الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اتخذه مسجدا جعل عنده صورة محراب أو قريبا منه، وإذا كان الباب مغلقا جعل له شبّاكا على الطريق ليراه الناس فيه، فيدعونه.
وقبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا كله، لم يجعل للزوّار طريق إليه بوجه من الوجوه، ولا قبر في مكان كبير يسع الزوّار، ولا جعل للمكان شبّاك يرى منه القبر، بل منع الناس من الوصول إليه والمشاهدة.
ومن أعظم ما منّ الله به على رسوله وعلى أمته واستجاب فيه دعاءه؛ أن دفن في بيته بجانب مسجده، فلا يقدر أحد أن يصلّي إلا إلى المسجد.
والعبادة المشروعة في المسجد معروفة، بخلاف ما لو كان قبره منفردا عن المسجد. والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد، وإذا سمّي هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمّى له، إنما هو إتيان إلى مسجده، ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ.
ولا عند قبره قناديل معلّقة، ولا ستور مسبلة، بل إنما تعلّق القناديل في المسجد المؤسّس على التقوى، ولا يقدر أحد أن يخلّق نفس قبره بزعفران أو غيره من الخلوق، ولا ينذر له زيتا ولا شمعا ولا سترا، ولا غير ذلك مما ينذر لغير قبره، وإن كان فعل شيء من ذلك في ظاهر الحجرة، أو كان في بعض الأحوال قد ستر بعض الناس الحجرة، أو خلّقها بعضهم بزعفران؛ فهذا إنما هو للحائط الذي يلي المسجد، لا من باطن الحجرة والقبر، كما يفعل بقبر غيره.
فعلم أن الله سبحانه استجاب دعاءه حيث قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» وإن كان كثير من الناس يريدون أن يجعلوه وثنا، ويعتقدون أن ذلك تعظيم له، كما يريدون ذلك ويعتقدونه في قبر غيره، فهم لا يتمكّنون من ذلك، بل هذا القصد والاعتقاد خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج، بخلاف القبر الذي جعله وثنا.
[الأنبياء والأولياء الذين عبدوا من دون الله لا إثم عليهم، إنما الإثم على من عبدهم]
وإن كان الميت وليا لله لا إثم عليه من فعل من أشرك به، كما لا إثم على المسيح من فعل من أشرك به، كما قال تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ إلى قوله: عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 116، 117]. وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [المائدة: 72] وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ إلى قوله: نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً [الفرقان: 17 - 19].
فالمعبودون من دون الله سواء كانوا أولياء كالملائكة والأنبياء والصالحين، أو كانوا أوثانا؛ قد تبرّءوا ممّن عبدهم وبيّنوا أنه ليس لهم أن يوالوا من عبدهم ولا أن يواليهم من عبدهم، فالمسيح وغيره كانوا برآء من المشرك بهم ومن إثمه، لكن المقصود بيان ما فضّل الله به محمدا وأمته وأنعم به عليهم من إقامته التوحيد لله؛ والدعوة إلى عبادته وحده، وإعلاء كلمته ودينه، وإظهار ما بعثه الله به من الهدى ودين الحقّ، وما صانه الله به وصان قبره من أن يتّخذ مسجدا.
فإن هذا من أقوى أسباب ضلال أهل الكتاب، ولهذا لعنهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك تحذيرا لأمته، وبيّن أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
ولما كان أصحابه أعلم الناس بدينه وأطوعهم له؛ لم يظهر فيهم من البدع ما ظهر فيمن بعدهم، لا في أمر القبور ولا غيرها، فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه من تعمّد الكذب على نبيّهم، وكذلك البدع الظاهرة المشهورة؛ مثل بدعة الخوارج، والروافض، والقدرية «1» ، والمرجئة «2» ، لم يعرف
(1) القدرية: هم أتباع معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، وسمّوا بالقدرية من باب تسمية الشيء بضده، فهم نفاة القدر والمشيئة عن الله، وزعموا أن العبد مستقل بإرادته وقدرته، ليس لله في فعله مشيئة. وهم مجوس هذه الأمة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وسمّوا بذلك لأنهم يشبهون المجوس القائلين بأن للعالم خالقين: النور يخلق الخير، والظلام وهو يخلق الشر. وكذلك القدرية قالوا: إن للحوادث خالقين، فالحوادث التي من فعل العبد يخلقها العبد، والتي من فعل الله يخلقها الله.
انظر «الفرق بين الفرق» (ص 14) و «مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين» (4/ 229 - وما بعدها).
(2)
الإرجاء في اللغة: يأتي بمعنى التأخير، أو بمعنى: إعطاء الرجاء.
والمرجئة: هم الذين قالوا بإرجاء الأعمال عن الإيمان، أي: أن الإيمان مجرد التصديق، وأن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، ثم فرعوا على ذلك فروعا. وهم فرق كثيرة، ولهم اعتقادات أخرى.
انظر عنهم: «الملل والنحل» (1/ 161 - وما بعدها) - المعرفة- و «الفرق بين الفرق» (ص 151) و «مقالات الإسلاميين» (1/ 213 - وما بعدها) و «فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام» (2/ 923 - وما بعدها).
تنبيه: لم أجعل من مراجعي عن المرجئة هنا كتاب الشيخ سفر الحوالي «ظاهرة الإرجاء» مع ما فيه من نبذ عن المرجئة، وبعض الفوائد- وهذا لا يخلو منه كتاب- وذلك أن الكتاب فيه تقرير لبعض مناهج الخوارج والقطبيين ومدح لرموزهم، وفيه طعن بالعلماء السلفيين- وعلى رأسهم المحدث الألباني- هذا أولا.
وثانيا: أن العلماء قد حذّروا من هذا الكتاب؛ فقد قال عنه المحدث الألباني- رحمه الله: «هذا كتاب غاية في السوء، ما كنت أظنّ أن الأمر يصل بصاحبه إلى هذا الحد» . انظر: «مع شيخنا ناصر السنة والدين» للشيخ علي بن حسن الحلبي سلّمه الله من كل سوء ص 49.
وللشيخ الألباني ردّ على هذا الكتاب، يسّر الله طبعه ونشره.
وانظر «مسائل علمية في الدعوة والسياسة الشرعية» للشيخ علي بن حسن- حفظه الله وأيّده- ص 30 - 31.
عن أحد من الصحابة شيء من ذلك، بل النقول الثابتة عنهم تدلّ على موافقتهم للكتاب والسنة.
وكذلك اجتماع رجال الغيب بهم أو الخضر أو غيره، وكذلك مجيء الأنبياء إليهم في اليقظة، وحمل من يحمل منهم إلى عرفات، ونحو ذلك مما وقع فيه كثير من العباد، وظنوا أنه كرامة من الله، وكان من إضلال الشياطين لهم ما لم تطمع الشياطين أن توقع الصحابة في مثل هذا، فإنهم كانوا يعلمون أن هذا كله من الشيطان، ورجال الغيب هم الجن، قال تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: 6].
وكذلك الشرك بأهل القبور، لم يطمع الشيطان أن يوقعهم فيه، فلم يكن على عهدهم في الإسلام قبر يسافر إليه ولا يقصد للدعاء عنده، أو لطلب بركة شفاعته، وغير ذلك، بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وقبره عندهم محجوب- لا يقصده أحد منهم لشيء من ذلك، وكذلك التابعون لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين.
وإنما تكلم العلماء والسلف في الدعاء للرسول عند قبره؛ منهم من نهى عن الوقوف للدعاء له دون السلام عليه، ومنهم من رخّص في هذا وهذا. وأما دعاؤه هو وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته؛ فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين الأربعة ولا غيرهم. بل الأدعية التي ذكروها خالية من ذلك.
أما مالك رضي الله عنه فقد قال القاضي عياض: وقال مالك في «المبسوط» : لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، لكن يسلّم ويمضي.
وهذا الذي نقله القاضي عياض ذكره إسماعيل بن إسحاق في «المبسوط» قال:
وقال مالك: لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم يمضي. وقال مالك رضي الله عنه ذلك لأن هذا هو المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول:«السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت- أو يا أبتاه-» . ثم ينصرف، ولا يقف يدعو.
فرأى مالك ذلك من البدع. قال: وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر، لا إلى القبلة، ويدنو ويسلّم ولا يمسّ القبر بيده.
فقوله في هذه الرواية: «إذا سلّم ودعا» قد يريد بالدعاء السلام؛ فإنه قال: «يدنو ويسلّم ولا يمسّ القبر بيده» ويؤيد ذلك أنه قال في رواية ابن وهب: يقول السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، وقد يريد؛ أنه يدعو له بلفظ الصلاة، كما ذكر في الموطأ من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر؛ أنه كان يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى
أبي بكر وعمر. وفي رواية يحيى بن يحيى «1» . وقد غلّطه ابن عبد البر وغيره، وقالوا: إنما لفظ الرواية ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما: يصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر.
