الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو بكر بن المنذر: ولا بأس بزيارة القبور، ويستغفر للميت، ويرقّ قلب الزائر، ويذكر الآخرة، فهذا الذي سنّه الرسول لأمته بقوله وفعله في موتى المسلمين، وأما هو نفسه فلقبره حكم آخر، فإن قبور المؤمنين ظاهرة بارزة وهو دفن في حجرته، ومنع الناس من الوصول إلى قبره، وقال:«لا تتخذوا قبري عيدا، وصلّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني» . وكذلك قال في السلام. وقال: «إن لله ملائكة سيّاحين يبلغوني عن أمتي السلام» . وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
ولهذا لم يصلّ أحد على قبره ولا شرع الصلاة على قبره عند أحد من العلماء، بل أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد أنه يصلّى على قبور المؤمنين دائما، وأما هو فلا يصلّى على قبره بالإجماع؛ لأن المقصود بالصلاة على القبور وزيارتها هو الدعاء، والرسول قد أمرنا بالصلاة والسلام عليه وطلب الوسيلة له، وغير ذلك في جميع المواضع، وهذا أعظم مما يفعل عند قبر غيره، وأمر الناس أن تكون محبته وتعظيمه وما يقوم بقلوبهم معهم أينما كانوا، فلا ينقص ما يستحقه من المحبة والتعظيم والصلاة والتسليم إذا كانوا في سائر المواضع، عما يفعل في بيته وعند قبره من ذلك، ولهذا نهى عن اتخاذ بيته عيدا، وفي لفظ: قبره. فلا يخصّ بيته وقبره بشيء من ذلك، فيكون في سائر البقاع ناقصا عما يكون عند القبر، فإن ذلك يتضمن نقص حقّه وبخسه إياه، وهذا من تنقيص حقه المنهي عنه. والجهّال يظنون أن النهي عنه تنقيص لحقه، ولا يعلمون أن هذا أعظم لقدره ولحقه من وجوه متعددة.
وأيضا فهذا فيه مفسدة اتخاذ قبره عيدا ووثنا ومسجدا، فنهى صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من المفسدة وعدم المصلحة، فهو صلى الله عليه وسلم له خاصة في علو قدره وحقه لا يشركه فيها غيره؛ الزيارة التي شرعها لعموم المؤمنين، وهو إنما خاف أن يتخذ قبره وثنا وعيدا؛ بخلاف قبور عموم المؤمنين، لكن ما عظّم من القبور حتى صار وثنا وعيدا فإنه ينهى عن ذلك ويزال ما حصل به، حتى إنه يحرم أن يبنى عليه مسجد «1» .
[الفرق بين الزيارة الشرعية وبين الزيارة البدعية]
والمقصود: أن ما سنّه لأمته نوع غير النوع الذي يقصده أهل البدع؛ من السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فإنهم لا يسافرون لأجل ما شرع من الدعاء لهم والاستغفار، بل لأجل دعائهم والدعاء بهم، والاستشفاع بهم، فيتخذون قبورهم مساجد وأوثانا وعيدا يجتمعون فيه.
(1) وانظر في ذلك كتاب «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد» لمحدّث الدنيا العلامة محمد ناصر الدين الألباني- رحمه الله تعالى- طبع المكتب الإسلامي بيروت.
وهذا كله مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، فكيف يشبّه ما نهى عنه وحرّمه بما سنّه وفعله؟
وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله، ليس الغلط فيه من خصائصه، ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه، كما أمر الله تعالى؛ فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار، فقال سبحانه وتعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا [المائدة: 8]. فكيف بإخواننا المسلمين، والمسلمون إخوة، والله يغفر له ويسدّده ويوفقه وسائر إخواننا المسلمين.
الجواب الرابع: أنه لو قدّر أن هذا اللفظ عام؛ فأحاديث النهي عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة تخصّص هذا، كما تخصّص إتيان المساجد، ومعلوم أن إتيان المساجد أفضل من إتيان المقابر ونحوها، والسفر إليها أفضل. فإذا كان قد نهي عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة؛ فالنهي عما يكون إتيانه والسفر إليه دون إتيان المساجد أولى، ولهذا لم يقل أحد من المسلمين إنه يسافر إلى القبور دون المساجد بخلاف العكس، فإنه يحكى عن الليث بن سعد.
