الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) فكانت الجملة غير " صالحة لأن تكون جواب الشرط، فكان لَا بد من التصريح بجواب الشرط.
المبحث الثاني - أن الله سبحانه وتعالى قسمهم فريقين فريقا كذبوه، وفريقا قتلوه، ولا شك أنه مع القتل التكذيب، ويكون المعنى على هذا أن هناك فريقا اكتفوا بتكذيب الرسول، وفريقا آخر ذهبت بهم اللجاجة في العناد وعداوة الهادين إلى أن يقتلوه.
والمبحث الثالث - التعبير عنِ التكذيب بالفعل الماضي فقال: (فَرِيقًا كَذَّبُوا). وعن القتل بالمضارع: (وَفَرِيقَا يَقْتلُونَ). وقد علل ذلك الزمخشري بأن المضارع يدل على استحضار الجريمة البشعة التي ارتكبوها، وهي أن يقتلوا هاديهم ومرشدهم، وهناك تعليل آخر، وهو أنهم على استعداد لأن يقتلوا خاتم الهداة محمدا صلى الله عليه وسلم، وقد هموا ولم ينالوا.
* * *
(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
(71)
* * *
الفتنة أصل معناها إدخال الذهب النار لتظهر جودته، وأطلقت الفتن في لغة القرآن على الشدائد التي تنزل ليختبر قلب المؤمن، فإن صبر ظهر إيمانه قويا شديدا، وإن خار ووهن كان من ضعفاء الإيمان ولقد قال تعالى:(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنونَ).
واليهود لما أنعم الله تعالى به عليهم إذ أخرجهم من قسوة فرعون، ونجاهم بفلق البحر، حتى مروا، وغلقه على فرعون وقومه، حتى غرقوا، وهم ينظرون وأعطاهم من بعد ذلك المن والسلوى وغير ذلك ما أجزله تعالى عليهم من خير، حسبوا أن الإيمان جلب لَا سلب فيه، وهناءة لَا يرنقها تعب، ولذلك حسبوا ألا تكون فتنة تنزل بهم، ولكن الله أنزل عليهم هزائم تتلوها هزائم واختبرهم بقحط ينزل بهم، حتى يصقل إيمانهم، وكان ذلك الحسبان منهم لانغمار نفوسهم بالشهوات، لأنها تعمي وتصم، وترين على البصر بغشاوة فلا يرى، وتضع على الآذان وقرا فلا تسمع.
ولذلك رتب الله تعالى على حسبانهم ألا فتنة تنزل أن عموا عن إدراك الحق، فلم يصلوا إليه، وأن صموا عن سماع الهادي فلم ينصتوا إليه، وبذلك سدت عليهم منافذ الإدراك، فلا عقل يدركون به إذ غشيته الشهوات حتى أعمته وجعلت عليه غشاوة ولا وعي يستمعون به إلى صوت الهداية.
وقد نزلت بهم شدائد صقلت نفوسهم كالشدائد التي أنزلها التتار بهم، فاستيقظت مداركهم وسمعت الحق آذانهم، وجاء الأنبياء أمثال داود وسليمان فأنقذوهم، ولكن ما إن أحسوا ببحبوحة النعمة حتى استولت عليهم الشهوات فعموا وصموا ولكن كانت بقية صالحة، وهنا مباحث لفظية نذكرها، لأنها تقرب إلينا معنى النص الكريم.
الأول - أن قوله تعالى: (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) بنصب النون في تكون، وقرئ بضمها (1)، والقراءة الأولى على أساس أن " حسب " بمعنى الظن الغالب، والثانية على أساس أن " حسب " بمعنى علم، والقراءتان متواترتان، وهما تنتهيان إلى أنهم ظنوا، ثم لغلبة الشهوات وسيطرتها تحول الظن إلى يقين أو كاليقين.
الثاني - أن معنى: (عَمُوا وَصَمُّوا) فيه تشبيه حالهم في غلف قلوبهم واستيلاء الشهوات عليهم وعدم إدراكهم الحق بأنفسهم وعدم استماعهم للداعية بحال الأعمى الذي لَا يبصر، ولا يستمع إلى من يدعوه ليسير في الطريق القويم.
