الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
والتوصيات
في ختام هذا التطواف المبارك مع الثلة المباركة نخلص إلى النتائج التالية:
[1]
أن جيل الصحابة خير الأجيال، وقرنهم خير القرون، بلا خلاف، لنص المصطفى صلى الله عليه وسلم. وما ميزهم على غيرهم، صحبتهم للنبي الكريم، والتماسهم من جميل صفاته، وكريم أخلاقه، وكمال تعاملاته، وهذا ما مكنهم في الأرض وجعلهم الساسة السادة القادة.
يقول الإمام الغزالي: وإنما فضل الصحابة لمشاهدتهم قرائن أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم واعتلاق قلوبهم أموراً أدركت بالقرائن فسددهم ذلك إلى الصواب، من حيث لا يدخل في الرواية والعبارة، إذ فاض عليهم من نور النبوة ما يحرسهم الأكثر عن الخطأ (1)
فكان لهم من موجب التقدير والاحترام والإجلال ما ليس لغيرهم، حتى إن شاعراً مدح سالم بن عبد الله بن عمر فقال:(وبلال عبد الله خير بلال) فقال له ابن عمر: كذبت، بل (وبلال رسول الله خير بلال)(2).
وروي أنّه جيء للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجل بدوي هجا الأنصار، فقال لهم: لولا أن له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري ما نال فيها
(1) الغزالي: إحياء علوم الدين: 1/ 79
(2)
الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 155
لكفيتكموه، ولكن له صحبة منه. فها هو ذا عمر على صرامته في الحق قد توقف عن معاتبته فضلاً عن معاقبته؛ لكونه علم أنّه حظي بشرف الصحبة (1).
فكانوا رضي الله عنهم أطوع الناس لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأسرعهم فيئة إلى الحق، وأكرمهم للحق، فما من خلق حسن إلا ولهم منه أكمله، وما من عمل بر إلا وهم أوله، حازوا قصب السبق في كل مجالات الحياة، فهم العلماء العاملون، والرواد المبدعون، وأهل الفكر والفهوم، وكانوا إذا جن عليهم الليل قليلاً ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم، فهم رهبان الليل وفرسان النهار.
قال الله تعالى عنهم [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً] النساء 87، [أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] وقال سبحانه وتعالى عنهم [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً] النساء 122، [فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] الحشر 9.
ولا يعني بحال من الأحوال، أن هذه الأعطيات والمنح الإلهية الربانية لأولئك القوم وذاك الجيل، كانت موجباً للكسل والتواني، بل كانوا أقوم الناس بالحق، وأقولهم للحق، وأشجعهم في نصرة الحق [وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] الحشر 8. والصحابة رضي الله عنهم أعرف الناس للحق، واتبع له. يقول الإمام ابن القيم: كل من كان أعرف للحق واتبع
(1) أبو شهبة: دفاع عن السنة: 93
له، كان أولى بالصراط المستقيم. ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم: هم أولى بهذه الصفة من الروافض. فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم - جهلوا الحق وعرفه الروافض، أو رفضوه وتمسك به الروافض. ثم رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما. فرأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد، وقلبوها بلاد إسلام، وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى. فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم. ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان، فإنه قط ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام، وكم جروا على الإسلام وأهله من بلية؟ وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام - من عسكر هولاكو وذويه من التتار- إلا من تحت رؤوسهم؟ وهل عطلت المساجد، وحرقت المصاحف، وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم إلا بسببهم ومن جرائهم؟ ومظاهرتهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة، وآثارهم في الدين معلومة. فأي الفريقين أحق بالصراط
المستقيم؟ وأيهم أحق بالغضب والضلال، إن كنتم تعلمون؟ ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله: بأبي بكر وعمر، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم، وهو كما فسروه، فإنه صراطهم الذي كانوا عليه، وهو عين صراط نبيهم. وهم الذين أنعم الله عليهم، وغضب على أعدائهم، وحكم لأعدائهم بالضلال (1).
