الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحبوط الأعمال بطلانها حتى كأنها لم تكن أي يذهب ما في الأعمال من الخير ولسلبت منهم الهداية، فالشرك يمحو كل خير، ويذهب بكل عمل نافع، وما يفعله المشركون من خير يكفرونه.
والشرط هنا مع امتناعه وامتناع الجواب للتحريض على الوحدانية، وترك الشرك تركا تاما، وبيان أنه يحبط كل عمل يظن فيه الخير، ألا ترى أنه يحبط عمل الأنبياء، وهداهم، فكيف لَا يحبط عمل من دونهم، فالنص تقبيح للشرك أيَّا كانت صورته، وحث لهم على فعل الخير، وحمايته بالوحدانية.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى ما آتي به النبيين من فضل، فقال تعالى:
* * *
(أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
…
(89)
* * *
الإشارة إلى الأنبياء الذين ذكر الله تعالى بعضهم بأسمائهم، ورتب جموعهم من حيث الغالب على أوصافهم، و (آتاهم) معناها أعطاهم.
والكتاب هو الكتاب المنزل، والمراد جنس الكتاب، وليس كتابا معينا كالقرآن أو التوراة، ومعنى أوتوه أنهم أوتوا علمه، وعلموه، ونشروه وتوارثوا ما اشتمل عليه، فيشمل الذين أوتوه من - نزل عليهم، ومن جاءوا داعين إلى ما فيه، والتكليفات التي اشتمل عليها، كبعض الأنبياء الذين لم ينزل عليهم كتاب، ولكن بينوا الكتاب الذي جاءوا لبيانه، كأيوب ويوسف، وسليمان، ويشمل الذين أوتوا - من عملوا به وأقاموا دعائمه من أتباع النبيين المخلصين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا ولم يحرفوا، ولم يبدوا قراطيس يبدونها، ويخفون كثيرا منها.
والحكم، وهو الفصل بين الحق والباطل والظلم والعدل، والصالح والفاسد، ويدبرون الأمور على الهدى، والشرع.
والنبوة، وهي الإنباء عن الله بخطاب منه سبحانه، وما كان خطابه سبحانه إلا أن يكلم من وراء حجاب، أو يوحى إليه أو يرسل رسولا. وقد أفرد الله سبحانه وتعالى النبوة بالذكر مع أن ما مضى يتضمنها، وذلك لشرفها باتصالها
بالله تعالى وللتصريح بالأنبياء الذين لم ينزل عليهم كتاب، ولبيان مكان العلم الذي أوتوه واتبعوه، وأنه عن الله العلي الحكيم، وليرتب الحكم على الكفر بها إذ كان من العرب من كفر بالنبوة، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء.
ولذلك قال تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ).
الإشارة إلى هؤلاء الذين أنكروا النبوة، وكان من المشركين من قريش وغيرهم من كانوا يجابهون النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار أصل النبوات، وأن تكون مع النبي رسالة في قرطاس من الله سبحانه وتعالى أو يكون معه ملك، كما سيذكر الله تعالى من بعد ذلك، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. . .)، وسيجيء الكلام في هذه الآية قريبا إن شاء الله تعالى.
كان المشركون ينكرون أصل النبوة، فالإشارة في قوله تعالى:(فَإِن يَكْفرْ بِهَا هَؤُلَاءِ) هو الإشارة إلى قوم النبي صلى الله عليه وسلم الذين أنكروا نبوته، وحاربوا رسالته، وآذوه هو والمستضعفين من المؤمنين، وصابرهم حتى كانت الهجرة وهذه السورة مكية، فتعينت الإشارة إلى من ناوءوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ) شرط جوابه: (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) ومعنى وكلنا، عهدنا إلى قوم من بعد كفركم يحفظونها، ويصونونها، وينقلونها للأخلاف من بعدهم جيلا بعد جيل، فيقال: وكلت فلانا بهذا الأمر أي عهدت به إليه يقوم عليه، ويحافظ.
وهؤلاء الأقوام الذين وكل الله بهم أمر النبوة المحمدية، ليسوا كافرين بها، بل يؤمنون ويصدقون، وقدم الجار والمجرور وهو (بها) على (كافرين)، للاهتمام، والتنبيه.
