الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما ليس بحقهما، وكان التعبير بنفي الاعتداء؛ لأنهما مطالبان. والمطالب يخشى اعتداؤه؛ لأن كذبه يتضمن اليمين الغموس، ويتضمن الأخذ بغير حق، فيكون اعتداء، ولقد أكد الله سبحانه وتعالى عليهم عدم الاعتداء بأن يقولوا:(إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) وذلك فيه تأكيد لعدم الاعتداء، وبيان أن شهادتهما أحق من شهادة الأولين، إذ لو لم يكونوا صادقين لكانوا ظالمين، وقد أكدوا ظلمهم بأربعة مؤكدات: أولها - الجملة الاسمية، وثانيها - بأن المؤكدة، وثالثها - بإثبات أن الحكم بالظلم له مقدماته فيكون منطقيا، ورابعها - دخولهم في زمرة الظالمين، وخروجهم من طائفة الأبرار الأخيار.
وإن ذلك كله تقريب للحق، وبعد عن الباطل، ولا يمكن أن يكون الحق مؤكدا من كل الوجوه، بل لَا بد من التقريب دون التحديد، ولذلك قال سبحانه:
* * *
(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ
…
(108)
* * *
الإشارة في ذلك إلى النظام كله الذي نظمه القرآن الكريم، والنسق الحكيم من الشهادة التي يقوم بها الوصيان تكون ابتداء من أهل التقوى، ويعتمد على تقواهم وعدالتهم، فإن أمسكا بعد الصلاة، وأخذت عليهما الأيمان المغلظة ويتعرف الأمر من ورائهما، ولا يترك من غير تحريات كاشفة، فإن عثر على أن الشهادة فيها إثم أو غير حق استشهد غيرهما من الذين ينقص حقهم بشهادتهما، واختير أولى الناس من المستحقين بالقول، ذلك النظام كله أقرب إلى أن يؤدي الشاهد الشهادة على وجمها، إما لأنه يريد الحق لذات الحق، أو لأنه يخاف أن الأيمان الشاهدة الجارية على لسان غيره بعد يمينه تعلن كذبه على الأشهاد، وخيانته بين الجموع والآحاد، فمعنى ترد أي تترك أيمانهم، وتطرح ويعاد القول إلى غيرهم بعد تكذيبهم.
والنص يومئ إلى أنه إذا عثر على كذب بعد شهادة الأقربين ترد الشهادة على من يليهم حتى لَا يضيع حق قط.
ولقد يَروي الرواة قصة في هذا الموضوع ويذكرونها على أنها سبب النزول، وإنا نذكرها؛ لأنها موضحة للوقائع، جاء في تفسير ابن كثير " عن ابن عباس عن تميم الدارى في هذه الآية:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضر أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ). قال: برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بدار، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام (أي إسلامهما) فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل ابن مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم واقتسمناه أنا وعدي، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إلى أهله ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل المدينة فنزلت:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ).
إلى قوله: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا) فقام عمرو بن العاص، ورجل آخر منهم فحلفا، نزعت الخمسمائة من عدي بن بداء " (1) وهكذا. . . وقد ختم الله تعالى بيان ذلك الحكم الشرعي بقوله تعالت كلماته:
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) ختم الله تعالى بيان ذلك الحكم الشرعي الدقيق بأمرين، وذكر أمر كلي، أما الأمر الأول فهو الأمر بالتقوى بأن يملأوا قلوبهم بخشية الله تعالى ومهابته، واتقاء عصيانه، وجعل وقاية بينهم وبين عذابه، وذلك أمر لازم لكل مؤمن، وخصوصا لمن يودعون أسرار الناس، الذين لَا يستطيعون دفع الكذب والباطل عنهم.
(1) رواه البخاري: الوصايا - باب: (يا أيها الذين آمنوا شهادة)(2780)، ورواه مطولا، الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة المائدة (3059) عن ابن عباس عن تميم الداري.
والأمر الثاني - هو ما قرره بقوله سبحانه: (وَاسْمَعُوا) أي اسمعوا قول الحق وعوه، واعملوا به ولا تيئسوا، ولا يأخذكم السأم عن أن تسمعوا كل قول حتى تصلوا إلى الحق الذي تبتغونه.
وأما الأمر الكلي فهو أن الله سبحانه وتعالى لَا يهدي القوم الفاسقين، ومعنى عدم هدايتهم أنهم بسبب ما اكتسبوا من سيئات الفسق، وما أحاطت به خطيئاتهم أصبح الحق لَا يدخل إلى قلوبهم، فلا يهتدون لأن الفسق صار شأنا من شئونهم، ولا يمكن أن تلتقي الهداية مع الفسق في قلب من فسق عن أمر ربه. اللهم جنبنا الباطل وأهله، إنك سميع مجيب.