وليست هذه المنح والأعطيات والهبات موجبة لعصمة القوم، لا! فهم بشر من جملة البشر، اصطفاهم الله تعالى واختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، والقتال عن دينه، فقاموا به حق قيام، وربما أخطأتهم الفطرة البشرية فجاء الدين مقوّما، والشرع مُهذّباً.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم بل
(1) ابن القيم: مدارج السالكين: 1/ 94
يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله تعالى يغفر لهم بالتوبة، ويرفع بها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب (1).
وبعض من يتحدث عن بشرية الصحابة رضي الله عنهم يجعله مدخلاً أو يفتح باباً للآخرين للقدح في القوم والنيل فيهم، والطعن في أعراضهم، وتتبع زلاتهم، وقولهم: إنهم بشر ونحن بشر، وما يقع منا يقع منهم.
قلت: لقد أبعدتم النجعة، فلو اتفقنا في البشرية فلن نتفق معهم في فضلهم ولا منزلتهم ولا مكانتهم ولا علمهم ولا أخلاقهم ولا تواضعهم ولا وفائهم ولا جهادهم ولا صدقهم (فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
لسنا نغلو في القوم، فالغلو مذموم، ولكن أن نجفو حقهم، أو نقصر في مقامهم، فهذا ما تتطلع إليه نفوس حاقديهم، وإلا فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه:(لا يبلغّني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)(2) فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم ما قال: تأديباً وتربية لهم وتفخيماً لشأنهم، والحذر من الوقوع في أعراضهم، فقال:(لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً) فشيء: نكرة في سياق النهي، فيعم كل شيء مما يسوؤه ويكرهه ويغضبه في أصحابه (فإني أحب أن أخرج إليكم) من
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 35/ 69
(2)
أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في رفع الحديث من المجلس (4852)
البيت وألاقيكم، (وأنا سليم الصدر): من مساويكم، وهذا يشمل سلامة الصدر تجاههم في حياته عليه الصلاة والسلام وبعد مماته. قال الإمام ابن الملك: والمعنى أنّه صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يخرج من الدنيا وقلبه راض عن أصحابه من غير سخط على أحد منهم، وهذا تعليم للأمة أو من مقتضيات البشرية (1).
وهاهم الصحابة رضي الله عنهم يعرفون لبعضهم فضل بعض، فأخرج الإمام الترمذي عن خيثمة بن أبي سبرة قال: أتيت المدينة فسألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً فوفقت لي، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، جئت ألتمس الخير وأطلبه، قال: أليس فيكم سعد بن مالك: مجاب الدعوة، وابن مسعود: صاحب طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وبغلته، وحذيفة: صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمار: الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه، وسلمان صاحب الكتابين؟ قال قتادة: والكتابان: الإنجيل والفرقان، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب (2).
وكذا أخرج الإمام البخاري في صحيحه قول أبي الدرداء لما سأل الرجل: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة، فقال: أليس فيكم - أو منكم - صاحب السر الذي لا يعلمه غيره - يعني حذيفة - قال: قلت: بلى، قال: أليس فيكم - أو منكم - الذي أجاره الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؟ يعني من الشيطان، يعني: عمار: قلت: بلى، قال: أليس فيكم - أو منكم - صاحب
(1) العظيم آبادي: عون المعبود: 8/ 228، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 259
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب مناقب عبد الله بن مسعود (3820)
السواك والوساد أو السرّار؟ قال: بلى
…
) (1) وهذا عبد الرحمن بن عوف لما أراد عمر بن الخطاب أن يقوم في منى ويحدث الناس عمن قال: لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلاناً، فقال: لأقومن العشية فاحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم، فقال عبد الرحمن: لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس يغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها، فيطير بها كل مطير، فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة، دار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فيحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها ..
وفي لفظ: قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغائهم فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة تطيرها عنك كل مطيّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها مواضعها، فأمهل حتى نقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها .. (2).
