المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) نبههم الله - زهرة التفاسير - جـ ٥

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌(52)

- ‌(53)

- ‌(54)

- ‌(56)

- ‌(57)

- ‌(58)

- ‌(59)

- ‌(60)

- ‌(62)

- ‌(63)

- ‌(65)

- ‌(66)

- ‌(68)

- ‌(71)

- ‌(73)

- ‌(74)

- ‌(75)

- ‌(77)

- ‌(78)

- ‌(79)

- ‌(80)

- ‌(81)

- ‌(83)

- ‌(84)

- ‌(85)

- ‌(86)

- ‌(88)

- ‌(89)

- ‌(91)

- ‌(92)

- ‌(93)

- ‌(95)

- ‌(98)

- ‌(99)

- ‌(100)

- ‌(102)

- ‌(104)

- ‌(105)

- ‌(107)

- ‌(108)

- ‌(110)

- ‌(112)

- ‌(113)

- ‌(114)

- ‌(115)

- ‌(117)

- ‌(119)

- ‌(120)

- ‌(سُورَةُ الْأَنْعَامِ)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(5)

- ‌(6)

- ‌(8)

- ‌(9)

- ‌(10)

- ‌(11)

- ‌(12)

- ‌(14)

- ‌(15)

- ‌(16)

- ‌(17)

- ‌(18)

- ‌(20)

- ‌(21)

- ‌(22)

- ‌(23)

- ‌(24)

- ‌(26)

- ‌(27)

- ‌(28)

- ‌(29)

- ‌(30)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(34)

- ‌(35)

- ‌(37)

- ‌(38)

- ‌(39)

- ‌(40)

- ‌(41)

- ‌(43)

- ‌(44)

- ‌(45)

- ‌(47)

- ‌(48)

- ‌(49)

- ‌(51)

- ‌(52)

- ‌(53)

- ‌(55)

- ‌(56)

- ‌(57)

- ‌(58)

- ‌(60)

- ‌(61)

- ‌(62)

- ‌(64)

- ‌(65)

- ‌(67)

- ‌(68)

- ‌(69)

- ‌(71)

- ‌(72)

- ‌(73)

- ‌(75)

- ‌(76)

- ‌(77)

- ‌(78)

- ‌(79)

- ‌(80)

- ‌(81)

- ‌(82)

- ‌(83)

- ‌(89)

- ‌(92)

- ‌(94)

- ‌(96)

- ‌(97)

- ‌(99)

- ‌(101)

- ‌(102)

- ‌(103)

- ‌(107)

- ‌(110)

- ‌(112)

- ‌(113)

- ‌(114)

- ‌(115)

- ‌(117)

- ‌(119)

- ‌(120)

- ‌(121)

- ‌(123)

- ‌(124)

- ‌(126)

- ‌(128)

- ‌(129)

- ‌(131)

- ‌(132)

- ‌(134)

- ‌(135)

- ‌(137)

- ‌(138)

- ‌(139)

- ‌(140)

- ‌(142)

- ‌(144)

- ‌(146)

- ‌(148)

- ‌(149)

- ‌(150)

- ‌(152)

- ‌(153)

- ‌(155)

- ‌(156)

- ‌(157)

- ‌(159)

- ‌(161)

- ‌(164)

- ‌(165)

- ‌(سُورَةُ الْأَعْرَافِ)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(5)

- ‌(8)

- ‌(9)

- ‌(10)

- ‌(13)

- ‌(14)

- ‌(15)

- ‌(16)

- ‌(17)

- ‌(18)

- ‌(19)

- ‌(20)

- ‌(21)

- ‌(22)

- ‌(23)

- ‌(24)

الفصل: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) نبههم الله

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) نبههم الله سبحانه وتعالى إلى وجوب طاعة الله وطاعة رسوله، وأن يحذروا غضب الله تعالى وعذابه، واقتران الحذر بوجوب الطاعة فيه تنبيه إلى ضرورة اجتناب الخمر التي تصد عن ذكر الله تعالى، وتميت الضمير، وتخفت صوت الوجدان، وتسهل الاندفاع وتمنع الحذر.