قال أبو الوليد الباجي: وعندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة، ولأبي بكر وعمر، لما في حديث ابن عمر من الخلاف.
قال القاضي عياض: وقال في «المبسوط» : لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلّي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر. فإن كان أراد بالدعاء السلام أو الصلاة فهو موافق لتلك الرواية، وإن كان أراد دعاء زائدا؛ فهي رواية أخرى، وبكل حال فإنما أراد الدعاء اليسير.
وأما ابن حبيب فقال: ثم يقف بالقبر متواضعا موقرا فيصلي عليه ويثني بما يحضر، ويسلّم على أبي بكر وعمر. فلم يذكر إلا الثناء عليه مع الصلاة.
والإمام أحمد ذكر مع الثناء عليه بلفظ الشهادة له بذلك مع الدعاء له بغير الصلاة مع دعاء الداعي لنفسه أيضا، ولم يذكر أن يطلب منه شيئا ولا يقرأ عند القبر قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] ولم يذكر ذلك مالك والمتقدمون من أصحابه، ولا جمهورهم، بل قال في منسك المروذي:«ثم ائت الروضة، وهي بين القبر والمنبر، فصلّ فيها وادع بما شئت، ثم ائت قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقل: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، وأشهد أنك بلّغت رسالة ربك ونصحت لأمتك، وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته، ورفع درجتك العليا، وتقبّل شفاعتك الكبرى، وأعطاك سؤلك في الآخرة والأولى كما تقبّل من إبراهيم، اللهم احشرنا في زمرته، وتوفّنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشربا رويا لا نظمأ بعدها أبدا» .
وما من دعاء أو شهادة وثناء يذكر عند القبر إلا قد وردت السنة بذلك أو ما هو أحق منه في سائر البقاع، لا يمكن أحد أن يأتي بذكر يشرع عند القبر دون غيره، وهذا تحقيق لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يتّخذ قبره أو بيته عيدا، فلا يقصد تخصيصه بشيء من الدعاء للرسول فضلا عن الدعاء لغيره، بل يدعى بذلك للرسول حيث كان الداعي، فإن ذلك
(1) قال الشيخ المعلّمي- رحمه الله تعالى-: «يظهر أن هنا سقطا، وفي «الموطأ» - رواية يحيى بن يحيى- عن مالك، عن عبد الله بن دينار، قال: ورأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر» اه.
وقد تقدم تخريج الأثر في أول الكتاب.
يصل إليه صلى الله عليه وسلم تسليما، وهذا بخلاف ما شرع عند قبر غيره، لقوله:«السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين» . فإن هذا لا يشرع إلا عند القبور، لا يشرع عند غيرها، وهذا مما يظهر الفرق بينه وبين غيره، وأن ما شرعه وفعله أصحابه من المنع من زيارة قبره كما تزار القبور هو من فضائله، وهو رحمة لأمته، ومن تمام نعمة الله عليها، فالسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئا ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته، ويطلب منه يوم القيامة؛ لا شفاعة ولا استغفارا ولا غير ذلك، وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه عند الحجرة، فبعضهم رأى هذا من السلام الداخل في قوله صلى الله عليه وسلم:«ما من رجل يسلّم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» واستحبه لذلك، وبعضهم لم يستحبه؛ إما لعدم دخوله، وإما لأن السلام المأمور به في القرآن مع الصلاة، وهو الصلاة والسلام الذي لا يوجب الرد أفضل من السلام الموجب للرد، فإن هذا مما دلّ عليه الكتاب والسنة واتّفق عليه السلف، فإن السلام المأمور به في القرآن كالصلاة المأمور بها في القرآن، كلاهما لا يوجب الرد، بل الله تعالى يصلّي على من صلّى عليه، ويسلّم على من سلّم عليه، ولأن السلام الذي يوجب الرّدّ هو حق المسلم، كما قال تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء: 86]. ولهذا يردّ السلام على من سلّم وإن كان كافرا، فكان اليهود إذا سلموا عليه يقول:«وعليكم، أو عليكم» . وأمر أمته بذلك، وإنما قال صلى الله عليه وسلم:«عليكم» لأنهم قد يقولون: السام عليك. والسام: الموت. فيقال: عليكم، قال صلى الله عليه وسلم:«يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا» ولما قالت عائشة رضي الله عنها:
وعليكم السام واللعنة؛ قال: «مهلا يا عائشة؛ فإن الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كله، أو لم تسمعي ما قلت لهم- يعني رددت عليهم- فقلت: عليكم» «1» . فإذا قالوا: السام، قال: عليكم. وأما إذا علم أنهم قالوا السلام فلا يخصون بالرد فيقال: عليكم، فيصير المعنى السلام عليكم لا علينا، بل يقال: وعليكم. وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته لهم:
«وعليكم» فإنما هو جزاء دعائهم وهو دعاء بالسلامة، والسلام أمان فقد يكون المستجاب هو سلامتهم منا أي من ظلمنا وعدواننا.
وكذلك كل من رد السلام على غيره فإنما دعا له بسلام، وهذا مجمل، ومن الممتنع أن يكون كل من ردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام من الخلق دعا له بالسلامة من عذاب الدنيا والآخرة، فقد كان المنافقون يسلّمون عليه ويرد عليهم، ويرد على المسلمين أصحاب الذنوب وغيرهم، ولكن السلام فيه أمان. فلهذا لا يبتدأ الكافر
(1) تقدّم.
الحربي بالسلام «1» ، بل لما كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قيصر قال فيه:«من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى» كما قال موسى لفرعون. والحديث في الصحيحين من رواية ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب في قصته المشهورة لما قرأ قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن أحواله «2» .
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ابتداء اليهود بالسلام، فمن العلماء من حمل ذلك على العموم، ومنهم من رخّص إذا كانت للمسلم إليه حاجة أن يبتدئه بالسلام، بخلاف اللقاء، والكفار كاليهودي والنصراني يسلّمون عليه وعلى أمته سلام التحية الموجب للرد، وأما السلام المطلق فهو كالصلاة عليه إنما يصلي عليه ويسلم عليه أمته، فاليهود والنصارى لا يصلون ويسلمون عليه، وكانوا إذا رأوه يسلّمون عليه، فذاك الذي يختص به المؤمنون ابتداء وجوابا أفضل من هذا الذي يفعله الكفار معه ومع أمته ابتداء وجوابا، ولا يجوز أن يقال: إن الكفار إذا سلموا عليه سلام التحية فإن الله يسلم عليهم عشرا، فإنه يجيبهم على ذلك فيوفّيهم، كما لو كان له دين فقضاه.
وأما ما يختص بالمؤمنين فإذا صلّوا عليه صلّى الله على من صلّى عليه عشرا وإذا سلّم عليه سلّم الله عليه عشرا، وهذه الصلاة والسلام هو المشروع في كل مكان بالكتاب والسنة والإجماع، بل هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى، لا فرق في هذا بين الغرباء وأهل المدينة عند القبر، وأما السلام عند القبر فقد عرف أن الصحابة والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولو كان هذا كالسلام عليه لو كان حيا لكانوا يفعلونه كلّما دخلوا المسجد وخرجوا منه، كما لو دخلوا المسجد في حياته وهو فيه، فإنه مشروع لهم كلما رأوه أن يسلّموا عليه، بل السنة لمن جاء إلى قوم أن يسلّم عليهم إذا قدم وإذا قام كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال:«ليست الأولى بأحق من الآخرة» «3» .
فهو حين كان حيا كان أحدهم إذا أتى يسلم وإذا قام يسلم، ومثل هذا لا يشرع عند القبر باتفاق المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من عادة الصحابة. ولو كان سلام التحية خارج الحجرة مستحبا؛ لكان مستحبا لكل أحد، ولهذا كان أكثر السلف لا يفرّقون بين الغرباء وأهل المدينة، ولا بين حال السفر وغيره، فإن استحباب هذا
(1) ولا الذّمي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام .. الحديث» .
وانظر «فتح السلام في أحكام السلام» ص 99 - 103.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد (2/ 230، 287، 439) وأبو داود (5208) والترمذي (2707) والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (369) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: «حديث حسن» .
وحسنه الشيخ الألباني- رحمه الله.
لهؤلاء وكراهته لهؤلاء حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، ولا يمكن أحدا أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر، وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولم يشرع ذلك لأهل المدينة.
فمثل هذه الشريعة ليس منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه، ولا هو معروف من عمل الصحابة، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة، كما كان ابن عمر يتحرّى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وعبر في السفر، وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك، بل أبوه عمر كان ينهى عن مثل ذلك.
روى سعيد بن منصور في سننه حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجّها فقرأ بنا في صلاة الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الفيل: 1]. ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش: 1] في الثانية. فلما رجع من حجّه رأى الناس ابتدروا المسجد فقال: ما هذا؟ فقالوا:
مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا ملّة أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصلّ ومن لم تعرض له فليمض» «1» .