وإن هذا النص، فيه تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بأن عهد الظلم والإيذاء سيأتي بعده عهد النصرة والقوة، وفيه تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا سينتشر
بين الناس، وستخالف فيه الأقوام، ولن يكون مقصورا على العرب، بل يتجاوزهم إلى الفرس والرومان والشام ومصر، وسيعتنقه الأبيض والأسود، وكل من له في الدعوة إليه فضل عظيم.
وأكد الله سبحانه وتعالى ذلك بـ (قد)، وأكد إيمان أولئك الذين سينصرونها بأنهم ليسوا بها بكافرين فنفى عنهم الكفر نفيا مؤكدا مستغرقا شاملا.
* * *
(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى الأنبياء من ذرية إبراهيم ومن قبله، وما اختص به بعضهم من الصبر وشكر النعمة، والعدالة في القوة، وبعضهم من الزهد، والروحانية، وبعضهم من الصدق في القول والوعد، بين الله تعالى أن أولئك الأنبياء نالوا هدى الله، وصبروا على أقوِامهم، وأنه حق على محمد خاتم النبيين أن يقتدى بهم فقال تعالى:
(أُوْلَئِكَ الَّذِين هَدَى اللَّهُ).
الإشارة إلى ما كانوا عليه من صفات الصبر والشكر والزهد والصدق والتوحيد، ومجالدة المنكر، والصبر على أذى المعاندين، فالإشارة إلى أشخاصهم المتصفين بهذه الصفات العليا، وهي أساس هداية الله، وأسند سبحانه وتعالى الهدى إليه تشريفا لمعناها، وبيان أنه اختارها، واختيار الله تعالى يوجب اتباعها، والسير في طريقها، ولذا قال سبحانه وتعالى:(فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) الهاء هي هاء السكت تكون عند الوقف على المحذوف حرف العلة منه بالجزم تعويضا لذلك المحذوف، وينطق عند الوقف، وقال بعضهم لَا ينطق بها إذا لم يقف، ولكن الحق أنه ينطق بها في الأحوال كلها؛ لأنها مكتوبة في المصحف الإمام، ولا يوجد في هذا المصحف ما لَا ينطق به.
والاقتداء الموافقة في سلوك الطريق الذي سلكوه، والهدى الذي اتبعوه، والمنهج الذي نهجوه، و (الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأنه إذا كان ذلك الهدى من الله فإنه يجب اتباعه، والاقتداء بهم فيه وتقديم (بهداهم) على (اقتده) للاختصاص، ومؤداه الاقتداء بهذا الهدى دون غيره، إذ إن الهدى هدى الله فلا هداية إلا هدى الله.
(هُداهم) كما أشرنا التوحيد، وألا تشركوا بالله شيئا، وما جاءوا به من شرائع أبدية لَا تتغير بتغير الأزمان، وبما اتصفوا به من صفات الصبر، والشكر والروحانية، والزهد، والصدق والأخلاق الكريمة، وإن الاقتداء يوجب الدعوة إلى هذا الهدى.
وإن هذا الكلام السامي يفيد أن الأنبياء الذين تختلف مراتبهم، وخواصهم، وصفاتهم كما قال تعالى:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. . .).
قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم جميعا في صفاتهم كلها مجتمعة، فهو يكون بهذا الاقتداء جامعا لكل ما عندهم منهم؛ لأنه خاتم الأنبياء، ولأنه مخاطب للأجيال كلها، وأرسل للناس كافة بشيرا ونذيرا، فكان هو وشريعته صالحين لكل
الأجيال؛ لأنه وشرعه جمعا كل ما عند الأنبياء السابقين من صفات فاضلة ومراتب من التكليفات عالية.
وإذا كان ذلك مقام رسالته، فقد أوجب الله سبحانه وتعالى الدعوة إليها: لأنها الكمال البشري، وأنه لَا يريد منهم جزاء ولا شكورا؛ ولذا قال تعالى مخاطبا نبيه:(قُل لَا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) لَا أريد منكم أي أجر من مال أو جاه أو سلطان لقد ظنوا بادي رأيهم أنه يريد مالا فعرضوا عليه مالهم، أو يريد السلطان فيسودوه عليهم، فبين الله لنبيه أن يقول لهم إن شيئا من أعراض الدنيا لا يريدها، ولكن يريد الإصلاح والتذكير بالله واليوم الآخر (إِنْ هُوَ إِلَّا ذكْرَى لِلْعَالَمِينَ).
