المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بمقتضى حكمته وإرادته، وبمقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء، وأنه - زهرة التفاسير - جـ ٥

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌(52)

- ‌(53)

- ‌(54)

- ‌(56)

- ‌(57)

- ‌(58)

- ‌(59)

- ‌(60)

- ‌(62)

- ‌(63)

- ‌(65)

- ‌(66)

- ‌(68)

- ‌(71)

- ‌(73)

- ‌(74)

- ‌(75)

- ‌(77)

- ‌(78)

- ‌(79)

- ‌(80)

- ‌(81)

- ‌(83)

- ‌(84)

- ‌(85)

- ‌(86)

- ‌(88)

- ‌(89)

- ‌(91)

- ‌(92)

- ‌(93)

- ‌(95)

- ‌(98)

- ‌(99)

- ‌(100)

- ‌(102)

- ‌(104)

- ‌(105)

- ‌(107)

- ‌(108)

- ‌(110)

- ‌(112)

- ‌(113)

- ‌(114)

- ‌(115)

- ‌(117)

- ‌(119)

- ‌(120)

- ‌(سُورَةُ الْأَنْعَامِ)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(5)

- ‌(6)

- ‌(8)

- ‌(9)

- ‌(10)

- ‌(11)

- ‌(12)

- ‌(14)

- ‌(15)

- ‌(16)

- ‌(17)

- ‌(18)

- ‌(20)

- ‌(21)

- ‌(22)

- ‌(23)

- ‌(24)

- ‌(26)

- ‌(27)

- ‌(28)

- ‌(29)

- ‌(30)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(34)

- ‌(35)

- ‌(37)

- ‌(38)

- ‌(39)

- ‌(40)

- ‌(41)

- ‌(43)

- ‌(44)

- ‌(45)

- ‌(47)

- ‌(48)

- ‌(49)

- ‌(51)

- ‌(52)

- ‌(53)

- ‌(55)

- ‌(56)

- ‌(57)

- ‌(58)

- ‌(60)

- ‌(61)

- ‌(62)

- ‌(64)

- ‌(65)

- ‌(67)

- ‌(68)

- ‌(69)

- ‌(71)

- ‌(72)

- ‌(73)

- ‌(75)

- ‌(76)

- ‌(77)

- ‌(78)

- ‌(79)

- ‌(80)

- ‌(81)

- ‌(82)

- ‌(83)

- ‌(89)

- ‌(92)

- ‌(94)

- ‌(96)

- ‌(97)

- ‌(99)

- ‌(101)

- ‌(102)

- ‌(103)

- ‌(107)

- ‌(110)

- ‌(112)

- ‌(113)

- ‌(114)

- ‌(115)

- ‌(117)

- ‌(119)

- ‌(120)

- ‌(121)

- ‌(123)

- ‌(124)

- ‌(126)

- ‌(128)

- ‌(129)

- ‌(131)

- ‌(132)

- ‌(134)

- ‌(135)

- ‌(137)

- ‌(138)

- ‌(139)

- ‌(140)

- ‌(142)

- ‌(144)

- ‌(146)

- ‌(148)

- ‌(149)

- ‌(150)

- ‌(152)

- ‌(153)

- ‌(155)

- ‌(156)

- ‌(157)

- ‌(159)

- ‌(161)

- ‌(164)

- ‌(165)

- ‌(سُورَةُ الْأَعْرَافِ)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(5)

- ‌(8)

- ‌(9)

- ‌(10)

- ‌(13)

- ‌(14)

- ‌(15)

- ‌(16)

- ‌(17)

- ‌(18)

- ‌(19)

- ‌(20)

- ‌(21)

- ‌(22)

- ‌(23)

- ‌(24)

الفصل: بمقتضى حكمته وإرادته، وبمقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء، وأنه

بمقتضى حكمته وإرادته، وبمقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء، وأنه يعلم ما يخرصون، وما تجيش به نفوسهم، وما تنبعث منه أفعالهم، وهو السميع العليم.