وما اتفق عليه الصحابة ابن عمر وغيره من أنه لا يستحبّ لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا، بل يكره ذلك، فتبين ضعف حجّة من احتج بقوله:«ما من رجل يسلّم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام» . فإن هذا لو دل على استحباب السلام عليه من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك، ولم يفرق في ذلك بين القادم من السفر وغيره، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسّره علم أنه غير مستحب، بل لو كان جائزا لفعله بعضهم، فدل على أنه كان عندهم من المنهيّ عنه، كما دلت عليه سائر الأحاديث.
وعلى هذا فالجواب عن الحديث؛ إما بتضعيفه على قول من يضعّفه، وإما بأن ذلك يوجب فضيلة الرسول بالرد لا فضيلة المسلّم بالرد عليه، إذ كان هذا من باب المكافأة والجزاء، حتى أنه يشرع للبر والفاجر، وإما بأن يقال: هذا إنما هو فيمن سلّم عليه من قريب، والقريب أن يكون في بيته، فإنه إن لم يحدّ بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع، كما تقدم ذكر هذا.
وأما الوجه الثاني: فتوجيهه؛ أن الحديث ليس فيه ثناء على المسلّم ولا مدح
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/ 84) وعبد الرزاق (1/ 118 - 119/ 2734) وسعيد بن منصور.
بإسناد صحيح على شرط الشيخين، كما قال المحدث الألباني في «تحذير الساجد» ص (93).
له، ولا ترغيب له في ذلك، ولا ذكر أجر له، كما جاء في الصلاة والسلام المأمور بهما، فإنه قد وعد أن من صلّى عليه مرة صلّى الله عليه عشرا، وكذلك من سلّم عليه، وأيضا فهما مأمور بهما، وكل مأمور به ففعله محمود مشكور مأجور.
وأما قوله: «ما من رجل يمر بقبر الرجل فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، وما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» . فإنما فيه مدح المسلّم عليه، والإخبار بسماعه السلام، وأنه يرد السلام، فيكافئ المسلّم عليه لا يبقى للمسلم عليه فضل فإنه بالرد تحصل المكافأة، كما قال تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء: 86] ولهذا كان الرد من باب العدل المأمور به الواجب لكل مسلم إذا كان سلامه مشروعا، وهذا كقوله:«من سألنا أعطيناه ومن لم يسألنا أحبّ إلينا» «1» . هو إخبار بإعطائه السائل، ليس هذا أمرا بالسؤال، وإن كان السلام ليس مثل السؤال، لكن هذا اللفظ إنما يدل على مدح الراد، وأما المسلّم فيقف الأمر فيه على الدليل. وإذا كان المشروع لأهل مدينته أن لا يقفوا عند الحجرة ويسلّموا عليه، علم قطعا أن الحديث لم يرغّب في ذلك.
(1) أخرجه بهذا اللفظ: ابن أبي الدنيا في «القناعة» (76) والحارث بن أبي أسامة في مسنده كما في «الإتحاف» (9/ 305).
وقال العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» رقم (3976): «وفيه حصن بن هلال-[كذا، وصوابه:
هلال بن حصن]- لم أر من تكلّم فيه، وباقيهم ثقات».
وأخرجه أحمد في «المسند» (3/ 44) قال: حدثنا محمد بن جعفر وحجاج، قالا: حدثنا شعبة؛ قال:
سمعت أبا جمرة يحدّث عن هلال بن حصن، قال: نزلت على أبي سعيد الخدري؛ فضمّني وإياه المجلس، قال: فحدّث أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه حجرا من الجوع، فقالت له امرأته أو أمه: ائت النبي صلى الله عليه وسلم فاسأله، فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه، وأتاه فلان فسأله فأعطاه، فقال: قلت: حتى ألتمس شيئا، قال: فالتمست؛- فأتيته، قال: حجاج: فلم أجد شيئا، فأتيته- وهو يخطب، فأدركت من قوله وهو يقول:«من استعفّ يعفه الله، ومن استغنى يغنه الله، ومن سألنا؛ إما أن نبذل له، وإما أن نواسيه- أبو جمرة الشاك- ومن يستعفّ عنا أو يستغني أحبّ إلينا ممن يسألنا» . قال: فرجعت فما سألته شيئا، فما زال الله عز وجل يرزقنا حتى ما أعلم في الأنصار أهل بيت أكثر أموالا منا.
قلت: وإسناده رجاله ثقات، وهلال بن حصن، ذكره البخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 204) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (9/ 73) ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا. وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/ 504).
وللحديث طرق أخرى عن أبي سعيد.
فقد أخرجه أحمد (3/ 3) والطيالسي (2161).
من طريق: أبي بشر، عن نضرة، عن سعيد به، بنحو منه.
وإسناده صحيح.
وأخرجه أحمد (3/ 4) من طريق: عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن معاوية، عن الحارث مولى ابن سباع، عن أبي سعيد به، بنحو منه.
وإسناده حسن بالشواهد.
ومما يبين ذلك أن مسجده كسائر المساجد لم يختصّ بجنس من العبادات لا يشرع في غيره، وكذلك المسجد الأقصى، ولكن خصّا بأن العبادة فيهما أفضل، بخلاف المسجد الحرام، فإنه مخصوص بالطواف واستلام الركن وتقبيل الحجر وغير ذلك، وأما المسجدان الآخران فما يشرع فيهما من صلاة وذكر واعتكاف، وتعلّم وتعليم، وثناء على الرسول، وصلاة عليه، وتسليم عليه، وغير ذلك من العبادات، فهو مشروع في سائر المساجد، والعمل الذي يسمّى زيارة لقبره لا يكون إلا في مسجده، لا خارجا عن المسجد. فعلم أن المشروع من ذلك العمل مشروع في سائر المساجد لا اختصاص لقبره بجنس من أجناس العبادات، ولكن العبادة في مسجده أفضل منها في غيره، لأجل المسجد لا لأجل القبر.
ومما يوضّح هذا؛ أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلّم باسم زيارة قبره؛ لا ترغيبا في ذلك، ولا غير ترغيب، فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم، ولهذا كره من كره من العلماء إطلاق هذا الاسم، والذين أطلقوا هذا الاسم من العلماء إنما أرادوا به إتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه، إما قريبا من الحجرة، وإما بعيدا عنها، إما مستقبلا للقبلة وإما مستقبلا للحجرة.
وليس في أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم من احتج على ذلك بلفظ روي في زيارة قبره، بل إنما يحتجون بفعل ابن عمر مثلا، وهو أنه كان يسلّم، أو بما روي عنه من قوله صلى الله عليه وسلم:«ما من رجل يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» .
وذلك احتجاج بلفظ السلام لا بلفظ الزيارة.
وليس في شيء من مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول ولا عن أصحابه في زيارة قبره.
أما أكثر مصنفات جمهور العلماء فليس فيها استحباب شيء من ذلك، بل يذكرون المدينة وفضائلها وأنها حرم، ويذكرون مسجده وفضله وفضل الصلاة فيه والسفر إليه وإلى المسجد الحرام، ونذر ذلك ونحو ذلك من المسائل، ولا يذكرون استحباب زيارة قبره لا بهذا اللفظ ولا بغيره. فليس في الصحيحين وأمثالهما شيء من ذلك، ولا في عامة السنن مثل: النسائي والترمذي وغيرهما، ولا في مسند الشافعي وأحمد وإسحاق وأمثالهم من الأئمة.
وطائفة أخرى ذكروا ما يتعلق بالقبر لكن بغير لفظ زيارة قبره، كما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر. وكما قال أبو داود في «سننه»: باب ما جاء في زيارة القبر وذكر قوله: «ما من رجل يسلّم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» .
ولهذا أكثر كتب الفقه المختصرة التي تحفظ ليس فيها استحباب زيارة قبره، مع ما يذكرونه من أحكام المدينة، وإنما يذكر ذلك قليل منهم، والذين يذكرون ذلك يفسّرونه بإتيان المسجد كما تقدم.
ومعلوم أنه لو كان هذا من سنته المعروفة عند أمته المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين لكان ذكر ذلك مشهورا عند علماء الإسلام في كل زمان، كما اشتهر ذكر الصلاة عليه والسلام عليه، كما اشتهر عندهم ذكر مسجده وفضل الصلاة فيه، فلا يكاد يعرف مصنّف للمسلمين في الحديث والفقه إلا وفيه ذكر الصلاة والسلام عليه، وذكر فضل مدينته والصلاة في مسجده.
ولهذا لما احتاج المنازعون في هذه المسألة إلى ذكر سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وسنة خلفائه وما كان عليه أصحابه؛ لم يقدر أحد منهم على أن يستدلّ في ذلك بحديث منقول عنه إلا وهو حديث ضعيف؛ بل موضوع مكتوب. وليس معهم بذلك نقل عن الصحابة ولا عن أئمة المسلمين، فلا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال يستحبّ السفر إلى مجرّد زيارة القبور، ولا السفر إلى مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا السفر لمجرد زيارة قبره بدون الصلاة في مسجده، بل كثير من المصنفات ليس فيها إلا ذكر المسجد والصلاة فيه، وهي الأمهات؛ كالصحيحين ومسانيد الأئمة، وغيرهما.
