الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) الشراء يطلق بمعنى البيع، والمعنى لَا نبيع يمين الله تعالى الذي أقسمنا به، ولا عهدنا الذي عاهدناه بهذه اليمين بأي ثمن كائنا ما كان وبأى قدر كان، فالضمير يعود على القسم بالله المفهوم من قوله تعالى:(فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ). وقال تعالى: (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أي ولو كان الذي يستفيد من شهادتنا ذا قرابة قريبة، فكلمة قربى لَا تطلق إلا على القرابة القريبة التي تحمل غير الأتقياء على الكذب في الشهادة، ومن موضوع القسم، والتغليظ فيه عدم كتمان الشهادة، وكتمانها هنا يشمل ثلاث صور من الكتمان: أولاها - أن يخفى بعض الحق، وثانيها - أن يخفى بعض الموصى به فلا يذكره كله، والصورة الثالثة - لمن لَا ينقل كلاما للموصي يحرر إرادته. ومن مؤكدات القسم أن يقولوا مع قولهم في القسم " لا نكتم ":(إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ).
وذلك بأن يقروا على أنفسهم بالإثم إن حادوا أو كذبوا في يمين الله، أو قالوا غير الحق الذي كانوا أوصياء عليه، وقد أكدوا الإثم على أنفسهم في إيمانهم بمؤكدات أربعة: أولها - التعبير بالجملة الاسمية، ثانيها - التوكيد بـ " إنا " - ثالثها - اعتبار الحكم على أنفسهم بالإثم نتيجة منطقية لأعمالهم، ولإخفائهم الحق، ورابعها - أن يخرجوا من زمرة الأبرار الأطهار ويدخلوا في زمرة الآثمين الأشرار، والأمر بالنسبة للذي غيب في التراب، وهو لَا ينطق بما يريد، ويبين ما عليه حاله وماله يوجب الاحتياط فيهما قبل الشهادة، والتحري على أمره بعد وفاته، فعسى أن يكون حق قد ضاع شيء، وقد تبين سبحانه حال العثور عليه، فقال:
* * *
(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ
…
(107)
* * *
عثر الرجل يعثر عثرا إذا وقع على أمر لم يكن معلوما من قبله، ولم يقع عليه غيره ممن يهمهم، ويقال: أعثرت فلانا على أمر أطلعته عليه، وكل من اطلع على أمر كان خفيا يقال: قد عثر عليه، والعثور على الشيء يكون في الغالب العلم الذي لم يكن له مقدمات عنده، بل ربما يكون الإطلاع عليه بالمصادفة.
والأمر في هذه الحال الذي يموت فيها المورث يكون محل جهل إذ يموت في سفر، ولا طريق للعلم إلا عن طريق هذين الشاهدين اللذين لهما مع الشهادة صفة الوصية، والعثور يكون بمثل الاطلاع على شيء من ماله عندهما لم يكن قد جرى ذكره على لسانهما، ومعروف عند ورثته أنه كان يملكه، أو يظهر عليهما يسار مفاجئ ويتبين من قرائن الأحوال أنه كان من ماله، أو يظهر من كتب أرسلها المتوفى قبيل وفاته تدل على ما كان يملكه عند الوفاة، ولم يذكرا في شهادتهما وهكذا يكون العثور على شيء لم يكونوا يعلمونه.