إن المقصود من إنزال الله تعالى القرآن على نبيه الكريم ليس مالا يأخذ، ولا سلطانا يفرضه، ولا سيادة يطلبها وإنما جاء للذكرى والموعظة والهداية للعالمين أي للعقلاء أجمين، فهو ذكرى لهم بما فيه صلاحهم، وقيام أمرهم، ونشر العدالة، وذكرى لهم باليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب، وذكرى ربهم بأن يكونوا دائما ذاكرين، أي تذكر دائم لله تعالى، وفي ذكر الله طب للقلوب من أدوائها.
وإن ذكر هؤلاء الأنبياء ونسبتهم إلى إبراهيم عليه السلام تذكير لعرب مكة ومن حولها بالنبوة الأولى نبوة نوح أولا، ونبوة إبراهيم أبيهم الذي ينتسبون إليه ثانيا، وتعليمهم أن الله يرسل أنبياء ورسلا، ولا يصح أن يكفروا بإرسال الله تعالى، والعرب وقت بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان كلامهم ينبئ عن أنهم لَا يؤمنون برسالة ولا رسول، وجابهوا النبي صلى الله عليه وسلم منكرين أصل الرسالة مستغربين لها، قال تعالى:(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ. . .)، وقال تعالى:(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94).
وأنكر اليهود أن يكون محمد رسولا زاعمين أن الرسالة فيهم.
ولذلك نزل قوله تعالى ردا على كل من أنكر أن يرسل الله بشرا رسولا، وعلى من أنكر أن تكون الرسالة في غير بني إسرائيل؛ ولذا قال تعالى:
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ من شَىْء).
قَدَرَهُ أن تَعَرَّف مقداره بكيل أو وزن أو قياس، ولما صارت تطلق على العقلاء كانت بمعنى تقدير المعاني، والمعنى هنا (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ) ما علموه حق العلم، وما عظموه حق التعظيم، إذا اعتقدوا أن الله لَا يبعث بشرا رسولا؛ لأن ما خلق هذا الوجود الإنساني عبثا، بل بعثه ليتحمل الأمانة التي حملها بمقتضى فطرته، وليكون خليفة في الأرض وما كان ليبعثه، ويتركها من غير بشير ونذير، يرشده إلى الحق، وينذره لكيلا يقع في الآثام، فكان من مقتضى الحكمة الإلهية أن تكون الرسالة الإلهية ليهدي الرسول ويرشد، وينذر، ويجنب الإثم والشر (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقال تعالى:(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نبْعَثَ رَسُولًا).
أنكر المشركون الرسالة الإلهية، وأنكر اليهود أن تكون في العرب، فرد الله تعالى كلامهم بالحجة الباهرة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يورد الحجة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كل أمر يرد الله به على باطل المعاندين يأمر رسوله أن يتولى هو الرد عليهم، بما أوحى الله تعالى به، وهذا ما يلاحظه المتتبع لكتاب الله تعالى بترك الرد على باطلهم للنبي صلى الله عليه وسلم بأمره وبيانه.
قال الله تعالى آمرا نبيه: (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَذِى جَاءَ بِهِ موسَى). أي بينا واضحا كالنور في تكليفاته ومعانيه، ليكون مصدر الهدى للناس، يعلمون التكليفات والعقائد السليمة منه، ويرشدهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، إن أطاعوه، وأخذوا بما فيه، واهتدوا بهديه.
ولقد قال سبحانه بعد ذلك: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ). والقراءة المشهورة بالتاء في (تجعلونه)، و (تخفون)(1)، وهناك قراءة صحيحة متواترة، بالياء في الاثنتين.