* * *

ص: 2695

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ

(140)

* * *

هذا حكم الله تعالى فيهم في الدنيا والآخرة، فقد خسروا أنفسهم وأولادهم وأموالهم في الدنيا، ونالوا العذاب الدائم في الآخرة بافترائهم على الله بزعمهم أن ذلك بأمر من الله، أو رضا منه، والافتراء على الله تعالى عاقبته عذاب أليم، وقوله تعالى:(سَفَهًا) أي بخفة عقول وجهل، ولا علم ولا سبب للعلم.

وأى سفه وخفة عقل وعدم تفكير أقبح من أن يقتلوا أولادهم من إملاق أو خشية إملاق، وفي الوقت نفسه يحرمون بعض أموالهم على أنفسهم، كتحريمهم البحيرة والسائبة والحام والوصيلة، إنه جهل مبين، وعقل سفيه، لَا إدراك فيه، وينسبون ذلك إلى الله من غير علم.

إن الخسارة في الدنيا واضحة، خسروا أولادهم الذين هم فلذات أكبادهم بوأدهم أو قتلهم من إملاق أو خشية إملاق، وخسروا أموالهم التي حرموها على أنفسهم بأوهامهم، وأنفقوها إسرافا وبدارا على خدمة أوثانهم، وخسروا إيمانهم، إذ أشركوا بالله وافتروا، وأنهم حرموا بالوهم الفاسد، وزعموا أن ذلك تحريم من الله تعالى، وخسروا الحق في ذاته، وأثموا إثما عظيما، مع قتل الأولاد.

(وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ) هذا هو الأمر الثاني الذي خسروه، أو كان فيه خسرانهم، بأن رزقهم رزقا، فجعلوا منه حراما، فخسروا ولم ينتفعوا بنعمة الله التي أنعمها، وافتروا على الله، فقالوا بزعمهم الكاذب: إن الله تعالى هو الذي حرمها، وبذلك حكموا أوهامهم فخسروا عقولهم، وسيطرت عليهم أوهام بثها فيهم الشياطين فهم في تحريم ما رزقهم ارتكبوا إثمين: إثم التحريم، وإثم نسبته إلى الله تعالى افتراء عليه، ولذلك كان الخسران في الدنيا، والعقاب في الآخرة، والضلال المبين، ولذا قال تعالى:

ص: 2695

(قَدْ ضَلُّوا وَمَا كانوا مُهْتَدِينَ).

حكم الله تعالى عليهم حكمين وأكدهما: أولهما - الحكم عليهم بأنهم وقعوا في الضلال والبعد عن الحقيقة، وقد أكد الضلال بقد، لأن قد تكون في القرآن للتحقيق، سواء أدخلت على الماضي أم على المضارع فلا يكاد في القرآن استعمالها إلا للتحقيق، فلا تكون للتقريب، ولا تكون للتكثير أو التقليل.

فالله قد أكد ضلالهم، وأي ضلال أشد من أن يقتلوا أولادهم للإملاق، وفى الوقت نفسه يمنعون ما رزقهم فيقعون في الإملاق.

الحكم الثاني أنه سبحانه حكم بأنهم ما كانوا مهتدين، فبين في الحكم ضلالهم وبين في الحكم أنه ليس من شأنهم أن يهتدوا، ولذلك نفي وصف الاعتداء، وأكد ذلك النفي بالجملة الاسمية، وبنفي الوصف عنهم.

ونقول هنا إننا بينا أن الخسران في الدنيا والآخرة، وهو في الدنيا واضح بين، وفي الآخرة مؤكد، وقد رأينا بعض المفسرين يقولون إن الخسارة هي في الآخرة لَا في الدنيا، واستدل بقوله تعالى في سورة يوِنس:(قلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْترُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلحُونَ مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كانُوا يَكْفُرُونَ).