وفيها ما فيه ذكر السلام عند الحجرة، كما جاء عن ابن عمر، وكما فهموه من قوله، ومنها ما يذكر فيه لفظ زيارة قبره والصلاة في مسجده، وفيها ما يطلق فيه زيارة قبره ويفسر ذلك بإتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه.
وأما التصريح باستحباب السفر لمجرد زيارة قبره دون مسجده فهذا لم أره عن أحد من أئمة المسلمين، ولا رأيت أحدا من علمائهم صرّح به، وإنما غاية الذي يدّعي ذلك أنه يأخذه من لفظ مجمل قاله بعض المتأخرين. مع أن صاحب ذلك اللفظ قد يكون صرّح بأنه لا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة، أو أن السفر إلى غيرها منهيّ عنه، فإذا جمع كلامه علم أن الذي استحبّه ليس هو السفر لمجرد القبر بل للمسجد. ولكن قد يقال: إن كلام بعضهم ظاهر في استحباب السفر لمجرد الزيارة.
فيقال: هذا الظهور إنما كان لما فهم المستمع من زيارة قبره ما يفهم من زيارة سائر القبور. فمن قال: إنه يستحبّ زيارة قبره كما يستحبّ زيارة سائر القبور، وأطلق هذا؛ كان ذلك متضمنا لاستحباب السفر لمجرّد القبر، فإن الحجّاج وغيرهم لا يمكنهم زيارة قبره إلا بالسفر إليه، لكن قد علم أن الزيارة المعهودة من القبور ممتنعة في قبره فليست من العمل المقدور ولا المأمور به، فامتنع أن يكون أحد من العلماء
يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة، وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك، لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوه.
ولو سلكوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة ومن تبعهم لم يسمّوا هذا زيارة لقبره، وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه، ودعاء له وثناء عليه في مسجده، سواء كان القبر هناك أو لم يكن. ثم كثير من المتأخرين لما رويت أحاديث في زيارة قبره ظن أنها أو بعضها صحيح، فتركّب من إجمال اللفظ ورواية هذه الأحاديث الموضوعة غلط من غلط في استحباب السفر لمجرد زيارة القبر، وإلا فليس هذا قولا منقولا عن إمام من أئمة المسلمين. وإن قدر أنه قاله بعض العلماء كان هذا قولا ثالثا في هذه المسألة.
فإن الناس في السفر لمجرد زيارة القبور لهم قولان: النهي والإباحة. فإذا كان قول من عالم مجتهد ممن يعتدّ به في الإجماع إن ذلك مستحبّ صارت الأقوال ثلاثة، ثم ترجع إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59].
والمقصود؛ أن هذا كلّه يبيّن ضعف حجّة المفرّق بين الصادر من المدينة والوارد عليها، والوارد على مسجده من الغرباء، والصادر عنه، وذلك أنه يمتنع أن يقال: إنه يرد على هؤلاء ولا يرد على أحد من أهل المدينة المقيمين فيها، فإن أولئك هم أفضل منه وخواصها؛ وهم الذين خاطبهم بهذا، فيمتنع أن يكون المعنى: من سلّم منكم يا أهل المدينة لم أردّ عليه ما دمتم مقيمين بها! فإن المقام بها هو غالب أوقاتهم، وليس في الحديث تخصيص، ولا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك.
يبين هذا؛ أن الحجرة لما كانت مفتوحة وكانوا يدخلون على عائشة لبعض الأمور ويسلّمون عليه، إنما كان يردّ عليهم إذا سلموا.
إن قيل: إنه لم يكن يرد عليهم فهذا تعطيل للحديث. وإن قيل: كان يرد عليهم من هناك ولا يرد إذا سلّموا من خارج؛ فقد ظهر الفرق.
وإن قيل: بل هو يرد على الجميع؛ فحينئذ إن كان رده لا يقتضي استحباب هذا السلام بطل الاستدلال به، وإن كان رده يقتضي الاستحباب وهو من سلّم من خارج؛ لزم أن يستحب لأهل المدينة السلام كلما دخلوا المسجد وخرجوا، وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان؛ وخلاف قول المفرّقين.
ومن أهل المدينة من قد لا يسافر منها أو لا يسافر إلا للحج، والقادم قد يقيم بالمدينة العشر والشهر، فهذا يرد عليه في اليوم والليلة عشر مرات وأكثر، كلما دخل
وكلما خرج، وذاك المدني المقيم لا يرد عليه قط، أو لا يرد عليه في عمره إلا مرة.
وأيضا فاستحباب هذا للوارد والصادر؛ تشبيه له بالطواف الذي يشرع للحاج عند الورود إلى مكة، وهو الذي يسمّى طواف القدوم وطواف التحية وطواف الورود، وعند الصدور وهو الذي يسمى طواف الوداع. وهذا تشبيه لبيت المخلوق ببيت الخالق، ولهذا لا يجوز الطواف بالحجرة بالإجماع، بل ولا الصلاة إليها؛ لما ثبت عنه في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أنه قال صلى الله عليه وسلم:«لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها» «1» .
وأيضا فالطواف بالبيت يشرع لأهل مكة وغيرهم كلما دخلوا المسجد، والوقوف عند القبر كلما دخل المدني لا يشرع بالاتفاق، فلم يبق الفرق بين المدني وغير المدني له أصل في السنة، ولا نظير في الشريعة، ولا هو مما سنّه الخلفاء الراشدون، وعمل به عامة الصحابة؛ فلا يجوز أن يجعل هذا من شريعته وسنته، وإذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر دون غيرهم؛ كان غايته أن يثبت به التسويغ، بحيث يكون هذا مانعا من دعوى الإجماع على خلافه، بل يكون كسائر المسائل التي ساغ فيها الاجتهاد لبعض العلماء، أما أن يجعل من سنة الرسول وشريعته وحكمه ما لم تدل عليه سنته، لكون بعض السلف فعل ذلك؛ فهذا لا يجوز.
ونظير هذا مسحه للقبر. قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله- يعني أحمد بن حنبل-: قبر النبي صلى الله عليه وسلم يلمس ويتمسح به؟
فقال: ما أعرف هذا.
قلت له: فالمنبر؟ قال: أما المنبر فنعم؛ قد جاء فيه. قال أبو عبد الله: شيء يروونه عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن عمر أنه مسح على المنبر.
قال: فيروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة.
قلت: ويروى عن يحيى بن سعيد- يعني الأنصاري- شيخ مالك وغيره أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا، فرأيته استحسن ذلك، ثم قال: لعله عند الضرورة والمشي.
قلت لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقلت له: ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسّونه، ويقومون ناحية فيسلّمون.
فقال أبو عبد الله: نعم؛ وهكذا كان ابن عمر يفعل. ثم قال أبو عبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه مسلم (972).
وقد ذكر أحمد بن حنبل أيضا في منسك المروذي نظير ما نقل عن ابن عمر وابن المسيب ويحيى بن سعيد، وهذا كله يدل على التسويغ، وأن هذا مما فعله بعض الصحابة، فلا يقال: الفقد إجماعهم على تركه؛ بحيث يكون فعل من فعل ذلك اقتداء ببعض السلف لم يبتدع هو شيئا من عنده، وأما أن يقال: إن الرسول ندب إلى ذلك ورغّب فيه، وجعله عبادة وطاعة يشرع فعلها؛ فهذا يحتاج إلى دليل شرعي، لا يكفي في ذلك فعل بعض السلف.
ولا يجوز أن يقال: إن الله ورسوله يحبّ ذلك أو يكرهه، وإنه سنّ ذلك وشرعه، أو نهى عن ذلك وكرهه، ونحو ذلك إلا بدليل يدل على ذلك، لا سيما إذا عرف أن جمهور أصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك؛ فيقال: لو كان هو ندبهم إلى ذلك وأحبه لهم لفعلوه، فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير. ونظائر هذا متعددة، والله أعلم.
والمؤمن قد يتحرّى الصلاة أو الدعاء في مكان دون مكان لاجتماع قلبه فيه وحصول خشوعه فيه، لا لأنه يرى أن الشارع فضّل ذلك المكان؛ كصلاة الذي يكون في بيته ونحو ذلك. فمثل هذا إذا لم يكن منهيا عنه لا بأس به، ويكون ذلك مستحبا في حق ذلك الشخص لكون عبادته فيه أفضل، كما إذا صلّى القوم خلف إمام يحبونه كانت صلاتهم أفضل من أن يصلوا خلف من هم له كارهون، وقد يكون العمل المفضول في حق بعض الناس أفضل، لكونه أنفع له وكونه أرغب فيه، وهو أحبّ إليه من عمل أفضل منه لكونه يعجز عنه أو لم يتيسر له، فهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص، وهو غير ما ثبت فضل جنسه بالشرع؛ كما ثبت أن الصلاة أفضل، ثم القراءة، ثم الذكر بالأدلة الشرعية، مع أن العمل المفضول في مكانه هو أفضل من الفاضل في غير مكانه، كفضيلة الذكر والدعاء والقراءة بعد الفجر والعصر، على الصلاة المنهيّ عنها في هذا الوقت، وكفضيلة التسبيح في الركوع والسجود على القراءة لأنه نهى أن يقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، وكفضيلة الدعاء في آخر الصلاة على القراءة هناك لأنه موطن الدعاء، ونظائره متعددة، وبسط هذا له موضع آخر.
ولكن المقصود هنا أن يعلم أن ما قيل إنه مستحبّ للأمة قد ندبهم إليه الرسول ورغّبهم فيه، فلا بدّ له من دليل يدل على ذلك، ولا يضاف إلى الرسول إلا ما صدر عنه، والرسول هو الذي فرض الله على جميع الخلق الإيمان به، وطاعته، واتباعه، وإيجاب ما أوجبه، وتحريم ما حرّمه، وشرع ما شرّعه، وبه فرق الله بين الهدى والضلال، والرشاد والغي، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه ويهدي إلى صراط مستقيم، وأنه على صراط مستقيم. وهو الذي جعل الرب طاعته طاعة له، في مثل قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64]
وهو الذي لا سبيل لأحد إلى النجاة إلا بطاعته، ولا يسأل الناس يوم القيامة إلا عن الإيمان به واتباعه وطاعته، وبه يمتحنون في القبور، قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] وهو الذي أخذ الله له الميثاق على النبيين وأمرهم أن يأخذوا على أممهم الميثاق، أنه إذا جاءهم أن يؤمنوا به ويصدّقوه وينصروه، وهو الذي فرّق الله به بين أهل الجنة وأهل النار؛ فمن آمن به وأطاعه كان من أهل الجنة، ومن كذّبه وعصاه كان من أهل النار، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: 13، 14] الآية. والوعد بسعادة الدنيا والآخرة والوعيد بشقاء الدنيا والآخرة معلّق بطاعته، فطاعته هي الصراط المستقيم وهي حبل الله المتين، وهي العروة الوثقى، وأصحابها هم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون، والمخالفون له هم أعداء الله حزب إبليس اللعين، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان: 27] إلى قوله:
خَذُولًا [الفرقان: 29]. وقال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا [الأحزاب: 66، 67] إلى قوله: لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب: 68]. وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [آل عمران: 32]. وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65]. وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
وقال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] وجميع الرسل أخبروا أن الله أمر بطاعتهم، كما قال تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64]، يأمرون بعبادة الله وحده، وخشيته وحده، وتقواه وحده، ويأمرون بطاعتهم، كما قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النور: 52] وقال نوح عليه السلام: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح: 3] وقال في سورة الشعراء: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء: 126] وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط.
والناس محتاجون إلى الإيمان بالرسول وطاعته في كل مكان وزمان، ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، سرّا وعلانية، جماعة وفرادى، وهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب بل من النفس، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذّب بالرسول، وتولّى عن طاعته، كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14 - 16] أي: كذّب به وتولى عن طاعته، كما قال في موضع آخر: فَلا
صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31 - 32] وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا [المزمل: 15 - 16]. وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41].
وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء: 42] والله تعالى قد سمّاه سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا، والناس إلى هذا السراج المنير أحوج منهم إلى السراج الوهاج، فإنهم محتاجون إليه سرا وعلانية، ليلا ونهارا، بخلاف الوهّاج، وهو أنفع لهم فإنه منير ليس فيه أذى؛ بخلاف الوهّاج فإنه ينفع تارة ويضر أخرى.
ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول والإيمان به، وطاعته ومحبته، وموالاته وتعظيمه، وتعزيره وتوقيره، عامة في كل زمان ومكان؛ كان ما يؤمر به من حقوق عاما لا يختص بغيره، فمن خصّ قبره بشيء من الحقوق كان جاهلا بقدر الرسول صلى الله عليه وسلم وقدر ما أمر الله به من حقوقه.
وكل من اشتغل بما أمر الله به من طاعته شغله ذلك عما نهى عنه من البدع المتعلقة بقبره وقبر غيره، ومن اشتغل بالبدع المنهيّ عنها ترك ما أمر به الرسول من حقه، فطاعته هي مناط السعادة والنجاة.
والذين يحجّون إلى القبور ويدعون الموتى من الأنبياء وغيرهم عصوا الرسول وأشركوا بالرب، ففاتهم ما أمروا به من تحقيق التوحيد والإيمان بالرسول، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وجميع الخلق يأتون يوم القيامة فيسألون عن هذين الأصلين:«ماذا كنتم تعبدون، وبماذا أجبتم المرسلين؟» كما بسط هذا في موضعه.
والمقصود؛ أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين يدخلون المسجد ويصلّون فيه الصلوات الخمس، ويصلّون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون عليه عند دخول المسجد، ولم يكونوا يذهبون يقفون إلى جانب الحجرة ويسلّمون هناك، وكانت على عهد الخلفاء الراشدين والصحابة حجرته خارجة عن المسجد ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار.
ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان من آخرهم موتا جابر بن عبد الله وهو توفي في خلافة عبد الملك قبل خلافة الوليد، فإنه توفي سنة بضع وسبعين، والوليد تولى سنة بضع وثمانين، وتوفي سنة بضع وتسعين. فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك «1» .
(1) قال المعلّمي: انظر «الجواب الباهر» «للمؤلف ص 9 و26 و59» .
وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري في كتاب «أخبار المدينة» مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من أشياخه وعمن حدّثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائبا للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هجرية هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة المطابقة، وقصّه وعمله بالفسيفساء «1» وبالمرمر، وعمل سقفه بالساج «2» وماء الذهب، وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلها في المسجد، وأدخل القبر فيه، ونقل لبن المسجد ولبن الحجرات فبنى به داره في الحرة، فهو فيها اليوم بياض على اللبن.
وقال: حدّثنا محمد بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن هارون بن كثير قال: بنى عمر من حجارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مدماكين في أعلى مسجد بني حرام الذي في الشعب. والمدماك الساف «3» .
قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثني عبد العزيز بن عمران، عن جعفر بن وردان، عن أبيه قال: لما استعمل الوليد عمر بن عبد العزيز أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه، فاشترى ما حواليه من الشرق والغرب والشام، فلما خلص إلى القبلة قال له عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: لسنا نبيعه هو من حق حفصة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسكنها. فقال عمر بن عبد العزيز: ما أنا بتارككم أو أدخلها في المسجد. فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه، وأعطيكم دار الرقيق مكان هذه الطريق وما بقي من الدار فهو لكم، فقبلوا، فأخرج بابهم من المسجد، وهي الخوخة التي في المسجد تخرج من دار حفصة بنت عمر، وأعطاهم دار الرقيق وقدّم الجدار في موضعه اليوم، وزاد من الشرق ما بين الأسطوانة المربعة إلى جدار المسجد اليوم، وهو عشرة أساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام ومده من الغرب أسطوانتين، وأدخل فيه حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي يقال لهن القرائن، قال: فلما قدم الوليد حاجا جعل يطوف في المسجد وينظر إليه ويقول: هاهنا، ومعه أبان بن عثمان فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان بن عثمان فقال: أين بناؤنا من بنائكم. فقال أبان: إنا بنيناه بناء المساجد، وبنيتموه بناء الكنائس، قال: ومكث عمر في بنائه ثلاث سنين. قال أبو زيد: قال أبو غسان:
وسمعناه يحدث أن الوليد قال لعمر: ما منعك أن تجعل جدار المسجد على بناء جدار
(1) «تقصيص البناء: تجصيصه.
والفسيفساء: ألوان من الخرز يركب في حيطان البيوت» قاموس اه (م).
(2)
(3)
القبلة وأن تجعل سقفه على عمد السقيفة التي على المنبر؟ فقال: وهل تدري كم أنفقت على جدار القبلة وهاتين السقيفتين؟ قال: كم أنفقت؟ قال: خمسة وأربعين ألف درهم، وقال بعضهم: أربعة آلاف دينار، فقال: والله لكأنك أنفقتها من مالك، قال أبو غسان:
وقد جاءنا أن القبلة على بناء عثمان، ولم يزد فيها أحد. وجاء هذا الحديث، فالله أعلم أي ذلك الحق. غير أن الأقوى عندنا أنها على بناء عثمان، قال: وقد سمعنا أن الذي كلم به عمر بن عبد العزيز آل عمر منزل حفصة من الحجرات، وإنما أعطاهم عمر الخوخة لما أعطوه من ذلك المنزل. وسمعنا من يقول إنما أعطوه مربدا «1» كان لحفصة فأدخله في المسجد، وأن ذلك المربد كان وراء منزلها من الحجرات في الزاوية التي عند القبر من ناحية المنارة، فأعطوه ذلك المربد وفتح لهم الخوخة.
