المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل [المردود عليه وأسجاعه الفارغة] - الإخنائية أو الرد على الإخنائي ت زهوي

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلمات مضيئة

- ‌مقدمة المحقق

- ‌منهجي في تحقيق الكتاب:

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[مدار الدين على توحيد الله تعالى]

- ‌فصل [الكلام على الكتاب المردود عليه]

- ‌[المردود عليه عنده شيء من الدين لكن مع جهل وسوء فهم]

- ‌[التحذير من الكلام في دين الله بغير علم]

- ‌فصل [بداية الرد على المعترض]

- ‌[من قصد السفر إلى المدينة فليقصد السفر إلى المسجد]

- ‌[الفرق بين زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبين زيارة قبره]

- ‌[أول من وضع أحاديث زيارة المشاهد]

- ‌فصل [خلط المردود عليه بين زيارة القبور والسفر إليها]

- ‌[لا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل على استحباب زيارة قبور الأنبياء]

- ‌[إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل القبر ليس بطاعة]

- ‌[التفريق بين الغرباء والمقيمين في المدينة في السلام عليه خارج الحجرة]

- ‌[قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم أن يزار كسائر القبور]

- ‌[المقصود الشرعي من زيارة القبور]

- ‌[اعتقاد النفع بالقبور هو كاتخاذها أوثانا]

- ‌[شد الرحال لزيارة قبور الصالحين هو من جنس عمل المشركين]

- ‌[واجب المؤمن تجاه النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[عداوة الأنبياء بمخالفتهم لا بموافقتهم]

- ‌[الكلام في الأحكام الشرعية لا يستدلّ عليه إلا بالأدلة الشرعية]

- ‌[الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، واختلاف العلماء في وجوبها]

- ‌[الحلف بالملائكة والأنبياء]

- ‌[أفضل الناس مع أنبيائهم هم الصحابة]

- ‌فصل [الأحاديث التي احتج بها المعترض على جواز شدّ الرحال للقبور، والرد على ذلك]

- ‌[الفرق بين الزيارة الشرعية وبين الزيارة البدعية]

- ‌فصل [المصنف لا يحرم زيارة القبور الزيارة الشرعية]

- ‌فصل [هل وردت أحاديث صحيحة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم

- ‌[زيارة القبور ليست من باب الإكرام والتعظيم]

- ‌[الأنبياء والأولياء الذين عبدوا من دون الله لا إثم عليهم، إنما الإثم على من عبدهم]

- ‌فصل [حديث «من صلّى عليّ عند قبري سمعته»]

- ‌فصل [مذهب السلف في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [خلط المعترض بين زيارة الأحياء وبين زيارة القبور]

- ‌فصل [تعدّي المعترض على المصنف، وجواب المصنف عليه]

- ‌[من اعتقد أن السفر إلى قبر شيخ أو إمام أفضل من الحج فهو كافر]

- ‌فصل [المردود عليه وأسجاعه الفارغة]

- ‌فصل [كلام المصنف على حديث النهي عن شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة]

- ‌فصل [الرد على المعترض فيما افتراه على أئمة المسلمين في أنهم يجوّزون السفر إلى زيارة القبور]

- ‌فصل [زعم المعترض أن المؤلف خرق الإجماع]

- ‌فصل [افتراء المعترض على المصنف]

- ‌[واجب الموحّد تجاه الملائكة والأنبياء]

- ‌[الفرقان بين الحق والباطل]

- ‌الفهارس العامة

- ‌فهرس الآيات القرآنية

- ‌فهرس الأحاديث

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌فصل [المردود عليه وأسجاعه الفارغة]

‌فصل [المردود عليه وأسجاعه الفارغة]

قال: «واعلم أن الزيارة لا يتصوّر أن تكون منفكّة عن الحرمة من مكان إلى مكان، ولو حصل ذلك بطي الأرض أو الطيران فإن حصولها بغير ذلك أمر لا تقبله الأذهان، واعتقاده ضرب من الهذيان. لأن الزائر لا يطلق عليه زائر إلا بعد حركته وانتقاله وخروجه عن محله وارتحاله وكيف تكون الرحلة إلى القربة معصية محرّمة، والقصد المطلوب طاعة معظّمة؟

فالسفر إلى القبر من باب الوسائل إلى الطاعات، كنقل الخطأ إلى المساجد والجماعات، فلو علم هذا القائل ما في كلامه من الخطأ والزلل، وما اشتمل عليه قوله من المناقضة والخلل، لما أبدى لهم عواره، ولستر عنهم شناره».

يقال: هذا المعترض كثير الألفاظ والإسجاع، قليل الفائدة التي يحصل بها الانتفاع. أسجاع كأسجاع الكهّان، ليس فيها برهان ولا بيان. لا استدلال بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، ولا نقل لقول أئمة الدين أهل الإجماع والنزاع. بل يطوّل الكلام فيما يفهمه الأغنام، ويجعل عدّته انتهاك أعراض أئمة الإسلام، والطعن على شريعة خير الأنام، بقلة علم وسوء فهم وإعراض عن التفقه والتعلم والتفهم والإعلام.

وهذه المسألة المتنازع فيها وفيما يناسبها عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة محكمة، وفيها لأئمة الدين أقوال صريحة مفهمة. لم يذكر شيئا من ذلك، بل عمدته اتباع ما تشابه من القول، يبتغي الفتنة ويبتغي تأويله، وليس من الراسخين في العلم الذين يعرفون تأويله؛ الذي هو تفسيره ومعناه، وإن كان له تأويل آخر استأثر به الله، وكلا القولين في الوقف والابتداء منقولان عن السلف الأتقياء، وكل من القولين قاله طائفة من السلف العلماء. وأهل الضلال كالنصارى، وأهل البدع كالخوارج والرافضة والجهمية والقدرية؛ يتّبعون ما تشابه عليهم معناه، ويدعون المحكم المنصوص الذي بينه الله، ويقولون لمن اتبع المسيح وآمن بما قاله من أنه عبد الله ورسوله- كما صرح به في غير موضع من إنجيله- إنه قد شتم المسيح وتنقصه وعابه وعاداه، وهم قد شتموا الله وأشركوا به وكذّبوا المسيح وعصوه، فكفروا بالله ورسوله. وهكذا الغلاة في عليّ؛ يقولون لمن اتبع عليا فيما أخبر به عن نفسه، واتبع الرسول فيما قاله عن

ص: 170

علي وغيره؛ إنه شتم عليا وآذاه، وهم الذين كذّبوا عليّا وخالفوه، بل خالفوا الرسول الذي به آمن عليّ، وعمدتهم التمسك بأحاديث بعضها ضعيف أو مكذوب، وبعضها متشابه لا يدل على المطلوب. كالنصارى تارة ينقلون عن المسيح وغيره من الأنبياء أقوالا باطلة، وتارة يتمسكون بألفاظ متشابهة، لا تدل على ما ابتدعوه.

وهكذا أهل البدع الذين يدعون أهل القبور ويحجّون إليها ويجعلون أصحابها أندادا لله، حتى يقول بعضهم: إن الحج إليها أفضل من الحج إلى بيت الله.

وأهل البدع في القبور أنواع متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع، لكن عمدتهم إما أحاديث مكذوبة، وإما ألفاظ مجملة متشابهة؛ كلفظ زيارة القبور ونحوه مما يراد به أنواع من الأمور، وحصل فيها اشتباه ونزاع بين العلماء والجمهور، ويدعون الصحيح المنصوص المحكم الثابت من الأحاديث عن خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه التي ليس في سندها ولا فيما يستدل به من معناها نزاع بين العلماء، كما في الصحيحين عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» . ولفظ أبي سعيد الذي في صحيح مسلم وغيره: «لا تشدّوا الرّحال» بصيغة النهي. وهو أيضا مروي عنه من وجوه أخر، كما رواه مالك وأهل السنن والمسانيد عن بصرة بن أبي بصرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه أنه قال:«لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» «1» .

