الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [خلط المردود عليه بين زيارة القبور والسفر إليها]
قال: «فعند ذلك شرح الله صدري للجواب عما نقل فيه من مقالته، وسارعت لإطفاء بدعته وضلالته. فأقول وبالله التوفيق، وأن يوصلنا إليه من أسهل طريق: لقد ضل صاحب هذه المقالة وأضلّ، وركب طريق الجهالة واستقل، وحاد في دعواه عن الحق وما جاد، وجاهر بعداوة الأنبياء وأظهر لهم العناد، فحرّم السفر لزيارة قبره وسائر القبور، وخالف في ذلك الخبر الصحيح المأثور، وهو ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: «زوروا القبور» «1» . وورد عنه أنه قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا» «2» . فرفع صلى الله عليه وسلم الحرج عن المكلف بعد ما كان حظر. والمشهور أن الأمر بعد الحظر يقتضي الوجوب. وأقل درجاته أن يلحق بالمباح أو المندوب».
والجواب عن هذا من وجوه:
الأول: أن في هذا من الجراءة على الله ورسوله وعلماء المسلمين أولهم وآخرهم ما يقتضي أن يعرف من قال هذه المقالة ما فيها من مخالفة دين الإسلام وتكذيب الله ورسوله ويستتاب منها؛ فإن تاب وإلا ضرب عنقه. وذلك أنه ادّعى أنه من حرم السفر إلى غير المساجد الثلاثة، أو حرم السفر لمجرد زيارة القبور فقد جاهر الأنبياء بالعداوة، وأظهر لهم العناد، فحرم السفر لزيارة قبره وسائر القبور. ذكر ذلك بحرف الفاء وليس في كلام المجيب إلا حكاية القولين في السفر لمجرد زيارة القبور.
فإذا قيل: إنه جاهر بالعداوة وأظهر العناد لأجل تحريم هذا السفر؛ كان كل من حرّمه مجاهرا للأنبياء بالعداوة مظهرا لهم العناد، ومعلوم أن مجاهرة الأنبياء بالعداوة
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم (976) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه ابن ماجه (1569) بلفظ: «زوروا القبور، فإنها تذكّركم الآخرة» .
(2)
أخرجه النسائي (4/ 89) من حديث بريدة بن الحصيب، وفيه:«ونهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا» . وأصل الحديث عند مسلم؛ انظر «أحكام الجنائز» ص 227 - ط.
المعارف.
وإظهار العناد لهم غاية في الكفر، فيكون كل من نهى عن هذا السفر كافرا. وقد نهى عن ذلك عامة أئمة المسلمين، وإمامه مالك صرّح بالنهي عن السفر لمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن النذر يوجب فعل الطاعة عنده فلم يجعله مع النذر مباحا بل جعله محرما منهيا عنه لما سئل عمّن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: إن كان أراد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأته وليصلّ، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء:«لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» .
ومذهبه المعروف في جميع كتب أصحابه الكبار والصغار، كالمدونة لابن القاسم، والتفريع لابن الجلاب؛ أنه من نذر إتيان المدينة النبوية إن كان أراد الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفّى بنذره، وإن كان أراد غير ذلك لم يوف بنذره.
فالسفر إلى المدينة ليس عنده مستحبا إلا للصلاة في المسجد، فأما من سافر إليها لغير ذلك؛ كزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو زيارة قبور شهداء أحد، أو أهل البقيع، أو مسجد قباء، فإن هذا السفر عنده منهيّ عنه فلا يوف بنذره، فهذا مذهبه في كل منذور من السفر إلى المدينة سوى الصلاة في مسجده.
