الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119).
وكما قال لو شاء لجمعهم على الهدى وكما قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا).
وإننا نؤكد هنا أن الإرادة والمشيئة، لَا يستلزمان رضاه سبحانه، فإذا كان قد شاء ضلالة بعض عباد، فإنه لَا يرضى من عباده الكفر.
ولذا لَا يصح للمشركين، ولا لمن تكلموا في فلسفة أن يربطوا بين المشيئة والرضا، فقد نفَى الله تعالى ذلك نفيا مؤكدا في الكثير من الآيات، وما ربك بظلام للعبيد.
* * *
(قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
(150)
* * *
الكلام الكريم لَا يزال فيما حرموه على أنفسهم مما أحله لهم وآتاهم من رزق، وقد طالبهم الله تعالى بما عندهم من علم أي علم بأن الله تعالى حرم هذا، فلم يكن علم أوتوه، ولكن أوهام سيطرت عليهم، والآن يطالبهم ليشهدوا أن الله حرم هذا ولذا قال تعالى:(قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا).
(هَلُمَّ) اسم فعل أمر بمعنى ادعوا أو هاتوا شهداءكم، أي الذين تعدونهم قدوتكم، والفضلاء فيكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا.
وإن هذا الكلام سائر مع سيأتي القول في تحريم ما أحل الله من رزق فجعلوا منه حراما وحلالا، فقد بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أنهم لا يستيقنون بشيء إن يظنون إلا ظنا، وأنهم يخرصون أو يكذبون، ولذلك دعاهم إلى أن يحضروا أماثلهم ليشهدوا أن الله تعالى حرم هذا، وإنهم حينئذ يرفضون، وذلك لأن أماثل العرب لَا يشهدون كاذبين، وإن كانوا كافرين، وإنا لنذكر أن أبا سفيان - زعيم الشرك قبل الفتح المبارك لمكة - عندما سأله هرقل أجاب إجابة صريحة صادقة وهو متململ، وقال: لولا أني أخشى أن تحفظ عني كذبة في العرب لكذبت. فما كان الأماثل منهم يسارعون إلى الكذب أو يرضونه. طلب الله أن يحضروا شهداء ليشهدوا أن الله حرم هذا، وإنهم لَا يشهدون.
ولكن حال تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، واتباعهم أهواءهم، وسيطرة الأوهام عليهم قد تغلب عليهم نزعة الصدق، ولذا كان أمر الله تعالى الذي أمره بدعوتهم بأنهم إن شهدوا بالباطل، وليس بمستحيل على من أشرك فقد تدفعه لجاجة الكفر إلى أن يطمس معالم الحق فيكذب، إن شهدوا بغير الحق، (فَلا تَشْهَدْ مَعَهمْ) أي فلا تصدقهم؛ لأن الهوى قد يغلبهم على سجيتهم، ومن يشرك لَا يؤمن كذبه، ولو كان من أهل الصدق، ولذا قال تعالى:(فَإِن شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فإن غلب عليهم فشهدوا بالباطل كما ذكر، فأنكر عليهم شهادتهم، ولا تشهد معهم، ولا تسايرهم، وهذا معنى قوله تعالى:(فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فلا تسايرهم في كذبهم الذي ينبعث من الهوى، ولذا قال تعالى من بعد.
(وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).
نهى الله تعالى نبيه الكريم، ونهيه نهي لكل الذين اتبعوه، ويتبعونه إلى يوم الدين، نهاه عن أن يتبع أهواءهم، لأن الهوى ذاته يضل، ولا يهدي، ومن جعل إلهه هواه، فقد ضل سواء السبيل.
ونص القرآن: (وَلا تَتَبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) والمعنى الذي هو المقصود لا تتبع المشركين المفترين على الله تعالى الذين يحرمون ما يحرمون، ويفترون على الله الكذب. فيزعمون أنه الذي حرم، وعبر عن المشركين بقوله تعالى:(وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ) لأنه لازم لاتباعهم، لأن من اتبعهم، فإنما يتبع أهواءهم المنحرفة، وكيف يتردى مؤمن في اتباع الهوى، والهوى مضل، ومُرْدٍ، وأنى يكون ذلك من نبي كريم، ومن أتباعه الكرام.