وقد اختلف في هذه الآية أنزلت بمكة، وهو الأصح، أو نزلت بالمدينة، والخطاب فيها ابتداء لليهود الذين غيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، والقراطيس هي الصحائف من التوراة المكتوبة أبدوا بعضها، وأخفوا أخرى، وعلى بـ " مِن " أن الآية مكية، تكون قراءة الآية سائرة على مقتضاه، فيكون الاحتجاج بنزول الآية نقضا لعموم نفيهم إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء فقد نفوا مؤكدين بمن أي بأي شيء، والنفي العام ينقض بإثبات أي جزء من المنفي، والجزء الذي ذكره القرآن هو نزول التوراة، وقد كانوا يعرفونها، وإن لم يقرأوها، ويتسامعون بينهم بها، وإن لم يتداولوها؛ لأنهم قوم أميون، وكانوا يلتقون باليهود، ويعرفون أنهم أهل كتاب دونهم؛ وذلك لأن أهل مكة كانوا تجارا يذهبون إلى اليمن وإلى الشام في متاجرهم فيمكن الاحتجاج عليهم بما عند اليهود إذ يعلمونهم، والمعنى أنه ثبت أن اليهود نزل عليهم كتاب هو في أصله نور وهدى، وذلك ينقض قولكم ما أنزل الله على بشر من شيء، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى التوراة بالإكبار، لأنه كتاب من عند الله تعالى، ذكر سبحانه وتعالى ما فعله اليهود فيها مزقوها، وجعلوها قراطيس أبدوا بعضها، وأخفوا كثيرا، وليست الكثرة بمقدار ما أخفوا، ولكن بقيمته، وكان فيما أخفوا البشرى بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي ينكرون؛ وإن الرسالة التي أنكرتم أصلها، وألزمتم بها - فيها خيركم، وفيها رفعكم من مرتبة الأمية إلى العلم، وفهم الحقائق الدينية، ولذا قال تعالى:
(وَعُلِّمْتم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ) وعلى أن الآية مكية مع قراءة التاء، يكون على أنه بعد إثبات نزول التوراة الذي ينقض نفيهم يكون هناك التفات من الحديث عن الغائب إلى الحضور لتوبيخ اليهود على صنيعهم، فكان ثمة احتجاجان في
(1)(يجعلونه. . يبدونها. . ويخفون)، بالياء غيباً ابن كثير، وأبو عمرو، وقرأ الباقون بالتاء.
النص القرآني احتجاجا على المشركين من أهل مكة بنقض النفي العام عندهم بنزول التوراة التي تفيد أنه كان من البشر رسول من أولي العزم من الرسل، واحتجاج على اليهود الذين غيروا وبدلوا أو احتجاج على العرب، وتوبيخ وتنديد بعمل اليهود.
هذا كله على أن الآية نزلت بمكة، أما على أنها مدنية فيكون الخطاب ابتداء لليهود الذين كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي عن ابن عباس أن اليهود قالوا في القرآن: ما أنزل الله كتابا، ويكون قوله تعالى:(تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تبْدُونَهَا وَتخْفُونَ كَثِيرًا)، توبيخا شديدا لهم، ولوما عنيفا على تغيير في كتابهم وإنكار الحقائق الاعتقادية التي اشتمل عليها، وعلمتم بهذا الكتاب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم، وافتريتم بأنكم أهل علم بكتاب، وجحدتم حقوق غيركم بانتمائكم إلى هذا الكتاب، وقلتم ما علينا في الأميين من سبيل، وإن كنتم بذلك ظالمين.
وتفسيرها على هذا واضح بين، وكونها آية مدنية في سورة مكية لَا يمنع، فإن العبرة بكون السورة مكية بالأغلب الكثير، لَا بالنادر القليل، وقد قال بعض الناس: إنها نزلت مرتين مرة في مكة وأخرى في المدينة، وأودعت في سورة مكية؛ لأنها نزلت فيها أول مرة، وعلى قراءة (يخفون) و (يجعلون)؛ يكون التفات عن اليهود تحقيرا لأمرهم، ومبالغة في توبيخهم على ما حرفوا وبدلوا.
سألهم الله تعالى على لسان رسوله الأمين (مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ موسَى) ولكن الجواب لم يجئ إلا في آخر الآية الكريمة، وكان الجواب الكريم الذي أمر الله نبيه أن يقوله:(قُلِ اللَّهُ) أي الذي أنزله الله تعالى القادر على كل شيء الذي لَا يبعد عن سلطانه شيء في هذا الوجود، وإذا كان قد أنزل التوراة فهو منزل القرآن، قال الله تعالى لشبيه:(قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)، قل لهم (اللَّهُ) بإيجاز، ولا تزدهم، ليتفكروا أو يتدبروا بما فيه أمرهم إن كان فيهم عقل غير عابث، (ثُمَّ ذَرْهُمْ) أي اتركهم (فِى خَوْضِهِمْ) في القول الذي