المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفرقان بين الحق والباطل] - الإخنائية أو الرد على الإخنائي ت زهوي

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلمات مضيئة

- ‌مقدمة المحقق

- ‌منهجي في تحقيق الكتاب:

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[مدار الدين على توحيد الله تعالى]

- ‌فصل [الكلام على الكتاب المردود عليه]

- ‌[المردود عليه عنده شيء من الدين لكن مع جهل وسوء فهم]

- ‌[التحذير من الكلام في دين الله بغير علم]

- ‌فصل [بداية الرد على المعترض]

- ‌[من قصد السفر إلى المدينة فليقصد السفر إلى المسجد]

- ‌[الفرق بين زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبين زيارة قبره]

- ‌[أول من وضع أحاديث زيارة المشاهد]

- ‌فصل [خلط المردود عليه بين زيارة القبور والسفر إليها]

- ‌[لا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل على استحباب زيارة قبور الأنبياء]

- ‌[إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل القبر ليس بطاعة]

- ‌[التفريق بين الغرباء والمقيمين في المدينة في السلام عليه خارج الحجرة]

- ‌[قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم أن يزار كسائر القبور]

- ‌[المقصود الشرعي من زيارة القبور]

- ‌[اعتقاد النفع بالقبور هو كاتخاذها أوثانا]

- ‌[شد الرحال لزيارة قبور الصالحين هو من جنس عمل المشركين]

- ‌[واجب المؤمن تجاه النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[عداوة الأنبياء بمخالفتهم لا بموافقتهم]

- ‌[الكلام في الأحكام الشرعية لا يستدلّ عليه إلا بالأدلة الشرعية]

- ‌[الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، واختلاف العلماء في وجوبها]

- ‌[الحلف بالملائكة والأنبياء]

- ‌[أفضل الناس مع أنبيائهم هم الصحابة]

- ‌فصل [الأحاديث التي احتج بها المعترض على جواز شدّ الرحال للقبور، والرد على ذلك]

- ‌[الفرق بين الزيارة الشرعية وبين الزيارة البدعية]

- ‌فصل [المصنف لا يحرم زيارة القبور الزيارة الشرعية]

- ‌فصل [هل وردت أحاديث صحيحة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم

- ‌[زيارة القبور ليست من باب الإكرام والتعظيم]

- ‌[الأنبياء والأولياء الذين عبدوا من دون الله لا إثم عليهم، إنما الإثم على من عبدهم]

- ‌فصل [حديث «من صلّى عليّ عند قبري سمعته»]

- ‌فصل [مذهب السلف في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [خلط المعترض بين زيارة الأحياء وبين زيارة القبور]

- ‌فصل [تعدّي المعترض على المصنف، وجواب المصنف عليه]

- ‌[من اعتقد أن السفر إلى قبر شيخ أو إمام أفضل من الحج فهو كافر]

- ‌فصل [المردود عليه وأسجاعه الفارغة]

- ‌فصل [كلام المصنف على حديث النهي عن شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة]

- ‌فصل [الرد على المعترض فيما افتراه على أئمة المسلمين في أنهم يجوّزون السفر إلى زيارة القبور]

- ‌فصل [زعم المعترض أن المؤلف خرق الإجماع]

- ‌فصل [افتراء المعترض على المصنف]

- ‌[واجب الموحّد تجاه الملائكة والأنبياء]

- ‌[الفرقان بين الحق والباطل]

- ‌الفهارس العامة

- ‌فهرس الآيات القرآنية

- ‌فهرس الأحاديث

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌[الفرقان بين الحق والباطل]

[الفرقان بين الحق والباطل]

