الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قبره، فلم تكن الصحابة بالمدينة يزورون قبره صلى الله عليه وسلم لا من المسجد خارج الحجرة ولا داخل الحجرة، ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرّد زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء، وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه وبينوا أن السلف لم يفعلوها كما ذكره مالك في المبسوط، وقد ذكره أصحابه كأبي الوليد الباجي والقاضي عياض وغيرهما، قيل لمالك: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك- أي يقفون على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلّون عليه، ويدعون له- ولأبي بكر وعمر- يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة أو المرتين، أو أكثر عند القبر، يسلّمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني هذا عن أول هذه الأمة وصدرها؛ أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. فقد كره مالك رحمه الله هذا وبيّن أنه لم يبلغه هذا عن أهل العلم بالمدينة، ولا عن صدر هذه الأمة وأولها، وهم الصحابة، وإن ذلك يكره لأهل المدينة إلا عند السفر، ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم، بل هم في ذلك ليسوا بدون سائر الأمصار، فإذا لم يكن لأولئك الامتناع عن زيارة القبور، بل يستحبّ عند جمهور العلماء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فأهل المدينة أولى أن لا يكره؛ بل يستحب لهم زيارة القبور، كما يستحبّ لغيرهم، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قبر النبي صلى الله عليه وسلم خصّ بالمنع شرعا وحسّا. كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة، كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس كذلك، فلا تستحبّ هذه الزيارة في حقّه، ولا تمكن، وهذا لعلوّ قدره وشرفه، لا لكون أن غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين، فضلا عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بالمدينة وغيرها.
ومن هنا غلط طائفة من الناس يقولون إذا كانت زيارة قبر آحاد الناس مستحبة فكيف بقبر سيد الأولين والآخرين.
[زيارة القبور ليست من باب الإكرام والتعظيم]
وهؤلاء ظنّوا أن زيارة قبر الميت مطلقا هو من باب الإكرام والتعظيم له، والرسول أحق بالإكرام والتعظيم من كل أحد، وظنوا أن ترك الزيارة له فيه تنقّص لكرامته، فغلطوا وخالفوا السنة وإجماع الأئمة، سلفها وخلفها، فقولهم نظير قول من يقول: إذا كانت زيارة القبور يصل الزائر فيها إلى قبر المزور؛ فإن ذلك أبلغ في الدعاء له. وإن كان مقصوده دعاءه كما يقصده أهل البدع فهو أبلغ في دعائه، فالرسول أولى أن نصل إلى قبره إذا زرناه.
وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول لا يشرع الوصول إلى قبره لا للدعاء، ولا لدعائه ولا لغير ذلك، بل غيره يصلّى على قبره عند أكثر السلف كما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة، والصلاة على القبر كالصلاة على الجنازة؛ تشرع مع القرب والمشاهدة، وهو بالإجماع لا يصلّى على قبره، سواء كان للصلاة حدّ محدود، أو كان يصلّي على القبر مطلقا، ولم يعرف أن أحدا من الصحابة الغائبين لما قدم صلى على قبره صلى الله عليه وسلم.
وزيارة القبور المشروعة هي مشروعة مع الوصول إلى القبر بمشاهدته، وهذه الزيارة غير مشروعة في حقه بالنص والإجماع ولا هي أيضا ممكنة.
فتبين غلط هؤلاء الذين قاسوه على عموم المؤمنين، وهذا من باب القياس الفاسد، ومن قاس قياس الأولى ولم يعلم ما اختص به كل واحد من المقيس والمقيس به؛ كان قياسه من جنس قياس المشركين الذين كانوا يقيسون الميتة على المذكي، ويقولون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟ فأنزل الله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121].