ولكنا لَا نراها تدل على أن الخسارة في الآخرة فقط، وفوق ذلك إن الآية السامية التي نتكلم في معناها السامي، قد شملت قتل الأولاد وتحريم ما رزق الله تعالى افتراء، أما هذه الآية التي ساقها المفسر الفاضل فإنها في اتخاذ الولد ونسبته إلى الله بدليل الآية التي قبلها، إذ يقول الله تعالى:(قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ

)، إلى آخر الآية الكريمة. .

فكان بمقتضى النسق البياني للقرآن أن يكون العقاب الأخروي. أما في الآية التي نتكلم في معناها فواضح أنهم خسروا في الدنيا بقتل أولادهم سفها بغير علم، وتحريم ما أحل الله تعالى وافتراءً على الله تعالى.

ص: 2696

وإنه من أقبح ما يتصور الإنسان من سفه الأحلام قتل أولادهم، وخصوصا وأد البنات، إنهم خسروا بذلك خسرانا مبينا.

وقد جاء في تفسير القرطبي: روى أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لَا يزال مغتما بين يدي رسول لله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك تكون محزونا، فقال يا رسول الله: إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفره الله، وإن أسلمت، فقال صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن ذنبك، قال: يا رسول الله إني كنت من - الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إليَّ امرأتي أن أتركها، فتركتها، حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها، فدخلتني الحمية، ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا في زيارة أقربائي، فابعثيها معي، فسرَّت بذلك، وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت عليَّ المواثيق بألا أخونها، فذهبت إلى رأس بئر، فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني، وجعلت تبكي وتقول: يا أبت أيْش تريد أن تفعل بي، فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت عليَّ الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لَا تضيع أمانة أمي فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها أرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر معكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت قتلتني، فكنت هناك حتى انقطع صوتها، فرجعت، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وقال:" إن الله لرءوف، لو أمرت أن أعاقب أحدا بما كان في الجاهلية لعاقبتك "(1). هذه قصة مثيرة، ولا بد أنها كانت تقع من الجاهليين، سواء أصحت هذه الرواية بالذات أم لم تصح، فكيف لَا تكون الخسارة في الدنيا بهذا الطيش الجاهل، رحم الله أمثال هذه الفتيات.

* * *

(1) ذكره القرطبي في التفسير: ج 4، ص 2533 - طبعة الشعب. ورواه الدارمي في سننه: المقدمة - ما كان عليه الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم (2).

ص: 2697

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)

* * *

ذكر الله تعالى أحوال أولئك الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا على أنفسهم ما رزقهم الله من بهيمة الأنعام ونسبوا التحريم إلى الله تعالى افتراء، ثم ذكر سبحانه من بعد ذلك بطلان التحريم من خلق الله تعالى للنبات والنعم، مع ذكر نعمته في النبات والأشجار مما كان يدعوهم إلى التوحيد، والإيمان بالله وحده بدل أن يشركوا به، ويفتروا على الله بأوهامهم، فقال تعالى:

ص: 2698

(وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ).

الضمير يعود على الذات العلية، و (أنشأ) معناها خلق، وعبر هنا سبحانه وتعالى بكلمة (أنشأ) لبيان أنهم لم ينشئوها؛ فإن إشراف أصحابها عليها يجعلهم يتوهمون أنها نشأت بفعلهم، وإشرافهم فهم الذين غرسوا غرسها، وهم الذين بذروا حبها، وهم الذين حرثوا أرضها، وهم الذين رعوها وسقوها وأبرأوها، وسمدوها إلى غير ذلك. فنبههم الله سبحانه وتعالى أنه الذي أنشأها، ونماها، وأنزل لها الماء الذي يحييها، فإن الماء يسير من جذورها، ويعلو بقدرة الله، ثم

ص: 2698

ينحدر وينزل، حتى يصل إلى أعلاها، فتكون غصون الأشجار، وأوراق الزروع والثمار، وترى فيها ريق الماء، إذا سقيت، وما ذلك إلا بتصريف الحكيم.