وفي الحديث نفسه يقول عمر بن الخطاب مثنياً على الصديق رضي الله عنهما وعارفاً له فضله، لما أراد أن يحدث في السقيفة فقال: كنت قد زوّرت
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عمار وحذيفة (3743)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7323)، وأخرجه في كتاب الحدود باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت (6830)
مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أدارى عن بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترى من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت. ومعنى زورت: أي هيأت وحسنت. وفي رواية (رويت) من الروية ضد البديهة (1)
ثم قال عمر فيه: وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. قال الإمام الخطابي: يريد أن السابق منكم الذي لا يلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له أولاً في الملأ اليسير، ثم اجتماع الناس عليه وعدم اختلافهم عليه، لما تحققوا من استحقاقه فلم يحتاجوا في أمره إلى النظر ولا إلى مشاورة أخرى، وليس غيره في ذلك مثله (2).
بل إنهم رضي الله عنهم يغمطون من حقوق أنفسهم تجاه أصحابهم، يقول الإمام سعيد بن المسيب، كان بين طلحة وابن عوف تباعد، فمرض طلحة فجاء عبد الرحمن يعوده فقال طلحة: أنت - والله - يا أخي خير مني، قال: لا تفعل يا أخي، قال: بلى - والله - لأنك لو مرضت ما عدتك (3).
وها هو النبي الأكرم والرسول الأعظم، عليه أفضل الصلاة
(1) ابن حجر: فتح الباري: 12/ 158
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 12/ 155
(3)
الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 38
والسلام، متى وجد مناسبة أو موقفاً يحتاج للتذكير ببيان فضل القوم بيّن وفعل. عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: صعد ابن مسعود شجرة، فجعلوا يضحكون من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنهما في الميزان أثقل من أحد)(1).
ولذا وجب أن نعرف للصحابة رضي الله عنهم حقهم وفضلهم، وهذا يتبين بما يلي:
[2]
فقد بوّب أهل السنة والجماعة في كتب العقائد أبواباً في فضائل الصحابة وآل البيت وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وحقهم علينا وواجبنا تجاههم، بل غالب المدونات والمصنفات والصحاح بوّبت لمثل هذا. وهذا يدل على أن هذه المكانة والمنزلة للصحابة رضي الله عنهم دين وإيمان وعقيدة.
ومجمل الحقوق والواجبات التي ذكرها أهل السنة لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور:
أ) وجوب محبتهم وإجلالهم وتعظيمهم، دون إفراط في حب أحد منهم، ولا تبرئ من أحد منهم.
قال الإمام القرطبي: قال جل وعلا [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] الحشر 10. قال: هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء، ما أقاموا
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 212
على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم، أو اعتقد فيه شراً، إنّه لا حق له في الفيء روي ذلك عن مالك وغيره (1)
ب) قبول ما جاء في الكتاب والسنة في فضائلهم ومراتبهم رضي الله عنهم.
ج) سلامة القلوب والألسنة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والترضي عنهم.
قال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم (2).
وقال الإمام الشوكاني: وقد جرت عادة هذه الأمة والسواد الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة، والترحم على من بعدهم والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه (3).
د) الشهادة لمن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، فكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها، وعلى رأسهم العشرة، رضي الله عن الجميع.
هـ) إحسان القول في الصحابة رضي الله عنهم وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات المطهرات من كل دنس، وذرّيّاته المقدسين، فمن أحسن القول فيهم برئ من النفاق.
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 30
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 32
(3)
الشوكاني: فتح القدير: 3/ 448
و) حب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ وصيته عليه الصلاة والسلام، فيهم:(اذكروا الله في أهل بيتي).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: محبتهم عندنا فرض واجب، يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يُدعى: خمّاً، بين مكة والمدينة فقال: يا أيها الناس: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله .. ) فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال:(وعترتي أهل بيتي، اذكركم الله في أهل بيتي، اذكركم الله في أهل بيتي) ثم قال: ومن أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً (1).
