المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[من قصد السفر إلى المدينة فليقصد السفر إلى المسجد] - الإخنائية أو الرد على الإخنائي ت زهوي

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلمات مضيئة

- ‌مقدمة المحقق

- ‌منهجي في تحقيق الكتاب:

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[مدار الدين على توحيد الله تعالى]

- ‌فصل [الكلام على الكتاب المردود عليه]

- ‌[المردود عليه عنده شيء من الدين لكن مع جهل وسوء فهم]

- ‌[التحذير من الكلام في دين الله بغير علم]

- ‌فصل [بداية الرد على المعترض]

- ‌[من قصد السفر إلى المدينة فليقصد السفر إلى المسجد]

- ‌[الفرق بين زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبين زيارة قبره]

- ‌[أول من وضع أحاديث زيارة المشاهد]

- ‌فصل [خلط المردود عليه بين زيارة القبور والسفر إليها]

- ‌[لا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل على استحباب زيارة قبور الأنبياء]

- ‌[إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل القبر ليس بطاعة]

- ‌[التفريق بين الغرباء والمقيمين في المدينة في السلام عليه خارج الحجرة]

- ‌[قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم أن يزار كسائر القبور]

- ‌[المقصود الشرعي من زيارة القبور]

- ‌[اعتقاد النفع بالقبور هو كاتخاذها أوثانا]

- ‌[شد الرحال لزيارة قبور الصالحين هو من جنس عمل المشركين]

- ‌[واجب المؤمن تجاه النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[عداوة الأنبياء بمخالفتهم لا بموافقتهم]

- ‌[الكلام في الأحكام الشرعية لا يستدلّ عليه إلا بالأدلة الشرعية]

- ‌[الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، واختلاف العلماء في وجوبها]

- ‌[الحلف بالملائكة والأنبياء]

- ‌[أفضل الناس مع أنبيائهم هم الصحابة]

- ‌فصل [الأحاديث التي احتج بها المعترض على جواز شدّ الرحال للقبور، والرد على ذلك]

- ‌[الفرق بين الزيارة الشرعية وبين الزيارة البدعية]

- ‌فصل [المصنف لا يحرم زيارة القبور الزيارة الشرعية]

- ‌فصل [هل وردت أحاديث صحيحة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم

- ‌[زيارة القبور ليست من باب الإكرام والتعظيم]

- ‌[الأنبياء والأولياء الذين عبدوا من دون الله لا إثم عليهم، إنما الإثم على من عبدهم]

- ‌فصل [حديث «من صلّى عليّ عند قبري سمعته»]

- ‌فصل [مذهب السلف في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [خلط المعترض بين زيارة الأحياء وبين زيارة القبور]

- ‌فصل [تعدّي المعترض على المصنف، وجواب المصنف عليه]

- ‌[من اعتقد أن السفر إلى قبر شيخ أو إمام أفضل من الحج فهو كافر]

- ‌فصل [المردود عليه وأسجاعه الفارغة]

- ‌فصل [كلام المصنف على حديث النهي عن شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة]

- ‌فصل [الرد على المعترض فيما افتراه على أئمة المسلمين في أنهم يجوّزون السفر إلى زيارة القبور]

- ‌فصل [زعم المعترض أن المؤلف خرق الإجماع]

- ‌فصل [افتراء المعترض على المصنف]

- ‌[واجب الموحّد تجاه الملائكة والأنبياء]

- ‌[الفرقان بين الحق والباطل]

- ‌الفهارس العامة

- ‌فهرس الآيات القرآنية

- ‌فهرس الأحاديث

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌[من قصد السفر إلى المدينة فليقصد السفر إلى المسجد]

به عن الله، وطاعتهم فيما أمروا به، ومتابعتهم ومحبتهم وموالاتهم، لا التكذيب بما أرسلوا به، والإشراك بهم والغلوّ فيهم، بل هذا كفر بهم وطعن فيهم ومعاداة لهم.