قلت: قول من قال إن القبلة على بناء عثمان لم يزد فيها أحد صحيح، وما ذكر من فعل عمر بن عبد العزيز صحيح أيضا، فإن عمر إنما بنى جدار القبلة على موضع جدار عثمان، لكنه زاد من المشرق الزيادة التي قدام حجرة عائشة وهو منزل حفصة، فكانت زيادته لما زاد من الشرق أيضا في الجدار القبلي بقدر تلك الزيادة، والجدار القبلي بالغ في تزويقه أكثر من الجدر الثلاثة. فقال له الوليد: ألا جعلت الجدر كلها مثله وجعلت سقفه مثل السقيفة التي على القبر، فذكر عمر أن ذلك كان يذهب فيه مال كثير.
قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن عمار، عن جدّه قال: لما صار عمر إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالي فقال: تعالوا احضروا بنيان قبلتكم، لا تقولوا عمر غيّر قبلتنا، فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع مكانه حجرا، فكانت زيادة الوليد من المشرق إلى المغرب ست أساطين وزاد إلى الشام من الأسطوانة المربعة التي في القبر أربع عشرة أسطوانة منها عشر في الرحبة وأربع في السقايف الأول التي كانت قبل، وزاد من الأسطوانة التي دون المربعة إلى الشرق أربع أساطين، فدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد. فهذا قد بيّن أن الجدار الذي بناه عمر هو موضع الجدار الذي بناه عثمان وهو الجدار اليوم، وأن الزيادة من الشرق أربع أساطين، فدخلت حجرة عائشة وما قدامها وهو حجرة حفصة، وهناك زاد الجدار القبلي أيضا.
قال أبو زيد قال أبو غسان: وحدّثني عدة من مشايخ البلد أن عمر لما جاءه كتاب الوليد بهدم المسجد أرسل إلى عدة من آل عمر فقال: إن أمير المؤمنين قد كتب إليّ أن أبتاع بيت حفصة، وكان عن يمين الخوخة قريبا من منزل عائشة الذي فيه
القبر، وكانتا يتهاديان الكلام وهما في منزليهما من قرب ما بينهما، فلما دعاهم إلى ذلك قالوا: ما نبيعه شيئا، قال: إذن أدخله في المسجد، قالوا: أنت وذاك فأما طريقها فلا تقطعها، فهدم البيت وأعطاهم الطريق ووسّعها لهم حتى انتهى بها إلى الأسطوانة، وكانت قبل ذلك ضيّقة بقدر ما يمر الرجل منحرفا. قال أبو غسان: ثم سام عمر بني عبد الرحمن بن عوف بدارهم فأبوا، فهدمها عليهم وأدخلها في المسجد. وقال عبد الرحمن بن حميد: فذهب لنا متاع كثير من هدمهم. قال: وأدخل حجرات النبي صلى الله عليه وسلم مما يلي الشرق ومن الشام. وقال أبو غسان: أخبرني عبد العزيز بن عمران عن عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري عن شيخ من مواليهم أدرك عثمان بن حنيف قال: لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر وزاد في مسجده البنية الثانية ضرب الحجرات ما بين القبلة إلى الشام، ولم يضربها غربيه وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من الغرب، وكانت لها أبواب في المسجد.
قال أبو زيد: حدّثنا القعنبي وأبو غسان، عن مالك قال: كان الناس يدخلون حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يصلّون فيها يوم الجمعة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المسجد يضيق بأهله، ولم تكن في المسجد، وكانت أبوابها في المسجد، قال أبو غسان:
أخبرني مخبر من آل عمران؛ أن حجرة حفصة كانت ما بين الخوخة التي يقال لها اليوم خوخة آل عمر، إلى بيت عائشة وهو القبر، وإن موضع سرير النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يضطجع عليه في بيت حفصة ما بين الأسطوانة الثانية من الأسطوانات التي تلي الخوخة الشرقية إلى الأسطوانة التي تليها، وإن سائر الحجرات كانت تواليه بعد بيت عائشة، فأتموا بها إلى القبلة وآخرها قباله وكانت من جريد عليها شعر، وكانت البيوت من مدر «1». قال أبو غسان: أخبرني ابن أبي فديك سألت محمد بن هلال عن باب بيت عائشة أين كان؟ قال: مما يلي الشام، قلت: أكان مصراعين أم فردا؟ قال: كان فردا. قلت: مم كان؟ قال: كان من عرعر أو ساج «2» . قلت: سائر الروايات فيها أن أبوابها مستورة بالمسوح.
قال أبو زيد: حدّثني هارون بن معروف حدّثنا ضمرة بن ربيعة، عن عثمان، عن عطاء، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال: وددت لو تركوا لنا مسجد نبينا على حاله وبيوت أزواجه رضي الله عنهن ومنبره ليقدم القادم فيعتبر. قال ابن عطاء: عن أبيه وكانت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الرجل فيمسّ سقف البيت والحجرات سقف عليها المسوح.
قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي، عن عبد الله بن زيد الهذلي، قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت باللبن ولها حجر من جريد مطرود بالطين، عددت تسعة أبيات بحجراتها وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزل أسماء بنت الحسن اليوم.
ورأيت بيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وحجرتها من لبن، فسألت ابن ابنها فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة دومة الجندل، بنت حجرتها بلبن، فلما نظر إلى اللبن فدخل عليها أول نسائه فقال:«ما هذا البناء؟» فقالت: أردت أن أكف أبصار الناس، فقال:
«يا أم سلمة؛ إن شر ما ذهبت فيه أموال الناس البناء» . قال الواقدي: فحدثت بهذا الحديث معاذ بن محمد الأنصاري فقال: سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس، يقول وهو بين القبر والمنبر: أدركت حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد يقرأ، فأمر بإدخالها في المسجد، فما رأيت يوما كان أكثر من ذلك اليوم باكيا. فسمعت سعيد بن المسيب يقول:«والله لوددت أنهم تركوها على حالها ينشأ ناس من المدينة ويقدم قادم من الأفق فيرى ما أكرم به النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر» . قال: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس: كان فيها أربعة أبيات بلبن له حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها على أبوابها مسوح الشعر ذرعت الستر، فوجدته ثلاث أذرع في ذراع وعظم الذراع. فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيتني وأنا في المسجد فيه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وخارجة بن زيد، وإنهم يبكون حتى أخضل الدمع لحاهم، وقال يومئذ أبو أمامة:
«ليتها تركت حتى يقصر الناس عن البناء ويرى الناس ما رضي الله لنبيه وخزائن الدنيا بيده» .
قلت: قوله في هذه الرواية: إن فيهم نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان هذا محفوظا فمراده من كان صغيرا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي أمامة بن سهل بن حنيف، ومثل محمود بن الربيع، ومثل السائب بن يزيد، وعبد الله بن أبي طلحة، فأما من كان مميزا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن بقي منهم أحد، لكن في سهل بن سعد خلاف قيل توفي سنة ثمان وثمانين فيكون قد مات قبل ذلك أو سنة إحدى وتسعين. ولفظ الحجرة في هذه الآثار لا يراد به جملة المبيت، كما في قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] بل يراد ما يتّخذ حجرة للبيت عند بابه، مثل الحرم للبيت، وكانت هذه من جريد النخل بخلاف الحجر التي هي المساكن فإنها كانت من اللبن؛ وأم سلمة جعلت حجرتها من لبن كما يروى أن بعضهن كانت له حجرة وبعضهن لم يكن له حجرة والأبواب مستورة بستور الشعر،
وكان بيت علي الذي يسكن فيه هو وفاطمة خلف حجرة عائشة رضي الله عنها، لم يزل حتى أدخله الوليد في المسجد.
ومما يوضح مسمى الحجرة التي قدام البيت ما في سنن أبي داود وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» «1» . فبين أنه كلما كان المكان أستر لها فصلاتها فيه أفضل، فالخدع أستر من البيت الذي يقعد فيه، والبيت أستر من الحجرة التي هي أقرب إلى الباب والطريق.
قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى حدّثني عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن أبي عائشة، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه قال: زاد عثمان بن عفان في المسجد قبل أن يقتل بأربع سنين، فزاد قبة من ناحية القبلة موضع جداره على جدار المقصورة اليوم، وزاد فيه من المغرب أسطوانة بعد المربعة، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعا ولم يزد فيه من الشرق شيئا.
قال أبو غسان: وأخبرني غير واحد من ثقات أهل البلد أن عثمان زاد في القبلة إلى موضع القبلة اليوم ثم لم يغير ذلك إلى اليوم.
قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أشياخه أن عثمان أدخل فيه دار العباس بن عبد المطلب مما يلي القبلة والشام والغرب، وأدخل بعض بيوت حفصة بنت عمر مما يلي القبلة، فأقام المسجد على تلك الحال حتى زاد فيه الوليد بن عبد الملك.