ونختم الكلام بخاتمة في بيان الفرقان بين الحق والباطل يظهر بها طريق الهدى من الضلال، وذلك أن الله سبحانه كما تقدم التنبيه عليه أمرنا أن نؤمن بالأنبياء وما جاءوا به، وفرض علينا طاعة الرسول الذي بعث إلينا ومحبته وتعزيره وتوقيره والتسليم لحكمه، وأمرنا أيضا أن لا نعبد إلا الله وحده ولا نشرك به شيئا، ولا نتخذ الملائكة والنبيين أربابا، وفرق بين حقه الذي يختص به الذي لا يشركه فيه لا ملك ولا نبي، وبين الحق الذي أوجبه علينا لملائكته وأنبيائه عموما، ولمحمد خاتم الرسل وخير مرسل الذي جاءه بالوحي خصوصا، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، فاصطفى من الملائكة جبريل لرسالته، واصطفى من البشر محمدا صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن هذا القرآن الذي نزل به هذا الرسول إلى هذا الرسول مبلغا له عن الله، قال تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 97] وقال: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195] كما قال في الآية الأخرى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ [النحل: 101] إلى قوله: عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] وقوله: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ إلى قوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [النحل: 102] يبيّن أن روح القدس نزل بآيات القرآن من ربه، وبعض الكفار لما زعم أنه يتعلّم من بشر، قال الله تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ [النحل: 103]- أي: يضيفون إليه التعليم-: أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فدل على أن هذا اللسان العربي المبيّن تعلّمه من الملائكة، ولم يتعلمه من بشر، ولا من تلقاء نفسه، بل جاءه به روح القدس، وروح القدس هو جبريل، وهو الروح الأمين، فإنه أخبر أن جبريل نزله على قلبه، وأخبر أن الروح الأمين نزل به عليه، فعلم أن جبريل وهو الروح الأمين. وقال هاهنا: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ فعلم أنه روح القدس وقال في سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19 - 21] ثم قال: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 22، 23]. كما ذكر ذلك في سورة النجم. وقال في سورة الحاقة: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 38، 39] إلى قوله: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الحاقة: 43] إلى قوله: حاجِزِينَ [الحاقة: 47].

فهذا محمد كما يدل عليه الكلام كله، وهذا قول عامة العلماء، وقد غلط بعض من شذّ فزعم أن جبريل غلط كما غلط من هو أعظم غلطا منه فزعم أن التي في التكوير في محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه وتعالى إنما أضافه إلى هذا تارة وإلى هذا تارة بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ليبيّن أنه قول رسول بلّغه عن مرسله لم يحدث منه شيئا من تلقاء نفسه.

ولا منافاة بين أن يكون ذلك الرسول بلّغه إلى هذا وهذا بلّغه إلى الإنس والجن، فهو

ص: 219

قول هذا وقول هذا، وقد غلط بعض الناس فظن أنه أضافه إلى الرسول لأنّه أحدث القرآن العربي وعبّر به عن المعنى الذي فهمه، وهذا باطل من وجوه. إذ لو كان هذا حقا تناقض الخبران، فإن كون هذا أحدث القرآن العربي يناقض كون الآخر أحدثه، فإنه إذا أحدثه أحدهما امتنع كون الآخر هو الذي أحدثه، بخلاف ما إذا بلّغه فإنه يبلّغه هذا إلى هذا، وهذا إلى الناس، والناس يبلّغونه بعضهم إلى بعض، كما قال تعالى:

لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» «1» . وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا؛ أن الله أوجب علينا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصا وبالملك الذي جاءه بالقرآن، فإن سائر الأنبياء علينا أن نؤمن بهم مجملا، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نطيعه في كل ما أوجبه وأمر به، وأن نصدّقه في كل ما أخبر به، وغيره من الأنبياء عليهم السلام علينا أن نؤمن بأن كل ما أخبروا به عن الله فهو حقّ، وأن طاعتهم فرض على من أرسلوا إليهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم أمرنا بما أمرتنا به الرسل من الدين العام؛ مثل عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بالملائكة والنبيين وحمل الشرائع، بعد ما ذكره في سورة الأنعام وسبحان «2» ، بل وعامة السّور المكية، فإن ذلك مما اتفق عليه الرسل، ولكن بعض الأمور التي يقع في مثلها النسخ؛ مثل يوم السبت، وحلّ بعض الأطعمة وحرمتها، واتخاذ منسك هم ناسكوه، وهو مما تنوعت فيه الشرائع وخصّ الله محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل الشرائع والمناهج، وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا، أن الله تعالى أمرنا بالإيمان بالأنبياء كلهم، وبجميع ما أوتوا، كما قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى [البقرة: 136] الآية. وقال تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177] وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285] وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136] إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 152].

