الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا جاءت سنته بأن لا يزار قبره كما تزار القبور؛ لعظم قدره وحقّه كما بينا.
وأما من زار قبره أو قبر غيره ليشرك به ويدعوه من دون الله فهذا حرام كله، وهو مع كونه شركا بالله فهو ترك لما يجب من حقه صلى الله عليه وسلم وطلب منه ما ليس إليه بل إلى الله، وأين من يطيعه ويعينه على ما أمر الله به ويقوم بما يجب عليه من حقه ممن يقصّر في حقه وطاعته وإعانته، ويقصر في عبادة الله وتوحيده ودعائه، ويكلّف المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الخالق سبحانه وتعالى، فيؤذيه بذلك ويؤذي الله بالشرك به؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«ما أحد أصبر على أذّى يسمعه من الله، يجعلون له ندّا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم» «1» . وقد قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] فهذا حقّه صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب: 57] الآية.
[المقصود الشرعي من زيارة القبور]
وأهل البدع والجهل يفعلون ما هو من جنس الأذى لله ورسوله، ويدعون ما أمر الله به من حقوقه وهم يظنّون أنهم يعظّمونه؛ كما تفعل النصارى بالمسيح، فيضلهم الشيطان كما أضل النصارى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. والذين يزورون قبور الأنبياء والصالحين ويحجّون إليها ليدعوهم ويسألوهم، أو ليعبدوهم ويدعوهم من دون الله؛ هم مشركون. وهم إذا قالوا نحن نحبّهم، فهم إن كانوا صادقين هم يحبونهم مع الله، لا يحبونهم لله كمحبة أهل الشرك للأنداد، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165]. والحب لله؛ أن يكون الله هو المحبوب لذاته ويحب أنبياءه لأنه يحبهم، وعلامة محبتهم متابعتهم، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] فمن اتّبع الرسول فهو الذي يحبه الله، وأما من قال إنه يحبه وإن غلا فيه وأشرك به، إذا لم يتبعه فإن الله لا يحبه، بل إذا خالفه أبغضه بحسب ذلك، وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأحقاف: 19]. وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46].
فالزيارة للقبور التي شرعها الرسول هي من جنس الصلاة على الجنائز، سواء كان الداعي فاضلا أو مفضولا.
فليس المقصود بها الخضوع للميت والتواضع له كما يقصد بتصديق الأنبياء وطاعتهم، ولا شرعت لكون المزور ذا جاه عند الله ومنزلة، بل هي مشروعة في حق كل مؤمن.
(1) أخرجه البخاري (6099) و (7378) ومسلم (2804).
وجائز أيضا زيارة قبر الكافر لتذكر الموت. ولكن شاع لفظ الزيارة في المعنى الأول عند كثير من المتأخرين، ولم يكن هذا معروفا في السلف، وما صاروا يفهمون من إطلاق اللفظ بزيارة قبور الأنبياء والصالحين، إلا أنها زيارة لقبورهم لعظم قدرهم وجاههم، وعلوّ منزلتهم عند الله، كما تزور النصارى قبور من يعظّمونه، وكما يتوجّهون إلى صورته المصورة ويتشفعون به.
ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينة أو قرية فإنهم ببركته يرزقون وينصرون، وأنه يندفع عنهم الأعداء والبلاء بسببه. ويقولون عمن يعظّمونه: إنه خفير البلد الفلاني، كما يقولون: السيدة نفيسة «1» خفيرة مصر القاهرة، وفلان وفلان خفراء دمشق أو غيرها، وفلان خفير حرّان أو غيرها، وفلان وفلان خفراء بغداد أو غيرها.
(1) هي: نفيسة بنت الحسن بن زيد بن السيد سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الحسن بن علي بن أبي طالب.
زوجة الشريف إسحاق بن الإمام جعفر بن محمد الصادق.
ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة (145) ونشأت بالمدينة، ثم انتقل بها زوجها إلى مصر، وتوفيت فيها سنة ثمان ومائتين (208). كانت صالحة زاهدة عابدة، من الصوّامات القوّامات، رضي الله عنها وأرضاها.
انظر ترجمتها في: «وفيات الأعيان» (3/ 210 - 211) و «سير أعلام النبلاء» (10/ 106 - 107) و «العبر» (1/ 355) و «البداية والنهاية» (10/ 262) و «النجوم الزاهرة» (2/ 185) و «شذرات الذهب» (2/ 21) القديمة و (3/ 42) - ابن كثير-.
قال الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (10/ 106): «ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس العبيدية» .
وقال الحافظ ابن كثير- رحمه الله في «البداية والنهاية» (10/ 262): «وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر، فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظ ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز، وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته، والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات. وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها. والمغالاة في البشر حرام، ومن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك، رحمها الله وأكرمها» .
ملاحظة: قال الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (10/ 107): «وقيل: كانت من الصالحات العوابد، والدعاء مستجاب عند قبرها، بل وعند قبور الأنبياء والصالحين» !
قلت: وهذا ما لا دليل عليه شرعا، ومحلّ هذا؛ التشريع، لأن الدعاء عبادة؛ ولم يثبت هذا عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن السلف بعده.
وقد نبّه العلّامة المتقن الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ- حفظه الله تعالى- أن للحافظ الذهبي بعض الزلّات في كتابه «سير أعلام النبلاء» وخاصة في ما يتعلّق بأمور توحيد العبادة، والتوسل، والاعتقاد في الأولياء، والكمال لله وحده.