فإن هذا الحديث قد اتفق علماء المسلمين على صحة إسناده، واتفقوا على وجوب العمل بمعناه. واتفقوا على تناوله لمحل النزاع وهو السفر إلى القبور، ثم تنازعوا هل مراده النهي، أو مراده نفي الاستحباب والفضيلة؟ وما اتفقوا عليه كاف في الاحتجاج في مسألة النزاع.

وأما السلف من الصحابة والتابعين والأئمة فلم يعرف بينهم نزاع أنه نهى عن السفر إلى غير الثلاثة. والحديث قد جاء في الصحيح بصيغة النهي الصريح، فقال:

«لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» وأبو سعيد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا في الصحيح أنه سمعه منه لم يسمعه من غيره، بخلاف رواية أبي هريرة فإنها مطلقة، وأبو هريرة كان يروي الحديث، ثم يقول حدّثني فلان، كما في حديث صوم الجنب، فقال: حدّثنيه الفضل بن عباس.

ومثل ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت

(1) تقدم تخريجه.

ص: 171

عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا. وفي الصحيحين أيضا عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله «1» صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة «2» له على وجهه فإذا اغتمّ بها كشفها، فقال وهو كذلك:«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذّر ما صنعوا.

فإذا كان قد لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد يحذر أمته أن يفعلوا ذلك، مع أن المساجد إنما تكون لعبادة الله، لكن إذا اتّخذت القبور مساجد للعبادة؛ صار ذلك ذريعة إلى قصد القبر ودعاء صاحبه واتخاذه وثنا، فإذا كان قد لعن من يفعل الوسيلة إلى الشرك، فكيف بمن أتى بالشرك الصريح؟ وإذا كان هذا حال من دعا أهل القبور من غير حجّ إليه، فكيف بمن حجّ إليه أو جعل الحج إليهم أفضل من الحج إلى بيت الله؟ بل الحج إلى آثارهم مثل مكان نزلوا به، ويلبي ويحرم إذا حج إلى آثارهم، كما كان بعض الشيوخ بمصر يحرم إذا حج إلى مسجد يوسف، وكما حج مرة إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رجع ولم يحج إلى مكة، وقال: حصل المقصود بهذا.

وهو صلى الله عليه وسلم في مرضه يكرر تحذير أمته فينهاهم علانية في المسجد، ثم لعن من يفعل ذلك. وهو منزول به في السياق حرصا على هذه الأمة، وتحذيرا لأمته من مظان الشرك وأسبابه، إذ كان جماع الدين هو عبادة الله وحده، وأعظم الذنوب الشرك، والقرآن مملوء من تعظيم التوحيد بالدعاء إليه والترغيب فيه، وبيان سعادة أهله، وتعظيم الشرك بالنهي عنه والتحذير منه وبيان شقاوة أهله. ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متّخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» «3» .

فهذا نهيه قبل أن يموت بخمس ولعنه في مرضه من يفعل ذلك، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قاتل الله اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وفي لفظ مسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها؛ أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة، ذكرتا من حسنها وتصاوير فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أولئك كانوا إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات؛ بنوا على قبره

ص: 172

مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» «1» . ذمهم على هذا وهذا، ولهذا نهى أمته عن هذا وهذا. وفي صحيح مسلم عن أبي الهيّاج الأسدي «2» قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أمرني أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته» «3» .

فأمره طمس التماثيل، وتسوية القبور العالية المشرفة. إذ كان الضالون أهل الكتاب أشركوا بهذا وبهذا؛ بتماثيل الأنبياء والصالحين وبقبورهم. وفي المسند وصحيح ابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» «4» .

وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تضلّوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» «5» . وبسط هذا له موضع آخر. ولكن نبهنا هنا على مثل هذا لأن هذا المعترض لم يأت في كلامه بعلم ولا حجة ولا دليل، بل حجّته من جنس ما ذكره هنا، أن الزيارة لا بدّ فيها من الحركة والانتقال، وهذا معلوم لكل أحد، فقوله والزيارة نفسها قربة، والوسيلة إلى القربة قربة؛ هذا مضمون كلامه.

ونسب المجيب إلى التناقض حيث أباح الزيارة، ومنع من الوسيلة إليها وهو السفر، ولهذا قال:«فلو علم هذا القائل ما في كلامه من الخطأ والزلل، وما اشتمل عليه كلامه من المناقضة والخلل، لما أبدي لهم عواره، ولستر عنهم شناره» .

وجواب هذا من وجوه:

أحدها: أن يقال: أنت المتناقض فيما حكيته عنه، فإنك في أول كلامك قلت أنه ظهر لك من صريح كلامه وفحواه؛ مقصده السيئ ومغزاه، وهو تحريم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور والسفر إليها، ودعوى أن ذلك معصية محرّمة مجمع عليها. وقد علم كل من وقف على الجواب أنه لم يحرم الزيارة مطلقا، ولا حكى ذلك عن أحد فضلا عن أن يحكيه إجماعا، لكن هذا قول طائفة من السلف حرّموا زيارة القبور مطلقا، كما نقل عن الشعبي والنخعي وابن سيرين، لكن المجيب لم يذكر هذا القول، فإنه قول مرجوح، ولو قدّر أنه حكاه لم يحك الإجماع على التحريم. فإن بطلان هذا لا يخفى على آحاد طلبة العلم، إذ كانت كتب العلماء مشحونة بذكر جواز زيارة القبور للرجال أو استحباب ذلك. ثم هناك جعلت المجيب يجوّز الزيارة وينهى عن الوسيلة

(1) أخرجه البخاري (427، 434، 1341، 3878) ومسلم (528).

(2)

«اسمه حيان بن حصين، كان من خواص علي رضي الله عنه، وولاه القضاء في العراق» (م).

(3)

أخرجه مسلم (2240).

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

أخرجه مسلم (972).

ص: 173

إليها وهو السفر، فجعلته متناقضا. وكذلك قلت بعدها:«لأنه نقل الجواز عن الأئمة المرجوع إليهم في علوم الدين والفتوى المشتهرين بالزهادة والتقوى، الذين لا يعتدّ بخلاف من سواهم، ولا يرجع في ذلك لمن عداهم، ونقل عدم الجواز- إن صح نقله- عمن لا يعتمد عليه ولا يعتد بخلافه ولا يعرج عليه» .

فإذا كان قد نقل الجواز عن هؤلاء؛ وهو جواز السفر للزيارة، فكيف يحكى عنه أنه جعل كل زيارة القبور معصية محرمة مجمعا عليها؟ هذا هو التناقض. ثم نسبته إلى التناقض وأنت المتناقض، فقلت:«ثم قال في آخر كلامه: إن ما ادّعاه مجمع على أنه حرام. وهذه مناقضة لما تقدم منه في الكلام، فليت شعري حين قال هذا أكان به جنة أم أدركته من الله محنة» ؟

فيقال لك: المستحق للطعن في عقله ودينه من جعل المستقيم أعوج، وزاغ عن سواء المنهج، وتناقض فيما يقول، وجعل غيره هو المتناقض، كما قيل في المثل السائر:«رمتني بدائها وانسلّت» . ولكن أهل البدع المخالفين لما جاءت به الرسل يضاهئون أعداء الرسل الذين نسبوهم إلى الجنون، قال تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52]، وقال تعالى عن قوم نوح: وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر: 54]، وقال فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27]، وقال تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الذاريات: 6].