[من قصد السفر إلى المدينة فليقصد السفر إلى المسجد]

والمقصود أن كل من قصد السفر إلى المدينة فعليه أن يقصد السفر إلى المسجد والصلاة فيه، كما إذا سافر إلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وإذا قصد السفر إلى القبر دون المسجد وجعل المسجد لا يسافر إليه إلا لأجل القبر، واعتقد أن السفر إليه تبع للقبر كما يسافر إلى قبور سائر الصالحين ويصلي في مساجد هناك، فمن جعل السفر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبره كالسفر إلى قبور هؤلاء المساجد التي عندهم، فقد خالف إجماع المسلمين وخرج عن شريعة سيد المرسلين، وما سنه لأمته الغرّ الميامين، بخلاف الذي قصد المسجد. وإلا فمن جهة العمل لا يمكن أحدا أن يفعل عند قبره لا سنة ولا بدعة، إنما يفعل ذلك في المسجد، فمن فعل فيه سنة حمد عليها وأجر عليها، ومن فعل فيه بدعة ذمّ ونهي عنها، ففي الصحيحين عنه أنه قال:«المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» «1» .

والله سبحانه قد فرق بين قبر رسوله وقبر غيره، فإنهم دفنوه بالحجرة لم يبرزوا قبره كما كانوا يبرزون قبورهم خوفا أن يتخذ مسجدا، ثم إنهم منعوا الناس من زيارته كما يزورون القبور، فلم يكونوا يمكنون الناس من الدخول إلى قبره لزيارته، ثم إنهم سدوا باب الحجرة وبنوا عليها حائطا آخر، فلم يبق أحد متمكنا من زيارته كما تزار القبور.

ولهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بهذا الاسم في حقه، فقال:

تستحبّ زيارة قبره أو لا تستحب أو نحو ذلك، ولا علق بهذا الاسم حكما شرعيا.

وقد كره من كره من العلماء التكلم به، وذلك اسم لا مسمى له ولفظ لا حقيقة له، وإنما تكلّم به من تكلّم من المتأخرين، ومع هذا فلم يريدوا به ما هو المعروف من زيارة القبور، فإنه معلوم أن الذاهب إلى هناك إنما يصل إلى مسجده، ليس هناك زيارة تفعل في غير مسجده، ولو قدّر أنه وقف في الطريق من جهة المشرق وفعل ما فعل لم يكن هناك سنة عند أحد من العلماء، وإذا كان لا بدّ للزائر من المسجد فالمسجد نفسه يشرع إتيانه سواء كان القبر هناك أو لم يكن، وكل ما يشرع فيه من العبادات فإنه مشروع سواء كان القبر هناك أو لم يكن، وسواء تعلق بالرسول كالصلاة والسلام عليه وسؤال الله له الوسيلة والثناء عليه والمحبة والتعظيم والتوقير وغير ذلك من حقوقه صلى الله عليه وسلم، أو لم يتعلق بالرسول كالصلاة والاعتكاف، مع أنه لا بد في ذلك من ذكر

(1) أخرجه البخاري (1870) ومسلم (1370).

ص: 26

الرسول بالشهادة له والسلام عليه وكذلك الصلاة عليه، وهذه العبادات وغيرها وحقوقه وغير حقوقه هي مشروعة في جميع المساجد وإن لم يكن هناك قبره بل في جميع البقاع إلا ما استثناه الشرع.

وإذا كان السفر الذي يسمى زيارة لقبره إنما هو سفر إلى مسجده لا إلى غيره، وكان ما شرع فيه مشروعا في ذلك المسجد وفي غيره، وإن لم يكن القبر هناك لم يكن شيء من ذلك مشروعا لأجل القبر ولا مختصا بها.

وأما ما يفعله بعض الناس من البدع المختصّة بالقبر فذلك ليس بمشروع بل هو منهيّ عنه.