وكذلك لما أخبر الله أن الأصنام التي تعبد هي وعابدوها حصب جهنم، قاس ابن الزّبعري قبل أن يسلم هو وغيره من المشركين عيسى بها، وقالوا: فيجب أن يعذب عيسى. قال تعالى:* وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 57، 58] ثم قال: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف: 59]. وبيّن تعالى الفرق بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] بيّن أن من كان صالحا؛ نبيا أو غير نبي، لم يعذب لأجل من أشرك به وعبده، وهو بريء من إشراكهم به.
وأما الأصنام فهي حجارة تجعل حصبا للنار، وقد قيل: إنها من الحجارة التي قال الله: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: 24] وقال تعالى: وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن: 15] وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا؛ أن يعرف أن ما مضت به سنته وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والدين بالمدينة؛ تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحقّ الله وحق رسوله، فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره، وهو أيضا في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ.
أما كونه أتم في حق الله؛ فلأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا
به شيئا، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم «1» .
ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب، فلا يتقى غيره ولا يخاف غيره، ولا يتوكّل على غيره، ولا يدعى غيره، ولا يصلّى لغيره، ولا يصام لغيره، ولا يتصدّق إلا له، ولا يحجّ إلا إلى بيته. قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النور: 52]. فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ [التوبة: 59] فجعل الإيتاء لله والرسول، كما قال تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] وجعل التوكل والرغبة إلى الله وحده. وقال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح: 7، 8] وقال تعالى:* وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النحل: 51، 52] الآية. وقال تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة: 44] وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا [الإسراء: 56] وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ [الأحقاف: 4] الآية. وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 22] إلى قوله: لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] وهذا باب واسع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» «2» .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، قال:«هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيّرون، وعلى ربهم يتوكّلون» «3» .
(1) أخرجه البخاري (128) - وانظر أطرافه هناك- ومسلم (30).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 393) والترمذي (2516) وأبو يعلى في «مسنده» (4/ 430/ 2556) والطبراني في «الكبير» (12/ رقم: 12988) وفي «الدعاء» (2/ رقم: 42) وابن أبي عاصم في «السنة» (1/ 225/ 325) - معلقا- وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (425) والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 217/ 195).
من طريق: الليث بن سعد، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: .. فذكره.
وإسناده صحيح. والحديث صححه الألباني في «ظلال الجنة في تخريج السنة» رقم (316) وله طرق أخرى في بعضها ضعف، وبعضها صحيح، وبالجملة فالحديث صحيح ثابت.
وللحافظ ابن رجب الحنبلي- رحمه الله شرح ماتع على الحديث وسمه ب «نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس» حققها: محمد بن ناصر العجمي- سلّمه الله- ونشرت بدار البشائر الإسلامية ببيروت.
(3)
أخرجه البخاري (3410، 5705، 5752، 6472، 6541) ومسلم (220) من حديث عبد الله بن عباس.
فهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم؛ والرقية دعاء، فكيف بما هو أبلغ من ذلك؟
ومعلوم أنه لو اتّخذ قبره عيدا ومسجدا ووثنا وصار الناس يدعونه ويتضرعون إليه، ويسألونه ويتوكلون عليه، ويستغيثون ويستجيرون به، وربما سجدوا له وطافوا به، وصاروا يحجون إليه؛ وهذه كلها من حقوق الله وحده لا يشركه فيها مخلوق، فكان من حكمة الله دفنه في حجرته، ومنع الناس من مشاهدة قبره والعكوف عليه، والزيارة له، ونحو ذلك، لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين لله.
وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين فلا يجعل ذلك عندها، وإذا قدّر أن ذلك فعل عندها؛ منع من يفعل ذلك، وهدم ما يتخذ عليها من المساجد. وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته فعل ذلك، كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال «1» .