فيقال: لفظ الجواب: أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين.

وقوله: من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء؛ احترازا عن السفر المشروع، كالسفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، إذا سافر السفر المشروع فسافر إلى مسجده وصلّى فيه، وصلّى عليه، وسلّم عليه، ودعا وأثنى كما يحبه الله ورسوله؛ فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين، وليس فيه نزاع، فإن هذا لم يسافر لمجرد زيارة القبور بل للصلاة في المسجد، فإن المسلمين متفقون على أن السفر الذي يسمى زيارة لا بد فيه من أن يقصد المسجد ويصلّي فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه» . ولقوله: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» . والسؤال والجواب لم يكن المقصود فيه خصوص السفر إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا السفر على هذا الوجه مشروع مستحب باتفاق المسلمين، ولم يقل أحد من المسلمين إن السفر إلى زيارة قبره، محرم مطلقا، بل من سافر إلى مسجده وصلّى فيه، وفعل ما يؤمر به من حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كان هذا مستحبا مشروعا باتفاق المسلمين، لم يكن هذا مكروها عند أحد منهم. لكن السلف لم يكونوا يسمون هذا زيارة لقبره، وقد كره من كره من أئمة العلماء أن يقال: زرت

ص: 174

قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وآخرون يسمّون هذا زيارة لقبره صلى الله عليه وسلم، لكنهم يعلمون ويقولون إنه إنما يصل إلى مسجده. وعلى اصطلاح هؤلاء؛ من سافر إلى مسجده وصلى فيه وزار قبره صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية، لم يكن هذا محرما عند أحد من المسلمين، بخلاف السفر إلى زيارة قبر غيره من الأنبياء والصالحين، فإنه ليس عنده مسجد يسافر إليه.

فالسؤال والجواب كان من جنس السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، كما يفعل أهل البدع، ويجعلون ذلك حجّا أو أفضل من الحج أو قريبا من الحج، حتى يروي بعضهم حديثا ذكره بعض المصنّفين في زماننا في فضل من زار الخليل قال فيه:

وقال وهب بن منبه: إذا كان آخر الزمان حيل بين الناس وبين الحج، فمن لم يحج ولحق ذلك ولحق بقبر إبراهيم، فإن زيارته تعدل حجة. وهذا كذب على وهب بن منبه. كما أن قوله:«من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» «1» . كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا الحديث إنما افتراه الكاذبون لما فتح بيت المقدس، واستنقذ من أيدي النصارى على يد صلاح الدين سنة بضع وثمانين وخمسمائة، فإن النصارى نقبوا قبر الخليل وصار الناس يتمكّنون من الدخول إلى الحظيرة.

وأما على عهد الصحابة والتابعين- وهب بن منبه وغيره- فلم يكن هذا ممكنا ولا عرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنه سافر إلى قبر الخليل عليه السلام، بل ولا قبر غيره من الأنبياء، ولا من أهل البيت، ولا من المشايخ ولا غيرهم، ووهب بن منبه «2» كان باليمن لم يكن بالشام، ولكن كان من المحدثين عن بني إسرائيل والأنبياء المتقدمين مثل كعب الأحبار ومحمد بن إسحاق ونحوهما.

وقد ذكر العلماء ما ذكره وهب في قصة الخليل وليس فيه شيء من هذا. ولكن أهل الضلال افتروا آثارا مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة والتابعين توافق بدعهم، وقد رووا عن أهل البيت وغيرهم من الأكاذيب ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وغرض أولئك الحج إلى قبر علي أو الحسين رضي الله عنهما، أو إلى قبور

(1) تقدم في أول الكتاب.

(2)

هو: وهب بن منبه بن كامل بن سيج بن ذي كبار، أبو عبد الله اليماني الصنعاني.

مولده سنة أربع وثلاثين. أخذ عن ابن عباس وأبي سعيد وابن عمر وجابر بن عبد الله، وغيرهم.

من أقواله: «إذا سمعت من يمدحك بما ليس فيك، فلا تأمنه أن يذمك بما ليس فيك» .

وفاته سنة أربع عشرة ومائة (114).

ترجمته في: «طبقات ابن سعد» (5/ 543) و «سير أعلام النبلاء» (4/ 544) و «تذكرة الحفاظ» (1/ 95) و «العبر» (1/ 143) و «البداية والنهاية» (9/ 276).

ص: 175

الأئمة كموسى «1» والجواد «2» وموسى بن جعفر «3» وغيرهم من الأئمة الأحد عشر، فإن الثاني عشر دخل السرداب وهو عندهم حي إلى الآن ينتظر «4» ، ليس له غرض في الحج إلى قبر الخليل.

(1)«لعله: كالرضا» (م).

قلت: وهو الصواب.

والرضا؛ هو: الإمام السيد أبو الحسن؛ علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

مولده بالمدينة سنة (148) ثمان وأربعين ومائة.

كان إماما عالما من أهل التقى والسؤدد.

قال الذهبي: «وقد كان علي الرضى كبير الشأن، أهلا للخلافة، ولكن كذبت عليه وفيه الرافضة، وأطروه بما لا يجوز، وادّعوا فيه العصمة، وغلت فيه، وقد جعل الله لكل شيء قدرا» .

وقد مات رضي الله عنه مسموما سنة ثلاث ومائتين (203) وقد خلّف من الولد: محمدا والحسن وجعفرا وإبراهيم والحسين وعائشة.

ترجمته في: «تاريخ الطبري» (8/ 554 - 568) و «سير أعلام النبلاء» (9/ 387) و «العبر» (1/ 340) و «شذرات الذهب» (2/ 602) و «البداية والنهاية» (10/ 250).

(2)

هو: محمد بن علي الرضى بن موسى الكاظم الهاشمي القرشي، أبو جعفر الجواد. تاسع الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية.

كان رفيع القدر ذكيا، طلق اللسان.

ولد بالمدينة سنة خمس وتسعين ومائة (195) ووفاته سنة (220).

قلت: فمن الملاحظ أن مولده كان قبل وفاة أبيه بثمان سنين، أي: أنه كان إماما بعد أبيه- وهو ابن ثمان سنين! عند من يقول ويعتقد بالإمامة!! فالسؤال: هل يصح إمامة من في هذا السن، وكيف سيرشد الأمة ويدبّر أمورها؟!

لعل أهل العقول والألباب يعطونا جوابا.

وانظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» (3/ 54) و «شذرات الذهب» (2/ 48) و «النجوم الزاهرة» (2/ 231) و «الذريعة» (1/ 315).

(3)

هو: موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر؛ أبو الحسن، المعروف بالكاظم.

سابع الأئمة عند الإمامية. ولد سنة ثمان وعشرين ومائة (128) بالأبواء قرب المدينة.

توفي في حبسه ببغداد سنة (183).

ترجمته في: «وفيات الأعيان» (3/ 155) و «البداية والنهاية» (10/ 183) و «تاريخ بغداد» (13/ 27) و «العبر» للذهبي (1/ 287) و «تاريخ ابن خلدون» (4/ 115) و «الأعلام» (7/ 321) وغيرها.

(4)

قال المعلمي- رحمه الله: «وهو عندنا لم يولد قط، ومات أبوه- رحمه الله عقيما» .

قلت: ذكر الكليني في «أصول الكافي» - كتاب الحجة- (1/ 505) حديثا طويلا، وفيه أنه لما توفي الحسن العسكري، لم ير له أثر ولد، وأنه صلّى عليه أبو عيسى بن المتوكل، وأنه قسّم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر ..