ولا يعني هذا التنقّص من الحافظ الذهبي؛ فلا والله، ولكن «كل بني آدم خطّاء» ، ومن ذا يسلم من الخطأ. فلعلّ الله ييسّر لنا إخراج هذه الأخطاء وبيانها، والله أعلم.
ويظنون أن البلاء يندفع عن هذه المدائن والقرى بمن عندهم من قبور الصالحين أو الأنبياء. ثم قد يكون في البلد من قبور الصحابة والتابعين من هو أفضل من ذلك الذي جعلوه خفيرا، كما أن فيهم من الصحابة والتابعين وغيرهم من هو أفضل من نفيسة بكثير.
وبدمشق من الصحابة والتابعين من هو أفضل من بعض من يجعلونه خفيرا، أو يقصدون الدعاء عند قبره، كرابعة في باب الصغير، وكرسلان التركماني وغيرهم. وقد نزل عدو كافر بالبلد فتمثّل له الشيطان بصورة ذلك الخفير، وأنه يضربه بعكازه أو غيره، ويقول: ارحل من عندي، فيرحل ذلك الملك الكافر لما رآه، فيظن أولئك أن نفس الشيخ الميت أو سرّه أتاه فدفع عنه.
وفي المدفونين بالبلد من هو أفضل من ذلك بكثير. وهذا مما لم يكن معروفا على عهد الصحابة والتابعين، ولكن حدث بعدهم.
ومن أقدم ما روي في ذلك ما ذكره أبو عبد الرحمن السّلمي «1» قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت عبد الله بن موسى الطّلحي يقول: سمعت أحمد بن العباس يقول: خرجت من بغداد هاربا منها، فاستقبلني رجل عليه أثر العبادة فقال لي: من أين خرجت؟ فقلت: من بغداد، وهربت منها لما رأيت فيها من الفساد، خفت أن يخسف بأهلها. فقال: ارجع ولا تخف، فإن فيها قبور أربعة من أولياء الله، هم حصن لها من جميع البلايا. قلت: من هم؟ قال: الإمام أحمد بن حنبل، ومعروف الكرخي، وبشر بن الحارث الحافي، ومنصور بن عمار الواعظ. فرجعت ولم أخرج.
وهذا الشخص الذي قال هذا هو مجهول لا يعرف؛ وقد يكون جنيا وقد يكون إنسيا. فإن الجن كثيرا ما يتصورون في صورة الإنس. ويقول أحدهم: لن ينفرد به في البرية أنا النبي فلان، أو الشيخ فلان، أو الخضر. ومثل هذا كثير معروف تطول حكاية آحاده فإنها لا تحصى لكثرتها.
وهؤلاء قد يظنّون أن وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم مقبورا بينهم مثل وجوده في حياته، والله تعالى يقول: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33]. وهذا غلط عظيم؛ فقد روى الترمذي: حدّثنا سفيان بن وكيع،
(1) قال العلّامة المعلّمي: «هو محمد بن الحسين الصوفي (325 - 412) تكلّموا فيه حتى رمي بأنه كان يضع» اه.
انظر ترجمته في: «تذكرة الحفاظ» (3/ 1046 - 1047) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 247) و «العبر» (3/ 109) و «البداية والنهاية» (12/ 12 - 13) و «شذرات الذهب» (3/ 196) - القديمة- و (5/ 67) - ابن كثير- و «النجوم الزاهرة» (4/ 256).
حدّثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبّاد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فإذا مضيت تركت فيكم الاستغفار» «1» .
فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن الأمان بوجوده هو في حياته، وأنه بعد موته لم يبق إلّا الاستغفار، ليس في وجود القبور أمان.
وكذلك في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
ومما يوضّح الأمر في ذلك أنه من المعلوم أن بيت المقدس وما حوله من قبور الأنبياء ما هو أكثر من غيره، فإنه قد قيل: إن بني إسرائيل بعث فيهم ألف نبي، ومع هذا فقد قال الله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ إلى قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء: 4 - 8]. فقد بيّن الله أنهم إذا علوا وأفسدوا عاقبهم الله بذنوبهم، وسلّط عليهم العدوّ الذي جاس خلال الديار ودخل المسجد، وقتل فيهم من لا يحصي عدده إلا الله، ولم يخفرهم أحد من قبور الأنبياء التي كانت هناك، وإنما الناس يجزون بأعمالهم، والله تعالى هو الذي يرزقهم وينصرهم، لا رازق غيره ولا ناصر إلا هو. قال تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الملك: 20] الآيتين. فليس للعباد من دون الله لا رازق ولا ناصر. وقد قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ [الإسراء: 58] الآية.
فأخبر أنه لا بد لكل قرية من هلاك أو عذاب شديد بدون الهلاك، وذلك بذنوبهم بعد إرسال الرسل لهم. قال الله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ [الشعراء: 208، 209].
وكان أهل المدينة النبوية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أحسن أهل المدائن حالا، ونعمة الله عليهم أعظم النعم لكونهم كانوا مطيعين لله ورسوله، وكانت الخلفاء تسوسهم سياسة نبوية، فلما تغيروا وقتل بينهم عثمان رضي الله عنه تغيّر الأمر وحصل لهم من الخوف والذل، ثم أصابهم من السيف ما أصابهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون بالحجرة، وهو قد بلّغهم الرسالة وأدّى الأمانة،
(1) أخرجه الترمذي (3082) وضعّف إسناده المحدث الألباني في «ضعيف سنن الترمذي» (597).
(2)
أخرجه مسلم (2531).