إن الذي أنشأ الأشجار، وأنشأ الزروع والثمار هو الله تعالى، فما كانت الأرض لتخرج الغرس وحدها، ولتخرج الزروع والثمار وحدها، وإنما يخرجها الله تعالى فهو الله تعالى الذي ينشئها.

وقوله تعالى: (مَّعْروشَات)، أي لها مما يشبه العرش يقام على سيقان، كما في الكروم التي تقام على سيقان من الخشب، وأحيانا شبه العروش من غير ما يقام عليه إلا جذور الأشجار، كأشجار البرتقال وغيره مما يشبهه، فإنك إذ تراها متلاحمة تكون كالمعروشات القائمة على العروش، وغير المعروشات، كالأشجار التي تعلو وحدها.

(وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِه).

خص هذه بالذكر، لما لها من أهمية في حاجة الناس، فالنخل قوت وفاكهة، والزرع فيه غذاء الإنسان والحيوان، والحيوان فيه غذاء الإنسان، وكل هذه من نعم الله تعالى ما أنشأناها، ولكن أنشاها خالق هذا الوجود فهو الذي يتولاها في نموها من حبة فلقها، أو نواة شقها، إلى أن تصير نباتا غلظ سوقه، أو نخلة عالية، والزيتون والرمان متشابها في ورقه، فورق الرمان كورق الزيتون يتشابهان، ولكن ثمرتهما مع التشابه في الورق والأغصان لَا تتشابهان.

وقوله تعالى (مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ)، الأكل الطَعْم، وتناوله، فهو مختلف في ذوقه وإن تشابه نموه، وعناصر الأرض التي يتغذى منها، والأسمدة التي تنميه واحدة.

وإن هذا التنويع في التكوين وإشباع الحاجات الإنسانية يدل على فاعل مختار فعال لما يريد، ولنستعرض في هذا المقام كلمات كتبها القرطبي في تفسيره، فقد قال رحمه الله تعالى:

ص: 2699

وفى هذه الآية أدلة ثلاثة أحدها - أن التغيرات لَا بد لها من مغير. الثاني - على المنة سبحانه وتعالى علينا، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم، وإذا خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني، فلم يكن أن يفعل ذلك ابتداء؛ لأنه لَا يجب عليه شيء. الثالث - على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا انتهى إلى آخرها أنشأ فيها أوراقا ليست من جنسها، وثم خارج، من صفته الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجني الجديد، والطعم اللذيذ، فأين الطبائع وأجناسها، وأين الفلاسفة وأناسها، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان، أو ترتب هذا الترتيب العجيب، فلا يتم ذلك في العقول إلا لحي عالم قدير مريد، فسبحان من له في كل شيء آية، ونهاية. وإن هذا الكلام كما ترى يتجه إلى أمرين هما أساس التوحيد: أولهما - أن الله تعالى خلق كل شيء بإرادته المختارة، وثانيهما - أنه قائم على هذا الوجود، وأنه وحده الذي يَربّهْ، ويدبر أمره، وهو الحي القيوم الذي لَا يماثله أحد فيه، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون.

(كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).

قوله تعالى: (كلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) الأمر فيه للإباحة؛ لأن الأكل من جنس الثمر ليس بواجب، ولكنه مباح، وقوله تعالى:(إِذَا أَثْمَرَ)، إشارة إلى وقت الإباحة، فهو إباحة وإرشاد بألا يأكل قبل أوان الإثمار فإن ذلك قد يضر ولا ينفع؛ لأن الفج من الثمار يضر الأجسام ولا يفيدها، فوق ذلك أنه إتلاف لَا فائدة (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) أهو الأمر فيه للندب أم للوجوب، ومن المؤكد أنه ليس للإباحة؛ لأن أشعبير بحقه، يفيد أن الإيتاء لصاحب الحق، والإيتاء لصاحب الحق في المال لَا يمكن أن يكون مخيرا فيه بين الإعطاء والمنع، وقد اختلف الفقهاء؛ أهو واجب فتكون زكاة المال قد ثبتت قبل الهجرة، مع أن الثابت أن

ص: 2700

الزكاة فرضت بعد الهجرة في السنة الثانية، كذلك قال بعض الفقهاء، أو زعموا أن الآية مدنية.