فتبيّن أنه ليس في الشريعة عمل يسمّى زيارة لقبره، وأن هذا الاسم لا مسمّى له، والذين أطلقوا هذا الاسم إن أرادوا به ما يشرع فالمعنى صحيح، لكن عبروا عنه بلفظ لا يدل عليه، ولهذا كره من كره أن يقال لمن سلم عليه هناك زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أرادوا ما لا يشرع فذاك المعنى خطأ مفهوم ومع هذا فليس هو زيارة، فلو قدّر أن بعض الناس أشرك في مسجده به، واتخذه إلها، وسجد للقبر وطاف به سبعا واستلمه وقبله، لم يكن شيء من ذلك زيارة لقبره، وإن كان محرّما فهذا لفظ لا حقيقة له. بل يقال لمن أطلقه: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: 23].

وهذا بخلاف قبر غيره فإنه ليس على الناس من حقوقه في سائر البقاع ما عليهم من حق النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمروا أن يصلوا عليهم ويسلموا عليهم حيث كانوا كما أمروا بذلك في حق الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنهم حيث صلوا وسلموا عليه بلغه صلاتهم وسلامهم، لا يختص بيته بذلك، كما جاءت بذلك الأحاديث. وغيره يستحب أن يزار فيوصل إلى قبره فيدعى له. والصلاة على القبر مشروعة لمن لم يصل على الميت عند أكثر العلماء كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهم متنازعون: إلى كم يصلي على القبر، وأحد القولين في مذهب الشافعيّ وأحمد أنه يصلي عليه أبدا.

واتفقوا على أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلى عليه كما لم يصلّ عليه أحد من المسلمين بعد أن دفن، فهذا لعلوّ قدره لا لخفضه عن غيره، فإنه قد شرع في حقه من الصلاة والسلام عليه في كل مكان ما هو أعظم من الصلاة عليه عند القبر، والصلاة عليه عند القبر يخاف فيها أن يتّخذ قبره وثنا وعيدا. والرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون محبة المؤمن له وتعظيمه له وصلاته وسلامه عليه وسائر حقوقه موجودا معه في جميع البقاع لا يختص القبر بشيء من حقوقه، فمن خصّ القبر بشيء من حقوقه وقصر فيه عند غير القبر فهو مقصر في حق الرسول صلى الله عليه وسلم مريد لما نهى عنه من اتخاذ قبره عيدا، وذلك يفضي إلى أن يقصر الناس في حقوقه في سائر البقاع، وكذلك ما يفعل عند قبر

ص: 27

غيره من الزيارة، وعند قبره ليس بمأمور ولا مقدور لعلوّ قدره واختصاصه بما ميزه الله على غيره صلى الله عليه وسلم كما خص بأن دفن في الحجرة ولم يبرزوا قبره.

فتبين أن ما في الجواب من قول المجيب السفر لمجرد زيارة قبور الأنبياء، هل هو محرم أم مباح؟ ونحو ذلك لا يتناول قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالنية فقط كما قال مالك، وإلا فذلك أمر ليس بمقدور. وما ليس بمقدور فهو بالضرورة ليس بمشروع ولا مأمور به.

وأما السفر المشروع إلى هناك فهذا لا يدخل في هذا اللفظ قطعا فإنه ليس سفرا لمجرد زيارة قبره لا من جهة الفعل ولا من جهة القصد. ومما يبين هذا أن جميع من يسافر لزيارة قبره إنما يصل إلى مسجده ويصلي فيه، لكن من الذين يسافرون إلى هناك من لا يعلم أن الدخول هو إلى المسجد وأن القبر محجوب، ومنهم من قد عرف ذلك لكن قد يظن أن المسجد بني لأجل القبر كما يبنى على بعض القبور مساجد لأجلها فيأتي الزائر فيصلي فيها أولا تحية المسجد أو غيرها، والمقصود هو القبر، وهؤلاء منهم من لا يعرف أن مسجده محترم معظم يقصد لنفسه لا لأجل القبر، ومنهم من لا يعرف أن الصلاة فيه بألف صلاة، ولا أن السفر مشروع إليه كما يشرع إلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، بل يظن كثير منهم أن السفر إنما هو لأجل القبر، ولا يعلم أن السفر إلى مسجده مشروع مستحب مرغب فيه، وأنه أفضل المساجد بعد المسجد الحرام أو مطلقا وأن الصلاة فيه بألف صلاة سواء كان عنده القبر أو لم يكن، كما كانت هذه الفضيلة ثابتة له في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كان الذين يصلون فيه إذ ذاك أفضل من غيرهم، وكانت الهجرة واجبة له في حياة الرسول قبل فتح مكة على المسلمين أن يهاجروا إلى المدينة دار الهجرة ودار السنة ودار النصرة.

