الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودعاؤه وثناؤه عند القبر. ولهذا لم يكونوا يأتونه، لأن قيامهم بما يجب من حقوق الرسول في جميع الأمكنة سواء.
وقد نهى عن تخصيص القبر بذلك وأن يتخذوه عيدا ومسجدا لأنه مظنة أن يتخذ وثنا ويفضي إلى الشرك، ومظنّة أن ينقص قيامهم بحقه في سائر البقاع إذا خصوا تلك البقعة بمزيد القيام، كما أن المشاعر لما خصّت بالعبادات؛ فالمؤمن تجد إيمانه فيها أعظم من إيمانه في غيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم حقه في جميع البقاع سواء، ولكن تتنوع حقوقه بحسب الأحوال، ولهذا إذا اعتبرت أحوال الناس كان من يعظم الميت عند قبره مقصّرا في حقوقه التي أمر بها في سائر البقاع بحسب ما زاد عند القبر. وهذا أمر مطّرد معروف من جميع أحوال الناس.
ولما كان السابقون الأولون أقوم بحقوقه في جميع المواضع؛ كانوا أبعد الناس عن تخصيص القبر بشيء، والخلفاء الراشدون ونحوهم لما كانوا أقوم بحقوقه من غيرهم لم يفعلوا ما فعله ابن عمر ونحوه، فأبوه عمر كان أقوم بحقه صلى الله عليه وسلم منه وكان ينهى أن يقصد الصلاة في موضع صلى فيه، خلاف ما فعله ابنه عبد الله مع فضله ودينه رضي الله عنهم أجمعين. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن قول القائل: «من حرّم السفر إلى زيارة قبره وسائر القبور فقد جاهر الأنبياء بالعداوة، وأظهر لهم العناد» . يستلزم أن يكون كذلك إمامه مالك؛ بل وإمام غيره من المسلمين، فإنه من أجل أئمة المسلمين وهو أحد أئمتنا الكبار، فإن جميع أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة أئمة لنا رضي الله عنهم أجمعين. فإنه قد صرّح في هذا الباب بما يبطل قول هذا الجاهل أكثر من تصريح غيره.
[قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم أن يزار كسائر القبور]
الوجه الثاني: من الجواب: أن قول القائل: إن الناهي عن السفر لزيارة القبور؛ قبور الأنبياء وغيرهم، قد جاهر الأنبياء بالعداوة وأظهر لهم العناد، إنما يتوجه إذا كانت زيارة القبور التي جاءت بها الشريعة؛ هي من باب خضوع الزائر للمزور وذلّه وتواضعه له واستسلامه وانقياده لعظمة قدر المزور، وجاهه عند الله وقربه إليه.
فإذا كان المقصود بالزيارة مثل هذا كان النهي عن ذلك تنقيصا لهم وغضا من أقدارهم، كالذي يزور معظّما في الدين أو الدنيا، زيارة خاضع له متواضع له متبرك به. فإذا قيل له: هذا لا ينبغي زيارته، أمكن أن يقال: هذا تنقص لقدره وخفض من منزلته. والزيارة التي جاءت بها الشريعة وذكرها الأئمة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ليست من هذا النوع، بل مقصودها الدعاء للميت، كالصلاة على جنازته. وقد يكون الزائر فيها أعظم قدرا من المزور، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم قدرا من كل من زار قبره؛ كأهل
البقيع، وشهداء أحد وأمه. وقد يكون الزائر دون المزور كما في «صحيح مسلم» عن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول:«السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» «1» . وفي حديث عائشة في الصحيح: «ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين» «2» . وفي حديث آخر: «اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنّا بعدهم» «3» .
فالدعاء الذي أمر به بعد السلام من جنس الدعاء في صلاة الجنازة، وفي صلاة الجنازة قد يكون المصلي أفضل من الميت كما كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الذين صلّى عليهم. وكذلك السابقون من أصحابه أفضل ممن صلّوا عليهم من غيرهم. وقد يكون المصلّى عليه أفضل؛ كالنبيّ صلى الله عليه وسلم لما مات وصلّى عليه المسلمون أفذاذا، وهو أفضل من كل من صلّى عليه. وكذلك أبو بكر وعمر صلّى عليهما المسلمون وهما أفضل ممن صلّى عليهما.
وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقبره أجل وأعظم من أن يزار كما تزار قبور سائر المؤمنين، فإن أولئك إذا حصل الزائر عند قبورهم وشاهد القبر فإنه يحصل له من الرغبة في الدعاء للميت والترحم عليه، والمحبة والمودة، ما قد يكون أعظم مما لو كان غائبا.
ولهذا شرعت الصلاة على قبره.
واختلف العلماء هل تشرع على القبر مطلقا؟ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد، مع اتفاقهم على أنه لا يصلّى على قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم. وذلك لعظم قدره وحقه، لا لنقص ذلك، فإن الناس مأمورون أن يحبّوه ويعظّموه، ويذكروه ويذكروا ما منّ الله به عليه، وما منّ به عليهم بسببه، ويصلّوا عليه ويسلّموا عليه في كل مكان، وأن لا يفعلوا ذلك عند قبره أعظم مما يفعلونه في سائر البقاع، فإنه يفضي إلى نقص ذلك في سائر البقاع إذا خص قبره بما لا يوجد عند غيره.
ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون أحد عند قبره في كل وقت، لو كان مما يوصل إليه، فكيف إذا كان محجوبا؟
فتخصيص قبره بصلاة عليه أو سلام أو دعاء أو ثناء، يقتضي هضم ذلك ونقصه في سائر البقاع، فينقص إيمانهم به وتوسلهم بالإيمان به، ويفوتهم حظ عظيم من كرامة الله لهم بقيامهم بحقّه، مع أن ذلك ذريعة إلى الشرك. فكان في تخصيص قبره بما يخصّ به قبر غيره مفسدة وفوات مصلحة.
(1) أخرجه مسلم (975).
(2)
أخرجه مسلم (974).
(3)
انظر «الموطأ» (1/ 148) - 16 - كتاب الجنائز، (6) باب ما يقول المصلي على الجنازة. و «سنن أبي داود» (3201) و «صحيح ابن حبان» (7/ 342/ 3073) و «أحكام الجنائز» ص 158.