الثالث - أن المفسرين أرادوا أن يفسروا متى كانت التوبة التي يسترشدون فيها ثم الصمم الذي يلي الرشاد وقالوا في ذلك أقوالا كثيرة، وعندي أن توبتهم بشديدة تنزل بهم، يخرجهم الله منها، ثم عودتهم إلى ما كانوا عليه متكررا.
(1)(ألا تكونُ)(بالرفع). قراءة أبو عمرو،، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف، والمفضل، ولكن قرأ عاصم والباقون بالنصب. غاية الاختصار - برقم (812).
الرابع - أن قوله تعالى: (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كنِيرٌ منهُمْ) فيه معنى التراخي المعنوي لبعد ما بين التوبة والعمى والصمم. وكثير منهم بدل من الضمير، وفي هذا إشارة إلى تأصل الصمم والعمى حتى صاروا أهلا لأن يحكم على الجميع بسببهم ولكن عدل الله أخرج المهديين منهم.
بهذا ختمت الآية، وهي تدل على أن الله جل جلاله عليم بما كان منهم علم من يبصر، وهو مجازيهم بأعمالهم، وهو فوقهم، وهو بكل شيء محيط.
* * *
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
* * *
بين سبحانه ضلال اليهود وما كان ضلال فكر، بل ضلال قلب، ذلك لأنهم عرفوا الحق، ولكن حقد قلوبهم وحسد نفوسهم منعهم من الإذعان للحق الذي تبين لهم، وأدركوه، وطمس الله عليهم فجعل قلوبهم غلفا لَا ينفذ الحق إليها، وبعد ذلك ذكر ضلال النصارى، وكان ضلالهم ضلال العقل الذي انحرفوا به تحت تأثير وثنية قديمة، أو فلسفة واهمة سيطرت في زمانهم. فكان الضلال ضلال فكر انحرف فاعتنقوا غير المعقول، وآمنوا بما هو مستحيل، ولا عجب في ذلك إذ استهوت العقول أفكار منحرفة شردتهم عن الجادة المستقيمة، وقد أخذ سبحانه يصور كفرهم فقال تعالت كلماته:
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أكد الله سبحانه وتعالى كفر الذين قالوا إن الله - تعالى الله عما يقولون - هو المسيح ابن مريم، ويظهر أنه كان من هؤلاء الذين انحرفت عقولهم من زعم أن الله تعالى حل في جسم فكان هو المسيح، مع أنهم يقرون أن مريم ولدته، وأن منهم وهم الأكثرون من يقولون: إنه ابن الله قد حلت فيه الألوهية، وهم بهذا الاعتبار قد قالوا: إن الله هو المسيح باعتبار أن الألوهية حلت فيه، وأنه الإله أو ابن الإله.
وحقيقة - هذه النصرانية التي انحرفت عن أصل الديانة - المسيحية التي جاء بها المسيح، أنه بعد أن ترك المسيح هذه الدنيا تعرض المسيحيون لاضطهادات شديدة استمرت نحو ثلاثة قرون كانوا فيها يفرون بدينهم ويختفون وتحرق كتبهم، حتى صار أصل العقيدة معرضا لمنازع مختلفة، ولكن التوحيد هو السائد الغالب، وما أن رفع الاضطهاد عنهم، حتى تعرضوا لفتنة أشد من الأذى البدني، فتعرضوا لأذى في العقيدة ذاتها، وهو أشد وأنكى، إذ أدخلت الوثنية في النصرانية بتأثير قسطنطين ملك الرومان، ولنترك الكلمة لابن البطريق النصراني يتكلم عن الأهواء التي دخلت في عقول المسيحية، فقد فال عن " مجمع نيقية " الذي أعلن ألوهية المسيح، والذي انعقد لمنع دعاية الوحدانية التي حملها أسقف اسمه أريوس، ويتبعه في فكرته أكثر المسيحيين قال ذلك النصراني:
(بعث الملك قسطنطين إلى جميع البلدان فجمع البطارقة والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة مختلفين في الآراء والأديان، فمنهم من كان يقول إن المسيح وأمه إلهان من دون الله وهم البربرانية، ومنهم من كان يقول إن المسيح من الآب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية عنها، وهي مقالة سابليوس وشيعته، ومنهم من كان يقول لم تحمل به مريم تسعة أشهر وإنما مر في بطنها، كما يمر الماء في الميزاب؛ لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة إليان وأشياعه. ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمجد والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله، ويقولون إن الله جوهر قديم وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية وأشياعه، ومنهم من كان يقول إنهم ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما، وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه، وقد زعموا أن مرقيون هو رئيس الحواريين، وأنكروا بطرس. ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح، وهي مقالة بولس الرسول، ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا).
هذه هي الأهواء والآراء التي كانت تذكر في الجماعات المسيحية وظهرت عندما زال الاضطهاد، وحل محله الأمن، ولم يذكر ما كان يقرره أريوس الذي انعقد المجمع لإنهاء دعوته، والحق أن دعوة أريوس كانت هي البقاء على الوحدانية، فقد قرر كتاب تاريخ الأمة القبطية أن دعوة أريوس كانت منتشرة وكانت عامة وكان السائد عند الكثيرين إنكار ألوهية المسيح، فقد كانت كنيسة أسيوط على هذا الرأي، وكان للرأي الأصيل رأى أريوس مشايعون في فلسطين ومقدونية والقسطنطينية.
ولكن أُريدَ تحويل المسيحية من التوحيد إلى الوثنية قبل أن يدخل فيها قسطنطين فانتقل للرأي الذي يتفق معها وهو ألوهية المسيح، فاعلن موافقته على
رأى 318 (ثمانية عشر وثلاثمائة) من جمع عددهم ثمانية وأربعون وألفان، واضطهد من عداهم، وقامت منازعات بين الوحدانية والوثنية، حتى اختفت أصوات الوحدانية في الأوساط النصرانية.
(وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) في هذا النص الكريم بيان لحقيقة الدعوة التي دعا إليها عيسى عليه السلام ونفي نفيا مطلقا ادعاءاتهم الألوهية له فقد كانت دعوته التي كان موطنها بني إسرائيل، وانبثق نورها، من أوساطهم إلى غيرهم من الناس، هي إلى التوحيد في العبادة إذ لَا ألوهية سواه، وزكى التوحيد بقوله:(رَبِّي وَرَبَّكمْ). فإن هذا النص يمنع الألوهية من نواح ثلاث: الناحية الأولى - إثبات أن الله هو ربه الذي خلقه ونماه، وأنشأه كما أنشأ غيره، والناحية الثانية - التسوية بينه وبين غيره من الخلق في التكوين والإنشاء والتربية، فهو في هذا لَا يفترق عن أحد من البشر، والناحية الثالثة أنه لَا يمكن أن يكون فيه عنصر الألوهية؛ لأن الله تعالى رباه ونماه، كما كان بالنسبة لغيره، وليس مما يسوغ للإله أن يأكل ويشرب وينمو كسائر البشر. فذاته العلية منزهة عن الأحداث، ولا يليق بها الاحتياج.
وفى النص الكريم إشارة إلى جريمة من جرائم بني إسرائيل، وهي أنهم كذبوا المسيح عليه السلام وناوءوه كما ناوءوا محمدا، إذ كفروا بالمسيح مع أنه رسول إليهم، وهموا بقتله، وادعى النصارى أنهم قتلوه، وإن هذه الدعوه التي نادى بها المسيح بين ظهرانيهم وفي قوم لم تجد أرضا خصبه في أوساطهم، وحرضوا على المسيح عليه السلام واستمر الاضطهاد للنصارى، حتى غيرت وبدلت لهم في ذلك يد فعالة، وعليهم من وزرها قسط كبير.
وقد حذر المسيح من الشرك، فقال ناهيا محذرا:(إِنَّهُ مَن يشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ).
ظاهر السياق أنه من كلام السيد المسيح عليه السلام لبني إسرائيل الذين كانوا أول من وجه إليهم دعوته، ويصح أن يكون ذلك الكلام مستقلا عن كلام السيد