الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأولين والآخرين، الملك الحق المبين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، من بعثه الله رحمة للعالمين، وهداية للخلق أجمعين، عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، أنوار الهدى، ومصابيح الدجى، واحشرنا تحت لواء سيد المرسلين، وأدخلنا الجنة معهم أجمعين.
أما بعد:
فإن سنة الاصطفاء والاختيار، سنة جارية، ومنّة باقية، يقول جل شأنه:
[اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]
الحج 75.
[وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ] القصص 68، والاختيار هنا: الاجتباء والاصطفاء (1).
(1) ابن القيم: محمد: الإمام: زاد المعاد في هدي خير العباد: ط 13 1406هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. (1/ 39)
[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ] آل عمران33.
[وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ]
ص 45 - 47.
يقول الإمام ابن القيم: وإذا تأملت أحوال هذا الخلق، رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه، دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته، وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره، فهذا الاختيار والتدبير، والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم، من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدق رسله (1).
فاصطفى الله جل وعلا من البشر: الأنبياء والرسل، واختار منهم صفوتهم، وهم: أولوا العزم منهم (2) قال سبحانه وتعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ
(1) ابن القيم: زاد المعاد: 1/ 42
(2)
أولو العزم: أي أولو الجد من الرسل، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة. قال ابن الأثير: واختلف العلماء في تعيينهم على أقوال أشهرها:
أ- أنهم أصحاب الشرائع وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وهو قول مجاهد، وعليه فإن (من) في الآية تكون للتبعيض، وهو قول عطاء الخراساني.
ب- أنهم جميع الرسل، ويكون الرسل كلهم أولو العزم، وهو قول ابن عباس، وعليه، فإن (من) في الآية تكون لبيان الجنس، وهو قول علي بن مهدي الطبري وابن زيد، والقول الأول أشهر.
ابن الأثير: المبارك: الإمام: النهاية في غريب الحديث والأثر، بيت الأفكار الدولية، دون ذكر رقم الطبعة وتاريخها (600).
أبو حيان: محمد: الإمام، البحر المحيط في التفسير، دار الفكر، بيروت 1421هـ: 9/ 451.
القرطبي: محمد: الإمام: الجامع لأحكام القرآن: دار الكتاب العربي بيروت 1427هـ: 16/ 188
ابن كثير: إسماعيل: الإمام: تفسير القرآن العظيم: دار المعرفة، بيروت ط 5، 1412: 4/ 185
أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ] الأحقاف 35 واصطفى منهم الرسول الأكرم، والنبي الأعظم، فعن واثلة بن الأسقع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)(1).
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (2276). وأخرجه الترمذي في جامعه (باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم (3615).وأخرجه أحمد في مسنده، انظر: البنا، أحمد، الشيخ: الفتح الرباني، لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتاريخها 20/ 175.
*قوله " اصطفى " أي اختار، " كنانة ": بكسر الكاف، وهي عدة قبائل أبوهم، كنانة بن خزيمة من ولد إسماعيل، و "قريش" وهم أولاد نضر بن كنانة كانوا تفرقوا في البلاد، فجمعهم قصي بن كلاب في مكة، فسموا: قريشا، لأنه قرشهم، أي جمعهم، " بني هاشم ": هاشم بن عبد مناف. " واصطفاني من بني هاشم ": أي النبي الكريم، وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
قال النووي: وإلى هنا إجماع الأمة، وأما ما بعده إلى آدم فيختلف الناس فيه أشد اختلاف، قال العلماء: ولا يصح فيه شيء يعتمد. البنا: الفتح الرباني 20/ 176، المباركفوري، محمد: العلامة، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: دار إحياء التراث العربي، بيروت ط 3/ 1422هـ (10/ 75).
النووي: يحيى: الإمام: تهذيب الأسماء واللغات: دار الكتب العلمية، بيروت، ط، 1/ 1418هـ (1/ 29).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع)(1).
واصطفى الله جل وعلا من جملة الأمم، أمة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فجعلها خاتمة الأمم وخيرها، قال سبحانه [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] آل عمران 110.
وعن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (في باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق (2278)
توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل (1).
قال الإمام ابن كثير: وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه (2).
ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة، أن جعلها نصف أهل الجنة، أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قبة، فقال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: والذي نفسي محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما في أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر (3).
(1) أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ومن سورة آل عمران (3001)، وقال الإمام الترمذي: هذا حديث حسن
(2)
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 1/ 399
(3)
البخاري: محمد: الإمام: صحيح البخاري، دار الفكر ط 1/ 1411هـ، باب كيف الحشر 6528، (7/ 249).