وفى هذا النص الكريم تأكيد لمعنى التحذير السابق، وتنبيه إلى سوء العاقبة، والمعنى: إن أعرضتم عن الطاعة، وتجنبتم الحذر، ووقعتم في المحظور، وغفلهم عن المأمور به فقد وقعتم في الخطيئة، وستحاسبون عليها حسابا عسيرا، واعلموا أنه على رسولنا البلاغ الواضح المبين للحقائق والواجبات، فقوله تعالى:(فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِين) مبني عن جواب شرط مقدر ينبئ عن تحملهم وحدهم لتبعة إجرامهم ومعاندتهم لربهم مثل قوله تعالى: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ. . .). أي فإنه عدو لله؛ لأنه نزله على قلبك بإذن الله، فالرسول مبين للحق، وليس مسئولا عن إيمان من يبين لهم، كقوله تعالى:(. . . إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ).

وكقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22).

وفي إضافة الرسول إليه في قوله: (عَلَى رَسُولِنَا). تشريف للرسول وتوكيد لإقراره سبحانه، وبيان أن الرسول ما ينطق إلا عنه، وأن عصيانه عصيان لله تعالى، وفي التعبير بقوله تعالى:(فَاعْلَمُوا). تنبيه بصيغة الأمر، ليتعظوا ويتحملوا تبعة أعمالهم، ويكونوا في حذر مستمر، والله الهادي.

* * *

ص: 2350

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا

(93)

* * *

كان بعض المؤمنين يحرمون على أنفسهم بعض المباحات، ويحسبون أن ذلك من الورع والتقوى، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم خطأهم، ونزل القرآن الكريم بتحريم ذلك عليهم، وجاء في مطوي الكلام تحريم الخبائث لَا تحريم الطيبات، ِ وفي هذا النص الكريم بيان أنه لَا إثم في تناول المباحات؛ لأن العبرة بالإيمان وتقوى القلوب،

ص: 2350

فالخبر في الإيمان وفي القلب لَا في ترك المباحات، وهذا يشير إلى أن الآيات حكمها عام، وهو كذلك، وإن كان لها سبب فالعبرة بعموم اللفظ.

والأكثرون من المفسرين على أن سبب نزولها أنه لَا نزل تحريم الخمر المشدد فيه، والتحذير منها، وقد كانت من قبل في مرتبة العفو، وقد كان هناك من المؤمنين من يشربها، حتى كان منهم من استشهد في الجهاد، وفي بطنه خمر فتساءل بعض المؤمنين عمن شربها ومات، وعمن كان يشربها من الأحياء، كما تساءل بعض الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس عن صلاتهم قبل تغيير القبلة إلى الكعبة، فنزلت هذه الآية:(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). كما نزل هنالك قوله تعالى: (. . . وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ).

وقد وصف الله سبحانه وتعالى الذين لَا جناح عليهم في شربهم في الماضي بأنهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكلمة:" طعموا " معناها ذاقوا، وهي تطلق على المشروب، والمأكول، كما قال تعالى في شأن النهر الذي حرم القائد شربه:(. . . وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي. . .)، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد نفي الإثم قوله تعالى:(إِذَا مَا اتَّقَوْا وآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). ففهم بعض الناس أن ذلك شرط لنفي الإثم، أي لَا إثم بالشرب مع التقوى وعمل الصالحات، ونقول في الجواب عن ذلك:

أولا - إن المراد بتقوى الله تعالى امتلاء القلب بخشيته، وقد ذكر سبحانه وتعالى في أوصاف الخمر والميسر أنهما يلقيان بالعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى فإذا كان الإثم قد رفع عن التناول لأنه كان قبل التحريم، فهل يرفع الإثم عن العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة؛ إنه لَا تقوى مع التناول.