ولذلك كان النهي عن اتباع هواهم، وقد ذكر لهم أوصافا ثلاثة مع أنهم أصحاب هوى وليسوا أصحاب عقل:
الوصف الأول أو الحال الأولى من أحوالهم - أنهم كذبوا بآياتنا آي بآيات الله تعالى في الكون الدالة على وحدانيته سبحانه وتعالى، فكذبوا الآيات الدالة على وحدانيته، ومعنى تكذيبهم هذه الآيات أنهم لم يعملوا بمقتضى ما تدل عليه من القدرة القاهرة، والإرادة المختارة، وكذبوا بالآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بالآيات القرآنية، والأحكام التي نزل بها وحي الله تعالى على نبيه الأمين الكريم صلى الله عليه وسلم.
والمكذب بالحق المعلوم الذي تبهر آياته البينات، لَا يصح أن يتبع لأنه ضال مضل.
الوصف الثاني أو الحال الثانية - أنهم لَا يؤمنون بالآخرة، ومن ينكر الآخرة ينكر حقيقتين لَا ينكرهما مؤمن، ولا يقع في هذا الإنكار إلا مادي لَا يؤمن بالغيب، وهو لب الإيمان.
أولى هاتين الحقيقتين - إنكار البعث، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما نحن بمبعوثين، وهم بذلك يحسبون أن الله سبحانه وتعالى خلقهم عبثا، وأنه تركهم سدى، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
الثانية - أنهم ينكرون الحياة الروحية، ولا يؤمنون إلا بالحياة المادية، ومن كان كذلك لَا يتبع.
الوصف الثالث - وهو الحال الثالثة، وهي نتيجة للأمرين، وهي أنهم بربهم يعدلون، أي يجعلون الأوثان، - وهي حجارة - معادلة للعبادة مع ربهم الذي خلقهم، وكوَّنهم، وربَّهم بربوبيته، أي أنه خلقهم ولم يتركهم، بل قام على تطويرهم من حياة إلى حياة، فهو الحي القيوم القائم على كل شيء الذي يكلؤهم بالليل والنهار سبحانه الواحد القهار.
وتقديم (بِرَبِّهِمْ) على (يَعْدِلُونَ)، لبيان ضلالهم في مساواتهم الله ربهم بالأوثان، وهو تأنيب لهم، وبيان لضلال عقولهم.
* * *
وصايا الله
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
* * *
هذه وصايا عشر هي وصايا الله تعالى لبناء مجتمع إنساني كامل، يقوم على أساس التعاون الإنساني والمودة ودفع الأذى ووقاية المجتمع من الآفات، ورعاية الضعفاء.
ولقد قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) إلى قوله تعالى: (لَعَلَّكمْ تَتَّقونَ).
هذا ما قاله ابن مسعود الصحابي الفقيه النافذ ببصيرته في معاني القرآن الكريم، ومستخرج الأحكام من بين ما نص عليه وما ظهر، وما استكن من معانيه العالية.
وفى الحق إن هذه الوصايا الإلهية التي هي وصايا النبي صلى الله عليه وسلم يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني السليم، وبها تحارب الآفات الاجتماعية التي تتردى بها الجماعات في مهاوي التفرق والانحلال. فيها تطهر النفس والعقول من آفات الفكر، وتطهير المجتمع من التقاطع والتنابذ ومنع الاعتداء بأي نوع من أنواعه. وفيها، التعاون على حماية الضعفاء، وفيها إعطاء كل ذي حق حقه، وفيه إقامة العدل في كل ضروبه الذي هو ميزان الحقوق والواجبات، وفيها الوفاء بالعهود الذي هو رباط الجماعات الإنسانية مهما تختلف أجناسها وشعوبها وقبائلها.
وإن شئت أن تقول إن فيها أكثر التكليفات الاجتماعية البانية والواقية، وهي متفق عليها في كل الديانات السماوية، ومقررة في كل الشرائع العادلة، وإن لم تكن فيها على هذا السمو الرفيع كما جاء في القرآن.
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
خاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم ليبلغ جوهر رسالة ربه بأن يقول بهم: (تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أي أقبلوا أيها الناس أجمعين في شتى الأرض أجناسا وشعوبا وقبائل، وأقبلوا بعقولكم وأنفسكم أبين لكم ما حرم عليكم، فالنداء بـ (تَعَالَوْا) دعوة لإقبالهم له بكل مداركهم وتفكير وتنبيه لعظم ما سيبينه لهم من وصايا وتكليفات، والتلاوة هي قراءة القرآن الكريم مرتلا متتابعا في كلماته وأساليبه، والمراد هنا البيان لأن البيان؛ ثمرة تلك التلاوة المتتابعة الموضحة، فهذا تعبير بالمسبب عن السبب.