الجواب الخامس: أن يقال: ليس فيما ذكرته ما يقتضي أن السفر إليها مستحبّ بل ولا زيارتها من قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» . وفي لفظ: «ولا تقولوا هجرا، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا، ولا تشربوا مسكرا، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فادّخروا ما بدا لكم» . رواه مسلم في صحيحه عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء فاشربوا في الأوعية كلها ولا تشربوا مسكرا» «1» . وقد اتفق المسلمون على أن الانتباذ في الأوعية والادخار أراد به إباحة ذلك بعد حظره، لم يرد به الندب إلى ذلك، فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» قد يقال: لم يرد به الندب، ولا يلزم من إباحتها ولا من الندب إليها إباحة السفر، كإتيان المساجد.
وقوله- أعني المعترض-: المشهور أن الأمر بعد الحظر يقتضي الوجوب.
يقال له: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن المعروف عن السلف والأئمة أن صيغة «افعل» بعد الحظر ترفع الحظر المتقدم، وتعيد الفعل إلى ما كان عليه «2» ، بهذا جاء الكتاب والسنة؛ كقوله
(1) أخرجه مسلم (977).
(2)
ذهب إلى هذا القول أكثر الحنابلة، وهو اختيار الزركشي، والكمال بن الهمام من الحنفية، وبه قال الأرموي.-
تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 2] وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة: 222] وقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] وقوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ إلى قوله: مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187]. فإن هذا لما جاء بعد حظر الجماع والأكل بعد النوم ليلة الصيام أفاد الإباحة، وهذا بخلاف قوله تعالى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب: 53] فإن الانتشار هنا قبل ذلك لم يكن واجبا فإنه أذن لهم في الدخول، لم يوجبه عليهم. وأما قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5]. فإنه أيضا لرفع الحظر وإعادة الأمر إلى ما كان قبل الأشهر، وهو أنه كان مأمورا به.
وقد ورد الأمر المطلق؛ لكن في زيارة قبر أمه كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال:
«استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزورها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكّر الموت» . ومعلوم أن استئذانه ربه طلب إباحة الزيارة لا طلب استحبابها، فلما أذن له كانت زيارته لأمه مباحة، فقوله:«فزوروها» ورد على هذا السبب، فلا بدّ أن يتناوله، فيدخل في ذلك زيارة القريب الكافر من غير دعاء له ولا استغفار، ومعلوم أن هذه الزيارة ليست مثل ما كان يفعله بأهل البقيع وشهداء أحد، ونحو ذلك من زيارة قبور المؤمنين التي تتضمن الدعاء لهم، ولا يلزم إذا كانت تلك مستحبة لما فيها من نفع المؤمنين؛ كالصلاة على جنائزهم، أن تكون هذه مستحبة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإنها تذكّر الموت» ؛ هو بيان لجهة المصلحة المعارضة للمفسدة التي أوجبت النهي فإنها تذكر الموت، وإن كانت قد تورث جزعا، ففيهما من
- وذهب الإمام أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني والفخر الرازي والبيضاوي، وأكثر الحنفية، والباجي من المالكية، وأبو حامد الأسفراييني وغيرهم، إلى القول بأن الأمر بعد التحريم يفيد الوجوب.
وذهب الشافعي والآمدي والقاضي عبد الوهاب المالكي وابن خويزمنداد وابن الحاجب وابن قدامة وغيرهم إلى أنه يفيد الإباحة.
واختار إمام الحرمين والغزالي الوقف بين الإباحة والوجوب.
وانظر لتفصيل المسألة: «المستصفى» للغزالي (1/ 263) و «أصول السرخسي» (1/ 19) و «المحصول» للرازي (2/ 96 - 98) و «نفائس الأصول في شرح المحصول» للقرافي (3/ 1321) و «نهاية الوصول في دراية الأصول» للأرموي (3/ 915 - 921) و «الأحكام للآمدي» (2/ 178) و «نهاية السئول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول» للأسنوي (1/ 415 - 417) و «روضة الناظر» لابن قدامة (1/ 559 - 563) و «التحقيقات في شرح الورقات» لابن قاوان (ص 189 - 190) و «التمهيد في أصول الفقه» للكلوذاني الحنبلي (1/ 179 - 186) و «القواعد والفوائد الأصولية» لابن اللّحام (228 - 230).