وثانيا - إن في هذا الشرط تحريضا على الإيمان وتقوى الله تعالى، والامتلاء بهيبته.

ص: 2351

وكرر الله تعالى التقوى، فقال تعالت كلماته:(ثُمَّ اتَّقَوْا وآَمَنُوا). لبيان أنه يجب استمرارهم على التقوى، وحث غيرهم عليها، وكان التعبير بـ " ثم " لتأكيد معنى الاستمرار على التراخي، وهناك معنى يفيده التكرار، وهو تأكيد أن الماضي مهما يكن لَا يؤثر في الحاضر، إذا كان الحاضر نقيا، وقد تأكد هذا بقوله سبحانه:

(ثُمَّ اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) العطف بـ " ثم " هنا هو أيضا لتأكيد معنى الاستمرار مع الزمن، والتقوى كما قلنا هي امتلاء القلب بالخشية، وهذا للحث عليها، ولتشريف الذين يستمرون عليها، والإحسان إن اعتبرناه متعديا يكون مؤاده الإحسان إلى غيرهم بالمعاونة، وفعل الخير وإسدائه، والجود بالمال وغيره، ويصح أن يكون لازما والمراد الإحسان في ذات أنفسهم، كما قال النبي عليه السلام:" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "(1) وهذا أعلى مراتب التقوى وهو ما نراه، والله جل جلاله يحب المحسنين لأنهم قريبون منه.

* * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

(1) سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم، وهو المعروف باسم حديث جبريل الشهير.

ص: 2352

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

* * *

ذكر سبحانه وتعالى أشياء محرمة لذاتها لأنها مستقذرة، خبيثة في ذاتها، وفى نتائجها، وهناك محرمات لمكانها وحال التناول لها، وليست في ذاتها حراما، ومن ذلك المحرمات في الحج أو في الإحرام بشكل عام، سواء أكان للحج أم كان للعمرة أم كان لهما - وبعد أن أشار إلى بعض المحرمات لخبثها، ولذاتها وهي الخمر، ذكر سبحانه وتعالى المحرمات لمكانها وحال التناول لها، فقال سبحانه وتعالى:

ص: 2353

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) البيت الحرام في واد غير ذي زرع كما قال إبراهيم عليه السلام فيما حكاه الله تعالى عنه إذ قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37).

وكان على المسلمين أن يعملوا على توفير الطعام لهم، حتى تتحقق إجابة ذلك الدعاء، إذ فرض الله سبحانه وتعالى الحج إلى ذلك البيت المطهر، ففرض الحج إليه كما قال تعالى:(. . . وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. . .).

فكان الناس يذهبون إليه من كل فج عميق، وإذا كان من مقاصد الحج التوسعة على المقيمين في هذا البيت، لَا يصح أن يكون وجودهم سببا للتضييق عليهم ولو كان الصيد مباحا، وهم يسكنون البادية، ومن موردهم الصيد، ولو فتح باب الإباحة للمحرمين لكان من المتصور أن يستنفذوا كل عام أكثر الصيد

ص: 2353

الذي يكون حول مكة، فيجيئوا بالحرمان بدل التوسعة، وبالضيق عليهم بدل الترفيه، فكان لَا بد من منع المحرمين من قتل الصيد، حتى لَا يكون أهل مكة في ضيق، فوق ضيق المكان، وبعده عن الزرع والثمار.

النداء في النص القرآني الكريم للذين آمنوا، لأنه من مقتضيات الإيمان ذلك الخطاب، ولم يكن تحريم الصيد للمحرمين لهذا فقط، بل لاختبار النفس المؤمنة، ولتعويدها الصبر، ولتربية العزيمة، إن العزيمة تتربى في صغار الأمور، كما تتربى في كبارها، وإن كبارها تحتاج إلى قوة جسمية، وإرادة نفسية، أما الأمور الهينة اللينة، فإنها تحتاج إلى عزيمة روحية، ولذا قال تعالى:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ). وإنه يكفي المنع من شيء ليطلبه الممنوع منه، وفي الأمثال: كل ممنوع متبوع، وجاء في ذريعة الأصفهاني أنه ورد في بعض الآثار أن الناس لو مُنعوا من البعر لفتوه، وقالوا ما حُرِّمَ علينا إلا لشيء فيه.