ومن كان بها كان عليه أن يصلي في المسجد النبوي ولو لم يكن إلا الجمعة، فإن الجمعة فرض على الأعيان باتفاق الأمة، ولم يكن على عهده بالمدينة مسجد يصلي فيه الجمعة إلا مسجده، وهو أول مسجد أسس على التقوى، وأول مسجد أذّن فيه وأقيم فيه الصلاة. فمن علم فضيلته وفضيلة الصلاة فيه وفضيلة السفر إليه وهو يريد السفر إلى القبر ويعلم أنه إنما يصل إلى مسجده فهذا لا بد إن كان مؤمنا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقصد السفر إلى مسجده وإن قصد مع ذلك القبر لا يتصور من المؤمن به العالم بشريعته العالم أن المسافر إلى هناك يصل إلى مسجده لا يتصور مع هذا العلم والمعرفة والإيمان أن لا يقصد السفر إلى مسجده بل لا يقصد إلا مجرد القبر، بل الذي يسافر ولا يقصد إلا مجرد القبر إما أن يكون جاهلا بشريعته وفضيلة السفر إليه أو جاهلا بالحال لا يعلم أنه إنما يصل إلى مسجده، أو لا يعلم أن مسجده مؤسس على التقوى مقصود معظم قبل حصول القبر، فإنه لم يبن لأجل القبر ولا حرمته وفضيلته وعظمته لأجله، فلا يتصور أن يقصد مجرد القبر إلا من يكون جاهلا

ص: 28

بهذا أو بهذا أو بهذا، وإن كان عالما بذلك كله، مع هذا ليس قصده إلا السفر إلى القبر كما يسافر إلى قبر من يعظمه من الصالحين وغيرهم، والسفر إلى المسجد ليس له عنده حرمة ولا يعتقد فضيلته ولا يقصد السفر إليه مع علمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم رغّب في ذلك وبين فضل مسجده. فهذا لا يكون إلا كافرا بالرسول، ومثل هذا يقع من المشركين الذين يرون قصد القبور المعظّمة أولى من قصد المساجد، والحج إليها أفضل من الحج إلى مكة، ودعاء الخلق أفضل من دعاء الخالق، والدعاء عندها أفضل من الدعاء في المساجد والمشاعر. ومنهم من يجعل استقبالها في الصلاة أولى من استقبال الكعبة ويقول: هذه القبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة.

ومعلوم أن هذا من الكفر بالرسول وبما جاء به الرسول، ومن الشرك بربّ العالمين، لا يفعل هذا من يعلم أن الرسول جاء بخلافه وأن الرسول جاء بالحق الذي لا يسوغ خلافه، بل إنما يفعل هذا من كان جاهلا بسنة الرسول، أو من يجعل له طريقا إلى الله غير متابعة الرّسول، مثل من يجعل الرسول مبعوثا إلى العامة وأنه أو شيخه من الخاصة الذين لا يحتاجون إلى متابعة الرسول، أو أن لهم طريقا أفضل من طريقة الرسول ونحو ذلك! وهؤلاء كلهم كفار، وإن عظّموا قبر الرسول كما يعظمون قبور شيوخهم، ومنهم من يجعل قبر شيخه أعظم من قبر الرسول، ومنهم من يجعل قبر الرسول أعظم ولكن يعظم أصحاب القبور من جهة أنه يعبدهم ليقربوه إلى الله زلفى، لا يعظم الرسول من جهة أنه رسول الله الذي أوجب على جميع الخلق اتباعه وطاعته وسلوك سبيله واتباع ما جاء به، وهذا نعت المؤمن به، والمؤمنون به لا يعرضون عن قصد السفر إلى مسجده مع علمهم أنهم يصلّون إلى مسجده إلا بجهلهم بسنته. فإذا عرفوها دعاهم الإيمان به إلى متابعته صلى الله عليه وسلم تسليما. والمجيب إنما ذكر النزاع في السفر لمجرد زيارة القبور، فلم يدخل في هذا السفر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المراد بالسفر لزيارة قبره، فهل يمكن هذا المعترض أن يحكي عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال: يستحب السفر لمجرد زيارة القبور، أو أنه يستحب السفر إلى زيارة قبره بدون الصلاة في مسجده، أو بدون دخوله، هل قال هذا أحد؟