وهذا ما ذكره النوبختي أيضا في «فرق الشيعة» ص 96 - ط. دار الأضواء- والمفيد في «الإرشاد» ص 339 - ط. إيران- الحجرية- والأردبيلي في «كشف الغمة» ج 3 ص 408 والطبرسي في «أعلام الورى» ص 377 - ط. دار الكتب الإسلامية بإيران- والحر العاملي في «الفصول المهملة» ص 289 -

ص: 176

وهؤلاء من جنس المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا. فلكل قوم هدي يخالف هدي الآخرين، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] إلى قوله: فَرِحُونَ [الروم: 32]. وهؤلاء تارة يجعلون الحج إلى قبورهم أفضل من الحج، وتارة نظير الحج، وتارة بدلا عن الحج. فالجواب كان عن مثل هؤلاء، ولكن ذكر قبر نبينا صلى الله عليه وسلم لشمول الأدلة الشرعية: فإنه إذا احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» كان مقتضى هذا أنه لا يسافر إلا إلى المسجد، لا إلى مجرد القبر، كما قال مالك رضي الله عنه للسائل الذي سأله عمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصلّ فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء:«لا تعمل المطيّ إلا إلى ثلاثة مساجد» .

وهذا كما لو نهى الناس أن يحلفوا بالمخلوقات، وذكر لهم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «1» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا إلا بالله» «2» ونحو ذلك.

- ط. قم بإيران- وابن حزم في «الفصل في الملل والنحل» (4/ 181) وغيرهم.

فأين ادّعاء أنه ولد، وأنه غاب، وأنه في السرداب؟! .. إلخ.

ثم الذين ادّعوا أنه ولد تناقضوا تناقضا شديدا في عدة أمور، وكلامهم مردود من عدة وجوه:

1 -

أنهم يقولون: إن الإمام لا بدّ أن يغسّله إمام وأن يصلي عليه إمام، وهذا لم يحصل كما تقدم.

2 -

أنهم اختلفوا في سنة مولده، فاضطربت الأقوال في ذلك، وهذا دليل الكذب والادّعاء؛ فقال بعضهم أنه ولد بعد وفاة أبيه بثمانية أشهر! (فرق الشيعة ص 126). وقال الأربلي: ولد في الثالث والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين (258)، (كشف الغمة ج 3 ص 227).

وقال القمي: ولد سنة ست وخمسين ومائتين (256).

وقال المفيد في «الإرشاد» ص 246 والطبرسي في «أعلام الورى» ص 419: «ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين (255).

3 -

اختلفوا في اسم الجارية التي قالوا إنها ولدته.

فقال المفيد: اسمها: نرجس. (الإرشاد، ص 346).

وقال في «كشف الغمة» (3/ 227): «اسمها صقيل أو صيقل» .

وقيل: حكيمة.

وأهل السنة أهل الحديث؛ يقولون: إن المهدي سيخرج في آخر الزمان كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، واسمه يوافق اسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه يوافق اسم أبيه، يعني أن اسمه: محمد بن عبد الله، وهو من ولد فاطمة عليها السلام، كما صحّت بذلك الأخبار.

انظر «المهدي حقيقة لا خرافة» للشيخ محمد بن إسماعيل المقدم. نشر دار الإيمان بالإسكندرية.

و «المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة» للدكتور عبد العليم عبد العظيم البستوي.

نشر المكتبة المكية ودار ابن حزم. و «عقيدة أهل الأثر في المهدي المنتظر» للعلامة عبد المحسن العباد- حفظه الله ورعاه.

(1)

أخرجه البخاري (6646) ومسلم (1646).

(2)

جزء من حديث أخرجه أبو داود (3248) والنسائي (7/ 5) وابن حبان (10/ 199/ 4357) من حديث أبي هريرة، ولفظه:«لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» . وهو حديث صحيح.

ص: 177

وقيل: إنه لا يجوز الحلف بالملائكة ولا الكعبة ولا الأنبياء ولا غيرهم. فإذا قيل: ولا بالنبي صلى الله عليه وسلم لزم طرد الدليل. فقيل: ولا يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم كما قاله جمهور العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين. ومن الناس من يستثني نبينا كما استثناه طائفة من الخلف، فجوزوا الحالف به، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه؛ كالقاضي أبي يعلى وأتباعه، وخصّوه بذلك. وبعضهم طرد ذلك في الأنبياء، وهو قول ابن عقيل في كتابه المفردات، لكن قول الجمهور أصح «1» . لأن النهي هو الحلف بالمخلوقات كائنا من كان، كما وقع النهي عن عبادة المخلوق، وعن تقواه وخشيته والتوكّل عليه، وجعله ندا لله، وهذا متناول لكل مخلوق؛ نبينا وسائر الأنبياء، والملائكة وغيرهم.

فكذلك الحلف بهم، والنذر لهم أعظم من الحلف بهم، والحج إلى قبورهم أعظم من الحلف بهم والنذر لهم. وكذلك السفر إلى زيارة القبور وقصر الصلاة فيه.

ولأصحاب أحمد فيه أربعة أقوال؛ قيل: يقصر الصلاة مطلقا في كل سفر لزيارة القبور. وقيل: لا يقصر مطلقا في شيء من ذلك. وقيل: يقصر في السفر لزيارة قبر نبينا خاصة. وقيل: بل لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبور سائر الأنبياء.

فالذين استثنوا نبينا قد يعلّلون ذلك بأن السفر هو إلى مسجده، وذلك مشروع مستحب بالاتفاق، فتقصر فيه الصلاة، بخلاف السفر إلى قبر غيره فإنه سفر لمجرّد القبر. وقد يستثنونه من العموم كما استثناه من استثناه منهم في الحلف، ثم ظن بعضهم أن العلة هي النبوة فطرد ذلك في الأنبياء. والصواب أن السفر إلى قبره إنما يستثنى لأنه سفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم. ثم إن الناس أقسام؛ منهم من يقصد السفر الشرعي إلى مسجده، ثم إذا صار في مسجده فعل في مسجده المجاور لبيته الذي فيه قبره ما هو مشروع، فهذا سفر مجمع على استحبابه وقصر الصلاة فيه. ومنهم من لا يقصد إلا مجرد القبر، ولا يقصد الصلاة في المسجد أو لا يصلي فيه، فهذا لا ريب أنه ليس بمشروع. ومنهم من يقصد هذا وهذا، فهذا لم يذكر في الجواب، إنما ذكر في الجواب من لم يسافر إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين.

ومن الناس من لا يقصد إلا القبر؛ لكن إذا أتى المسجد صلّى فيه، فهذا أيضا يثاب على ما فعله من المشروع كالصلاة في المسجد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه، ونحو ذلك من الدعاء والثناء عليه، ومحبته وموالاته، والشهادة له بالرسالة

ص: 178

والبلاغ، وسؤال الله الوسيلة له، ونحو ذلك مما هو من حقوقه المشروعة في مسجده- بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

ومن الناس من لا يتصور ما هو الممكن المشروع من الزيارة حتى يرى المسجد والحجرة بل يسمع لفظ زيارة قبره، فيظن ذلك؛ كما هو المعروف المعهود من زيارة القبور أنه يصل إلى القبر ويجلس عنده، ويفعل ما يفعله من زيارة شرعية أو بدعية، فإذا رأى المسجد والحجرة تبيّن له أنه لا سبيل لأحد أن يزور قبره كالزيارة المعهودة عند قبر غيره، وإنما يمكن الوصول إلى مسجده والصلاة فيه وفعل ما يشرع للزائر في المسجد لا في الحجرة عند القبر، بخلاف قبر غيره. فإذا عرف معنى أول الجواب؛ فالمجيب لمّا ذكر القولين وحجّة كل منهما وذكر أنه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تشد الرحال» على نفي الاستحباب، وأن أصحاب القول الآخر يجيبون عنه بوجهين:

أحدهما: أن هذا تسليم لكون هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات، فإذا من اعتقد أن السفر لقبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده أن ذلك طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك. وأما إذا قدر أن الرجل يسافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من ذاك.