وحدّثنا محمد بن يحيى، عن رجل، عن ابن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد قال: قدم عثمان المسجد وزاد في قبليه ولم يزد في شرقيه وزاد في غربيه قدر أسطوانة وبناه بالحجارة المنقوشة والقصّة «2» وبيضه بالقصّة، وقدر زيد بن ثابت أساطينه فجعلها على قدر النخل وجعل فيه طيقانا مما يلي الشرق والغرب، وذلك قبل أن يقتل عثمان بأربع سنين، فزاد فيه إلى الشام خمسين ذراعا.
قلت: حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يبنهن كلهن مع بناء المسجد أولا، فإنه لم يكن حينئذ متزوّجا بتسع بل بنى بعائشة وكان قد تزوجها بمكة، وكذلك سودة ثم بحفصة، فلهذا كانت حجرهن لاصقة بالمسجد، وآخر من تزوجها صفية بنت حيي لما فتح خيبر سنة تسع من الهجرة وحينئذ اتخذ لها بيتا، وكان بيتها أبعد من المسجد من
(1) أخرجه أبو داود (570) وغيره من حديث عبد الله بن مسعود، لا من حديث ابن عمر كما ذكر المصنف.
وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما قال الألباني في تحقيقه على المشكاة (1/ 334/ 1063).
(2)
غيره، كما في الصحيحين عن علي بن الحسين عن صفية بنت حيي أم المؤمنين قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني «1» - وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد-، فمرّ رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«على رسلكما؛ إنها صفية بنت حيي» فقالا:
سبحان الله يا رسول الله. فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا، أو شيئا» «2» .
ففي هذا الحديث أن مسكنها كان في دار أسامة بن زيد وأن النبي صلى الله عليه وسلم قام معها ليقلبها إلى مسكنها، وأنه مرّ به رجلان من الأنصار، ولو كان منزلها متصلا بالمسجد لم يحتج إلى شيء من ذلك، فإن المسجد لم يكن فيه ما يخافه، ولكن خرج معها من المسجد ليوصلها إلى مسكنها، والرجلان مرّا به في الطريق لم يكن مرورهما في المسجد، فإن المسجد لم يكن طريقا بالليل، ولو رأياه في المسجد لم يحتج أن يقول ما قال، بل رأياه ومعه امرأة خارجا من المسجد، فقال ما قال لئلا يقذف الشيطان في قلوبهما شيئا من الظن السيّئ فيهلكا بذلك.
وأما ما ذكروه من أن عثمان زاد في المسجد من جهة الشام مع أنه لم يأخذ شيئا من جهة الحجر فعلم أن من الحجر ما لم يكن ملتصقا بالمسجد، فإن الناس بنوا دورهم متصلة بالمسجد قبل أن يتزوج جويرية وصفية وغيرهما، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم ليزاحم أحدا في داره، فكان يتخذ الحجرة شامي المسجد وإن لم تكن متصلة به، ولهذا ذكروا أن عثمان زاد من جهة الشام خمسين ذراعا ولم يأخذ شيئا من الحجر، بل الوليد زاد على ذلك بأخذ الحجر، فكانت الحجر كما ذكروا من ناحية الشرق مع الاتصال، وحجرة حفصة شرقية وقبلية، فإن حجرة عائشة هي التي كانت مسامتة لم تتقدم المسجد، وأما حجرة حفصة فكانت فاضلة عن المسجد من مقدمه، ولهذا زادوها مع الزيادة في المسجد، وكذلك الحجر التي كانت في الشام كانت شرقية وشامية، لكن الشامي لم يكن ملتصقا بالمسجد فلهذا قال من قال؛ كانت الحجرة من قبليه وشرقيه ولم يذكر الشام، وذكر آخرون أن منها ما كان من الشام ولا منافاة بين القولين، فإن صاحب القول الأول أراد ما يتصل بالمسجد، وما كان شام المسجد بقليل كان شرقية أيضا فكانت هذه شرقية شامية، ومن قال شامية فمعناه أنها من جهة شام الشرق وإن لم تكن متصلة بالمسجد، فكثير من الروايات من هذا الباب قد ظن بها تناقضا فإن كانت متناقضة فما ناقض الصحيح فهو باطل، وإن كان المعنى متفقا فلا تناقض، وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده حكم المزيد تضعف فيه
(1) أي: ليرجعني إلى بيتي.
(2)
أخرجه البخاري (2035) - وانظر أطرافه هناك- ومسلم (2175).
الصلاة بألف صلاة كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد فيجوز الطواف فيه، والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجا منه، ولهذا اتفق الصحابة على أنّهم يصلّون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده ويأمرون بذلك.
قال أبو زيد: حدّثني محمد بن يحيى حدّثني من أثق به أن عمر زاد في المسجد من القبلة إلى موضع المقصورة التي هي به اليوم، قال: فأما الذي لا يشك فيه أهل بلدنا أن عثمان رضي الله عنه هو الذي وضع القبلة في موضعها اليوم، ثم لم تغير بعد ذلك.
قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن عثمان، عن مصعب بن ثابت، عن خباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما وهو في مصلّاه:«لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة، فلما ولي عمر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة فأدخلوا رجلا مصلّى النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسوه، ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها حتى إذا رأوا ذلك نحو ما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يده، ثم مدوا مقاطا «1» فوضعوا طرفه بيد الرجل، ثم مدوا فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا ذلك شبيها بما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزيادة فقدم عمر القبلة، فكان موضع جدار عمر في موضع عيدان المقصورة «2» .
وقال: حدّثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن ابن أبي ذئب قال:
قال عمر لو مدّ مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه.
حدّثنا محمد بن يحيى، عن سعد بن سعيد، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي» فكان أبو هريرة يقول: «والله لو مدّ هذا المسجد إلى باب داري ما عدوت أن أصلي فيه» «3» .
حدّثنا محمد حدّثني عبد العزيز، عن عمران، عن فليح بن سليمان، عن ابن أبي عمرة قال: زاد عمر في المسجد في شاميّة، ثم قال:«لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه الله بعامر» .
وهذا الذي جاءت به الآثار، وهو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم فإنهم قالوا: إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل.
(1)«المقاط- بوزن عماد- الحبل الصغير الشديد الفتل. كما في النهاية» (م).
انظر «النهاية في غريب الحديث والأثر» (4/ 296).
(2)
حديث ضعيف جدا؛ انظر «السلسلة الضعيفة» (974).
(3)
حديث ضعيف جدا؛ انظر «السلسلة الضعيفة» (973).
وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، فإن كلاهما زاد من قبلي المسجد، فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة، وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، وإذا كان كذلك فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا. لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت لمن ذكر ذلك سلفا من العلماء. وقد ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد فيه لما قدم من خيبر، قال أبو غسان: حدّثني غير واحد ولا اثنين ممن يوثق به من أهل العلم من أهل البلد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك المسجد من القبلة في تلك البنية على حده الأول فأخذت الأساطين من الشرق إلى الأسطوانة التي دون المربعة التي عند القبر التي لها نجاف طالع «1» ، وأثبت من الشام لم يزد فيه شيء ومن الغرب إلى الأسطوانة التي دون المربعة الغربية. ومن بيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في موضع مجلس آل عبد الرحمن بن هشام، وأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رأسه وهو في بيتها وهو معتكف في المسجد. وهذه الأمور نبهنا عليها هاهنا، فإنه يحتاج إلى معرفتها، وأكثر الناس لا يعرفون الأمر كيف كان ولا حكم الله ورسوله في كثير من ذلك، وكان من المقصود أن المسجد لما زاد فيه الوليد وأدخلت فيه الحجرة كان قد مات عامة الصحابة ولم يبق إلا من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ سنّ التمييز الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع» «2» .
ومن المعلوم بالتواتر أن ذلك كان في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان بعد بضع وثمانين. وقد ذكروا أن ذلك كان سنة إحدى وتسعين وأن عمر بن عبد العزيز مكث في بنائه ثلاث سنين. وسنة ثلاث وتسعين مات فيها خلق كثير من التابعين مثل سعيد بن المسيب وغيره من الفقهاء السبعة «3» ، ويقال لها سنة الفقهاء. وجابر بن
(1)«النجاف: الباب والغار ونحوهما» (م).
(2)
أخرجه أبو داود (494) والترمذي (407) وأحمد (2/ 187) وغيرهم. وهو حديث صحيح، صحّحه النووي في «المجموع» (3/ 10) والألباني في «إرواء الغليل» (1/ 266/ 247).
(3)
الفقهاء السبعة هم:
1 -
سعيد بن المسيب.
2 -
عروة بن الزبير.
3 -
القاسم بن محمد.