والحق أن هذا الحق في المال ثبت في مكة، ولكن لم تشرع الزكاة التي تعد فريضة، ومصارفها التي جمعها ولي الأمر إلا في المدينة، حيث قامت الدولة الإسلامية التي تجمعها، أما في مكة حيث ثبت الإسلام ثبتت الصدقات حقا للفقراء والمساكين والسائل والمحروم، فلقد قال تعالى في سورة المعارِج وهي مكية وصفا للمؤمنين (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26).

فالصدقات كانت مفروضة في الأموال، وخصوصا في الزروع والثمار، وإن كان ولي الأمر لَا يجمعها، لأنه لم يكن للمؤمنين دولة تجمعها، إذ كانوا مستضعفين في الأرض، فلما كانت السنة الثانية بعد الهجرة نظمت وعمت الأموال التي يكون لها نماء بالفعل أو القوة، وإن حق الفقراء في الزروع والثمار كان معروفا قبل الهجرة، ونظم الجمع، وعمم بعدها.

واقرأ ما جاء في قول الله تبارك وتعالى في ابتلاء أهل حديقة: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32).

إن هذه الآيات الكريمة تدل على أنه قبل الهجرة كان المؤمنون يشعرون بأن في الزرع والثمار حقا للسائل والمحروم كانوا يشعرون بذلك مؤمنين بهذا الحق.

ص: 2701

وإن الآية الكريمة تدل على هذا وتدعو إليه، وتحث عليه، وهذا الحق كان المؤمنون يقومون به ويؤدونه من غير أن يجمعه حاكم، ولا يتولاه ولي للصدقات؛ لأنه لم تكن الدولة الإسلامية هي المهيمنة في مكة، فلما كانت الهجرة في السنة الثانية وجد نظام جمع الزكاة، ونظام صرفها، وتولت الدولة جمعها وصرفها.

ولذا نقول إن الآية مكية، ولا نسخ فيها بعموم ولا خصوص، وحكمها داخل في فرضية الزكاة الذي ثبت في المدينة تنظيمه، ولذا نرجح أن الأمر هنا للوجوب.

وقوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) أي يوم صرمه وقطعه، وسماه الله تعالى حق الزرع فقال (حقه) أي الحق الواجب فيه، فالصدقة حق المال، وواجب فيه أي أن المال ينتفع منها، فهي تزكيه وتنميه وتطهره، وهي أيضا حق السائل والمحروم، فهي حق الفقير لتسد حاجته، وحق المال لتطهره وتنميه، ويكون طيبا.

(وَلا تُسْرِفُوا إِنَّه لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

هذا عطف على قوله تعالى: (كلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) فالعطف على إباحة أكل الثمار، فهو إذ أباح أكل الثمار وأمر بإعطاء حق المال يوم قطعه، لقد نهى عن الإسراف، والإسراف معناه الإنفاق في غير موضعه أو الأكل من غير حاجة، كقوله تعالى:(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تسْرِفوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين).

وإن النهي عن الإسراف ظاهر في أنه منع من الإسراف في الأكل في الثمر، إذا أثمر، بأن يأكلوا فوق طاقتهم، أو أن يبيعوه وينفقوا ثمنه إسرافا وبدارا، أو أن يوزعوه على من يستحق ومن لَا يستحق، أو إعطاء الكثير لمن يستحق القليل، وبعض المفسرين يعمم النهي عن الإسراف، فيمنعه على من يأكل الثمار إذا أثمرت، وعلى إيتائه حقه يوم حصاده، ومن الإسراف في ذلك أن يدع قرابته فقراء ويعطي غيرهم، فابدأ بنفسك ثم بمن تعول، وقالوا: إن النهي عن الإسراف

ص: 2702