ز) ذكرهم بالجميل، فمن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، وذكرهم بسوء يؤدي إلى بغضهم، وربما أدى إلى فجور وكفر، ذكر الشيخ شمس الدين خطيب مدينة بيروت، وإمامها عن السيد عمر الحضرمي من أهل بيروت، أنّه اجتمع برافض من أهل جبل عاملة، فقال له الرافضي: نحن نبغض أبا بكر لتقدمه في الخلافة على عليّ، ونبغض جبريل، لأنه نزل بالرسالة على محمد ولم ينزل على علي، ونبغض علياً لسكوته عن طلب حقه من أبي بكر وهو قادر عليه، ونبغض الله عز وجل لأنه أرسل محمدا ًولم يرسل علياً. وهذا من أقبح ما يكون من الكفر الذي ما سمع بمثله - والعياذ
بالله -.
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 487
وذكر ابن بشكوال بسنده إلى محمد بن عمر بن يونس قال: كنت بصنعاء فرأيت رجلاً والناس حوله مجتمعون عليه فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا رجل كان يؤم بنا في شهر رمضان، وكان حسن الصوت بالقرآن، فلما بلغ [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] الأحزاب 56. قال: إن الله وملائكته يصلون على علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، فحرص وجذم وبرص وعمي وأقعد مكانه (1).
ل) الإمساك عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم والتماس أحسن الأعذار لهم.
- ولما جاء بعض رسل الخليفة إلى الإمام أحمد فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية فقال: ما أقول إلا الحسنى، رحمهم الله أجمعين.
ولذا كان عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد يقول إذا سئل عن صفين والجمل: أمر أخرج الله يدي منه، لا أدخل لساني فيه.
وهذا هو المنهج الصحيح للتعامل مع تلك الفتن، وإلا فجر اللسان فيها يؤدي إلى تنقصهم وازدرائهم وسبهم، وقد قال الإمام أحمد: من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نأمن أن يكون مرق من الدين. قلت: كيف لا، وقد قال معمر بن راشد: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أصابتهم نفحة النبوة. (2)
(1) انظر: الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 382
(2)
الخلال: السنة 2/ 460، 462، 480،3/ 493
وخلاصة الأمر: أن حبّهم إيمان ودين وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، فمن نظر في سيرهم بعلم وبصيرة، وما منّ الله تعالى به عليهم من الفضائل علم يقيناً أنّهم خير القرون بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنّهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله تعالى، وكان القرن الأول أكمل الناس في العلم النافع والعمل الصالح. (قاله شيخ الإسلام ابن تيمية).
أنشد نصر بن منصور النميري لنفسه:
أحب علياً والبتول وولدها
…
ولا أجحد الشيخين فضل التقدم
…
وأبرأ ممن نال عثمان بالأذى
…
كما أتبرأ من ولاء ابن ملجم
وذكر عن أبي العز محمد بن الحسن المقرئ الواسطي:
إن من لم يقدم الصديقا
…
لم يكن لي حتى يموت صديقا
…
والذي لا يقول قولي في الفارو
…
ق أنوي لشخصه تفريقا
…
ولنار الجحيم باغض ذي النور
…
ين يهوي منها مكاناً سحيقاً
…
من يوالي عندي علياً وعادا
…
هم طرا عددته زنديقاً (1)
(1) انظر: ابن تيمية: مختصر منهاج السنة: 1/ 80، الطحاوي: العقيدة الطحاوية مع شرح ابن أبي العز 467، اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1310، ابن قدامة: لمعة الاعتقاد: 138.
ومن أوجه إكرام الله جل وعلا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحفظهم وإعلاء شأنهم ومقامهم:
- أنّه لم يجعل فيهم موسوس، قال الإمام ابن القيم: وليعلم أن الصحابة لم يكن فيهم موسوس ولو كان فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته وهم خير الخلق وأفضلهم (1)
- وأنه سبحانه وتعالى لم يبتل أحدهم بالطرش، يقول الإمام ابن القيم: لا يعرف في الصحابة أطرش (2)
ويقول: لم يكن في الصحابة أطرش وكان فيهم أضراء، وقل أن يبتلي الله أولياءه بالطرش، ويبتلي كثيراً منهم بالعمى، فمضرة الطرش في الدين، ومضرة العمى في الدنيا والمعافى من عافاه الله منها.