ومسألة إتيان القبر بخصوصه داخلة في ذلك، وقد ذكرها بخصوصها عنه القاضي إسماعيل بن إسحاق محتجا بذلك على ما ذكره فدل على ثبوت ذلك عنده عن مالك. قال في كتابه «المبسوط» لما ذكر قول محمد بن مسلمة: من نذر أن يأتي مسجد قباء فعليه أن يأتيه، قال القاضي إسماعيل: إنما هذا فيمن كان من أهل المدينة وقربها ممن لا يعمل المطي إلى مسجد قباء، لأن إعمال المطي اسم للسفر، ولا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، في نذر ولا غيره. وقد روي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كان أراد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأته وليصلّ فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء:«لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» . وهذا يوافق ما في المدونة وغيرها من الكتب، ففي «المدونة» «1» وهي الأم في مذهب مالك:«ومن قال: لله عليّ أن آتي المدينة أو بيت المقدس، أو عليّ المشي إلى المدينة أو إلى بيت المقدس؛ فلا يأتهما حتى ينوي الصلاة في مسجديهما أو يسميهما فيقول: إلى مسجد الرسول أو مسجد إيليا، وإن لم ينو الصلاة فيهما فليأتهما راكبا ولا هدي عليه، وكأنه لما سماهما قال لله عليّ أن أصلي فيهما، ولو نذر الصلاة في غيرهما من مساجد الأمصار صلى في موضعه ولم يأته» .
وهذه المسائل في الكتب الصغار والكبار، وقد صرّح فيها أن من نذر المشي أو الإتيان إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بيت المقدس فلا يأتهما إلا أن يريد الصلاة في المسجدين.
(1)«المدونة» (1/ 471) وانظر «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 790) - دار الفكر-.
فتبيّن بهذا أن السفر إلى المدينة أو بيت المقدس في غير الصلاة في المسجدين ليس طاعة ولا مستحبا ولا قربة، بل هو منهيّ عنه وإن نذره، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» «1» رواه البخاري وغيره، وهو من حديث مالك في الموطأ. فمن سافر لبيت المقدس لغير العبادة المشروعة في المسجد مثل زيارة ما هنالك من مقابر الأنبياء والصالحين وآثارهم كان عاصيا عنده، ولو نذر ذلك لم يجز له الوفاء بنذره، وكذلك من سافر إلى قبر الخليل أو غيره، وكذلك من سافر إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لمجرّد القبر لا للعبادة المشروعة في المسجد كان عاصيا، وإن نذر ذلك لم يوف بنذره؛ سواء سافر لأجل قبره أو لأجل ما هنالك من المقابر والآثار أو مسجد قباء، أو غير ذلك.
وقال القاضي عبد الوهاب في «الفروق» : «يلزم المشي إلى بيت الله الحرام ولا يلزم ذلك إلى المدينة ولا بيت المقدس، والكل مواضع يتقرب بإتيانها إلى الله.
والفرق بينهما: أن المشي إلى بيت الله طاعة فيلزمه، والمدينة وبيت المقدس الطاعة في الصلاة في مسجديهما فقط، فلم يلزم نذر المشي لأنه لا طاعة فيه، ألا ترى أن من نذر الصلاة في مسجديهما لزمه ذلك، ولو نذر أن يأتي المسجد لغير صلاة لم يلزمه».
فإذا كان إمامه ينهى عن السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم دون إتيان مسجده، ونهى الناذر لذلك أن يوفي بنذره، والمالكية- بل الأئمة الأربعة- وغيرهم متّفقون على أن ذلك لا يوفي بنذره، بل مالك والجمهور نهوا عن الوفاء بنذره لكونه عندهم معصية، فيلزم هذا المفتري أن يكون مالك وأصحابه مجاهرين بالعداوة للأنبياء مظهرين لهم العناد، وكذلك سائر الأئمة والجمهور؛ الذين حرّموا السّفر لغير المساجد الثلاثة، وإن كان المسافر قصده الصلاة في مسجد آخر.
ومعلوم أن المساجد أحبّ البقاع إلى الله، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أحبّ البقاع إلى الله المساجد، وأبغضها إلى الله الأسواق» «2» .