وقوله تعالى: (مَا حَرَّمَ رَبُكُمْ عَلَيْكُمْ)، (ما) اسم موصول بمعنى الذي، أي أبين لكم الذي حرمه الله تعالى عليكم، ويصح أن تكون ما موصولا حرفيا، ويكون المؤدى تعالوا أتلُ تحريم ربكم تعالى عليكم.
وفى التعبير بقوله تعابى: (مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إشارة إلى أن ذلك من ربكم الذي خلقكم وربَّكمْ، وهذبكم، وهو العالم بالأمور كلها، وهو المحيط بما فيه خيركم، و (حرَّمَ)، إنما هو في الأمور الخمسة الأولى التي آخرها، (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)، فإن هذه الخمسة محرمات ننتهي عنها وإذا شئنا الإحسان إلى الوالدين، أما الباقي فأكثره مأمورات من الوفاء بالكيل والميزان، وألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، فهو في معنى الأمر في معاملة اليتيم بالتي هي أحسن في ماله، ثم إقامة العدل والوفاء بالعهد فهذه أوامر لَا محرمات.
هذه الأوامر المذكورة في الآيات نهيا أو طلبا هي تسعة إن جعلنا الوفاء بالكيل والميزان أمرا واحدا، وإن جعلناها أمرين تكون عشرة كاملة.
(أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) هذا هو الأمر الأول الذي حرمه الله تعالى، وهو أعظم الأمور، وأقواها أثرا لأنه يتعلق بخالق الكون ومنشئ الوجود، وأصل الاعتقاد الديني، وهو أول الشريعة، وعليه اجتمعت كل الرسالات، كما قال تعالى:(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ).
فالواحدانية لب الإيمان، والله تعالى يجعل كل السيئات قابلة للغفران إلا الشرك، ولذا يقول تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْركَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ).
وإن الوحدانية فيها تطهير للعقول من رجس الأوثان، والإذعان للإنسان والأوثان، وهي تربي العزة في المرء، فلا يخضع إلا للواحد الأحد، الفرد الصمد، وذلك من يعبد غير الله، ومن يخضع لغيره، وأنه إذا كانت الوحدانية برا بالخالق، فإن الإحسان إلى الوالدين برٌّ بمن جعلهم الله سببا ماديا في وجود الولد ولذا قال تعالى:(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
هذا هو الأمر الثاني وهو الوصية بالوالدين، والوصية بهما هي الإحسان إليهما، والإحسان مرتبة أعلى من العدل، إذ هو فوق العدل في الرحمة والرأفة، فهو عدل ورأفة ووفاء وبر، ولذلك كان الأمر بالإحسان بجوار الأمر بالعدل، كما قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90).
وقال تعالى: (وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). وإن الأمر بالإحسان يتضمن النهي عن الإساءة، إذ هو نهي عن الإساءة، وأمر بفضل العاطفة والمواساة والقرب، وإحسان الصحبة.
وإن الله تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين مقترِنا بالنهي عن الشرك في كثير من الآيات الكريمة، فقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا)، وقرن الله تعالى شكر الوالدين بشكر الله وجمعهما معا، فقال تعالى:(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15).
والإحسان إلى الوالدين شريعة النبيين أجمعين قد كلفها بني إسرائيل، قال تعالى:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
فمن يعق الوالدين فهو فاسق عن أمر الله ونهيه. (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) هذه هي الوصية الثالثة،
وقد نزل سبحانه من إكرام الأصول والإحسان إليهم إلى الإحسان إلى الأولاد،
ولم يذكر سبحانه الإحسان إلى الأولاد لأنه أمر فطري تتقاضاه المحافظة على النفس، فالولد امتداد أبيه وما جاء القرآن بالأمر بالإحسان إلى الأولاد، ولكن أمر الإسلام بالقيام على تربيتهم ورعاية شئونهم ورزق أمهاتهم، كما قال تعالى:
(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)،
ولكن كان في وحشية الجاهلية من يئد بناته بغيا بغير علم، وكان من يفعل ذلك وغيره لإملاقهم، والإملاق الفقر من كثرة الإنفاق، وقد نهى سبحانه وتعالى عنه، فقال:(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكم مِّنْ إِمْلاقٍ) أي من فقر بسبب الإنفاق عليهم، وهو متلاق في المعنى مع قوله تعالى:(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكمْ. . .)، فكأنه كان في الجاهلية من يقتل أولاده لإملاق واقع بسبب الإنفاق، ومن يقتل ولده لأنه يتوقع الإملاق إن لم يقتله.