المصلحة ما عارض المفسدة، وحينئذ فإن كانت مباحة حصل المقصود، واستحباب مثل هذه الزيارة يفتقر إلى دليل آخر، فالفرق بين زيارة المؤمنين والكفار فرق معلوم، فإن الدعاء للمؤمنين حقّ لهم؛ كعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم، ونحن إن جوّزنا أن يعاد المريض الذميّ فليس ذلك حقا له كالمسلم، وأما جنازته فإن السنة أن يركب ويمشي أمامها فإنه لا يكون تابعا لها، كما نقل مثل ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودلّ عليه حديث المغيرة بن شعبة؛ الراكب خلف الجنازة وعن يمينها ويسارها، وقريبا منها، رواه الترمذي. وفي الحديث الآخر الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: ليس منها من تقدمها، فإذا ركب وتقدّمها لم يكن تابعا لها. ولو قدّر أن الأمر بعد الحظر يقتضي عند الإطلاق الوجوب؛ ففي هذا الحديث قد اتفق المسلمون على أنه ليس للوجوب، لا سيما وسببه زيارة قبر أمه. ولا يجب على المسلمين زيارة أقاربهم الكفار باتفاق المسلمين.
وأما النزاع بين المسلمين؛ هل زيارة القبور مستحبة أو مباحة أو منهي عنها؟
لم يقل أحد بوجوبها. فتبين أن ما ذكره ليس فيه ما يدلّ على محل النزاع؛ وهو استحباب السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين لدعائهم والرغبة إليهم، إذ هذا مقصود المسافرين، ليس مقصودهم الدعاء لهم والاستغفار لهم، بل قد ينهون عن ذلك، ويستعظمون أن مثل هؤلاء يحتاجون إلى دعاء الأحياء، ومنهم من إذا قيل له:
سلّم على فلان. ينهى عن ذلك، ويقول: السلام علينا من فلان، فيتخذونهم أربابا.
فإنه لا يجيب الدعوات، ويفرج الكربات، وينزّل الرزق، ويهدي القلوب، ويغفر الذنوب، إلا الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 135]. وقال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ إلى قوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ. وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ. إلى قوله: مَحْذُوراً [الإسراء: 56، 57].
وهذه تتناول كل من يدعى من دون الله ممن هو مؤمن من الملائكة والإنس والجن، وقد فسّرها السلف بهذا كله. وقال ابن مسعود:«كان أناس من الإنس يعبدون قوما من الجن، فأسلم الجن وتمسّك الآخرون بعبادتهم، فنزلت هذه الآية» «1» .
وقال السدي أيضا: عن أبي صالح عن ابن عباس: هو عيسى وأمه وعزير.
وقال السدي أيضا: ذكروا أنهم اتخذوا الآلهة، وهو حين عبدوا الملائكة والمسيح عليه السلام وعزير. فقال الله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء: 57]. وقد قال تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ
(1) أخرجه البخاري (4714، 4725) ومسلم (3030).
إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80]. وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 22، 23] فتبيّن أن من دعي في زعمهم من دون الله فإنه لا يملك شيئا ولا له شرك مع الله، ولا هو معين ولا ظهير، ولم يبق إلا الشفاعة. فقال:
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255]. ولهذا كان أوجه الشفعاء وأول شافع وأول مشفّع صلى الله عليه وسلم إذا جاء الخلق يوم القيامة إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم إلى موسى ثم عيسى ليشفعوا لهم، فكل منهم يردّه إلى الآخر ويعتذرون، فإذا أتوا المسيح قال: اذهبوا إلى محمد عبد غفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر، قال صلى الله عليه وسلم:«فأذهب إلى ربّي، فإذا رأيته خررت له ساجدا فأحمده بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد؛ ارفع رأسك، قل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفّع. قال: فيحدّ لي حدّا، فأدخلهم الجنة» .
والحديث في الصحيحين «1» . بيّن أنه إذا رأى ربه لا يبتدئ بالشفاعة بل يسجد ويحمد، حتى يؤذن له، ثم يؤذن له في حدّ محدود طبقة بعد طبقة، كما في الحديث. وذلك مبسوط في مواضع.
(1) أخرجه البخاري (4476) ومسلم (193) وغيرهما، من حديث أنس بن مالك.
والحديث مروي عن غير واحد من الصحابة، وانظر كتاب «الشفاعة» لمحدّث الديار اليمنية العلامة مقبل بن هادي الوادعي- سلّمه الله-.