فالأنبياء وسائط بين الله عز وجل وبين عباده في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، وما أخبر به عن نفسه وملائكته، وغير ذلك مما كان وسيكون. وأما محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي أرسل إلينا وإلى جميع الخلق، وقد ختم الله به الأنبياء، وآتاه من

(1) أخرجه البخاري (3461).

(2)

أي: سورة الإسراء.

ص: 220

الفضائل ما فضّله به على غيره، وجعله سيد ولد آدم، وخصائصه وفضائله كثيرة وعظيمة، لا يسعها هذا الموضع.

وهو سبحانه مع هذا قد نهانا عن الشرك بهم والغلو فيهم، وميّز بين حقه تعالى وحقهم، فقال تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 79] إلى قوله: مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80] فهذا بيان أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، مع وجوب الإيمان بهم ما لم يحصل بعبادة الأوثان، فإن الأوثان تستحق الإهانة وأن تكسر كما كسّر إبراهيم الأصنام، وكما حرّق موسى العجل ونسفه، وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكسر الأصنام ويهدم بيوتها، وقد قال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: 98] فإهانتها من تمام التوحيد والإيمان.

والملائكة والأنبياء بل الصالحون يستحقون المحبة والموالاة والتكريم والثناء مع أنه يحرّم الغلوّ فيهم والشرك بهم، فلهذا صار بعض الناس يزيد في التعظيم على ما يستحقّونه فيصير شركا، وبعضهم يقصّر عما يجب لهم من الحق فيصير فيه نوع من الكفر.

والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو القيام بما أمر الله به ورسله في هذا وهذا. والله تعالى يميز حقه من حق غيره ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«يا معاذ أتدري ما حقّ الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري يا معاذ ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذّبهم» «1» . وقد قال تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف: 26] وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [القصص: 75] الآية. فالرسل كلهم، نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم يبينون أن العبادة التقوى حق لله وحده، وحق الرسل طاعتهم؛ قال نوح عليه السلام: يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح: 2، 3] وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء: 105 - 108]. وكذلك قال سائر الرسل هود وصالح وشعيب، كل يقول:«فاتقوا الله وأطيعون» وكذلك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النور: 52] فجعل الطاعة لله

(1) تقدم تخريجه.

ص: 221

والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده. وقال: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [النحل: 51] إلى قوله: أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف: 65] فأنكر سبحانه أن يتّقى غيره كما أمر ألا يرهب إلا إيّاه.

وقال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة: 150] الآية. وقال تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 18]. فقد أمر الله تعالى في غير موضع بأن يخشى ويخاف ولا يخشى ويخاف غيره، وقال:

وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ [التوبة: 59] الآية. ففي الإيتاء قال: ما آتاهم الله ورسوله. كما قال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] لأن الحلال ما حلّله الله ورسوله، والحرام ما حرّمه الله ورسوله، فما أعطاه الرسول للناس فهو حقّهم بالقول والعمل؛ كالفرائض التي قسمها الله وأعطى كل ذي حق حقه، وكذلك من الفيء والصدقات ما أعطى فهو حقه، وما أباحه له فهو المباح، وما نهاه عنه فهو حرام عليه، فلهذا قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ [التوبة: 59] ولم يقل هنا ورسوله لأن الله تعالى وحده حسب عبده، أي: كافيه، لا يحتاج الرب فيه كفايته إلى أحد لا رسول ولا نبي، ولهذا لا تجيء هذه الكلمة إلا لله وحده، كقوله: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران: 173] الآية. وقال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] وقال تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ إلى قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 62 - 64]. أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، كما قاله جمهور أهل العلم. ومن قال: إن الله ومن اتبعك حسبك، فقد غلط ولم يجعل الله وحده حسبه، بل جعله وبعض المخلوقين حسبه، وهذا مخالف لسائر آيات القرآن. وقال:

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] فهو وحده كاف عبده. وقال تعالى: يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] فلهذا قال تعالى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ولم يقل ورسوله، ثم قال: إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ [التوبة: 59] ولم يقل: ورسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده، كما قال: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح: 7، 8] فالرغبة تتضمن التوكل، وقد أمر أن لا يتوكّل إلا عليه، كقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا [المائدة: 23] وقوله: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 99] فالتوكل على الله وحده، والرغبة إليه وحده، والرهبة منه وحده ليس لمخلوق لا للملائكة ولا الأنبياء في هذا حق، كما ليس لهم حق في العبادة.