ثم يقول: والذي يليق بهذا الموضع أن يقال: عادم البصر أشدهما ضرراً وأسلمهما ديناً وأحمدهما عاقبة، وعادم السمع أقلهما ضرراً في دنياه، وأجهلهما بدينه، وأسوأ عاقبة، فإنه إذا عدم السمع عدم المواعظ والنصائح وانسدت عليه أبواب العلوم النافعة، وانفتحت له جزر الشهوات التي يدركها البصر ولا يناله من العلم ما يكفه عنها فضرره في دينه أكثر وضرر الأعمى في دنياه أكثر (3).
(1) ابن القيم: إغاثة اللهفان: 1/ 136
(2)
ابن القيم: بدائع الفوائد: 1/ 77
(3)
ابن القيم: مفتاح دار السعادة: 1/ 365
وكانوا أزهد الناس مع ما بأيديهم من الأموال (1) ولذا كانت فراستهم أصدق الفراسة (2).
[3]
أن الصحابة رضي الله عنهم عاشوا زمن التشريع، ونزول الوحي، وكان كثير من الصحابة حدثاء عهد بجاهلية، فتعلق ببعضهم، بعض أوصافها، فيأتي الوحي مصححاً ومبيناً وموجهاً ومحذراً، ومن ذلك: ما قاله أبو ذر لبلال رضي الله عنهما: يا ابن السوداء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية (3).
ومما علق في أذهانهم رضي الله عنهم وأرضاهم، الحلف على ما كان جارياً في الجاهلية، فكان بعد إسلام أحدهم يجري على لسانه حلف الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) قال عمر رضي الله عنه: فو الله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا أثراً (4) ومن هنا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)(5).
(1) ابن القيم: مدارج السالكين: 1/ 465
(2)
ابن القيم: مدارج السالكين: 2/ 486
(3)
ابن حجر: فتح الباري: 10/ 480
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى (1646)
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله (1647)
قال الإمام النووي: إنما أمر بقول: لا إله إلا الله؛ لأنه تعاطى تعظيم صورة الأصنام حين حلف بِها، ومذهب جماهير العلماء أن من قال ذلك أن يمينه لم تنعقد، بل عليه أن يستغفر الله، ويقول: لا إله إلا الله، ولا كفارة عليه سواء فعله أم لا (1).
قلت: والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى الرجل لما سأله الوصية فقال: لا تغضب ثلاثاً.
مما يدل على أن الغضب من الطبيعة البشرية، إلا أنّها تحتاج لتهذيب، ولذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أسباب الوقاية منه، وما يفعله المرء إذا غضب، ومن هنا نستطيع فهم واقع الصحابة رضي الله عنهم إذ هم من قبل هذه الطبيعة البشرية، ولكنها أنقى وأكمل طبيعة، إذ هي أسرع الطبائع للفيئة إلى الحق. ففي الحديث الصحيح:(استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر عيناه، وتنتفخ أوداجه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال: هل ترى بي من جنون. وفي رواية الإمام البخاري: فانطلق إليه الرجل وقال: تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال: أترى بي بأس! أمجنون أنا؟ اذهب (2).
قال الحافظ ابن حجر: واخلق بهذا المأمور أن يكون كافراً أو منافقاً،
(1) النووي: شرح مسلم: 11/ 117
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة والآداب باب فضل من يملك نفسه عند الغضب (2610)
أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه من الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه وظن أنّه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون ولم يعلم أن الغضب نوع من شر الشيطان، ولهذا يخرج به عن صورته، ويزيد إفساد ماله، كتقطيع ثوبه، وكسر أنيته أو الإقدام على من أغضبه، ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال (1).
وهذا الصديق رضي الله عنه يقع فيه رجل فيؤذيه مرة وثانية وثالثة، فيقوم وينتصر لنفسه، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينها فيقول الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم: أو جدت عليّ يا رسول الله؟ قال: نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان. قال الإمام المنذري: هذا مرسل (2).