الوجه الثاني: أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، فهذا الإجماع المحكي هنا هو فيمن اعتقد أن ذلك طاعة وقربة وسافر لاعتقاده أن ذلك طاعة، فإن الذين قالوا بالجواز، قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلخ» يقتضي أن السفر إليها ليس بمستحب، وليس هو واجب بالاتفاق، فلا يكون قربة وطاعة، فإن القربة والطاعة إما واجب وإما مستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب فليس قربة ولا طاعة بالإجماع. فمن اعتقد أن ذلك قربة وطاعة، أو قال: إنه قربة وطاعة، أو فعله لأنه قربة وطاعة؛ فقد خالف هذا الإجماع. ولكن من علم أن الفعل ليس بطاعة ولا قربة امتنع أن يعتقده قربة وطاعة، فإن ذلك جمع بين اعتقادين متناقضين وامتنع من أن يفعله لذلك. وإنما يعتقده قربة ويفعله على وجه التقرب من لا يعلم أنه ليس بقربة، ويكون مخطئا في هذا الاعتقاد؛ وإن كان خطؤه مغفورا له، وهذا لا يعاقب على هذا الفعل، لأنه لم يعلم تحريمه كسائر المتقربين بما نهي عنه قبل العلم بالنهي، كمن كان يصلّي إلى بيت المقدس قبل العلم بالنهي، وكمن صلّى في أوقات النهي ولم يعلم بالنهي، فإن الله عز وجل يقول: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15].

لكن الأفعال التي ليست واجبة ولا مستحبة لا ثواب فيها؛ فهؤلاء لا يثابون ولا يعاقبون. وهذا الإجماع المذكور فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، لم يدخل فيه السفر لزيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم على الوجه المشروع، فإن هذا السفر مستحب

ص: 179

بإجماع المسلمين. فمن ظن أن هذا يقتضي أنه لا يستحبّ سفر أحد إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا مسجده ولا قبره؛ فقد غلط، فإن هذا لم يقله أحد، والقولان حكيا في جواز القصر لمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فإنهما قولان معروفان في مذهب مالك والشافعي وأحمد، ومالك وجمهور أصحابه يقولون: إن السفر لغير المساجد الثلاثة كقبور الأنبياء وغيرها محرّم حتى قبر نبينا، كما صرح به مالك، ونهى الناذر عن الوفاء به. وابن عبد البر ومن وافقه جعلوا ذلك جائزا لا يجب بالنذر، لكن لو فعله جاز، واستدلوا بإتيان مسجد قباء. وكذلك طائفة من أصحاب أحمد؛ كأبي محمد المقدسي، وطائفة من أصحاب الشافعي كأبي المعالي والغزالي والرافعي، حملوا هذا الحديث على نفي الاستحباب والفضيلة. وكذلك أبو حامد الأسفراييني وأبو علي بن أبي هريرة ومن اتبعهما.

قال أبو المعالي: كان شيخي- يعني أبا محمد الجويني- يفتي بالمنع من شدّ الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة. وربما كان يقول: يحرم، قال: والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة، وبه قال الشيخ أبو علي. ومقصود الحديث تخصيص القربة بالمساجد الثلاثة. وقال الشيخ أبو حامد في توجيه أحد قولي الشافعي: إنه لا يجب بالنذر؛ قال: يحتمل أن يريد به لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد واجبا، ويحتمل أن يريد به لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مواضع مستحبا، فيحمل الحديث على نفي الوجوب مع النذر، أو نفي الاستحباب.

وأما قدماء أصحاب أحمد فقولهم كقول مالك، وعليه يدل كلام أحمد. وكذلك أبو محمد الجويني وغيره من أصحاب الشافعي، وأبو محمد الجويني من أصحاب الوجوه. والوجهان في مذهب الشافعي ذكرهما أبو المعالي والرافعي وغيرهما، كما ذكر القولين أبو زكريا النووي في شرح مسلم فقال:«واختلف العلماء في شدّ الرحال وإعمال المطيّ إلى غير المساجد الثلاثة؛ كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك، فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: هو حرام، وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره. قال: والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين، والمحققون؛ أنه لا يحرّم ولا يكره» «1» .

قلت: والقاضي عياض مع مالك وجمهور أصحابه يقولون: إن السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم كقبور الأنبياء. فقول القاضي عياض: إن زيارة قبره سنة مجمع عليها، وفضيلة مرغّب فيها؛ أراد به الزيارة الشرعية، كما ذكره مالك وأصحابه من أنه يسافر إلى مسجده ثم يصلّي عليه ويسلّم عليه، كما ذكروه في كتبهم. وقد قال القاضي

(1) انظر «شرح صحيح مسلم» (9/ 106).

ص: 180

عياض في هذا الفصل- فصل الزيارة- قال بعضهم: رأيت أنس بن مالك أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة، فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف. قال: وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف بوجهه إلى القبر، لا إلى القبلة، ويدنو ويسلّم ولا يمس القبر بيده. وقال في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلّم ويمضي.

فهذا مالك لم يستحبّ إلا السلام خاصة، كما كان ابن عمر يفعل. قال نافع:

رأيت ابن عمر يسلّم على القبر، رأيته مائة مرة وأكثر يجيء إلى القبر فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف. قال مالك في رواية ابن وهب يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. قال القاضي عياض: وعن ابن قسط والقعنبي: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا المسجد مسّوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون.

فهذا المنقول عن الصحابة أنهم كانوا يدعون في الروضة من ناحية المنبر، لا من ناحية الحجرة، ويمسكون بميامنهم رمانة المنبر، وقد ذكرنا في مواضع اختلاف العلماء عند السلام عليه هل يستقبل الحجرة ويستدبر القبلة كما قال مالك، أو يستقبل القبلة كما قال أبو حنيفة؟ وفي مذهب أحمد نزاع. والمشهور عند أصحابه كما قال مالك، وفي منسك المروزي الذي نقله عن أحمد أنه قال في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم:

ولا تستقبل الحائط، خذ مما يلي صحن المسجد فسلم على أبي بكر وعمر. وقال:

فإذا أردت الخروج فائت المسجد وصلّ ركعتين، وودّع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل سلامك الأول، وسلّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وحوّل وجهك إلى القبلة، وسل الله حاجتك متوسلا إليه بنبيه صلى الله عليه وسلم تقض من الله عز وجل. فقد نهاه عن استقبال حائط القبر، وأمره إذا سلّم على الشيخين أن يأخذ مما يلي صحن المسجد، وهذا يقتضي أن يسلّم عليهم مستقبل الحجرة، بحيث يكون مستقبلا للمغرب مستدبرا للمشرق، والقبلة عن يمينه، ويسلّم عليه عند رأسه. فإذا أراد السلام على الشيخين أخذ مما يلي صحن المسجد لا يستقبل حائط المسجد من جهة القبلة، بل ينصرف عن يساره إلى رأسيهما فيسلم عليهما هناك. وهذا السلام واستقبال القبلة هو الذي يفهم من سلام ابن عمر، فإنه كان يسلّم قبل أن تدخل الحجرة في المسجد، ولم يكن حينئذ يمكن أحد أن يستقبل الحجرة ويستدبر القبلة، فإن قبلي الحجرة لم يكن من المسجد، ولا كان منفصلا طريقا، بل كان متصلا بحجرة حفصة وغيرها. فعلم أن ابن عمر وغيره من الصحابة لم يكن يمكنهم السلام من جهة القبلة جهة الوجه، بل كانوا يكونون إما مستقبلا أحدهم للقبلة والحجرة النبوية عن يساره، كما قال أبو حنيفة، أو يستقبل الحجرة ويستدبر المغرب كما قال أحمد. وهذا يوافق سلام ابن عمر وغيره من

ص: 181

الصحابة، فإنهم لم يكونوا يسلّمون عند وجهه. وما ذكره القاضي عياض عن أنس بن مالك لا يدل على هذا القول، بل يدل على قول أبي حنيفة؛ فإنه ذكر عن بعضهم قال: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف.

فقول الراوي: إنه رفع يديه حق ظننت أنه افتتح الصلاة؛ دليل على أنه كان مستقبل القبلة، فإن المصلي لا بد أن يستقبلها، ولو كان يستقبل الحائط من ناحية القبلة أو من الغرب لم يظن أنه يصلي، فإن أحدا لا يصلي إلى الشمال، ولا إلى الشرق، لكن روى القاضي إسماعيل بن إسحاق في المصنف الذي له في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» قال: حدّثني إسحاق بن محمد الفروي حدّثنا عبيد الله بن عمر حدّثنا نافع: أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر صلّى السجدتين في المسجد، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فيضع يده اليمنى على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويستدبر القبلة، ثم يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسلم على أبي بكر وعمر «1» . فهذه الرواية فيها نظر، فإن فيها خلاف ما قد جاء عن مالك وأحمد من فعل ابن عمر أنه كان يدنو إلى القبر ولا يمسه.

وحديث ابن عمر هذا رواه مالك عن نافع وعن عبد الله بن دينار، ورواه عن نافع أيوب السختياني وغيره، وعن أيوب حماد بن زيد ومعمر.

وقد ذكر ذلك مالك وغيره أنه لا يمس القبر، وكذلك كان سائر علماء المدينة.

وكذلك قال أحمد أن ابن عمر فعل ذلك. قال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل:

قبر النبي صلى الله عليه وسلم يمسّ ويتمسّح به؟ فقال: ما أعرف هذا. قلت له: فالمنبر؟ قال: أما المنبر فنعم قد جاء فيه- قال أبو عبد الله- شيء يروونه عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن عمر أنه كان يمسح على المنبر، وقال: ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة. قلت: ويروونه عن يحيى بن سعيد أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسنه، ثم قال: لعله عند الضرورة والشيء. قيل لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقلت له: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يرونه، ويقومون ناحية فيسلمون عليه. فقال أبو عبد الله:

نعم؛ وهكذا كان ابن عمر يفعل، ثم قال أبو عبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.

(1) أخرجه القاضي إسماعيل برقم (101). وقال الشيخ الألباني هناك: «إسناده موقوف ضعيف، وقوله:

«ويضع يمينه على قبر النبي صلى الله عليه وسلم» منكر؛ تفرّد به عبد الله بن عمر هذا، عن نافع؛ وهو العمري المكبر، وهو ضعيف. والراوي عنه إسحاق بن محمد؛ هو: الفروي، وهو وإن كان روى له البخاري؛ ففيه ضعف، قال أبو حاتم: «كان صدوقا، ولكن ذهب بصره فربما تلقن، وكتبه صحيحة. وقال مرة:

يضطرب» ووهّاه أبو داود جدا. فهذه الزيادة المنكرة منه أو من شيخه» اه.

ص: 182

وقد يقال: هذه الرواية لا تخالف ما عليه الأئمة من أنه لا يتمسح بالقبر، فإن ابن عمر لم يكن يتمسح بالقبر، بل كان يريد أن يسلم من جهة الوجه فلا يمكنه أن يستقبل الوجه، فكان يحاذي ما يكون مستقبل الوجه ليكون أقرب إلى الاستقبال، ويضع يده على الحائط ليعتمد عليها ويكون أبلغ في القرب إلى القبر، لكن هذه الرواية تخالف ما قيل إنه كان يقف ناحية. إلا أن يقال: كان يتقدم إلى القبر فيكون ناحية بهذا الاعتبار. وبسط هذا له موضع آخر.

والصواب أن هذه الزيادة انفرد بها إسحاق بن محمد الفروي، عن عبيد الله بن عمر، غلط فيها وخالف فيها من هو أوثق منه عن ابن عمر، فإن أيوبا رواه عن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر خلاف ما رواه إسحاق، مع أن رواية أيوب عن نافع رواها حماد بن زيد ومعمر وغيرهما. ورواية مالك عن نافع مشهورة، وكذلك روايته عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر ليس في شيء منها ما ذكره إسحاق بن محمد الفروي. ولا يقال إنه ثقة انفرد بزيادة، لوجهين:

أحدهما: أنه خالف من هو أوثق منه، كما رواه يحيى بن معين قال: حدّثنا أبو أسامة، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يكره مسّ قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وممن ذكر هذا الشيخ الصالح الزاهد شيخ العراق في زمنه عند العامة والخاصة أبو الحسن علي بن عمر القزويني في «أماليه» قال: قرأت على عبيد الله الزهري حدثك أبوك قال: حدّثنا عبد الله بن جعفر، عن أبي داود الطيالسي، عن يحيى بن معين، فذكره.

وهذا أبو أسامة يروي عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يكره مسّ قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا موافق لما ذكره الأئمة أحمد وغيره عن ابن عمر، كما دلّت عليه سائر الروايات. فلو لم يكن إلا معارضة هذه لرواية إسحاق الفروي وكلاهما عن عبيد الله، لوجب التوقف فيها، كيف وأبو أسامة أوثق من الفروي؟ وقد روى ما وافقته العلماء عليه ولم يزد شيئا انفرد به كما في رواية الفروي.

الثاني: أن الفروي وإن كان في نفسه صدوقا وكتبه صحيحة، فإنه أضرّ في آخر عمره فكان ربما حدّث من حفظه فيغلط، وربما لقّن فيلقّن. ولهذا كانوا ينكرون عليه روايته للحديث على خلاف ما يرويه الناس، مثل ما روى حديث الإفك على خلاف ما رواه الناس، وكذلك حديث ابن عمر هذا رواه على خلاف ما رواه الناس. وقد روى عنه البخاري في صحيحه. وقال أبو حاتم الرازي:«كان صدوقا وذهب بصره وربما لقن وكتبه صحيحة» وقال مرة: «مضطرب» «1» وقال أبو عبيد الآجرّي: سألت أبا داود عنه فوهّاه جدا. وقال النسائي: ليس بثقة. وذكره

(1)«الجرح والتعديل» (2/ 233/ 819).

ص: 183

أبو حاتم بن حبان في كتاب «الثقات» «1» . وقال الدارقطني: لا يترك ومما أنكر عليه حديث الإفك، فإنه رواه غير ما رواه الناس.

فهذا كلام الأئمة يبيّن ما ذكرناه فيه من التفصيل. وبذلك يعرف ضعف ما ذكره من حديث ابن عمر، يبيّن ذلك اتفاق العلماء على كراهة مس قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون ابن عمر قد مسّه ولا يعرفون ذلك كما عرفوا مسه لمنبره؟ وقد ثبت عن ابن عمر أنه كره مسه. وروى أبو الحسن علي بن عمر القزويني أيضا في «أماليه» قال: قرأت على عبيد الله الزهري قلت له: حدّثك أبوك قال: حدّثني عبد الله بن أحمد قال:

حدّثني أبي قال: سمعت أبا زيد حماد بن دليل قال لسفيان- يعني ابن عيينة- قال:

أكان أحد يتمسح بالقبر؟ قال: لا؛ ولا يلتزم القبر ولكن يدنو. قال أبي: يعني إلا عظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحماد بن دليل هذا الذي سمعه أحمد يسأل ابن عيينة هو معروف من أهل العلم، روى عنه أبو داود وكان قاضي المدائن.