والكلام في قوله تعالى: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ). اللام هي التي تدل على القسم، والنون هي المؤكدة، والمعنى لنعاملنكم معاملة المختبر، الكاشف لحقيقة نفوسكم، وعزائمها، وإراداتكم وتصميمكم، وصبركم النفسي، وكان ذلك الاختبار النفسي الكاشف لعزائمكم في أمر صغير في واقعه، كبير في معناه، فموضوع الاختبار عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته:

(بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) وهذا الموضوع للاختبار يتسم بأمور ثلاثة: أولها - أنه شيء قليل لأن التنكير هنا للتقليل، كما يدل عليه ما بعده، والثاني - أنه بعض الصيد، والثالث - أنه قريب منكم يغري النفس، ويحرضها على فعل المنهي عنه، إذ إن أيديكم تستطيع تناوله إذ كان قريبا صغيرا، وتستطيع رماحكم أن تناله إذا كان كبيرا أو بعيدا بعدا نسبيا. وإن الاختبار الذي يجعل النفس في مشقة هو في هذا القرب، فالاختبار ليس في أمر يشق على الأجسام كالجهاد إذ يحتاج إلى قوة جسم، ومهارة، وفن عقلي، ولكن الاختبار في أمر

ص: 2354

هين لين، ولكن فيه مشقة على النفس، وجهاد النفس عن شوقها وعن شهوتها لا يقل عن جهاد الجسم المرن، والعقل المدرب الماهر، ولعل ذلك جهاد أكبر.

وإن الذي ينجح في ذلك البلاء يكون ممن يخاف الله تعالى في غيبه عنه، وفى مشهده له، بل إنه يحس دائما بمقام المشاهدة (1)، فلا يحس بأنه غيب عن الله تعالى قط، ولذلك قال تعالت كلماته:(لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ). أي ليظهر الله تعالى فيمن يخافه بالغيب، ولكن ما الغيب وما حال من يخافه، قال بعض المفسرين: إن المراد غيب يوم القيامة، أي أن من يحرم الصيد وأشباهه على نفسه، ويعقد عزيمته على ذلك يظهر إيمانه بالآخرة وهي مغيبة عنه، ويخافها لأن نفسه تكون من النفوس الصابرة المبتعدة عن أهواء الدنيا، فلا تغمرها شهواتها، فتنفذ طيبة إلى الآخرة، وقال بعض المفسرين: إن المراد غيب الله تعالى أي أن من تكون له تلك العزيمة القوية فيكون ممن يراقب الله تعالى دائما، فيعبد الله كأنه يراه، فالله في قلبه دائما يخافه ويتقيه، ولا مانع من الجمع بين المعنيين.

(فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَليمٌ) الاعتداء تجاوز الحد ومخالفة أوامر الله تعالى، كما قال تعالَى:(. . . وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. . .).

ومعنى النص الكريم: ومن تجاوز ما أمر الله تعالى بعد إعلامه بأنه اختبار من الله لتربية نفسه وتهذيبها وإشعار بمخافة الله تعالى، وهو غائب بأن يمتلئ قلبه بالإيمان به، ويطيع الله كأنه يراه، من اعتدى بعد هذا فهو يعاند الله تعالى ويكابره، ومن يكون قلبه ممتلئا بالمكابرة والمعاندة، فإن الإيمان لَا يسكن قلبه، ويكون له عذاب أليم.

(1) مقام المشاهدة: " أن تعبد الله كأنك تراه "، ومقام المراقبة:" فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". وكلاهما إحسان كما في حديث جبريل الشهير. والمداومة على الثاني توصل إلى المقام الأول لمن وفقه الله تعالى.

ص: 2355