وأما كون ذلك أعظم لقدره وأعلى لدرجته؛ فلأن المقصود المشروع بزيارة قبور المؤمنين كأهل البقيع وشهداء أحد، هو الدعاء لهم، كما كان هو يفعل ذلك إذا زارهم، وكما سنّه لأمته، فلو سنّ للأمة أن يزوروا قبره للصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له، كما كان بعض أهل المدينة يفعل ذلك أحيانا- وبيّن مالك أنه بدعة لم يبلغه عن صدر هذه الأمة، ولا عن أهل العلم بالمدينة، وأنها مكروهة، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها- لكان بعض الناس يزوره، ثم لتعظيمه في القلوب، وعلم الخلق بأنه أفضل الرسل وأعظمهم جاها، وأنه أوجه الشفعاء إلى ربه؛ يدعو النفس إلى أن تطلب منه حاجاتها وأغراضها وتعرض عن حقه الذي هو له من الصلاة والسلام عليه والدعاء له، فإن الناس مع ربهم كذلك، إلا من أنعم الله عليه بحقيقة الإيمان، إنما يعظّمون الله عند ضرورتهم إليه، كما قال تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] الآية. وقال تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] الآية.
وقال تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ [الزمر: 8] الآية.
ونظائر هذا في القرآن متعددة.
فإذا كانوا إلا من شاء الله؛ إنما يعظمون ربهم ويوحّدونه ويذكرونه عند ضرورتهم لأغراضهم، ولا يعرفون حقّه إذا خلّصهم فلا يحبّونه ويعبدونه، ولا يشكرونه ولا يقومون بطاعته، فكيف يكونون مع المخلوق؟
(1) انظر «البداية والنهاية» (2/ 37 - 38) و «دلائل النبوة» للبيهقي (1/ 381). وقال الحافظ ابن كثير:
فهم يطلبون من الأنبياء والصالحين أغراضهم، وذلك مقدّم عندهم على حقوق الأنبياء والصالحين، فإذا أيقنوا أن في زيارة قبر نبيّ أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وجاهه وشفاعته؛ أعرضوا عن حقه واشتغلوا بأغراضهم، كما هو الموجود في عامة الذين يحجّون إلى القبور المعظّمة ويقصدونها لطلب الحوائج، فلو أذن الرسول لهم في زيارة قبره ومكّنهم من ذلك؛ لأعرضوا عن حقّ الله الذي يستحقّه من عبادته وحده، وعن حقّ الرسول الذي يستحقّه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له، بل ومن جعله واسطة بينهم وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وخبره. فكانوا يهضمون حقّ الله وحقّ الرسول، كما فعلت النصارى، فإنهم بغلوّهم في المسيح تركوا حقّ الله من عبادته وحده، وتركوا حقّ المسيح، فهم لا يدعون له؛ بل هو عندهم ربّ يدعى، ولا يقومون بحق رسالته؛ فينظرون ما أمر به وما أخبر به، بل اشتغلوا بالشّرك به وبغيره، وطلب حوائجهم ممن يستشفعون به من الملائكة والأنبياء، وصالحيهم، عما يجب من حقوقهم.
وأيضا فلو جعلت الصلاة والسلام عليه والدعاء له عند قبره أفضل منها في غير تلك البقعة، كما قد يكون الدعاء للميت عند قبره أفضل؛ لكانوا يخصّون تلك البقعة بزيادة الدعاء له، وإذا غابوا عنها تنقص صلاتهم وسلامهم ودعاؤهم له، فإن الإنسان لا يجتهد في الدعاء في المكان المفضول، كما يجتهد فيه في المكان الفاضل، وهم قد أمروا أن يقوموا بحق الرسول في كل مكان، وأن لا يكون البعيد عن قبره أنقص إيمانا وقياما بحقّه، من المجاور لقبره، وقال لهم صلى الله عليه وسلم:«لا تتخذوا قبري عيدا وصلّوا عليّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني» .