وروى أيضا أبو الحسن القزويني عن الزهري عن نوح بن يزيد قال: أخبرنا أبو إسحاق، يعني إبراهيم بن سعد، قال: ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكره إتيانه. ونوح بن يزيد بن سيار المؤدب هذا الراوي عن إبراهيم بن سعد هو ثقة معروف بصحبة إبراهيم وله اختصاص به، روى عنه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما. قال أبو بكر الأثرم: ذكر لي أبو عبد الله نوح بن يزيد المؤدب فقال: هذا شيخ كبير، أخرج إليّ كتاب إبراهيم بن سعد فرأيت فيه ألفاظا. وقال محمد بن المثنى: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: اكتب عنه فإنه ثقة حجّ مع إبراهيم بن سعد وكان يؤدب ولده. وذكره ابن حبان في «الثقات» «2» .

وأما إبراهيم بن سعد فهو من أكابر علماء المدينة وأكثرهم علما وأوثقهم، وكان قد خرج إلى بغداد. روى عنه الناس؛ أحمد بن حنبل وطبقته، ومن سعة علمه روى عنه الليث بن سعد، وهو أقدم وأجل منه.

وأما أبوه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الذي ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه قال: ما رأيت أبي قط أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكره إتيانه. وهو من أفضل أهل المدينة في زمن التابعين ومن أصلحهم وأعبدهم، وكان قاضي المدينة في زمن التابعين في زمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأمثاله، وهو أدرك بناء الوليد بن عبد الملك المسجد وإدخال الحجرة فيه، وأدرك ما كان عليه السلف قبل

(1). (8/ 114).

(2)

. (9/ 211).

ص: 184

ذلك من الصحابة والتابعين. قال أبو حاتم الرازي «1» : وهو من جلة أهل المدينة وقدماء شيوخهم، كان على القضاء. وقد ذكروا أنه رأى عبد الله بن عمر، وروى عن عبد الله بن جعفر، وفي سماعه منه نظر، ومات قديما بعد القاسم بن محمد بقليل، فإن القاسم توفي سنة إحدى وعشرين ومائة وهذا توفي سنة ست وعشرين ومائة، وقد خرج من المدينة غير مرة تارة إلى الحج، وتارة كان قد استعمل على الصدقات، ومرة خرج إلى العراق وإلى واسط، فروى عنه سفيان الثوري وشعبة والعراقيون، وهو الذي روى حديث:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» «2» عن القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أدرك بالمدينة جابر بن عبد الله وسهل بن سعد الساعدي وغيرهما من الصحابة، ورأى أكابر التابعين مثل سعيد بن المسيب وسائر الفقهاء السبعة، ومعلوم أنه لم يكن ليخالفهم فيما اتفقوا عليه، بل قد يخالف ابن عمر فإنه ما نقله عنه ابنه يقتضي أنه كان لا يأتيه لا عند السفر ولا غيره، بل يكره إتيانه مطلقا، كما كان جمهور الصحابة على ذلك لما فهموا من نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأنه أمر بالصلاة والسلام عليه في كل زمان ومكان، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا تتخذوا قبري عيدا» . وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» . كما قد بيّن هذا في مواضع. مع أن سعد بن إبراهيم هذا في دينه وعبادته وصيامه وتلاوته للقرآن بحيث كان يختم باليوم والليلة كثيرا. وأبو الحسن علي بن عمر القزويني وغيره من أهل العلم والدين ذكروا هذه الآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ليبينوا للناس كيف كان السلف يفعلون في مثل ذلك، وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود أن ما حكى القاضي عياض الإجماع فيه لم ينه عنه في الجواب، بل السفر إلى مسجده وزيارته التي يسميها بعضهم زيارة وبعضهم يكره أن تسمى زيارة على الوجه المشروع سنة مجمع عليها، كما ذكره القاضي عياض، ولا يدخل في ذلك السفر إلى غير المساجد الثلاثة؛ كالسفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، ولا من سافر لمجرد قبره فلم يزر زيارة شرعية بل بدعية، فهذا لا يقول أحد أنه مجمع على أنه سنة، ولكن هذا الموضع مما يشكل على كثير من الناس. فينبغي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية، ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون، وما قاله أئمة المسلمين، ليعرف المجمع عليه من المتنازع فيه، فإن في الزيارة مسائل متعددة تنازعوا فيها، لكن لم يتنازعوا في استحباب السفر إلى مسجده واستحباب الصلاة والسلام عليه، ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده. ولم يتنازع الأئمة الأربعة والجمهور في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب، لا لقبور الأنبياء والصالحين ولا لغير ذلك.

(1)«الجرح والتعديل» (4/ 79).

(2)

أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718).

ص: 185

فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشدّ الرحال» حديث متفق على صحته وعلى العمل به عند الأئمة المشهورين، وعلى أن السفر إلى زيارة القبور داخل فيه، فإما أن يكون نهيا وإما أن يكون نفيا للاستحباب. وقد جاء في الصحيح بصيغة النهي صريحا، فتعين أنه نهي، فهذان طريقان لا أعلم فيهما نزاعا بين الأئمة الأربعة. والجمهور والأئمة الأربعة، وسائر العلماء؛ لا يوجبون الوفاء بالنذر على من نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم أو غير قبورهم، وما علمت أحدا أوجبه إلا ابن حزم فإنه أوجب الوفاء على من نذر مشيا أو ركوبا أو نهوضا إلى مكة أو إلى المدينة أو بيت المقدس قال: وكذلك إلى أثر من آثار الأنبياء. قال: فإن نذر مشيا أو نهوضا أو ركوبا إلى مسجد من المساجد غير الثلاثة لم يلزمه.

وهذا عكس قول الليث بن سعد فإنه قال: من نذر المشي إلى مسجد من المساجد مشى إلى ذلك المسجد. وابن حزم فهم من قوله: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» أي لا تشد إلى مسجد. وهو لا يقول بفحوى الخطاب وشبهه، فلا يجعل هذا نهيا عما هو دون المساجد في الفضيلة بطريق الأولى، بل يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه» «1» أنه لو بال ثم صب البول فيه لم يكن منهيا عن الاغتسال فيه «2» .

وداود الظاهري عنه في فحوى الخطاب روايتان وهذه إحداهما.

وابن حزم ومن قال بإحدى روايتي داود يقولون إن قوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ [الإسراء: 23] لا يدل على تحريم الشتم والضرب. وهذا قول ضعيف جدا في غاية الفساد عند عامة العلماء، فإنهم يقولون: إذا كان البائل الذي يحتاج إلى البول قد نهي أن يبول فيه ثم يغتسل فيه فالذي بال في إناء ثم صبّه فيه أولى بالنهي. كما أنه لما نهي عن الاستجمار بطعام الجن وطعام دوابهم العظام والروث كان ذلك تنبيها على النهي عن الاستجمار بطعام الإنس بطريق الأولى، وكل ما نهي عن الاستجمار به فتلطيخه بالعذرة أولى بالنهي، فإنه لا حاجة إلى ذلك.

فلهذا فهم الصحابة من نهيه أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة أن السفر إلى طور سيناء داخل في النهي، وإن لم يكن مسجدا، كما جاء عن بصرة بن أبي بصرة وأبي سعيد وابن عمر وغيرهم.