* * *
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
* * *
الكلام من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ. . .). كان في أهل الكتاب، ومعاندة اليهود، وتحريف
النصارى عقيدة المسيح عليه السلام، ثم بين سبحانه علاقة المسلمين بالمشركين واليهود، ومن جاورهم من النصارى، وبين أن الأخيرين كانت علاقتهم بالمسلمين مودة، وذكر الرهبان عندهم، وبين بهذه المناسبة إباحة القرآن للطيبات، وأشار إلى تحريمه للخبائث في ذاتها بتحريم الخمر، ثم أشار إلى ما حرم من مكان معلوم ووقت معلوم ثم ذكر مكانة الكعبة، وما حرمه المشركون على أنفسهم من غير حجة ولا سلطان مبين، ثم تكلم عن شهادة أوصياء الميت إذا مات غريبا وكان المناسب بعد ذلك أن يتكلم عن حال الناس بعد أن يجمعوا يوم القيامة، ومقالة الرسل لمن بعثوا إليهم، وأخصهم عيسى عليه السلام الذي ادعيت أولوهيته، فقال تعالت كلماته:
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوب) قال كثيرون من المفسرين، وعلى رأسهم إمام البلاغة الزمخشري: إن هذه الآية غير مقطوعة عن سابقتها من ناحية السياق اللغوي؛ لأن (يَوْمَ) متعلق بقوله سبحانه: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا): أي اتقوا الله تعالى واسمعوا الحق وأنصتوا إليه يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل، ويسألهم عن إجابة أقوامهم لدعواتهم الحق، ويصح أن تكون متعلقة بقوله تعالى:(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
والمعنى، والله سبحانه وتعالى لَا يهدي القوم الفاسقين إلى ما فيه نعيم يوم القيامة، يوم يجمع الله الرسل ويسألهم؛ لأن اليوم ليس بيوم تكليف ولكنه يوم جزاء، ويكون الفسق شاملا للكفر؛ لأن الكافر فاسق عن أمر ربه.
وبعض المفسرين، قطع الآية عما قبلها واعتبرها إنذارا مبتدءا، وقالوا إن قوله سبحانه:(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ). متعلق بمحذوف مقدر هو - اذكر - لأهل الكتاب يوم يجمع الله الرسل. . . . في هذا اليوم المشهود يقول الله تعالى مخاطبا رسله الأكرمين بالتجلى عليهم:
(مَاذَا أُجِبْتُمْ). والمعنى أي إجابة أجبتموها؛ وذكر بالبناء للمفعول، ولم يذكر أقوامهم، فلم يقل ولله المثل الأعلى أي إجابة أجاب أقوامكم، تحقيرا
لأولئك الأقوام، إذ جهلوا مع أسباب العلم، وكفروا مع قيام ذرائع الإيمان، ولأن الصلة بينهم وبين رسلهم قد قطعت يوم القيامة، فلا ينالون شرف الاتصال بهم، إذ الاتصال كان للهداية وقد حرموها.
وكانت إجابة الرسل: (لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي إنك أنت وحدك العالم علما ليس فوقه علم؛ لأن التعبير بصيغة المبالغة:
(عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي لكل ما يغيب عن الناس أجمعين، وما يغيب عنهم.
ولكن لماذا نفوا عن أنفسهم العلم، مع أن عندهم بعض العلم؟ وقد أجيب عن ذلك بأنهم علموا أن المقصود استنكار حال من بعثوا إليهم وتوبيخهم، فساروا على مقتضى السياق، وقالوا: لَا علم لنا في هذا بل أنت الأعلم، وقيل في الجواب عن هذا: إنهم كانوا في حال ذهول، فنفوا عن أنفسهم العلم في حال ذهولهم، وقيل في الجواب أيضا: إنهم استحقروا علمهم بجوار علم الله تعالى، وقيل: إن علمهم كان بمن عاصروهم لَا بمن جاء بعدهم، وقد جاء في الكشاف في توضيح الجواب الأول ما لَا يغني عنه التلخيص، فقال - أي الزمخشري رضي الله عنه:
(فإن قلت: كيف يقولون لَا علم لنا، وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض من السؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم إظهارا للتشكي، واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم وذلك أعظم على الكفرة، وأفتّ في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ الله تعالى وتشكي أنبيائه عليهم، ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان وخاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان، واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينها، ويقول: ما فعل بك هذا الخارجي، وهو عالم بما فعل به يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه، واتكالا عليه، وإظهارا للشكاية، وتعظيما لما حل منه، وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب،