الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن هذا الفتح والرزق الواسع إلى حين ليذوقوا النعمة ثم الحرمان منها فجأة؛ ولذا قال سبحانه:
(حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هم مُّبْلِسُونَ).
إنهم إذ يكونون في فرح مما أعطاهم الله تعالى أخذهم الله تعالى بالحرمان أو أصابهم بالموت المفاجئ أو الخراب الجائح في وقت لم يتوقعوه، بل كانوا يتوقعون المزيد من النعم ويحسبون أنها حق مكتسب لَا يمحى (فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ)، أي في غم وكمد وحزن ويأس وحيرة بعد الفرحة.
وهنا تعبيران جليلان جديران بالالتفاف.
أولهما - أنه عبر عن إعطاء الله النعمة بما أوتوا - أي بالبناء للمجهول؛ لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم. كما جاء على لسان واحد من أمثالهم وهو قارون (. . . إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78).
الثاني - أن الله أضاف الأخذ إلى ذاته العلية إذ قال: (أَخَذْنَاهُم) لأنهم لا ينكرون ذلك وينسبونه إلى ربهم.
* * *
(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(45)
* * *
الفاء هنا للتفريع على ما قبلها، و (دَابِرُ الْقَوْمِ) أي آخر. والدابر هو الآخر وإذا قطع الدابر، فإن معنى ذلك أن القطع سرى من الأول حتى وصل إلى الدابر، وإطلاق الدابر بمعنى الآض جاء في كلام العرب، ومن ذلك قول بعضهم:" إن من الناس من لَا يأتي الصلاة إلا دابرا " أي آخر الوقت والدابر تجيء بمعنى الأصل.
والمؤدى واحد في النص الكريم، أي قطع الذين ظلموا عن آخرهم، وذلك بسبب
ظلمهم، وظلمهم كان لأنهم أشركوا بالله تعالى:(. . . إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، ومن كان يشرك برب العباد لابد أن يظلم العباد، فمن الذي يتقوه من بعده. وظلموا أنفسهم؛ لأنه سبقت العظات والمعاملات ولم يعتبروا فاستحقوا ما نزل بهم.
وقد ختم الله تعالى النص بقوله: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعلمنا الحمد لله عند زوال الظالمين، فهلاك الظلمة والطغاة نعمة تستوجب الحمد والثناء، ويقول في ذلك الزمخشري:" (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأنه من أجل النعم وأجزل القيم ".
ونظير هذا النص الكريم قوله تعالى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. . .).
ووصفه سبحانه بـ (رَبِّ الْعَالَمِينَ) إيذان بأن القضاء على الذين ظلموا بعد أن اختبروا بالبأساء والضراء، ثم بالسراء والنعماء هو من تقدير الربوبية، وتدبيره سبحانه رب العالمين.
* * *
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
* * *
فى الآيات السابقة بين الله تعالى ما عامل به الأمم السابقة بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات، فاختبرهم سبحانه وتعالى بالبأساء تنزل بهم، والضراء تمس أحياءهم، رجاء أن يعرفوا ضعفهم بجوار قدرة ربهم، وأن تربي الشدائد نفوسهم، فمن لم يتجه إلى الله، ويكفر بعد كشف الضراء عنهم، ويقسو قلبه وينسى ما ذكر به من شدائد، يختبره بالنعمة، يفرحون بها، ويذوقون حلاوتها، ثم ينزل بهم الحرمان ويأخذهم بغتة بالشدائد ويكون ذلك أقسى من الأول إذ يتحيرون ويقطع دابرهم، وفي هذه يبين لهم سبحانه نعمة الله عليهم في الخلق والتكوين، ويذكرهم باتجاههم إليه إن أخذ سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم أفلا يدركون، فقال تعالى:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ).
في الآيات السابقة - كما قلنا - كان ذكر ما ينزل حولهم ثم يصيبهم، فالدمار ينزل حولهم ثم يصيبهم، وهنا ذكر ما ينزل بحواسهم وكيانهم قائم لم ينقص، ففي هذا النص بيان قدرة الله تعالى في أنفسهم وفي أجزائهم وحواسهم، وامتلاكه لهذه المداخل التي تكون إدراكهم وهي السمع والبصر والفؤاد؛ كما قال تعالى في آية أخرى:(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31).
ومعنى أخذ الله سمعهم وأبصارهم والختم على أفئدتهم، أن يصبحوا لَا يسمعون حقيقة ولا يبصرون حقيقة، ولا يفقهون فيسلبهم سبحانه الفهم والإدراك، وواضح أن أخذ السمع والبصر يكون بعدم السماع والإبصار؛ لأن هاتين الحاستين تسمعان وتريان، وأخذهما فَقْدُ عملهما - ولكن الأفئدة شيء يخفى لَا يؤخذ بل هو باق، ولكن يغشى عليه، فليس الجنون ذهاب العقل، وإنما الجنون ستر العقل فلا يدرك الأمور على وجهها، ولذلك عبر عن فقد الإدراك بالجِنة؛ لأن العقل يُستر ولا يذهب كما يذهب السمع والبصر؛
ولذلك قال سبحانه: (وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم) أي وضع غشاوة على قلوبهم، فتصبح كالشيء المختوم لَا ينفذ إليه شيء من الإدراك، وذلك بلا ريب هو أعلى دقة في التعبير تليق بمقام القرآن الكريم في البيان الذي لَا يصل إليه أحد من البشر، والتعبير بقوله تعالى:(أَرَأَيْتُمْ) الاستفهام فيه للتنبيه، كأنه سبحانه وتعالت كلماته يقول أرأيتم. أي إن لم تكونوا قد رأيتم ذلك فَرُوه وعوه، وأدركوا ما وراء ما يدل عليه.
وقوله تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ) الاستفهام فيه لإنكار الوقوع الثابت بالدليل الذي لَا مجال لإنكاره، والضمير في (به) يعود إلى المأخوذ، وهو السمع والبصر والفؤاد، وقام الأخذ والختم مقامه من قبيل قيام السبب مقام المسبب، و (يأتيكم) معناه برده عليكم، وعبر سبحانه بـ (يأتي) للإشارة إلى أنه يكون كالجديد، والنص يشير إلى أنهم وحواسهم في يد الله سبحانه وتعالى، ويشير إلى أمر آخر، وهو أنه تعالى قادر على إعادة السمع والبصر والإدراك، وهي أجزاء جسمكم المدركة المصرفة، أفلا يكون قادرا على إعادتكم في البعث كما بدأكم أول مرة، إنكم ترون من يذهب سمعه كان في أذنيه وقرا ثم يسمع، ومن يذهب بصره ثم يبصر بعمل الله، ومن يصاب بجنة ثم يفيق، وكل ذلك من الله تعالى، إن ذلك محسوس، فلماذا لَا يقيسون عليها عودة الأجسام بعد بلاها كما بداكم تعودون.
(انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لبيان حال المشركين، وأنهم لَا تؤثر الحجة فيهم مهما تكن واضحة نيرة ملزمة، والتصريف: التغيير، وهو يكون في ذات الآيات يتعددها من آية كونية إلى آية قرآنية، فالتعدد صورها، فتعدد في صور الآيات الكونية من عواصف عاتية إلى مطر صاخب إلى خسف للديار، ومن آيات قرآنية زاجرة ضاربة للأمثال مبينة للمثلات، إلى تذكير بقدرة الله تعالى فيما تحيط بهم، وتذكير بأنفسهم، ومع هذا التصريف المتتابع، والآيات الواضحة المنوعة تجدهم صادفين، ولذا قال تعالى:(ثمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي