الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [الأحاديث التي احتج بها المعترض على جواز شدّ الرحال للقبور، والرد على ذلك]
وأما ما احتجّ به من الأحاديث الواردة في زيارة القبور فعنها أجوبة:
أحدها: أن يقال: ليس فيما ذكرته ما يدلّ على استحباب زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم ولا غيره من القبور.
وأما قوله: «فزوروا القبور» . فالأمر بمطلق الزيارة أو استحبابها أو إباحتها لا يستلزم السفر إلى ذلك، لا استحبابا به ولا إباحته، كما أن ذلك لا يتناول زيارتها لمن ينوح عندها ويقول الهجر، ولا زيارتها لمن يشرك عندها ويدعوها، ويفعل عندها من البدع ما نهى عنه، كما أن قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [البقرة: 196] لا يتناول أيام الحيض، ولا يومي العيدين، وقوله صلى الله عليه وسلم:«صلاة الرجل في مسجده تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة» «1» . لا يقتضي أن يسافر إلى المسجد ليصلي، بل يقتضي إتيانه من بيته ومكان قريب بلا سفر. وقوله:«لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» «2» .
وقوله: «إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها» «3» . لا يقتضي أنها تسافر من غير زوج ولا ذي محرم، ولا على أن على زوجها أن يأذن لها إذا أرادت السفر إلى أحد المساجد، ولو كان مع زوج أو ذي محرم. إنما عليه الإذن في الفرض وهو الحج، مع قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد» فلا يقال: إنه عام في السفر وغيره.
فإن قيل: هذه المواضع قد عرف أنه أراد الإتيان إلى المسجد من البيت لم يرد السفر، لأن هذا هو المعروف بينهم.
قيل: وكذلك زيارة القبور لم يكونوا يعرفونها إلا من المدينة إلى مقابرها، وإذا جازوا بها، لم يعرف قط أن أحدا من الصحابة والتابعين وتابعيهم سافروا لزيارة قبر.
(1) أخرجه البخاري (477) ومسلم (649).
(2)
تقدم.
(3)
أخرجه البخاري (873) ومسلم (442).
الجواب الثاني: وهو أنه خاطبهم بما كانوا يعرفونه من الزيارة، وهم لم يكونوا يعرفون زيارة القبور إلا كما يعرفون اتّباع الجنائز، يتّبعون الجنازة من البيت إلى المقبرة، وكذلك يخرج أحدهم لزيارة القبور من البيت إلى المقبرة، أو يمرّ بالقبر مرورا، فهذا هو الذي كانوا يعرفونه ويفهمونه من قوله.
قال أحمد بن القاسم: سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن الرجل يزور قبر أخيه الصالح ويتعمّد إتيانه؟
قال: وما بأس بذلك؟ قد زار الناس القبور. قال: وقد ذهبنا نحن إلى قبر عبد الله بن المبارك، وقال حنبل: سئل أبو عبد الله عن زيارة القبور، فقال: قد رخّص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن فيها بعد، فلا بأس أن يأتي الرجل قبر أبيه أو أمه أو ذي قرابته؛ فيدعو له ويستغفر له فينصرف.
قال علي بن سعد: سألت أحمد؛ قلت: زيارة القبور تركها أفضل عندك أم زيارتها؟ قال: زيارتها.
ولهذا إنما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه لما سافر لفتح مكة، فزارها في الطريق، لم يسافر لذلك، ولا كان أحد على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ولا عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم يسافر لزيارة قبر، لا قبر نبيّ ولا صالح ولا غيرهما، لا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام، ولا غيره، بل هذا إنما حدث بعد ذلك، ولا كان في الإسلام مشهد على قبر أو أثر نبي أو رجل صالح يسافر إليه، بل ولا يزار للصلاة والدعاء عنده، بل هذا كله محدث. بل ولا كانوا يزورون القبور للتبرّك بالميت ودعائه والدعاء به، وإنما كانوا يزورونه إن كان مؤمنا للدعاء له والاستغفار، كما يصلّون على جنازته، وإن كان غير مسلم زاروه رقّة عليه، كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال في الحديث الصحيح: الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي» «1» .
ومن هنا يظهر الجواب الثالث: وهو أن الزيارة التي أذن فيها الرسول أو ندب إليها أو فعلها مقصودها نفع الميت والإحسان إليه بالدعاء له والاستغفار، ومقصودها تذكّر الموت أو الرقة على الميت، لم يكن مقصودها أن تعود بركة الميت المزور على الحيّ الزائر، ولا أن يدعوه ويسأله ويستشفع به، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما زار قبور أهل البقيع وقبور الشهداء لم يكن هذا مقصوده. ومن قال هذا؛ فقد أعظم الفرية على الرسول صلى الله عليه وسلم وجعله مستشفعا بأصحابه الموتى داعيا مستغيثا مستجيرا بهم، وهذا لا
(1) أخرجه مسلم (976).
يقوله مسلم، بل جعله مستغيثا مستجيرا بأمه التي منع من الاستغفار لها بخلاف المؤمن، فلم يكن في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم التي شرعها لأمته بقوله وفعله طلب حاجة من الميت، ولا القصد بها تعظيمه وعبادته أو التوسل به أو دعائه، بل المقصود بها نفعه؛ كالصلاة على جنازته والصلاة على قبره حيث شرع ذلك.
وكذلك ما علّمه لأصحابه أن يقولوه إذا زاروا القبور؛ إنما فيه السلام عليهم والدعاء لهم والاستغفار، كما في الصلاة على جنائزهم. ففي صحيح مسلم وغيره عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام على أهل الديار (وفي لفظ) السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» «1» . وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» «2» . وفيه أيضا عن عائشة رضي الله عنها في حديث طويل، قال:«إن جبريل أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» . قال: قلت: يا رسول الله؛ كيف أقول؟ قال: قولي: «السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» «3» .
وفي «سنن ابن ماجه» في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدته صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالبقيع، فقال:«السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط ونحن بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم» «4» .
وفي المسند والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه، فقال:«السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلف لنا ونحن بالأثر» «5» . قال الترمذي: حديث حسن غريب.
فزيارة القبور المشروعة من جنس الصلاة على الميت، أما الصلاة عليه إذا كان ظاهرا أو على قبره، لكن الصلاة عليه هي صلاة ذات تحليل وتحريم واصطفاف وتكبيرات، والزيارة المطلقة دعاء لهم.
وفي الصحيحين: أنه صلّى على شهداء أحد بعد ثماني سنين، كصلاته على الميت «6» .
(1) أخرجه مسلم (975).
(2)
أخرجه مسلم (249).
(3)
أخرجه مسلم (974).
(4)
أخرجه ابن ماجه (1546) بإسناد ضعيف كما في «الإرواء» (3/ 237). لكن للحديث شواهد يصحّ بها إن شاء الله.
(5)
أخرجه الترمذي (1053) والطبراني في «المعجم الكبير» (12/ رقم: 12613).
وضعفه الألباني في «أحكام الجنائز» ص 250.
(6)
أخرجه البخاري (1344) - وانظر أطرافه هناك- ومسلم (2296).