروا القبور» .
(5)
أخرج مسلم في «صحيحه» (977) من حديث بريدة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها .. الحديث» .
(6)
هو حديث موضوع، انظر «الضعيفة» (46).
عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» .
قال ابن عدي: لم يروه عن مالك غير هذا، يعني وقد علم أنه ليس من حديث مالك، فعلم أن الآفة من جهته. قال موسى بن هارون: كان النعمان هذا متهما. وقال أبو حاتم ابن حبان: يأتي عن الثقات بالطامات. وقال الدارقطني: الطعن في هذا الحديث من محمد بن محمد لا من النعمان.
وأما الحديث الآخر: «من زارني وزار أبي [إبراهيم] في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» ؛ فهذا ليس في شيء من الكتب لا بإسناد موضوع ولا غير موضوع، وقد قيل:
إن هذا لم يسمع في الإسلام حتى فتح المسلمون بيت المقدس في زمن صلاح الدين، فلهذا لم يذكر أحد من العلماء لا هذا ولا هذا لا على سبيل الاعتقاد ولا على سبيل الاعتماد، بخلاف الحديث الذي تقدم فإنه قد ذكره جماعة ورووه، وهو معروف من حديث حفص بن سليمان الغاضري القاري صاحب عاصم، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» «1» . وقد اتفق أهل العلم بالحديث على الطّعن في حديث حفص هذا دون قراءته. قال البيهقي في: «شعب الإيمان» «2» : وقد روى حفص بن أبي داود وهو ضعيف، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» . قال يحيى بن معين في حفص هذا: ليس بثقة. وهو أصح قراءة من أبي بكر بن عياش وأبو بكر أوثق منه.
وفي رواية عنه: كان حفص أقرأ من أبي بكر وكان أبو بكر صدوقا وكان حفص كذّابا.
وقال البخاري: تركوه. وقال مسلم بن الحجاج: متروك. وقال علي بن المديني:
ضعيف الحديث تركته على عمد. وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه، وقال مرة: متروك. وقال صالح بن محمد البغدادي: لا يكتب حديثه وأحاديثه كلها مناكير.
وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: لا يكتب حديثه وهو ضعيف الحديث لا يصدق متروك الحديث. وقال عبد الرحمن بن خراش: هو كذاب متروك، يضع الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال ابن عدي:
عامة أحاديثه عمن روى عنه غير محفوظة.
(1) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (12/ 310/ 13497) والدارقطني (2/ 278) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 246) وفي «شعب الإيمان» (3/ 489/ 4154 - 4155) وابن عدي في «الكامل» (2/ 790).
وإسناده ضعيف جدا؛ ليث بن أبي سليم، ضعيف من جهة حفظه.
وحفص بن سليمان القارئ؛ «متروك الحديث» كما في «التقريب» .
وانظر «السلسلة الضعيفة» للألباني (47) ففيها بحث ماتع حول هذا الحديث.
(2)
. (3/ 489).
وفي الباب حديث آخر رواه البزار والدارقطني وغيرهما من حديث موسى بن هلال: حدّثنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» «1» .
قال البيهقي- وقد روى هذا الحديث- ثم قال: «وقد قيل عن موسى عن عبيد الله، قال: وسواء قال عبد الله أو عبيد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر، لم يأت به غيره» . وقال العقيلي في موسى بن هلال هذا: لا يتابع على حديثه. وقال أبو حاتم الرازي: هو مجهول. وقال أبو زكريا النووي في «شرح المهذب» «2» لما ذكر قول أبي إسحاق: ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من زار قبري وجبت له شفاعتي» قال النووي: أما حديث ابن عمر فرواه أبو بكر البزار والدارقطني والبيهقي بإسنادين ضعيفين جدا. هذا آخر الحاشية.
قال المجيب في تمام الجواب: وقد احتجّ أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة القبور والمساجد بأنه كان يزور قباء ويزور القبور وأجاب عن حديث «لا تشد الرحال» ؛ بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب.
وأما الأولون فإنهم يحتجّون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحّته والعمل به. فلو نذر الرجل أن يصلّي بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه ويسافر إليه غير المساجد الثلاثة؛ لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة. ولو نذر أن يسافر إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق
(1) حديث ضعيف جدا؛ أخرجه الدارقطني (2/ 278) والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 490/ 4159 - 4160) وابن عدي في «الكامل» (6/ 2350) والدولابي في «الكنى» (2/ 64).
من طريق: موسى بن هلال العبدي، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا.
وإسناده ضعيف جدا؛ موسى بن هلال العبدي؛ قال أبو حاتم: مجهول، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. وقال الحافظ: «أنكر ما عنده حديثه عن عبد الله بن عمر عن نافع» . فذكره وانظر «الجرح والتعديل» (8/ 734) و «لسان الميزان» (6/ 173).
وللحديث طريق أخرى عند البزار (2/ 57/ 1198) كشف، عن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعا.
قال البزار: «عبد الله بن إبراهيم لم يتابع على هذا، وإنما يكتب ما يتفرّد به» .
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 2): «رواه البزار، وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف» .
وقال الحافظ في «التقريب» : «متروك، ونسبه ابن حبان للوضع» .
وفي الإسناد أيضا، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ ضعيف جدا.
فالحديث ضعيف جدا، وانظر «إرواء الغليل» رقم (1128).
(2)
انظر «المجموع» (8/ 272).
العلماء، ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد، ولم يجب عليه عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع.
وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة لما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» «1» . والسفر إلى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به.
وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليها إذا نذره، حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة، لأن ذلك ليس بشد رحل كما في الحديث الصحيح:«من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة» «2» . وهذا الحديث رواه أهل السنن كالنسائي وابن ماجه والترمذي «3» وحسنه، وقالوا: لأن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة، وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في «الإبانة الصغرى» من البدع المخالفة للسنة.
وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد المقدسي لأن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشدّ رحل، والسفر إليه لا يجب بالنذر.
وقوله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال» ، محمول على نفي الاستحباب عنه؛ جوابان: أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا هو من الحسنات. فإذن من اعتقد السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرما بإجماع
(1) أخرجه البخاري (6696) وأحمد (6/ 36/ 41، 224) وأبو داود (3289) والنسائي في «الكبرى» (3/ 134/ 4748 - 4749 - 4750)، والترمذي (1526) وابن ماجه (2126) وغيرهم.
(2)
أخرجه بهذا اللفظ: ابن ماجه (1412) من حديث سهيل بن حنيف. وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 96) وأحمد (3/ 487) والنسائي (2/ 37) وفي «الكبرى» (1/ 258/ 778) والحاكم (3/ 12) والطبراني في «الكبير» (6/ 75/ 5561 - 5562).
من طريق: محمد بن سليمان الكرماني، قال سمعت أبا أمامة سهل بن حنيف قال: قال أبي: فذكره مرفوعا، بنحو من هذا اللفظ.
ومحمد بن سليمان الكرماني «مقبول» كما في «التقريب» .
وقد تابعه عليه يوسف بن طهمان كما في «مسند عبد بن حميد» (469).
فالحديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (1160).
(3)
لم أجده في «سنن الترمذي» المطبوع، فلعله في نسخة أخرى، والله أعلم.
المسلمين، فصار التحريم من هذه الجهة. ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك.
وأما إذا قدّر أن الرجل سافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من هذا الباب.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم.
وما ذكره السائل من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة لم يخرج أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها، بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة.
والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل يسلم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام» «1» . وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه.
وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال:
«السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت» ثم ينصرف «2» .
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني» «3» . وفي «سنن سعيد بن منصور» أن الحسن بن
(1) أخرجه أحمد (2/ 227) وأبو داود (2041) والبيهقي (5/ 245) وإسناده حسن كما في «الصحيحة» (2266).
(2)
أخرجه مالك في «الموطأ» 9 - كتاب: قصر الصلاة، 22 - باب: ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 107/ 68) والبيهقي (5/ 345) والقاضي إسماعيل الجهضمي في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» ص 83، 84 رقم (98، 99، 100). من طريقين إسنادهما صحيح، كما قال الألباني في «تحقيقه على فضل الصلاة» .
(3)
أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود (2042) وابن فيل في «جزئه» كما في «جلاء الأفهام» لابن القيم ص 107 والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 491/ 4162).
من طريق: عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا.
وهذا إسناد حسن، عبد الله بن نافع في حفظه لين.
وقد حسن إسناده العلامة الألباني في «أحكام الجنائز» ص 280 و «تحذير الساجد» ص 96 - 97.
وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (4/ 345).
وأبو يعلى في «مسنده» (1/ 361 - 362/ 469).
والبزار (1/ 399 - 340/ 707) كشف.
والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 186).
وعبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 577/ 6726).
والقاضي إسماعيل الجهضمي في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» (20).
الحسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذّر ما فعلوا، قالت عائشة:«ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا» «1» . وهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذه مسجدا فيتخذ قبره وثنا.
وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك؛ لا يدخل أحد إلى عنده لا لصلاة هناك ولا لتمسّح بالقبر ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما يفعلونه في المسجد. وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة لم يستقبلوا القبر.
وأما وقوف المسلّم عليه، فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضا لا يستقبل القبر.
وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام عليه خاصة. ولم يقل أحد من الأئمة أنه يستقبل القبر عند الدعاء، أي الدعاء الذي يقصده لنفسه، إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك، ومذهبه بخلافها.
واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبّله وهذا كله محافظة على التوحيد «2» . فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في
- من طرق: عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده مرفوعا.
وله طريق أخرى عن سهل بن أبي سهيل أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فالتزمه وتمسح به، قال: فحصبني حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
أخرجه القاضي إسماعيل في «فضل الصلاة» (30) وابن أبي شيبة (4/ 345) وعبد الرزاق (3/ 577/ 6694) وانظر «تحذير الساجد» ص 95 - 97. وسيأتي تخريج الأحاديث مرة أخرى في الكتاب.
(1)
أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) وغيرهما.
(2)
قال العلامة محمد بن سلطان المعصومي الحنفي في كتابه: «المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية» :
ويجب على الزائر أن يجتنب لمس الجدار وتقبيله والطواف به والصلاة إليه. قال النووي: لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر، قاله الحليمي وغيره. ويكره مسحه باليد وتقبيله، ومن ظن أن المسح باليد ونحوه أبلغ فيه البركة، فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع اه.
وفي «الإحياء» : مس المشاهد وتقبيلها عادة النصارى واليهود ويجب اجتناب الانحناء للقبر عند التسليم. قال ابن جماعة: «إنه من البدع المنكرة، ويظن من لا علم له أنه من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل أرض القبر، فإنه لم يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعهم، وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى لتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف» اه.
من كتاب «المجموع المفيد في نقض القبورية ونصرة التوحيد» لمحمد بن عبد الرحمن الخميس ص 267.