المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[لا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل على استحباب زيارة قبور الأنبياء] - الإخنائية أو الرد على الإخنائي ت زهوي

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلمات مضيئة

- ‌مقدمة المحقق

- ‌منهجي في تحقيق الكتاب:

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[مدار الدين على توحيد الله تعالى]

- ‌فصل [الكلام على الكتاب المردود عليه]

- ‌[المردود عليه عنده شيء من الدين لكن مع جهل وسوء فهم]

- ‌[التحذير من الكلام في دين الله بغير علم]

- ‌فصل [بداية الرد على المعترض]

- ‌[من قصد السفر إلى المدينة فليقصد السفر إلى المسجد]

- ‌[الفرق بين زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبين زيارة قبره]

- ‌[أول من وضع أحاديث زيارة المشاهد]

- ‌فصل [خلط المردود عليه بين زيارة القبور والسفر إليها]

- ‌[لا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل على استحباب زيارة قبور الأنبياء]

- ‌[إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل القبر ليس بطاعة]

- ‌[التفريق بين الغرباء والمقيمين في المدينة في السلام عليه خارج الحجرة]

- ‌[قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم أن يزار كسائر القبور]

- ‌[المقصود الشرعي من زيارة القبور]

- ‌[اعتقاد النفع بالقبور هو كاتخاذها أوثانا]

- ‌[شد الرحال لزيارة قبور الصالحين هو من جنس عمل المشركين]

- ‌[واجب المؤمن تجاه النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[عداوة الأنبياء بمخالفتهم لا بموافقتهم]

- ‌[الكلام في الأحكام الشرعية لا يستدلّ عليه إلا بالأدلة الشرعية]

- ‌[الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، واختلاف العلماء في وجوبها]

- ‌[الحلف بالملائكة والأنبياء]

- ‌[أفضل الناس مع أنبيائهم هم الصحابة]

- ‌فصل [الأحاديث التي احتج بها المعترض على جواز شدّ الرحال للقبور، والرد على ذلك]

- ‌[الفرق بين الزيارة الشرعية وبين الزيارة البدعية]

- ‌فصل [المصنف لا يحرم زيارة القبور الزيارة الشرعية]

- ‌فصل [هل وردت أحاديث صحيحة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم

- ‌[زيارة القبور ليست من باب الإكرام والتعظيم]

- ‌[الأنبياء والأولياء الذين عبدوا من دون الله لا إثم عليهم، إنما الإثم على من عبدهم]

- ‌فصل [حديث «من صلّى عليّ عند قبري سمعته»]

- ‌فصل [مذهب السلف في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [خلط المعترض بين زيارة الأحياء وبين زيارة القبور]

- ‌فصل [تعدّي المعترض على المصنف، وجواب المصنف عليه]

- ‌[من اعتقد أن السفر إلى قبر شيخ أو إمام أفضل من الحج فهو كافر]

- ‌فصل [المردود عليه وأسجاعه الفارغة]

- ‌فصل [كلام المصنف على حديث النهي عن شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة]

- ‌فصل [الرد على المعترض فيما افتراه على أئمة المسلمين في أنهم يجوّزون السفر إلى زيارة القبور]

- ‌فصل [زعم المعترض أن المؤلف خرق الإجماع]

- ‌فصل [افتراء المعترض على المصنف]

- ‌[واجب الموحّد تجاه الملائكة والأنبياء]

- ‌[الفرقان بين الحق والباطل]

- ‌الفهارس العامة

- ‌فهرس الآيات القرآنية

- ‌فهرس الأحاديث

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌[لا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل على استحباب زيارة قبور الأنبياء]

سرا ولا جهرا، ولا معاندا لهم لا باطنا ولا ظاهرا. ومن قال عن علماء المسلمين الذين اتفق المسلمون على إمامتهم إنهم كانوا معاندين للأنبياء؛ فإنه يستحق عقوبة مثله. ولا خلاف بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى عن زيارة القبور أولا، فكان ذلك محرما في أول الإسلام، وقد اعترف هذا المعترض بذلك. فهل يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حرم زيارة القبور كان مجاهرا للأنبياء بالعداوة مظهرا لهم العناد؟!