ولا يجوز أن نعبد إلا الله وحده ولا نخشى ولا نتقي إلا الله وحده، كما قال

ص: 222

تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2].

فإذا قال القائل: لا يجوز التوكل إلا على الله وحده، ولا العبادة إلا لله وحده، ولا يتّقى ويخشى إلا الله وحده؛ لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، كان هذا تحقيقا للتوحيد ولم يكن هذا سبا لهم ولا تنقصا بهم ولا عيبا لهم، وإن كان فيه بيان نقص درجتهم عن درجة الربوبية، فنقص المخلوق عن الخالق من لوازم كل مخلوق، ويمتنع أن يكون المخلوق مثل الخالق والملائكة والأنبياء كلهم عباد لله يعبدونه، كما قال تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] وقال تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ إلى قوله: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 26 - 29] فإذا نفى عن مخلوق ملك أو نبي أو غيرهما ما كان من خصائص الربوبية، وبيّن أنه عبد لله، كان هذا حقا واجب القبول، وكان إثباته إطراء للمخلوق، فإن دفعه عن ذلك كان عاصيا بل مشركا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنّما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله» «1» . والله تعالى قد وصفه بالعبودية حين أرسله وحين تحدّى وحين أسرى به، فقال تعالى:

وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: 19] وقال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة:

23] وقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1]. وأهل الباطل يقولون لمن وصفهم بالعبودية إنه عابهم وسبّهم ونحو ذلك، كما ذكر طائفة من المفسرين أن وفد نجران قالوا: يا محمد؛ إنك تعيب صاحبنا وتقول إنه عبد فقال النبي عليه السلام:

ليس بعيب لعيسى أن يكون عبد الله، فنزل: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] أي لم يأنف المسيح من ذلك، ولم يتعظم من جعله عبدا لله. فعند النصارى الغلاة أنه سبّه وعابه. ولهذا لما سأل النجاشي جعفر بن أبي طالب: ما تقول في المسيح عيسى؟ فقال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، رفع النجاشي عودا، وقال: ما زاد المسيح على ما قلت هذا العود، فنخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم «2» . فهم يجعلون قول الحق في المخلوق سبا له،

(1) تقدم تخريجه.

(2)

القصة أخرجها ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 334) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 115) وفي «دلائل النبوة» (194) وأحمد (1/ 201 - 202 و5/ 290 - 292) والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 301 - 303).

من طريق: محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وإسناد القصة حسن؛ صرّح ابن إسحاق فيها بالتحديث عند أحمد وغيره.-

ص: 223

وهم يسبّون الله ويصفونه بالنقائص والعيوب، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يقول الله: شتمني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، وكذّبني وما ينبغي له ذلك. فأما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وأما تكذيبه إيّاي فقوله: إنه لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته» «1» . رواه البخاري من حديث ابن عباس «2» فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء يسبّونه، وقد كان معاذ بن جبل يقول عن النصارى:«لا ترحموهم فقد سبّوا الله سبّة ما سبّه إياها أحد من البشر» . وهذا نظير ما ذكره الله تعالى عن المشركين بقوله:

وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء: 36] أي يعيبها وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ [الأنبياء: 36]. فكانوا ينكرون على محمد عليه السلام أن يذكر آلهتهم بما تستحقه، وهم يكفرون بذكر الرحمن ولا ينكرون ذلك، كما قال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108].