أو أنه يستحبّ السفر إلى القبر دون قصد المسجد؟ مع أنه إنما يصل إلى المسجد، والسفر إليه مستحب بالنص والإجماع والصلاة فيه مفضلة، فهل قال مسلم إن هذا المستحب بالنص والإجماع مع فعل الإنسان له إذا لم يقصده البتة، وإنما قصد مجرد القبر يكون هذا السفر مستحبا بنص أو إجماع، أو هل قال ذلك إمام من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين؟ وإن لم يكن هنا نصّ ولا إجماع.

وهل يترك قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه مع كونه يعلم أنه إنما يصل إلى مسجده إلا من هو جاهل بدينه أو كافر بما جاء به؟ فإن هذا ليس عليه في النية كلفة

ص: 29

أصلا، فإنه إذا كان لا بد له من الوصول إلى المسجد ومن ثم الصلاة فيه لم يبق إلا أنه يقصد ذلك في ابتداء السفر. فإذا لم يقصده فإنه يكون جاهلا بأن ذلك مستحب مشروع كما يوجد عليه كثير من الجهّال يظنّون أن المشروع إنما هو السفر إلى القبر والسفر إلى المسجد تبع للقبر، فإذا عرّف الجاهل بسنته المعلومة عند جميع علماء أمته ثم من بعد ذلك يشاقّ الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين؛ فإن الله يولّيه وما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا. فإذا لم يعرف أن إماما من أهل الاجتهاد قال: إنه يستحبّ السفر إلى مجرد القبر دون المسجد وإن كان المسافر يعلم أنه إنما يصل إلى المسجد وإن سفره مشروع، ثم لا يقصد ذلك فيكون سفره مشروعا مستحبا، هذا مما يقطع بأنه لا يقوله عالم. فإذا لم يثبت ذلك سلم الإجماع المذكور، وإن قدر أن هذا قول ثالث كان ذلك قولا خفيا قاله بعض المتأخرين لم يبلغ المجيب، والمجيب ذكر إجماع العلماء الذين عرفت أقوالهم في هذا الحديث وفي هذه المسألة، وهذا مبسوط في مكان آخر.

والمقصود هنا أن ما حكاه عن المجيب أنه يحرم زيارة قبور الأنبياء وزيارة القبور كذب بيّن على المجيب ليس في الجواب، وإنما فيه السفر خاصة. وكلام المجيب فيما لا يحصيه إلا الله يبين كذب النقل وأنه يستحب زيارة قبور المؤمنين عموما فضلا عن الصالحين والأنبياء، بل نفس السفر الذي ذكر فيه القولين، لم يذكر أنه يختار أحد القولين بل ذكر حجة هؤلاء وهؤلاء، فكيف يجوز أن يحكي عنه أنه حرم زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر القبور، وأنه ادّعى أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها؟ من المعلوم لكلّ من قرأ شيئا من العلم ما في كتب العلماء من إباحة زيارة القبور للرجال أو استحباب ذلك، وذكر النزاع في زيارتها للنساء.