وقد شرع لهم أن يصلّوا عليه ويسألوا له الوسيلة إذا سمعوا المؤذّن حيث كانوا، وأن يسلّموا عليه في كل صلاة، ويصلّوا عليه في الصلاة، ويسلّموا عليه إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا منه، فهذا الذي أمروا به عام في كل مكان، وهو يوجب من القيام بحقّه، ورفع درجته، وإعلاء منزلته، ما لا يحصل لو جعل ذلك عند قبره أفضل، ولا إذا سوّي بين قبره وقبر غيره، بل إنما يحصل كمال حقه مع حق ربه بفعل ما شرعه وسنّه لأمته، من واجب ومستحبّ، وهو أن يقوموا بحقّ الله ثم بحق رسوله حيث كانوا؛ من المحبة والموالاة والطاعة، وغير ذلك من الصلاة والسلام والدعاء، وغيره ذلك. ولا يقصدون تخصيص القبر لما يفضي إليه ذلك من ترك حقّ الله وحق رسوله.
فهذا وغيره مما يبين أن ما نهي عنه الناس ومنعوا منه، وكان السلف لا يفعلونه من زيارة قبره، وإن كانت زيارة قبره غير مستحبة؛ فهو أعظم لقدره، وأرفع لدرجته، وأعلى في منزلته، وإن ذلك أقوم بحق الله، وأتم وأكمل في عبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له، ففي ذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وإن أهل البدع الذين فعلوا ما لم يشرعه، بل ما نهى عنه، وخالفوا الصحابة
والتابعين لهم بإحسان فاستحبوا ما كان أولئك يكرهونه ويمنعون منه؛ هم مضاهون للنصارى، وإنهم نقصوا من تحقيق الإيمان بالله وبرسوله والقيام بحق الله وحق رسوله بقدر ما دخلوا فيه من البدعة، التي ضاهوا بها النصارى، فهذا هذا، والله أعلم.
وأيضا فإنه إذا أطيع أمره، واتّبعت سنّته؛ كان له من الأجر بقدر أجر من أطاعه واتّبع سنّته، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور من اتّبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء» «1» .
وقوله: «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» «2» .
وأما البدع التي لم يشرعها بل نهى عنها، وإن كانت متضمّنة للغلوّ فيه، والشرك به، والإطراء له، كما فعلت النصارى؛ فإنه لا يحصل بها أجر لمن عمل بها، فلا يكون للرسول فيها منفعة، بل صاحبها إن عذر كان ضالا لا أجر له فيها، وإن قامت عليه الحجة استحق العذاب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» «3» .
فإن قال هؤلاء الذين قاسوا زيارة قبره على زيارة سائر القبور: إن الناس منعوا من الوصول إليه تعظيما لقدره، وجعل سلامهم وخطابهم له من الحجرة لأن ذلك أبلغ في الأدب والتعظيم.
قيل: فهذا يوجب الفرق؛ فإن الزيارة المشروعة إن كان مقصودها الدعاء له؛ فكون ذلك قريبا من الحجرة أفضل منه في سائر المساجد والبقاع، فالذي يدعو له داخل الحجرة أقرب، وإن كان القرب مستحبا، فكلما كان أقرب كان أفضل، كسائر القبور.
وإن كان مقصودها ما يقوله أهل الشرك والضلال من دعائه؛ ودعاؤه من القرب أولى، فينبغي أن يكون من داخل الحجرة أولى، ولما ثبت بالنصّ والإجماع أن هذا القرب من القبر ممنوع منه وهو أيضا غير مقدور عليه، علم أن القرب من ذلك ليس بمستحبّ، بخلاف زيارة قبر غيره والصلاة على قبره، فإن القرب منه مستحبّ إذا لم يفض إلى مفسدة من شرك أو بدعة أو نياحة، فإن أفضى إلى ذلك منع من ذلك.
ومما يوضّح هذا؛ أن الشخص الذي يقصد أتباعه زيارة قبره؛ يجعلون قبره بحيث يمكن زيارته، فيكون له باب يدخل منه إلى القبر، ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل، بحيث يتمكّن من القعود فيه، بل يوسع المكان ليسع الزائرين، ومن
(1) أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (1017، 2673) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (3445، 6830) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.