والأئمة الأربعة متفقون على أن السفر إلى مسجد غير الثلاثة لا يلزم بالنذر، ولا يسنّ، وليس مستحبا، ولا طاعة ولا برّا ولا قربة، وجمهورهم يقولون: إنه حرام، مع أن قصد المساجد للصلاة فيها والدعاء أفضل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق علماء أمته من قصد قبور الأنبياء والصالحين والدعاء عندها، بل هذا محرم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) أخرجه البخاري (6696، 6700) ومالك في «الموطأ» - 22 - كتاب الأيمان والنذور، 2 - باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله (2/ 27) وأبو داود (3289) والترمذي (1526) وابن ماجه (2126) وأحمد (6/ 36) وغيرهم. من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه مسلم (671) من حديث أبي هريرة بلفظ: «أحبّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» .
ولعن أهل الكتاب على فعله تحذيرا لأمته؛ ففي الصحيح أنه قال قبل أن يموت بخمس: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» . وفي الصحاح من غير وجه أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد- يحذّر ما فعلوا» قالت عائشة: «ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا» . فمقابر الأنبياء والصالحين لا يجوز اتخاذها مساجد بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق أئمة المسلمين على ذلك، من كره الصلاة في المقبرة ومن لم يكره؛ فإن الذين لم يكرهوها قالوا: سبب الكراهة هو نجاسة التراب، فإذا كان طاهرا لم يكره.
وأما اتخاذ القبور مساجد بسبب تعظيم صاحب القبر حتى يتّخذ قبره وثنا. وهذه علة أخرى علل بها طوائف من المسلمين من فقهاء المدينة والكوفة وفقهاء الحديث من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم، كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع. بل صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم الذي حرم هذا السفر يلزم هذا المفتري الجاهل أن يكون مجاهرا للأنبياء بالعداوة والعناد، بل المساجد غير الثلاثة نهى عن السفر إليها. وأما إتيانها بلا سفر للصلاة والدعاء فمن أعظم العبادات، والعبادات والقربات تكون واجبا تارة ومستحبا أخرى. وأما قبور الأنبياء والصالحين فلا يستحبّ إتيانها للصلاة عندها، والدعاء عند أحد من أئمة الدين، بل ذلك منهيّ عنه في الأحاديث الصحيحة كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء، ولكن يجوز أن تزار القبور للدعاء لها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع. وأما قبره خصوصا فحجب الناس عنه ومنعوا من الدخول إليه، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا تتخذوا قبري- وفي رواية بيتي- عيدا، وصلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» «1» وكذلك قال في السلام عليه. والله أمر بالصلاة والسلام عليه مطلقا، وذلك مأمور به في جميع البقاع لا يختص قبره باستحباب ذلك، بل هو مستحبّ مشروع في جميع البقاع، وتخصيص القبر بذلك منهي عنه. فالذين نهوا عن هذا السفر إنما نهوا عنه طاعة لله ورسوله فهم قاصدون بذلك طاعة الله واتباع رسوله، ولو كانوا مخطئين لم يكن القاصد لطاعة الأنبياء معاديا لهم لا سرا ولا جهرا، ولا معاندا لهم، بل موجبا لطاعتهم والإيمان بهم، ومواليا لهم ومسلما لحكمهم، ولو كان مخطئا فإن هذا كان قصده، فكيف يجعل معاديا لهم لا سيما مع أنه مصيب موافق لهم باطنا وظاهرا؟
ولو قدّر أن المجيب حرّم زيارة القبور مطلقا سفرا وغير سفر فهذا قول طائفة من السلف مثل الشعبي والنخعي وابن سيرين، كما ذكر ذلك عنهم غير واحد، منهم ابن بطّال في «شرح البخاري» . وهؤلاء من أجلّ علماء المسلمين في زمن التابعين باتفاق المسلمين، ويحكى قولا في مذهب مالك. ومن قال ذلك لم يكن معاديا للأنبياء لا
(1) تقدم تخريجه.