والصحابة الذين سمعوا هذا الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهم أدخلوا غير المساجد الثلاثة في النهي، ونهوا أن تشدّ الرحال إلى الطور الذي كلّم الله عليه موسى

(1) أخرجه البخاري (239) ومسلم (95) وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

انظر «المحلى» (1/ 166).

ص: 186

مع أن الله لم يعظّم في القرآن جبلا أعظم منه، وسماه الوادي المقدس والبقعة المباركة. فإذا كان مثل هذا الجبل لا تشدّ الرّحال إليه فإنه لا تشدّ الرحال إلى ما يعظم من الغيران «1» ، والجبال؛ مثل جبل لبنان وقاسيون ونحوهما بالشام، وجبل الفتح ونحوه بصعيد مصر؛ بطريق الأولى. بل إذا كان الصحابة لم يكونوا يسافرون إلى الطور ونحوه، بل ولا يزورون إذا قدموا مكة لا جبل حراء الذي نزل فيه الوحي ابتداء، ولا غار ثور المذكور في القرآن الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه والله ثالثهما.

وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40]. والنبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي عليه لم يقرب ذلك الغار ولا غيره مما بمكة إلا المسجد الحرام والمشاعر. وكذلك لما حجّ إنما ذهب إلى المسجد الحرام والمشاعر. وقد ثبت في الصحيح أنها أحب البقاع إلى الله تعالى، فأغنى ذلك عن غيرها، ولهذا لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد باتفاق الأئمة، ولو نذره في غير مسجد لم يوف بنذره فإنه غير جائز.

وقد تقدم عن الصحابة؛ أبي سعيد وابن عمر وبصرة بن أبي بصرة أنهم نهوا عن السفر إلى الطور لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» . ولفظ أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم وغيره: «لا تشدّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» بصيغة النهي الصريحة، ورواه أحمد في «المسند» من حديث أبي هريرة من طريقين.

والأماكن التي ينهى عن الصلاة فيها كأعطان الإبل والحمام هي مأوى الشياطين، وكذلك ما يسافر إليه بعض الناس من المغارات ونحوه من الجبال، قاصدين لتعظيم تلك البقعة بالشام ومصر والجزيرة وخراسان وغيرها، وكل موضع تعظّمه الناس غير المساجد ومشاعر الحج فإنه مأوى الشياطين، ويتصورون بصورة بني آدم أحيانا حتى يظنّ كثير من الناس أنهم من الإنس وأنهم رجال الغيب، ويقولون: الأربعون الأبدال بجبل لبنان أو غيره من الجبال، وهي مأوى الجن وهم رجال الغيب، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: 6] سماهم الله رجالا، وسمّوا جنا لأنهم يجتنون عن الأبصار؛ أي:

يستترون، كما تسمّى الإنس إنسا؛ لأنهم يؤنسون أي: يبصرون، كما قال موسى عليه السلام: إِنِّي آنَسْتُ ناراً [طه: 10] أي: أبصرت نارا.

والحكايات عنهم في هذا الباب كثيرة معروفة، لكن كثير من الناس يعتقد أنهم من الإنس، وأنهم صالحون يغيبون عن أبصار الخلائق، ولا ريب أن بعض الإنس قد يحجبه الله أحيانا عن أبصار بعض الناس إما إكراما له، أو منعا له من ظلمهم إن كان

ص: 187

وليا، وأما احتجاب إنسي طول عمره عن جميع الإنس؛ فهذا لم يقع، بل هذا نعت الجن الذين قال الله فيهم: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: 27].

والمسافرون إلى هذه الجبال إنما يسافرون إلى مأوى الشياطين، وما يرونه من الخوارق هناك هو من إضلال الشياطين لهم، كما تفعله الشياطين عند الأصنام؛ فإنهم يضلّون عابديها بأنواع حتى قد يظن أن الصنم كلّمه، وقد يظهرون للسدنة أحيانا كما كانوا في الجاهلية. وكذلك يوجد عند النصارى من هذا كثير، وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا؛ أن الصحابة كأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر، وبصرة بن أبي بصرة؛ فهموا من الحديث شموله لغير المساجد كالطور، وحديث بصرة معروف في السنن والموطأ، قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تعمل المطيّ إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» . وأما ابن عمر فروى أبو زيد عمر بن شبه النميري في كتاب «أخبار المدينة» . حدّثنا ابن أبي الوزير حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طلق، عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور؟ فقال: «لا؛ إنما تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطّور لا تأته» «1» رواه أحمد بن حنبل في «مسنده» .

وهذا النهي من بصرة وابن عمر، ثم موافقة أبي هريرة؛ يدل على أنهم فهموا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم النهي، فلذلك نهوا عنه، لم يحملوه على مجرد نفي الفضيلة.

وكذلك أبو سعيد الخدري وهو راوية أيضا وحديثه في الصحيحين، فروى أبو زيد حدّثنا هشام بن عبد الملك حدّثنا عبد الحميد بن بهرام حدّثنا شهر بن حوشب، سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمطي أن تشدّ رحالها إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» «2» .

فأبو سعيد جعل الطور مما نهي عن شدّ الرحال إليه، مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدّها إلى المساجد، فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى

(1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/ 38/ 2) كما في «تحذير الساجد» والأزرقي في «تاريخ مكة» (2/ 445).

من طريق: سفيان به.

وإسناده صحيح، كما قال الألباني في «تحذير الساجد» ص 95.

(2)

تقدم تخريجه في أول الكتاب.

ص: 188

بالنهي، والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة، وأن الله سماه الوادي المقدس، والبقعة المباركة، وكلّم الله موسى هناك. وما علمت المسلمين بنوا هناك مسجدا، فإنه ليس هناك قرية للمسلمين وإن كان هناك مسجد. فإذا نهي الصحابة عن السفر إلى تلك البقعة وفيها مسجد، فإذا لم يكن فيها مسجد كان النهي عنها أقوى، وهذا ظاهر لا يخفى على أحد. فالصحابة الذين سمعوا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فهموا منه النهي، وفهموا منه تناوله لغير المساجد، وهم أعلم بما سمعوه، وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا، ذكر ما تنازع فيه الأئمة المشهورون أو غيرهم وما لم يتنازعوا فيه، فإن بين الطرفين اللذين لم تتنازع فيهما الأئمة مسائل متعددة فيها نزاع، ولكن طائفة من المتأخرين يستحبون السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ويفعلون ذلك، ويعظّمونه، لكن هل في هؤلاء أحد من المجتهدين الذين تحكى أقوالهم وتجعل خلافا على من قبلهم من أئمة المسلمين؟ هذا مما يجب النظر فيه. وأيضا فالذين قالوا: السفر إليها جائز ليس بمحرّم ولا مكروه؛ قد يفهم منه أنه مستحب، لأن الذين يفعلون ذلك إنما يفعلونه لأنه قربة، فإذا قيل في ذلك إنه جائز، قد تقولون: نحن قلنا هو جائز مباح، لم نقل إنه مستحب، ولا قلنا إن التقرب به جائز، فمن جعله قربة فقد خالف قولنا الصريح، فقد يفهم منه أن التقرب بذلك جائز، لكن قولهم مع ذلك إنه ليس بمستحب ولا فضيلة فيه لأجل الحديث ينفي ذلك، فلا بدّ لهم من اتباع الحديث، فصار في قولهم تناقض. وهذا مما احتجّ به عليهم أهل القول بالتحريم. فهذا الجواب على ما ادّعاه من التناقض في نقل الخلاف والإجماع.

ص: 189