وقد نهى الله تعالى عن ذلك الإثم الجاهلي، وهو من إغواء الشياطين، ولعله كان يسهل على الذين يفعلونه معهم، أنهم يفعلون ذلك، وهم بعد في المهد، أو عقب ولادتهم، فلم يكونوا تعلقوا بهم تعلق الآباء بالأولاد، وكانوا يفعلون ذلك سفها بغير علم، ولم يكونوا قد ذاقوا محبتهم؛ بالإلف، والتودد،
وقد قال تعالى في بيان أن الفقر أو الإملاق لَا يبرر؛ لأنهم لَا يرزقونهم، ولكن يرزقهم الله، ولذلك قال تعالى:(نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أي نحن نرزقكم معهم، كما رزقناكم وحدكم:(ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا. . .).
وقد فهم بعض العلماء من هذه الآية أن منع النسل لَا يجوز بعزل أو نحوه، والعزل أن يلقي النطفة خارج الرحم، ولكن رويت آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى العزل، ولم يأمر به ولم ينه عنه (1)، ولكن جاء آخر الحديث في هذا الباب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" العزل هو الوأد الخفي "(2).
وروي عن الصحابة أنه رأى أن العزل ليس به من بأس، ولكنه خلاف الأولى، ورأى آخر منعه، والفقهاء بعد ذلك اختلفوا فيه، فمنهم من قال إنه مكروه، ومنهم من قال إنه حرام كالحنابلة وأهل الظاهر، والغزالي قال إنه لَا يجوز إلا إذا كان ثمة عذر إليه، وفتح باب الأعذار على مصراعيه حتى لخشيت المرأة على جمالها، فإن زوجها يعزل عنها، ولكنه منع منعا مطلقا العزل أو حد النسل خوف الإملاق أو للإملاق، فإن ذلك يكون مصادمة للنص، ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، والقول الفصل في الحد من النسل المترتب على العزل ونحوه، أن جمهور الفقهاء لم يرضه، حتى إن الغزالي الذي فتح باب المبررات له، قال: إنه لا ينبغي.
ومهما يكن فإنه من المؤكد أن الذين قالوا ليس به من بأس قرروا أن ذلك بالجزء لَا بالكل، أي أنه يكون لمن يريد ذلك أن يفعل، إذا كان له مبرر، على التوسعة في المبرر عند الغزالي. ولكنه حرام بالكل، أي حرام أن يدعو أحد إليه،
(1) من ذلك ما جاء في باب العزل من صحيح البخاري ومسلم، ففي صحيح مسلم: النكاح - حكم العزل (1438) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:" وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؟ - وَلَمْ يَقُلْ: فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ - فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلَّا اللهُ خَالِقُهَا ".
(2)
سبق تخريجه.
أو تدعو الدولة إليه؛ لأن ذلك مناهضة للنص الكريم في القرآن، وقوله:" تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة "(1).
وقد قرر مجمع البحوث الإسلامية المنعقد في الأزهر سنة 1965 أن الإسلام يرغِّب في النسل؛ لأنه يقوي الأمة اجتماعيا، واقتصاديا، وحربيا، ويربي في الأمة روح العزة والمنعة، وقرر أن تنظيم النسل حق للزوجين دون غيرهما، يستعملانه للضرورة، ومسئوليتهما عن الضرورة أمام الله وحده.
(وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)
هذه هي الوصية الرابعة، وهي تتصل بالأولاد عن قرب أو عن بعد؛ لأن أخصِ الفواحش هو الزنى وقد قال تعالى:(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا).
والفواحش: جمع فاحشة، والأصل في الفحش الزيادة عن الأمر المعتدل، والفاحش هو الزائد عن المعقول، ولذا يقال غبن فاحش أي زائد عن الحد المعقول في الصفقة؛ إذ لَا يدخل في تقويم المقومين، والفواحش هي المعاصي لأنها انحراف، وزيادة عن الفطرة وخروج عن منهاجها، وعن الطريق المستقيم، والظاهر ما يعلن، ويجهر به، والجهر بالمعصية في ذاته حرام، وما بطن أي وما استتر ولم يجهر به، وهو إثم، ولكنه دون إثم المجاهرة، ومن يجهر بالمعاصي، فإن ما يفعله إثمان إثم الفعل وإثم المجاهرة، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن من أشد الناس بعدا عن الله المجاهرين " قيل: ومن هم؟ قال: " ذلك الذي يعمل عملا بالليل قد ستره الله فيصبح يقول فعلت كذا وكذا يكشف ستر الله "(2)، ولقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه
(1) رواه أبو داود: النكاح - النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (2050)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (12202). عن أنس رضي الله عنه.