وهكذا من فيه شبه من اليهود والنصارى والمشركين تجده يغلو في بعض المخلوقين من المشايخ والأئمة والأنبياء وغيرهم، إذا ذكروا بما يستحقونه أنكر ذلك ونفر منه وعادى من فعل ذلك، وهو وأصحابه يستخفّون بعبادة الله وحده وبحقّه وبحرماته وشعائره، ولا ينكر ذلك. ويحلف أحدهم بالله ويكذّب، ويحلف بمن يعظّمه ويصدّق، ولا يستجيز الكذب إذا حلف به، وهؤلاء من جنس النصارى والمشركين. وكذلك قد يعيبون من نهى عن شركهم؛ كالحج إلى القبور التي يحجّون إليها عادة، وهم يستخفون بحرمة الحج إلى بيت الله ويجعلون الحج إلى القبور أفضل منه. وقد ينهون عن الحج اعتياضا إلى القبور، ويقولون: هذا الحج الأكبر، وهؤلاء من جنس المشركين وعبّاد الأوثان. وكذلك هذا المعترض وأمثاله يرون النهي عن الحج إلى قبور الأنبياء والصالحين إخلالا بحقهم، ومعاداة لهم، ونحو ذلك. وهم لا يرون الشرك بالله ودعاء غيره واتخاذ عباده من دونه أولياء؛ إخلالا بحقه ومعاداة له.

ومعلوم أن المشركين من أعظم أعداء الله عز وجل، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] إلى قوله: حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4] فأمر بالتأسي بإبراهيم ومن معه لما تبرّءوا من المشركين وما يعبده المشركون، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده. فالمشرك

- وانظر «المجمع» (6/ 24 - 27). وتحقيق العلامة محمد شاكر على «المسند» رقم (1740) و «فقه السيرة» بتخريج الشيخ الألباني (ص 115).

(1)

أخرجه البخاري (3193، 4974، 4975). ولم يخرجه مسلم، فعزوه للصحيحين وهم، والله أعلم.

(2)

برقم (4482).

ص: 224

والآمر بالشرك والراضي به، معاد لله، ومن عادى الله فقد عادى أنبياءه وأولياءه.

وأما من أمر بما جاءت به الرسل، فلم يعادهم ولم يعاندهم. قال الله تعالى:

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] إلى آخر السورة.

وهنا موضع يشكل وذلك أنه قال عليه السلام في الحديث الصحيح: «أصدق كلمة قد قالها شاعر كلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل» «1» وذلك مثل قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ [الحج: 62]. فالمراد بالباطل؛ ما لا ينفع، وكل ما سوى الله لا تنفع عبادته، كما في الأثر:«أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم» فإن هذا يدخل فيه كل ما عبد من دون الله من الملائكة والأنبياء، وهؤلاء قد سبقت لهم من الله الحسنى، فكيف يدخلون في الباطل؟ وكذلك قوله: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: 32]؟ فيقال: إن المراد عبادتهم والعمل لهم باطل، وقد يقال عن الشيء إنه لا شيء لانتفاء المقصود منه ليس بشيء، وكما قال عليه السلام عن الكهان لما سئل عنهم، فقال:«ليسوا بشيء» . فقالوا: إنهم يحدّثون بالشيء فيكون حقا، فذكر:

«أن ذلك من الجن تخطف الكلمة من الحقّ ويزيدون فيها من الكذب مائة كذبة» «2» . فهم ليسوا بشيء؛ أي: لا ينتفع بهم فيما يقصد منهم، وهو الاستخبار عن الأمور الغائبة، لأنهم يكذبون كثيرا، فلا يدرى ما قالوه أهو صدق أم كذب، وهم مع ذلك موجودون يضلّون ويضلّون. فقوله:«ليس بشيء» مثل قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وقوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ [الحج: 62] فهو من جهة كونه معبودا باطل لا ينتفع به، ولا يحصل لعابده مقصود العبادة، وإن كان من جهة أخرى هو شمس وقمر ينتفع بضيائه ونوره، وهو يسجد لله ويسبّحه. وكذلك الملائكة والأنبياء إذا نفي عنهم كونهم آلهة معبودين تبيّن أن عبادتهم عمل باطل لا ينتفع به لم ينف ذلك ما يستحقونه من الإجلال والإكرام، وعلوّ قدرهم عند الله تعالى، والتبرّي من عبادتهم، وكونهم معبودين، لا من موالاتهم والإيمان بهم، وقولهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة: 4] أي: ومن عبادتهم ومن كونهم معبودين، كما قال الخليل عليه السلام: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 78] فهو بريء من كل شريك لله من جهة كونه جعل شريكا وندا لله، ولم يبرأ منه من

(1) أخرجه البخاري (3841، 6147، 6489) ومسلم (2256).