وكذلك سائر الشرع المنسوخ؛ ليس فيه معاداة للأنبياء ولا معاندة لهم، لا سرا ولا جهرا، فإن الله لم يشرع معاداة أنبيائه ولا معاندتهم قط، بل الإيمان بجميع الأنبياء كالتوحيد لا بد منه في كل شرعة، ودين الأنبياء واحد، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد» «1» . وقال تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً الآية إلى قوله: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [المؤمنون: 51، 52]. قال عامة المفسرين: على ملة واحدة وعلى دين واحد «2» . وقد قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ إلى قوله: وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران: 81]. فأمر متقدّمهم أن يؤمن بمتأخرهم كما أمر متأخرهم أن يؤمن بمتقدمهم. فكل ما شرع في وقت لا يكون مقصوده معاداة للأنبياء، كما لا يكون مقصوده شركا، فإن الله لم يشرع الشرك قط، ولا شرع معاداة الأنبياء قط، لكن من تمسك بالمنسوخ مع علمه بأنه منسوخ يكون مكذبا، ثم معاداة الأنبياء ومعاندتهم هي كفر بهم وتكذيب لهم.

[لا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل على استحباب زيارة قبور الأنبياء]

فأين في كتاب الله وسنة رسوله أنه يستحب السفر لمجرد زيارة قبورهم أو قبور غيرهم، حتى يكون مخالف ذلك مخالفا لذلك النص؟ ولو قدّر أنه خالف نصا لم يبلغه، أو رجح غيره عليه؛ لم يكن ذلك معاداة لهم ولا معاندة، ولكن الجهال وأهل الضلال يظنون أن السفر إلى قبورهم من حقوقهم التي تجب على الخلق، وأنها من الإيمان بهم. أو يظنون أن زيارة قبورهم من باب التعظيم لهم، وتعظيم أقدارهم وجاههم عند الله، وأن الزائر إذا دعاهم وتضرع لهم وسألهم حصل مطلوبه؛ إما بشفاعتهم له، وإما لمجرد عظم قدرهم عند الله، يعطى سؤله إذا دعاهم، وإما أن

(1) أخرج نحوه البخاري (3443) ومسلم (2365) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلّات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» .

(2)

انظر «فتح القدير» للشوكاني (3/ 573)، وفيه:«وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: «إن هذه أمتكم أمة واحدة» . قال: «إن هذا دينكم دينا واحدا» .

ص: 47

يقول: يفيض على الداعي من جهتهم ما يطلب من غير علم منهم ولا قصد، كشعاع الشمس الذي يظهر في الماء، وبواسطة الماء يظهر في الحائط، وإن كانت الشمس لا تدري بذلك. وهذا قول طائفة من المتفلسفة المنتسبين إلى الملل. وقد ذكره صاحب «الكتب المضنون بها على غير أهلها» «1» وغيره، كما بسط الكلام على ذلك في موضع آخر. ومعلوم أن زيارة القبور بهذا القصد وعلى هذا الوجه ليست من شريعة الإسلام، بل من دين المشركين والمعطّلين. والرسول لم يشرع مثل هذا لأمته، ولا فعله أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان، ولا استحبّه أحد من أئمة المسلمين، بل النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم تنهى عما قد يفضي إلى هذا، فكيف إلى هذا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم لعن الذين يتخذون قبور الأنبياء مساجد يحذر ما فعلوا. وقال:«إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» وخص بيته بأن قال: «لا تتخذوا قبري عيدا» وفي رواية: «بيتي عيدا» . وقال:

«اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .

فإذا كان قد حرّم أن تتخذ مسجدا يعبد الله فيها لئلا يفضي إلى دعائه، فكيف إذا كان المقصود بالزيارة هو دعاء صاحب القبر؟ وذلك هو المقصود بالسفر إلى قبره.

وقد قال تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80]. والمشرك يقصد فيما يشرك به أن يشفع له أو يتقرّب بعبادته إلى الله أو يكون قد أحبه كما يحب الله. والمشركون بالقبور توجد فيهم الأنواع الثلاثة؛ قال الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:

18] الآية. وقال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3]. وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165]. وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا إلى قوله: مَحْذُوراً [الإسراء: 56، 57]. وقوله تعالى:

(1) قال المعلمي اليماني- رحمه الله: «كتاب المضنون به على غير أهله» ، منحول للغزالي، وليس له.

ونقل ابن السبكي في «طبقات الشافعية» (4/ 131) عن ابن الصلاح أنه قال عن كتاب المضنون به:

منسوب إلى أبي حامد الغزالي، ومعاذ الله أن يكون له. وبيّن سبب كونه مختلقا موضوعا عليه، قال:

والأمر كما قال. وقد اشتمل المضنون على التصريح بقدم العالم ونفي علم القديم بالجزئيات، ونفي الصفات. وكل واحد من هذه يكفّر الغزالي قائلها، هو وأهل السنة أجمعون. انتهى. وانظر «كشف الظنون» (2/ 451) طبعة سنة 1311. والتعليق على كتاب «التوسل والوسيلة» لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 80 طبع المكتبة السلفية سنة 1384. ولأن شيخ الإسلام لا يرى أن المضنون للغزالي، لم يسمّ مؤلفه هنا ولا في «التوسل والوسيلة» اه.

قلت: قال الصنعاني: «ولا أظنه من مؤلفاته، وإنما هو مكذوب عليه» . «كتب حذر منها العلماء» للبحّاثة مشهور بن حسن- سلّمه الله- (1/ 45) وانظر (1/ 143) من الكتاب نفسه.

ص: 48

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ إلى قوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 22، 23]. حتى إن الملائكة إذا قضي الأمر صعقوا، ولا يعلمون ما قضاه حتى يفزّع عن قلوبهم؛ أي يزول عنها الفزع، حينئذ يعلمون ما قضاه وما قاله، فكيف يشفعون عنده ابتداء قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] الآية. وقال: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً [النجم: 26] الآية.

وكذلك من ظن أن السفر إلى قبورهم من حقوقهم التي تجب على الخلق؛ فهذا الظن ليس هو دين أحد من المسلمين، ولم يقل أحد إن السفر إلى المسجد النبويّ أو المسجد الأقصى واجب، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع السفر إليهما، وقال:«لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» . فكيف بما دون ذلك من القبور والآثار؟ لم يقل أحد من علماء المسلمين إن السفر إلى ذلك واجب، بل ولا عرف عنهم القول بالاستحباب. بل السلف والقدماء على تحريم ذلك، والمتأخرون متنازعون، فأحد القولين أن ذلك جائز لا فضيلة فيه. والآخر أنه ينهى عنه. وعلى هذا القول دلّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة وسلف الأمة، فإنه ثبت عنه أنه قال:«لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» . وهذه صيغة خبر معناه النهي. ولكن من قال ليست نهيا بل نفيا للفضيلة، وهذا الاحتمال وإن كان باطلا فإنما يقدح في رواية أبي هريرة. والحديث في الصحيحين من رواية أبي هريرة ومن رواية أبي سعيد الخدري. ولفظ حديث أبي سعيد: عن قزعة عن أبي سعيد قال: سمعت منه حديثا فأعجبني، فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقول عليه ما لم أسمع؟ سمعته يقول: «لا تشدّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» . وسمعته يقول: «لا تسافر المرأة يوما من الدهر إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها» . ولفظ أبي سعيد هو الثابت في الصّحاح؛ صريح في النهي، وهو صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السفر إلى غير الثلاثة. وتبين بذلك أن من قال السفر إلى غيرها جائز أو غير مكروه فهو مخطئ، والله أعلم.

وإذا كان ذلك ليس بواجب ولا مستحب؛ بل هو منهيّ عنه، لم يكن من حقوقهم التي أوجبها الله ولا دعا عباده إليها، فأي معاداة وأيّ معاندة لمن نهى عن شيء ليس من حقوقهم ولا مما أوجبوه ولا دعوا إليه؟ بل هو ناه عما نهوا عنه آمر بما أمروا به، مطيع لهم متبع لهم، قصده متابعتهم، فكيف يكون مع متابعتهم قصدا وقولا وعملا معاديا ومعاندا؟ لو قدّر أنه متأوّل مخطئ؛ فكيف إذا كان قد ذكر قوليّ علماء المسلمين الذين نهوا والذين أباحوا وحجة كل قول؟ والسلف على النهي، وكلام علماء المسلمين مالك وغيره موجود في كتب كثيرة، فكفى بقاض مالكي جهلا

ص: 49

وضلالا أن يقول بكفر من قال بقول إمامه وأصحابه، بل كفى بمن قال ذلك جهلا وضلالا سواء كان مالكيا أو غير مالكيّ مع عظم قدر مالك بإجماع أهل الإسلام الخاص منهم والعام، بل لم يكن في وقته مثله. وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة» «1» . قال غير واحد: كانوا يرونه مالك بن أنس، فلو كان ما قاله هو وأصحابه مما خالفهم فيه بقية الأئمة لم يكن ذلك من مسائل التكفير، ولا من معاداة الأنبياء ومعاندتهم. فكيف والذي قاله مالك بن أنس هو قول سائر الأئمة كما يدل عليه كلامهم وأصحابهم ومسائلهم؟ والذين خالفوه غايتهم أن قالوا: إن السفر جائز. ولو قدر أن بعضهم قالوا: هو مستحب؛ فليس فيهم من يجعل أصحاب ذلك القول ممن تنقّص الأنبياء أو عاداهم أو عاندهم، بل قائل هذا من أجهل الناس. وهو في هذه المقالة بالنصارى أشبه منه بالمسلمين.

وقد ذكر إسماعيل بن إسحاق- وهو من أجلّ علماء المسلمين ومن أجل من قلد قضاء القضاة، حتى كان المتولي لذلك وحده في جميع بلاد بني العباس في خلافة المعتضد- ذكر في كتابه «المبسوط» ما تقدم ذكره في باب إتيان مسجد قباء والصلاة

(1) حديث ضعيف.

أخرجه أحمد (2/ 299) والترمذي (2680) والحاكم في «المستدرك» (1/ 90 - 91) وابن حبان (9/ 52/ 3736) وابن أبي حاتم في تقدمة «الجرح والتعديل» (ص 11 - 12) والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 386) والخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (5/ 306)(6/ 376) و (13/ 17) والفسوي في «المعرفة والتأريخ» (1/ 346 - 347) وابن عدي في «الكامل» (1/ 101) وابن الجوزي في «مثير العزم الساكن» (2/ 284/ 460) وابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 85) وفي «الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء» (ص 20 - 21) والذهبي في «السير» (8/ 55) وغيرهم.

من طريق: سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا.

قال الترمذي: «حديث حسن» .

وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» . ووافقه الذهبي في «التلخيص» .

لكن ذكر ابن الملقن في «مختصر استدراك الذهبي على المستدرك» (1/ 84) عن الذهبي قوله: «قلت: إنما لم يخرجه مسلم؛ لأنه سأل البخاري عنه، فقال: له علّة؛ وهي أن أبا الزبير لم يسمع من أبي صالح» .

قلت: الإسناد ضعيف؛ فإن ابن جريج مدلّس وكذا أبا الزبير، ولم يصرّح أحدهما بالتحديث في شيء من طرق الحديث.

قال الدارقطني: «تجنّب تدليس ابن جريج فإن تدليسه قبيح، لا يدلّس إلا فيما سمعه من مجروح» .

أضف إلى ذلك العلّة التي ذكرها الذهبي وهي: عدم سماع أبي الزبير من أبي صالح.

فالعجيب من صنيع المحدث أحمد شاكر- رحمه الله في تحقيقه على «المسند» (15/ 135) إذ قال:

«إسناده صحيح» !.

والحديث ضعفه المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني- رحمه الله في تحقيقه على «المشكاة» رقم (246).

ص: 50

فيه، لما ذكر محمد بن مسلمة: أن من نذر أن يأتي مسجد قباء فعليه أن يأتيه. قال:

إنما هذا فيمن كان من أهل المدينة وقربها ممن لا يعمل المطيّ إلى مسجد قباء، لأن إعمال المطيّ اسم للسفر؛ ولا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في نذر ولا غيره.

قال: وقد روي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

إن كان أراد المسجد فليأته وليصلّ فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء:«لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» الحديث. وذكر فيه عن مالك أنه قال فيمن نذر أن يمشي إلى مسجد من المساجد ليصلي فيه قال: فإني أكره له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» . وتقدم أن في «المدونة» وسائر الكتب ما يوافق ذلك.

قال في «المدونة» «1» : ومن قال: «لله عليّ أن آتي المدينة أو بيت المقدس، أو المشي إلى المدينة أو بيت المقدس، فلا يأتيهما أصلا، إلا أن ينوي الصلاة في مسجديهما أو يسمّيهما فيقول: إلى مسجد الرسول، أو مسجد إيليا، وإن لم ينو الصلاة فليأتهما راكبا ولا هدي عليه» وكأنه لما سماهما قال: لله عليّ أن أصلي فيهما. ولو نذر الصلاة في غيرهما من مساجد الأمصار صلّى في موضعه ولم يأته، فقد تبين أنه إن نوى الصلاة في المسجدين وفّى بنذره، وكذلك إن سمّى المسجدين فإن المسجد إنما يؤتى للصلاة، وأما إذا نذر إتيان نفس البلد فليس عليه أن يأتيه، وهذا يتناول إتيانه لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الشهداء وأهل البقيع، وإتيان مسجد قباء، كما يتناول النهي عن السفر إلى بيت المقدس لزيارة القبور والآثار التي هناك من آثار الأنبياء، وإتيان المسجد لغير الصلاة كالتمسح بالصخرة وتقبيلها، أو إتيانه للوقوف عشية عرفة، والطواف بالصخرة، أو لغير ذلك مما يظنه بعض الناس عبادة وليس بعبادة، ومما هو عبادة للقريب ولا يسافر لأجله؛ كزيارة قبور المسلمين للدعاء لهم والاستغفار، فإن هذا مستحبّ لمن خرج إلى المقبرة من البلد ولمن اجتاز به، ولا يشرع السفر لذلك.

فمالك وغيره نهوا عن السفر إلى المدينة أو إلى بيت المقدس لغير العبادة المشروعة في المسجدين سواء كان المسافر يسافر لأمر غير مشروع بحال، أو لما هو مشروع للقريب ولا يشرع السفر لأجله، وكذلك مذهب مالك أنه لا يسافر إلى المدينة لشيء من ذلك بل هذا السفر منهي عنه والسفر المنهي عنه عنده لا تقصر فيه الصلاة لكن بعض أصحابه وهو محمد بن مسلمة استثنى مسجد قباء، وابن عبد البر جعل السفر مباحا إلى غير الثلاثة المساجد ولا يلزم بالنذر لأنه ليس بقربة كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.

(1)«المدونة» (1/ 471).

ص: 51