الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأهواء وشهوات، والفرق بينهما غير محدود، بل هما متقاربان يستعمل أحدهما في موضع الآخر، ومهما يكن فإن الاشتغال بكل واحد منهما لغير غاية مجدية مذمة لَا تجوز من عاقل، وإذا قصد بأحدها الاسترواح حتى يقوى على الجد من غير سأم ولا إملال فربما لَا يكون قبيحا.
وإن قصر الحياة على اللهو واللعب إنما هو لمن أهمل ما وراءها، أما من عنى بما وراءها وقام بالجد من الأمور، فإنها الطريق إلى الآخرة، وهي طريق الذين يتقون.
وكانت المقابلة للدلالة على موضوع القصر، فإن الذين يتقون هم من الذين يعيشون في الدنيا، ولكن لم تكن لهم كل شيء، بل ما نظروا إليها إلا ليطلبوا الآخرة بها والله على كل شيء قدير.
وقوله: (وَلَلدَّار الآخِرَةُ خَيْرٌ للَّذِينَ يَتَّقُونَ).
في هذه مقابلة بين الذين يطلبون الدنيا لذاتها، والذين يطلبون بها الآخرة؛ إذ الأولون تكون عندهم لعبا ولهوا، والآخرون تكون عندهم جدا، يطلبون ما في الدنيا لغاية وراءها، ولا يطلبونها لذاتها، وهذه المقابلة فهمت بالصراحة في الكلام بشأن الأولى، وهو الخسران، وفهمت بذات القابلة في الثانية، وهناك مقابلة أخرى، وهو أن عاقبة الآخرين خير، وهذه فهمت بصراحة في الثانية، وبالمقابلة ذاتها في الأولى وهو الخسران أيضا، وقد أكد الله تعالى الخيرية لأهل التقوى فأكد باللام المؤكدة، ثم خاطب الله تعالى الناس فقال تعالت كلماته:(أَفَلا تَعْقِلُونَ) الاستفهام هنا للحث على التفكر والتدبر، والمقابلة بين اللذات العاجلة السريعة الفانية، واللذات الآجلة الدائمة الباقية.
* * *
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
(33)
* * *
(قَدْ) هنا للتحقيق وتأكيد العلم، وقد حاول بعض العلماء أن يجعلها للتكثير، ولكن التحقيق جاء من موضوعها لَا من ذاتها، وإني أقول إني لَا أعلم أنها جاءت في القرآن داخلة على المضارع إلا بمعنى التأكيد، وكتاب الله تعالى فوق ما يقرره علماء النحو واللغة.
وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحزنه أن القوم لَا يؤمنون، ويفترون الكذب عليه، ولقد نهاه الله تعالى عن أن يلج الحزن في نفسه لعدم إيمانهم، فقال تعالى:(. . . فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ. . .)، وقال تعالى:(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمنِينَ). ولقد كان يحزن النبي صلى الله عليه وسلم كفرهم، وما يقولون في هذا الكفر من رميهم له بالكذب والافتراء، وأنه ساحر، وأنه مجنون، وأن كتاب الله تعالى أساطير الأولين، ولقد ذكر الله تعالى أنهم لَا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم، و (الفاء) هنا تكشف عن محذوف يفيد السببية، تقديره مثلا فلا تحزن لأنهم لا يكذبونك، (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ)، والجحود نفي ما في القلب ثبوته، وإثبات ما في القلب نفيه أي عدم الإذعان للحق، وقد قامت أدلته، وكثير من العرب كانوا يعتقدون صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يمارون في الحق، ولا يذعنون، ويجادلون في آياته، وقد روي أن طاغوت الشرك أبا جهل عوتب في أنه صافح النبي صلى الله عليه وسلم مرة فقيل له في ذلك فقال: إني لأعلم أنه النبي، ولكن متى كنا لبني مناف تبعا؟!
وهذا على أساس أن الجحود في الآية منصبّ على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إذ يعرفون صدقه، ولكن لَا يذعنون له، فيكونون جاحدين، وهناك تخريج بياني آخر، وهو أن الجحود منصب على آيات الله تعالى وليس تكذيبا، فهو تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أنهم لَا يكذبونه، ولكن يقرّون في ذات أنفسهم، ولكن يجحدون بشهادة ربهم على صدقه، فهم أشد وبالا.
وهنا إظهار في مقام إضمار إذ إنه سبحانه وتعا أف قال: (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) ولم يقل (ولكنهم) وذلك لبيان سبب الجحود وهو الظلم