الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهناك تخريج آخر ذكره ابن جرير، وهو الظلم منهم، والمعنى أنه ما كان ربك مهلك القرى بظلمهم وإشراكهم، وهم لم ينبهوا بمنع ذلك الظلم.
وقوله (وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) حال من القرى، والمعنى ما كان الله ليهلكهم حتى ينذروا، ويبين لهم الحق، حتى يهتدوا عن بينة أو يضلوا عن بينة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا
…
(132)
* * *
ولكل من المكلفين درجات في القيام بما كلفوه من أعمال، فمنهم من يحسن، ويبلغ أقصى درجات التقوى فيكون له في الجنة على مقدار ما فعل، ومنهم من يفعل دون ذلك فيغفر الله تعالى ما شاء أن يغفر، ورحمته سبحانه وتعالى قد سبقت غضبه وعذابه، فيعطى بمقدار ما عمل، وكذلك العصاة درجات، فمن أطاع الكبراء له عذاب يناسب طاعتهم، أي أن الطاعة لها مراتب، والعصيان له دركات، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى:(أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19).
ويكون المعنى على الدرجات في الخير والشر، وأهل الخير درجات، وأهل الشر دركات متفاوتة، على مقدار شرهم وإن كانوا جميعا منغمرين فيه، كما قال تعالى:(الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كانُوا يُفْسِدُونَ).
وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الدرجات في العذاب فقط، لأن الآيات في تهديد الكافرين وإنذارهم لَا في جزاء المؤمنين ودرجاتهم.
وعندي أن الآية فيها تبشيو للمؤمنين، وأنهم درجات، وإنذار للكافرين وإنهم في دركات جهنم طبقات، والآية الكريمة تفيد أن الدرجات مما عملوا أي
مأخوذة من أعمالهم، فإن كانت خيرا فخير، وإن كانت شرا فشر، فهي مشتقة منها، ومن جنسها.
(وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
إن هذه الأعمال يعلمها الله تعالى لَا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء، فهو جزاء لما يعملون، جزاء من يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، ولذا قال تعالت كلماته:(وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) عبر سبحانه وتعالى بنفي الغفلة عنه سبحانه وتعالى نفيا مؤكدًا، بمؤكدات ثلاثة أولها - التعبير بالجملة الاسمية، وثانيها - دخول (الباء) التي تدل على استغراق النفي. ثالثها - التعبير بـ (ربك)؛ لأن الرب هو الذي رَبَّ النفوس والأخلاق فهو أعلم الوجود بها، وأخبرهم بأحوالها، فجزاؤه جزاء من يضع العقاب في موضعه، والثواب في مكانه.
* * *
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
* * *
إن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن الكافرين يجحدون، وقد قامت الآيات عليهم تدعوهم إلى الوحدانية، وأنه لَا يعبد إلا الله، وثبت أنهم يعاندون، ويردون الآيات، ويكذبون رسل الله سبحانه وتعالى، وقد أوتوا بالبينات من
ربهم، وما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر. وفي هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى أن الله غنى عن العباد، فلا يستفيد من عبادتهم إن عبدوه مخلصين، ولا ضير عليه من كفرهم، إن كفروا، ولكن الله تعالى برحمته بهم، يريد لهم الحق، ولا يرضي لعباده الكفر، ولذا قال تعالى:
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ).
(الواو) عاطفة عطفت هذه الجملة على ما قبلها، وصدرها بقوله تعالت كلماته:(وَرَبُّكَ) أي خالقك، ومربيك وقد تولاك بربوبيته كما تولى الوجود كله بربوبيته، وهذا ترشيح لمعنى أن الغنى من لَا يحتاج فيكون في غناء عن غيره، ومن هو قائم على الوجود لَا يحتاج لأحد في الوجود، وقد ذكر سبحانه أنه الغني وحده، فكل من في الوجود يحتاج لغيره والله تعالى لَا يحتاج إلى أحد، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد عرَّف الله سبحانه وتعالى الطرفين في قوله تعالى:(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) وتعريف الطرفين يدل على القصر أي لَا غني في الوجود سواه، كما قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15).
ووصف الله سبحانه وتعالى بعد تأكيد أنه الغني وحده، وأن كل من في الوجود فقراء إليه - بأنه ذو الرحمة أي أنه صاحب الرحمة وحده، و (ذو) بمعنى صاحب، فهو الرحيم رحمة مطلقة بعباده، ورحمة غيره رحمة نسبية، تليق بالمخلوقات، أما الله تعالى فرحمته واسعة، وسعت كل شيء، خلق الكون والناس برحمته، وخلق العقلاء وكفلهم برحمته، وأنزل من السحاب ماء مدرارا برحمته، وخلق من الماء كل شيء حي برحمته، وجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا برحمته، وخلق الموت والحياة برحمته، وخلق البعث والنشور برحمته، وأنشأ السمع والأبصار والأفئدة برحمته.
فإذا كان هو الغني وحده، فهو الرحمن الرحيم، والقادر على كل شيء؛ ولذا قال تأكيدا لقدرته وفقر العباد إليه.