(2)
عن أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ". متفق عليه: رواه البخاري: الأدب - ستر المسلم على نفسه (6069)، وَمسلمَ: الزهد والرقائق - النهي عن هتك المسلم ستر نفسه (2990).
الشافعي: " يا معشر الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فاستتر فهو في ستر الله ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد "(1).
ومن المعاصي ما يستتر استتارا؛ لأنه خلجات القلوب ولم يظهر في العمل لَا لعدول صاحبها، ولكنه فوجئ ما فوت عليه مقصده كمن بيت الاعتداء، أو الزنى، واتجه إلى الفعل، ولكن فات عليه ارتكابها لأمر خارج عن إرادته، فإنه يكون قد أبْطن معصيته، ولكن لم يُمكَّن من ارتكابها رغما عنه لَا مريدا، فإن من الآثام ما يكون باطنا، وعليه الإثم، وكمن يهاجر إلى مكان لَا يريد الهجرة لله أو لعمل صالح، ولكن يريد الفسق والفجور أو البغي، فإن هذا يكون فاحشة مما بطن. وهذا النص مثل قوله تعالى:(وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ. . .).
وقد يسأل سائل، إن هذا النص القرآني وما يشبهه فيه نص على المؤاخذة على ما في النفس وما يبطن، مع أن الحديث بأن الله تعالى لَا يؤاخذ على ما يحدث المرء به نفسه، وقال عليه الصلاة والسلام:" من هم بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء "(2)، فإن هذا حديث النفس أو همُّها، من غير أن تشرع بعمل، بل عدل من تلقاء نفسه.
وما في النص السامي الذي نتكلم في معناه هو من ارتكب الشروع، ولم يقتصر على حديث النفس ولا هم النفس والعدول، بل أراد الفعل وقصده، وأخذ في الأسباب، ولكن لم يتم لأمر خارج عن إرادته.
(1) رواه مالك في الموطأ: الحدود - ما جاء فيمن اعمْرف على نفسه بالزنا (1562).
(2)
رواه الإمام البخاري: الرقاق - من هم بحسنة أوسيئة (6491)، وفي رواية: التوحيد (7501).
كما رواه مسلم: الإيمان - إذا هم العبد بحسنة (128) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعلى هذا فإن من هم بسيئة فلم يفعلها - ابتغاء مرضاة الله تعالى - كتبت له حسنة. والله أكبر.
(وَلا تَقْتُفوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ).
هذه هي الوصية الخامسة التي أوصى بها رب العالمين، وهي النهي عن قتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق، ويكون القتل بحق أي بسبب يوجب القتل.
وهذا النص يفيد تحريم قتل النفس أساسا، فهي على أصل المنع إلا أن يكون ثمة موجب لذلك، فإن ذلك يكون بحق لحماية النفوس العامة، وقد قال - تعالى - في قتل قابيل أخاه هابيل حسدا وبغيا:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
فالقتل حرام، إلا إذا كان ما يبرره فيكون بحق، ومن الحق الذي يوجب القتل، ويحل النفس، أن يقتل غيره أو أن يبغي، أو أن يحارب الله ورسوله وهم قطاع الطريق أو أهل الحرابة كما قال تعالى:(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34).
وهكذا نجد الحق الذي يبرر قتل النفس يكون لحماية النفس ذاتها، أو يكون صاحبها قد أباحها.
وإن النهي عن قتل النفس عام إلا إذا وجد ما يبرره، لأن الله تعالى حرم قتلها، فقوله تعالى (الَّتي حَرَّمَ) قتلها فيه الصلة، وهي علة النهي، فقتلها منهى عنه، لأن الله تعالى حرمها، ولذا إذا أباح صاحبها نفسه بردة، أو محاربة للمسلمين، فإن الله تعالى لم يحرم قتلها، فلا نهي، لأنه مباح الدم.
وبذلك يتبين أن الله تعالى نهى عن قتل الذمي المعاهد، ومن دخل أرض المسلمين مستأمنا، لأن عهده عصم دمه، والله أعلم.