هذا موجود في الكتب الصغار والكبار، وقد قرأه المجيب وقرئ عليه مرات لا يحصيها إلا الله، وليس هذا مما يخفى على آحاد الطلبة الذين يحضرون عنده. فكيف يحكي إجماع المسلمين على أن زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور معصية محرمة؟

ولو كان لهذا القاضي نوع عقل وحكي له ذلك عن آحاد الطلبة لم يصدقه وقال:

هل في الإسلام من ينتسب إلى أدنى علم يقول: إن زيارة القبور معصية محرمة مجمع عليها؟ فهل في الإسلام شخص يحكي الإجماع على تحريم زيارة القبور مطلقا؟ وإذا كان هذا ما يعلم انتفاؤه عن جميع المسلمين كان انتفاؤه عن المجيب أولى؛ فكان الواجب عليه أن يكذّب ناقل ذلك فضلا عن أن يكون هو الناقل عن جواب قد رآه الناس وعلموا أنه ليس فيه ذلك، وإنما فيه ذكر الخلاف في السفر إليها، والسفر إليها مسألة وزيارتها بلا سفر مسألة.

وأما قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فالسفر إلى زيارته هو السفر إلى مسجده، والسفر إلى مسجده

ص: 30

مستحبّ بالإجماع ليس من مسائل النزاع، وكل من علم أنه إنما يصل إلى مسجده وعلم أنه مسجده الذي يصلي فيه هو وأصحابه وأنه أفضل المساجد بعد المسجد الحرام أو مطلقا وأنه صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة فيه بألف صلاة وأنه قال:«لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ونحو ذلك، وهو مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يقصد إذا سافر إلى هناك السفر إلى مسجده لا يمكن مع علمه بذلك وإيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يقصد السفر إلى مسجده، فلا يقصد السفر إلى القبر دون المسجد إلا جاهل أو كافر، لكن كثير من الناس قد عرفوا فضيلة مسجده والسفر إليه فهم يقصدون ذلك ويقصدون السفر إلى القبر أيضا، ثم منهم من يستوي عنده القصدان ومنهم من يكون قصد المسجد أقوى عنده، ومنهم من يكون قصد القبر أقوى عنده. وهؤلاء يظنون أن قصد السفر إلى قبره من المحبة له والتعظيم، وأن ذلك أعظم من قصد السفر إلى مسجده، وهم غالطون في ذلك، فإن السفر إلى المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم والتأسي بإبراهيم فيما كان يفعله هناك من الحج أفضل من زيارة قبر إبراهيم بالكتاب والسنة والإجماع، بل الحج كما حج إبراهيم قد فرضه الله على عباده والسفر إلى غير المساجد الثلاثة قد نهى عنه، وكذلك السفر إلى بيت المقدس هو أفضل من السفر إلى قبر سليمان الذي بناه بعد إبراهيم، وكذلك السفر إلى مسجد نبينا صلى الله عليه وسلم والتأسي به فيما كان يفعله فيه من العبادات وفعل ما رغب في فعله في المسجد هو الذي يصدر عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته وتعظيمه دون السفر إلى مجرد قبره، ولو قدر أن شخصا سافر إلى قبر إبراهيم ولم يسافر إلى مسجده- المسجد الحرام- وهو الحج واعتقد أنهما سواء وأن السفر إلى قبره أفضل كان كافرا. وكذلك بيت المقدس من اعتقد أن السفر إلى قبر سليمان أفضل من السفر إليه أو هما سواء كان كافرا، كذلك السفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اعتقد أن السفر إلى مجرد القبر أفضل من السفر إلى المسجد أو مثله فهو إما جاهل بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم وإما كافر به. وهؤلاء نظير الذي يعتقد أن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين مثل الحج أو أفضل من الحج. وهذا لا يعتقده إلا جاهل مفرط في الجهل بدين الإسلام أو كافر مشاقّ للرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما تبين له الهدى متّبع غير سبيل المؤمنين. فمن لم يفرّق بين السفر المشروع إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره السفر الشرعي والزيارة الشرعية المجمع على استحبابها وبين السفر إلى قبر غيره فهو إما جاهل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإما كافر بالرسول صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: كيف يزور قبره مع كونه كافرا به؟

قيل: كثير من الناس يعظّمون الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتقدون أنه من أفضل الناس، ولكن يقولون إنهم ما يجب عليهم اتباعه وطاعته بل لهم طريق إلى الله تغنيهم عنه، وقد يقولون: إن طريقهم أفضل من طريقه، كما يعتقد كثير من اليهود والنصارى أنه

ص: 31