(2)

أخرجه البخاري (5762) ومسلم (2228) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 225

جهات أخرى فإبراهيم لم يبرأ من الشمس والقمر والكواكب من جهة كونها مسخّرة لمنافع العباد، وكونها تسجد لله وتسبّحه، وكونها من آياته العظيمة، بل من جهة كونها شركا لله، وقوله: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وإن كان يقال: ما يعبدونه، إن من شرككم فقد صرح في قوله: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي بريء من المعبودين من دون الله، وكذلك قوله: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 75 - 77].

أما الأوثان ونحوها فتعادى مطلقا، والشمس والقمر والملائكة والكواكب تعادى عبادتها وكونها آلهة معبودة، فتبغض من هذه الجهات وتعادى مع وجوب الإيمان بالملائكة، وإذا قيل للنصارى نحن براء من شرككم ومما تعبدون من دون الله، وقد قال تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة: 76] هذا بعد قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] فقد عبد المسيح وغيره، فالبراءة من كل معبود سوى الله؛ كالبراءة من كل إله سوى الله، وذلك براءة من الشرك ومن كون ما سوى الله معبودا، وليس هو براءة من المسيح من جهة كونه رسولا كريما وجيها عند الله، بل براءة مما قيل فيه من الباطل لا من الحق، والمسيح والملائكة وغيرهم يتبرّءون ممن عبدوهم، ويعادونهم ولا يوالونهم، قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ إلى قوله تعالى: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40، 41] وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الفرقان: 17] الآية. وقال تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: 62] الآية. وقال تعالى: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ [الكهف: 102] وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ [الشورى: 9] وقال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام: 14] الآية. وهو سبحانه لم ينه عن موالاتهم دونه، فمن أحبهم ووالاهم لله فهو موحّد، ومن جعلهم أندادا أحبهم كما يحب الله فهو مشرك، فالحب لله توحيد وإيمان، والحب كما يحبّ الله شرك وكفر. وكذلك الشفاعة، قال تعالى:

ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة: 4] وقال تعالى: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام: 70] وقال عز وجل: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3] وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] وقال تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] فتبيّن أنه لا تنفع شفاعة الملائكة والأنبياء ولا غيرهم إلا لمن أذن له، حتى إذا قضي بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان، وصعقوا فلا يعلمون ما قال: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ

ص: 226

رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] فحينئذ يعلمون ما قضى به «1» . فكيف يشفعون بدون إذنه.

قال الله تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 26، 27] وقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً [الزمر: 43] الآية. وأوجه الشفعاء وأول شافع يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أحاديث الشفاعة أن الناس يوم القيامة إذا ذهبوا إلى آدم ليشفع لهم يردهم إلى نوح، ونوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى المسيح، والمسيح إلى محمد صلى الله عليهم أجمعين، فيقول: اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر له الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، قال صلى الله عليه وسلم:«فيأتوني فأذهب إلى ربي فإذا رأيت ربّي خررت ساجدا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن، وحينئذ فيقول تعالى: أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفّع، قال: فأقول: أي ربّ أمتي فيحدّ لي حدا فأدخلهم الجنة» «2» . وكذلك ذكر في الثانية والثالثة وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قلت: «يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه» «3» . فقد بيّن أوجه الشفعاء أنه إذا أتى يبدأ بالسجود لله والحمد لله، لا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له، فإذا أذن له فحينئذ يشفع، فإذا شفع حدّ له حدا فيدخلهم الجنة.

وبيّن أن أولى الناس بشفاعته من كان أعظم إخلاصا وتوحيدا لا من كان سائلا وطالبا منه أو من غيره، فالأمر كله لله وحده لا شريك له، هو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبل شفاعة الشفيع فيمن يختار، فربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون. فالذين يخالفون شريعة الأنبياء ويغلون فيهم ويقولون إنهم يحبونهم ويوالونهم ويعظمونهم بذلك؛ فالأنبياء يتبرّءون منهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم بريء من عمل من يخالف أمره وسنّته، قال الله تعالى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء: 216] ولا ينفع من عصى الرسول أن يقول: قصدي تعظيمهم، فإنه إنما أمر بطاعتهم، ولم يؤمر أن يعبد الله بالظن وما تهوى الأنفس، قال الله تعالى:

وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ إلى قوله: شَهِيدٌ [المائدة: 116، 117]. فقد أخبر أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به؛ أن يعبدوا الله وحده، وكذلك سائر الأنبياء، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ

(1) كما في «صحيح البخاري» (4701، 4800، 7481) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

تقدم

(3)

أخرجه البخاري (99، 6570).