قال الحافظ ابن حجر: ولمسلم من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق " فكبرنا في الموضعين " ومثله في حديث أبي سعيد، وزاد " فحمدنا " وفي حديث ابن عباس " ففرحوا " وفي ذلك كله دلالة على أنهم استبشروا بما بشرهم به، فحمدوا الله على نعمته العظمى، وكبروه استعظاما لنعمته بعد استعظامهم لنقمته (1).
وقال العلامة ابن عماد الأقفهسي: وفي رواية، ثم قال:(إن الجنة عشرون ومائة صف منها ثمانون من هذه الأمة) وحينئذ فيكونون ثلثي أهل الجنة، وقد وقع التصريح به في الرواية الأخرى " إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة".
ثم قال: قال بعض أهل المعاني: وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى [أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ] فإن الوارث له الثلثان، لأن المريض ممنوع من التصرف فيما زاد على الثلث إلا برضى الوارث (2).
قلت: ولكن الحافظ ابن حجر، ضعف رواية الكلبي: " إني لأرجو أن
(1) ابن حجر: أحمد: الحافظ: فتح الباري بشرح صحيح البخاري: دار الريان للتراث، القاهرة، ط 2/ 1409هـ (11/ 395)
(2)
الأقفهسي: محمد: العلامة: الإرشاد إلى ما وقع في الفقه وغيره من الأعداد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1/ 1412هـ (1/ 40)
تكونوا ثلثي أهل الجنة" وقال: لا تصح هذه الزيادة، لأن الكلبي واه (1).
ثم ذكر رحمه الله حديث بريدة السابق، وقال: وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث بريدة رفعه: أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منها ثمانون صفا، وله شاهد من حديث ابن مسعود بنحوه، وأتم منه أخر الطبراني، وهذا يوافق رواية الكلبي، فكأنه صلى الله عليه وسلم لما رجا رحمة ربه أن تكون أمته نصف أهل الجنة، أعطاه ما ارتجاه وزاده (2).
واصطفى سبحانه وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: خير الصحب، وأفضل الركب، قال جل شأنه:[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] الفتح 29.
(1) ابن حجر: أحمد: الحافظ: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار الريان للتراث، القاهرة ط2/ 1409هـ (11/ 395)
(2)
مرجع سابق، وانظر: العيني: محمود: العلامة: عمدة القاري شرح صحيح البخاري: دار الفكر 1425هـ (15/ 602)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مثنيا عليهم ومبينا فضلهم ومكانتهم ومنزلتهم (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
…
) (1).
وهذه الخيرية تقتضي رفعة مكانتهم، وجلالة قدرهم، وعظيم منزلتهم، وكذا تقتضي اتصافهم بأكمل الأخلاق، وأزكى الآداب، وأعلى المكارم.
إن بحثت عن أصدق الناس حديثا، وأوفاهم وعداً وعهداً، وأتقاهم لله تعالى، وأطوعهم لرسول صلى الله عليه وسلم، فهم، ولن تجد خيرا منهم.
فهم أعرف الناس - بعد الأنبياء - بالله تعالى وأشدهم خشية منه، وأعظهم امتثالاً لأمره، واجتناباً لنهيه.
ويصدق عليهم قوله سبحانه وتعالى [إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] المؤمنون 57 - 60
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير القلوب فاصطفاه لنفسه، فابتعثه الله برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. (3650)
حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء.
وقال: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا. اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه. فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقال غيره: عليكم بآثار من سلف، فإنهم جاؤوا بما يكفي ويشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه (1).
ولذا قال حبر الأمة وترجمان القرآن في قوله تعالى:
[قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى] قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام ابن كثير: الصحابة كانوا خير الخلق بعد الأنبياء وهم خير قرون هذه الأمة التي هي أشرف الأمم بنص القرآن وإجماع السلف والخلف في الدنيا والآخرة (2).
واختار الله تعالى لنبيه خيرة النساء طهرة وعفافا، وكمالا وجمالا، يكن
(1) أخرجه أحمد في المسند، انظر: الفتح الرباني: 22/ 170، أبواب مناقب الصحابة، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 1/ 96، ابن تيمية: مجموع الفتاوى 4/ 158.
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 381، ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 213
أنيسات نبيه، مقتبسات جميل وكريم خلقه، ملتمسات أنوار شرعته، شاهدات مكنون سره.
قال الإمام ابن القيم: وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين، واختار منهم السابقين الأولين واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها وأطهرها (1).
(1) ابن القيم: زاد المعاد: 1/ 44