الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولاها - في النفي المؤكد، فقد أكده بذكرهم وخطابهم، وبذكر الضمير (أنتم)، وباستغراق النفي بذكر (الباء)، وبأن النفي منصب عليهم، أي ليس من شأنهم أن يعجزوا لأنهم ضعفاء، والضعيف لَا يعجز أحدا، كما قال تعالى:(. . . وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
الإشارة الثانية - أنه لم يذكر في النفي من يعجزونه، فلم يذكر الله تعالى إعلاء لاسمه الكريم عن أن يكون مظنة عجز أو أن يعجزه أحد، إذ إعجازه مستحيل، ونفي أمر هو مستحيل في ذاته غير سائغ، في سنة البيان.
الثالثة - نفي عموم الإعجاز من أي نوع هو، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:" يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، وما أنتم بمعجزين "(1).
وإنهم يستمرون في طريقتهم من معاندة محمد صلى الله عليه وسلم، وجحودهم وإيذائهم له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه الذين اتبعوه مخلصين مسلمين وجوههم لله تعالى، وقد هددهم سبحانه وتعالى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم أمر تهديد لقوله:
* * *
(1) رواه ابن أبي حاتم، وخرجه الحافظ العراقي: الإحياء: ج 4، ص 437.
(قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ
…
(135)
* * *
وقد أمر الله تعالى نبيه الأمين أن يتولى هو القول التهديدي، وهو اعملوا على مكانتكم، والمكانة: الطريقة، أو الأمر الذي مكنوا منه، والأمر هنا للتهديد بالإشارة إلى عاقبة ما يفعلون، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا لم تستح فاصنع ما شئت "(2)، فالأمر (اصنع) للتهديد بأن يفعل متحملا تبعة ما يفعل ونتيجته، فإن كنتم تزعمون أنكم على حق فاعملوا وسترون العاقبة، وإني عامل على ما أدعو إليه، وهو الحق الذي لَا ريب فيه، ولكل وجهة هو موليها، فكونوا كما تريدون لأنفسكم.
(2) سبق تخريجه.
وإنه في هذا المقام المهدد المنذر الذي يحملهم الله سوء ما يعملون - يأمر نبيه بأن يناديهم نداء يقربهم ولا يبعدهم ويدنيهم ولا يجافيهم، فقال تعالى: قُلْ يَا قَوْمِ) فأمره تعالى بأن يناديهم بما يربطه بهم، وهو أنهم قومه الذين تربطهم رابطة النسب، فيحب خيرهم، وإنهم إن كذب الناس جميعا لَا يكذبهم، فهو يناديهم بنداء المحب الذي لَا يعادى ولكن يذكرهم بالحقائق التي لَا تقبل مداجاة (1)، ولا مواربة، وكأنَّه إذ يحملهم تبعة ما يعملون لَا يبعد عنهم بل يدنيهم، ليهديهم، فالهادي لَا بد أن يكون قريبا من أنفس من يتصدى لهدايتهم، ولقد ذكر من بعد ما يشير إلى العاقبة، وأنهم سيعلمونها علم البيان، فقال:(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ).
(الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، و (سوف) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، أي سوف يعلمون بالعيان لَا بالخبر من له عاقبة الدار، و (العاقبة) النهاية التي تعقب ما يسبقها من أسباب تؤدى إليها، و (عاقبة الدار) المراد بها نهاية هذه الدار، وعاقبتها تكون لمن، والدار هنا قد تراد بها مكة وما حولها مما يسيطرون عليه، أو البلاد العربية، أو الدار الدنيوية على العموم.
أي سوف تعلمون من تكون له في النهاية، وفي عاقبة الأعمال الدار والسلطان، فالمراد من تكون له العاقبة في الدار والسلطان، وينصره الله تعالى حيث يكون لأهل الحق السلطان.
ويصح أن يراد الآخرة، وعندي أنه يراد الداران، أما الدار الآخرة، فأمرها إلى الله تعالى، وقد أشار سبحانه وتعالى أن النعيم المقيم يكون للمؤمنين، والجحيم يكون للكافرين.
وأما في الدنيا - وهذه الآيات قد نزلت بمكة - فإنه قد آل أمر البلاد العربية من اليمن إلى حدود الشام إلى المؤمنين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وصارت الكلمة للمؤمنين، وحقت كلمة الله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُنْيَا
(1) المداجا ة: المداراة. الصحاح (دجى).
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52).
وقال تعالى: (كَتَبَ اللًّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عزِيزٌ).
هذه عاقبة الدار في الدنيا والآخرة، ولقد ختم الله تعالى الآيات بقوله:(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
الضمير ضمير الشأن، أي إن الله والشأن وسنة الله تعالى في خلقه لَا يفلح الظالمون، أي لَا يفوز الظالمون، والتعبير بالوصف يشير إلى أن الظلم هو سبب الخسران، وإنه وإن بدا الظلم قويًّا غالبًا فائزًا فإلى حين، والعاقبة للعادلين المنصفين المقيمين للحق، وللظلم صور شتى: ظلم في العقيدة، وظلم في العمل، وظلم في الحكم وظلم في المعاملة بين الناس، فإن الظالم لَا يفوز في نهايته، وإن فاز في بعض الأمور العرضية، والله هو الحكم العدل.