ص: 227

أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. وهو سبحانه إنما يعبد بما شرع من الدين، لا يعبد بما شرع من الدين بغير إذنه فإن ذلك شرك، قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] وقال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً إلى قوله: ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] والدين الذي شرعه إما واجب، وإما مستحب، فكل من عبد عبادة ليست واجبة في شرع الرسول ولا مستحبة؛ كانت من الشرك والبدع. والحجّ إلى القبور ليس من شرعه، لا واجبا ولا مستحبا، فإنه لا يقدر أحد أن ينقل عنه حديثا صحيحا في استحباب ذلك، ولا عن أصحابه، ولا علماء أمته، وإنما ينقل في ذلك أحاديث مكذوبة، فهي من الإفك والشرك. وإنما السفر إلى المساجد الثلاثة لأنه سفر إلى بيوت الله التي بنتها الأنبياء لعبادته، واحدها يجب الحج إليه، والآخر أن يستحب السفر إليهما.

والحج الواجب كما يختص بذلك المكان فهو يختص بأعمال لا تشرع في غيره، كالطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى، ورمي الجمار، وسوق الهدي إلى هناك، وغير ذلك.

وأما المسجدان الآخران فلا يشرع فيهما إلا من جنس ما يشرع لسائر المساجد؛ كالصلاة والذكر والدعاء والاعتكاف، لكن للعبادة فيهما فضيلة على العبادة في سائر المساجد أوجبت تلك الفضيلة أن يشرع السفر إليهما.

وقبر النبي صلى الله عليه وسلم مجاور مسجده فإذا أتى مسجده فعل فيه ما يشرع له من حق الرسول من الصلاة والسلام وغير ذلك، وكل ما يفعله من ذلك في مسجده فهو مشروع في سائر المساجد والأمكنة، لكن مسجده أفضل، فالصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام. وهذا الفعل المشروع في حقه، كالصلاة والسلام هل يسمى زيارة لقبره، ويطلق ذلك عليه؟ على قولين معروفين. فإنه لا يوصل إلى قبره ويزار الزيارة المعروفة في حق غيره، بل قد منع الناس من ذلك، فما بقي المشروع هناك كالمشروع من الزيارة لسائر القبور، إذا كان الله قد خص نبيه بالأمر بالصلاة والسلام عليه في كل مكان وزمان، وخصّ بالدفن في حجرته، فلا يصل أحد إليه لئلا يتّخذ قبره مسجدا ووثنا وعيدا. وكلما تدبر الإنسان ما أمر به وشرعه تبين له أنه جمع في شرعه بين كمال توحيد الربّ وإخلاص الدين له، وبين كمال طاعة الرسل وتعزيرهم ومحبتهم وموالاتهم ومتابعتهم، فأسعد الناس في الدنيا والآخرة أتبعهم للرسول باطنا وظاهرا، صلى الله عليه وسلم تسليما، والحمد لله وصلواته وسلامه على محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ص: 228

وجد في آخر الأصل ما نصه: «آخر كتاب الرد على الأخنائي قاضي المالكية، واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية لا البدعية» . لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية. أنهاه بقلمه راجي عفو ربه وكرمه الفقير إلى رحمة ربه الولي حسين بن حسن بن حسين بن علي غفر الله له ولوالديه ولكافة المسلمين. جعله الله نافعا من قرأه ومن نظر فيه ومن سأل لوالدي المغفرة، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. غرة جمادى الآخرة سنة 1303 هـ» «1» .

(1) قال أبو عبد الله- عفا الله عنه-: وقد انتهيت من تحقيقه والتعليق عليه في عصر يوم الأربعاء، العاشر من رمضان المبارك، عام واحد وعشرين وأربعمائة وألف لهجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 229