4 -
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
5 -
سليمان بن يسار.-
عبد الله كان من السابقين الأولين ممن بايع بالعقبة وتحت الشجرة، ولم يكن بقي من هؤلاء غيره لما مات وذلك قبل تغيير المسجد بسنتين، ولم يبق بعده ممن كان بالغا حين موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا سهل بن سعد الساعدي فإنه توفّي سنة ثمان وثمانين، وقيل سنة إحدى وتسعين. ولهذا قيل فيه إنه آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله أبو حاتم البستي وغيره. وأما من مات بعد ذلك فكانوا صغارا، مثل السائب بن يزيد الكندي ابن أخت عمر، فإنه مات بالمدينة سنة إحدى وتسعين، وقيل: إنه مات بعده عبد الله بن أبي طلحة الذي حنّكه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك محمود بن الربيع الذي عقل مجّة مجّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه من بئر كان في دارهم وله خمس سنين، مات سنة تسع وستين. ومحمود بن الربيع مات سنة ثلاث وتسعين. وأبو أمامة بن سهل بن حنيف سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم أسعد باسم أسعد بن زرارة مات سنة مائة، لكن هؤلاء لم يكن لهم في حياته صلى الله عليه وسلم من التمييز ما ينقلون عنه أقواله وأفعاله التي ينقلها الصحابة؛ مثل ما ينقلها جابر وسهل بن سعد وغيرهما. وأما ابن عمر فكان قد مات قبل ذلك عام قتل ابن الزبير بمكة سنة ثنتين وسبعين، وابن عباس مات قبل ذلك بالطائف سنة بضع وستين، فهؤلاء وأمثالهم من الصحابة لم يدرك أحد منهم تغيير المسجد وإدخال الحجر فيه، وأنس بن مالك كان بالبصرة لم يكن بالمدينة، وقد قيل: إنه آخر من مات بها من الصحابة، وكانت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم شرقي المسجد وقبليه، وقيل وشامية فاشتريت من ملّاكها ورثة أزواجه صلى الله عليه وسلم، وزيدت في المسجد فدخلت حجرة عائشة. وكان الذي تولّى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة، فسدّ باب الحجرة وبنى حائطا آخر عليها غير الحائط القديم، فصار المسلّم عليه من وراء جدار أبعد من المسلم عليه لما كان جدارا واحدا.
قال هؤلاء: ولو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعا في المسجد كان له حدّ ذراع أو ذراعين أو ثلاثة، فلا يعرف الفرق بين المكان الذي يستحبّ فيه هذا السلام، والمكان الذي لا يستحب.
فإن قيل: من سلّم عليه عند الحائط الغربي رد عليه. قيل: وكذلك من كان خارج المسجد، وإلا فما الفرق؟ وحينئذ فيلزم أن يرد على جميع أهل الأرض، وعلى كل مصل في كل صلاة كما ظنه بعض الغالطين، ومعلوم بطلان ذلك.
وإن قيل: يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة.
قيل: فما حدّ ذلك؟ وهم لهم قولان: منهم من يستحب القرب من الحجرة،
- 6 - خارجة بن زيد بن ثابت.
7 -
أبو بكر بن عبد الرحمن.
وانظر «أعلام الموقعين» لابن قيم الجوزية (1/ 23).
كما استحب ذلك مالك وغيره، ولكن يقال فما حدّ ذلك القرب؟ وإذا جعل له حدّ فهل يكون من خرج عن الحدّ فعل المستحب؟ وآخرون من المتأخّرين يستحبّون التباعد عن الحجرة، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهم، فهل هو بذراع أو باع أو أكثر؟ وقدره من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربع أذرع، فإنهم قالوا: يكون حين يسلم عليه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره ولا يدنو أكثر من ذلك. وهذا والله أعلم قاله المتقدمون لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن كالصلاة عليه ليس المقصود سلام التحية الذي يرد جوابه المسلم عليه، فإن هذا لا يشرع فيه هذا البعد، ولا يستقبل به القبلة، ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد، وبالجملة فمن قال إنه يسلّم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد له من أن يحدّ مكان ذلك، يقال: إلى أين يسمع ويرد السلام؟ فإن حدّ في ذلك ذراعا أو ذراعين أو عشر أذرع أو قال: إن ذلك في المسجد كله أو خارج المسجد فلا بد له من دليل، والأحاديث الثابتة منه فيها:«أن الملائكة يبلغونه صلاة من يصلي عليه، وسلام من يسلم عليه» ليس في شيء منها أنه يسمع بنفسه صلى الله عليه وسلم ذلك، فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان فلا بد له من حدّ. ومعلوم أنه ليس في ذلك حدّ شرعي ولا أحد يحدّ في ذلك حدا إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق.
وأيضا فذلك يختلف بارتفاع الأصوات وانخفاضها، والسّنة في السلام عليه خفض الصوت، ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك، بخلاف المسلّم من الحجرة فإنه فرق ظاهر بينه وبين المسلم عليه من المسجد ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته، فإن المسلم عليه إن رفع الصوت أساء الأدب برفع الصوت في المسجد، وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة، وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله الذي يسلم الله على صاحبه كما يصلي على من يصلّي عليه، فإن هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر.
وبالجملة فهذا الموضع فيه نزاع قديم بين العلماء، وعلى كل تقدير فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به، فعلم أن هذه الأحاديث ليست مما يعرفه أهل العلم. ولهذا لما تتبعت وجدت رواتها إما كذّاب وإما ضعيف سيئ الحفظ ونحو ذلك، كما قد بيّن في غير هذا الموضع، وهذا الحديث الذي فيه:«ما من رجل يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» قد احتج به أحمد وغيره من العلماء، وقيل: هو على شرط مسلم، ليس على شرط البخاري، وهو معروف من حديث حياة بن شريح المصري؛ الرجل الصالح الثقة عن أبي صخر، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة. وقد أخرج مسلم حديثا بهذا الإسناد وأبو صخر هذا متوسط. ولهذا
اختلف فيه عن يحيى بن معين، فمرة قال: هو ضعيف، ووافقه النسائي، ومرة قال:
لا بأس به، ووافقه أحمد.
فلو قدّر أن هذا الحديث مخالف لما هو أصح منه وجب تقديم ذاك عليه، ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جاء في غير هذا الحديث.
ولو أريد إثبات سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفا فيه، فالنزاع في إسناده وفي دلالة متنه.
ومسلم روى بهذا الإسناد قوله صلى الله عليه وسلم: «من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم اتبعها حتى تدفن كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد» «1» . وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما من غير هذا الطريق. ومسلم قد يروي عن الرجل في المتابعات ما لا يرويه فيما انفرد به، وهذا معروف منه في عدة رجال، يفرّق بين من يروي عنه ما هو معروف من رواية غيره، وبين من يعتمد عليه فيما ينفرد به، ولهذا كان كثير من أهل العلم يمتنعون أن يقولوا في مثل ذلك هو على شرط مسلم أو البخاري كما بسط هذا في موضعه.
الوجه الثامن: أنه لو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يخف على الصحابة والتابعين بالمدينة ولو كان ذلك معروفا عندهم لم يكره أهل العلم بالمدينة- مالك وغيره- أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كرهوا هذا القول دلّ على أنه ليس عندهم فيه أثر، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم.
الوجه التاسع: أن الذين كرهوا هذا القول والذين لم يكرهوه من العلماء متفقون على أن السفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم إنما هو سفر إلى مسجده، ولو لم يقصد إلا السفر للقبر لم يمكنه أن يسافر إلا إلى المسجد، لكن قد يختلف الحكم بنيته كما تقدم.
وأما زيارة قبره كما هو معروف في زيارة القبور فهذا ممتنع غير مقدور ولا مشروع، وبهذا يظهر أن قول الذين كرهوا أن يسمي هذا زيارة لقبره صلى الله عليه وسلم قولهم أولى بالصواب، فإن هذا ليس زيارة لقبره ولا فيه ما يختص بالقبر، بل كل ما يفعل فإنما هو عبادة تفعل في المساجد كلها، وفي غير المساجد أيضا. ومعلوم أن زيارة القبر لها اختصاص بالقبر، ولما كانت زيارة قبره المشروعة إنما هي سفر إلى مسجده، وعبادة في مسجده، ليس فيها ما يختص بالقبر؛ كان قول من كره أن يسمّي هذا زيارة لقبره أولى بالشرع والعقل واللغة، ولم يبق إلا السفر إلى مسجده، وهذا مشروع بالنص
(1) أخرجه مسلم (945)
والإجماع. والذين قالوا: تستحب زيارة قبره إنما أرادوا هذا. فليس بين العلماء خلاف بالمعنى بل في التسمية والإطلاق، والمجيب لم يحك نزاعا في استحباب هذه الزيارة الشرعية التي تكون في مسجده، وبعضهم يسميها زيارة لقبره، وبعضهم يكره أن تسمّى زيارة لقبره، وإذا كان المجيب يستحب ما يستحب بالنص والإجماع وقد ذكر ما فيه النزاع، كان الحاكي عنه خلاف ذلك كاذبا مفتريا يستحق ما يستحقه أمثاله من المفترين.