ومعنى قوله تعالى استحقا إثما - أي أنهما خانا في الأمانة، فلم يقوما بحق الوصاية، وكذبا في الشهادة فلم يصدقا، وحلفا يمينا غموسا تغمس صاحبها في النار، فاستحقاقهما للإثمِ بسبب ذلك الكذب وتلك الخيانة، والحلف الكذب، وقوله تعالى:(اسْتَحَقَّا إِثْمًا) تتضمن كل هذه المعاني وغيرها، والإثم هو هذه المعاني كلها، والعثور على ما يتضمن ضياع حقوق الورثة، وذهاب أموالهم، وما قالوه فيه بخس لما يستحقون، وضياع لما يملكون، إذ قوله تعالى حين الوصية أي حين إخبار المتوفى بأمواله وإيصائهم بالمحافظة عليها، وتوزيعها بين مستحقيها وإذا كانت جناية هؤلاء على المستحقين للتركة، فالقول قول المستحقين يدلون به، ولذا قال سبحانه:(فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا). أي فشاهدان آخران يقومان في إحقاق الحق، وإظهار الحقيقة، وبيان ما خفي من إرادة المتوفى وأمواله وما له من حقوق وعليه من واجبات مقام الأولين، وهذا التعبير من ألطف التعابير بعد ظهور الإثم، إذ إنه ينبئ عن التعاون بين هؤلاء الآثمين، والأبرياء في إظهار الحق، إذ إن المجني عليهم يقومان مقام من جنوا.
وقد بين سبحانه مَن الذين يختار منهم الآخران اللذان يقومان، فقال سبحانه:(مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) في هذا النص السامي بيان من يختار منهم، وكيف يختاران، والضمير في قوله تعالى (اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) يعود على الإثم المذكور في من استحقا إثما، وهو الفاعل؛ والمعنى أن الذي يكون منهم الآخران
الذين استحق الإثم عليهم أي حقت آثاره ومغبته عليهم وهم الورثة، وهذا على قراءة الفعل بالبناء للمعلوم، ومعناها - كما رأيت - الذين حقت عليهم مغبة الإثم ونتائجه، وهم المستحقون للمال بعد وفاة المتوفى بوصية المورث أو بوصية الله تعالى بالميراث، وهناك قراءة بالبناء للمجهول (1)، ومعناها الذي استحق عليهم أي أخذ منهم بمقتضى الشهادة الباطلة، والمؤدى في القراءتين واحد.
ذكر النص أنهما الأوليان بالنطق بالحق لأجل الورثة، إما لأنهم أقرب الورثة أو لأنهما أرشدهم، أو ألحق بمحبتهم.
ومعنى النص الكريم على هذا أن اللذين شهدا المتوفى عند وفاته هما أولى الناس بذكر الحقيقة، وإن كان ارتياب يحبسان بعد الصلاة ويستقسمان قسما موثقا، فإن ظهر ما يدعو إلى تكذيب شهادتهما في كلها أو في بعضها، كان للمستحقين للتركة حق الشهادة ويختار أولاهما بالتحدث عن المتوفى، وهذا معنى (أَوْلَيَانِ)، وهي خبر لمبتدأ محذوف، وتدل على طريقة الاختيار، وإن هؤلاء لأن المال يئول إلمهم لَا يقبل قولهم إلا بيمين لأنهم بمنزلة المدعَى عليه بكلام الأوصياء الذين يكذبونهم، ولذا قال سبحانه:
(فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، وتقديره إذا كانا يتقدمان لإحقاق الحق فلابد أن يقسما بالله، وهنا إيجاز معجز، إذ يقسمان بالله تعالى على الختل (2) في الأمانة وعلى ما يريان أنه الحق، ثم يقسمان مع ذلك على أمرين أولهما - أن شهادتهما أحق بالقبول من شهادة الآخرين لصدقها، ولظهور الخيانة في قولهم، ولأنه فقدت قوتها لعدم الأمانة، وثانيهما - أن يقسما على أنهما ما اعتديا، بأخذ
(1) قرأها بالفتح (استَحَق) حفص، والأعشى عن أبي بكر عن عاصم (غير النقار، وجبلة)، وقرأ الباقون بالضم، أي:(استُحِقً). أفدته من غاية الاختصار - برقم (817).
(2)
فيقسمان على (عدم) الختل. والختل: الخديعة. من: خَتَلَه يَخْتِلُه ويَخْتُلُه خَتْلًا وخَتَلانا: خَدَعَه.
كما في القاموس: ختل.