* * *
تحريم ما أحل الله
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
* * *
إن فساد الاعتقاد يؤدي إلى فساد الأعمال، فحيث فسدت العقيدة، اتجهت النفس تحت تأثير الأوهام إلى مفاسد كثيرة، فالأوهام التي تفسد الاعتقاد تفسد أيضا الحياة، فتحت تأثير أوهام الوثنية أفسدوا حياتهم، فحرموا على أنفسهم بعض ما أحل الله، وقتلوا أولادهم حاسبين أن ذلك يرضي أوثانهم، ونذروا للأوثان بعض الزرع والنعم ولله نصيب، فكما سووا بينها وبين الله في العبادة، أو زادوهم، فكذلك سووا بينه وبينها في النذر وتحيفوا في تنفيذها لله ولم يتحيفوا على الأوثان، ولذا قال تعالى:
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا).
(الواو) تصل هذا الكلام بما سبقه من جحودهم وكفرهم وعنادهم بباب آخر من مفاسدهم مترتب على فساد عقيدتهم، وخضوعهم لحكم الأوهام فخضعوا بحكم الأوهام في الأصنام أيضا، أن جعلوا بهواهم ومن غير دليل من الشرع أو النقل عندهم - جعلوا من الحرث والأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، جعلوا نصيبا لله ينففونها في الضيافات، واعانة الفقراء، وجعلوا شيئا آخر أو نصيبا آخر لآلهتهم ينفق لسدنتها وخدمتها، مع أن الجميع ملك لله تعالى، فقالوا: هذا لله، وهذا لشركائنا، أي لآلهتهم، وعبر تعالى عنهم بـ (شركائنا)، أي من جعلناهم شركاء لله تعالى باعتقادنا أو ظننا أو نسبناهم شركاء لله تعالى.
وهنا إشارات بيانية ننبه إليها:
أولاها - أن التعبير بـ (ذرأ) أي خلق متولدا من الحب، وانفلاق النوى، فالله سبحانه وتعالى هو الذي ذرأ النبات، وذرأ الثمار، وعبر عنه تعالى بالحرث، وهو نبت الأرض لإنتاج الزرع وهو سبب عادي لإخراج الزرع من الأرض، فأطلق السبب وأريد المسبب، فأطلق الحرث على كل ما أخرجت الأرض من زروع وثمار.
الثانية - التعبير بقولهم (نصيبا) وهو قدر ذكروه مجهولا، ولم يعرفوه ليتصرفوا فيه بما يشاءون، وهو المالك لكل شيء، فالأصل أن يكون كله لله تعالى، ويعطى بحكم الله لَا بحكم الهوى كل ذي حق حقه، فهو مقسم الأرزاق وهو الخالق لكل شيء، ولكنهم يذكرون نصيبا، ويعينونه بأنفسهم، وعلى حسب ما تهوى.
الثالثة - قولهم (هذا لله بزعمهم) التعبير (بزعمهم) في هذا، والزعم معناه الكذب. أو الظن الذي لَا دليل عليه يفيد أمرين:
أولهما - أن ذلك التقسيم فاسد في ذاته لأنهم لَا يملكون تقسيم الأرزاق، بل الذي يملكها؛ لأنه هو بارئها، وهو الله تعالى، ولكنهم يتهجمون على الله، فيقسمون بأهوائهم وأوهامهم، ومع ذلك يغيرون ولا ينفقون بأمر الله في أوجه البر فيعتدون.
ثانيهما - أن الله تعالى عبر عن أصنامهم بـ (شركائنا) لأنهم لَا يقبلون أن يقولوا لأوثاننا أو أصنامنا، والله تعالى والحق لَا يقبل أن يقال عنهم آلهة، فعبر الله تعالى عنهم بقوله:(وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) أي للشركاء الذين قلنا إنهم شركاء لله تعالى، وإضافة الشركاء إليهم، لأدنى ملابسة، ولأنهم ابتدعوها، وما أنزل الله بها من سلطان ولكنهم لَا ينفذون ما قرروا فلا يعطون لله ما قرروه، بل يطففون، ولكنهم كما قال الله تعالى:(فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ اٍلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكائِهِمْ).
إنها قسمة ضيزى، فينقصون مما هو لله في زعمهم، ويزيدون ما هو لشركائهم، فما يكون لشركائهم يخصصون لها شيئًا غير منقوص، وما يكون لله لا يخصصونه له كاملًا، ويقولون الله غني، وهؤلاء فقراء محتاجون، والله لا يحتاج لشيء، فإذا كان ما خصص للأوثان لَا يكفي سدنتها وخدمتها، وما ينفق حولها لَا يكفيها أخذوا من نصيب الله ليسدوا كل حاجاتها في نظرهم، وكله إنفاق في باطل، لَا خير فيه.
وقد روي أنهم كانوا في الحرث، عندما يخرصون ما ينتج، كل زيادة عما خرصوه يكون للأوثان، ولا يكون لله، وإذا كان الماء الذي يسقى به نصب أوثانهم قد ذهب إلى حرث الله عدوه حرثا للأوثان، وإذا كان الماء المخصَّص لحرث الله ذهب إلى حرث أوثانهم جعلوا الخارج لأوثانهم، ولوكان قد سقى بماء الله تعالى، وهذا قد روي عن ابن عباس فقد روي عنه رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الآية: إن أعداء الله تعالى كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منها جزءا، وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه، وأحصوه وإن سقط شيء مما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئا مما جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوها لله فاختلط