قوله " فانتصر منه أبو بكر ": أي: عملاً بالرخصة المجوّزة للعوام، وتركاً للعزيمة المناسبة لمرتبة الخواص، وهو رضي الله عنه وإن كان جمع بين الانتقام عن بعض حقه، وبين الصبر عن بعض حقه، لكن لما كان المطلوب منه الكمال المناسب لمرتبته من الصديقية ما استحسنه النبي صلى الله عليه وسلم (3).
وها هي الفطرة البشرية تبرز في موقف الضعف: فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟
(1) ابن حجر: فتح الباري: 10/ 482، أنظر: العظيم آبادي: عون المعبود: 8/ 185
(2)
أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في الانتصار (4888)
(3)
العظيم آبادي: عون المعبود: 8/ 250
فيقوم سعد بن معاذ ويقول: يا رسول الله، والله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة - سيد الخزرج- واحتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم لسعد بن معاذ فقال: لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، وتساور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت (1).
وعائشة رضي الله عنها تقول في سعد بن عبادة: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية: أي أنّه كامل الصلاح. وفي رواية: وكان صالحاً ولكن الغضب بلغ، ومع ذلك لم يغمص عليه في دينه. ولكن احتملته الحمية: أي: حملته على الجهل.
قال العلماء: ومن الحمل الجيد لقوله: " كذبت لا تقتله ولا تقدر على قتله ": أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجعل حكمه إليك، فلذلك لا تقدر على قتله. قال الحافظ ابن حجر: وهو حمل جيد (2).
وقد اعتذر الإمام المازري عن قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة: إنك منافق، أنّ ذلك وقع منه على جهة الغيظ والحنق والمبالغة في زجر سعد
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير باب الولاء إذ سمعتموه (4750)
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 8/ 329
بن عبادة عن المجادلة عن ابن أبي وغيره، ولم يرد النفاق الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر، قال: ولعله صلى الله عليه وسلم إنما ترك الإنكار عليه لذلك (1).
ومما يدل على كمالهم وفضلهم، رجوعهم إلى الحق مباشرة:
في الحديث (لما قسّم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين فأعطى المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار، كأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فهم غضبوا، فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلاّلاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ، ثم قال: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرؤ من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً لسلكت وادي الأنصار وشعبها الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض (2).
وفي رواية: أما لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيناك مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك، ثم قالوا: رضينا عن الله ورسوله. وفي راوية: قال اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً.
(1) ابن حجر: فتح الباري: 330
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب غزوة الطائف (4330)
قال الإمام ابن القيم: وأما قصة الأنصار وقول من قال منهم: فقد اعتذر رؤساؤهم بأن ذلك كان من بعض أتباعهم ولما شرح لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع، رجعوا مذ عنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم.
وقال الحافظ ابن حجر: وفيه حسن أدب الأنصار في تركهم المماراة والمبالغة في الحياء وبيان أن الذي نقل عنهم إنما كان عن شبانهم، لا عن شيوخهم وكهولهم (1).
فرضي الله سبحانه وتعالى عنهم، ما أزكاها من نفوس، وأطهرها من قلوب، وأعلاها من أرواح، وأرضاها من جوارح، علت وسمت في سماء الإسلام.
[4]
أقوال أهل البيت وأفعالهم مع بقية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أظهر دليل، وأقوى حجة وأسطع برهان لدحض أقوال المفترين المغرضين الذين وسعوا الشقة، وأطالوا المفازة بين الفريقين، فمصاهرة الصحابة رضي الله عنهم لأل البيت، وتسمية أبناء آل البيت بأسماء كبار الصحابة، لهو أكبر دليل على كمال القرب بينهم.
فعثمان بن عفان تزوج من بنتي الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، رقية ثم أم كلثوم رضي الله عنهما، وتوفين في حياته، حتى قال
(1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 66 - 467
النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كن عشراً لزوجتهن عثمان)(1).
وبنات النبي صلى الله عليه وسلم أربع: زينب وهي أكبرهن سناً، وفاطمة وهي أصغرهن سناً - على المشهور - ثم اختلفوا في رقية وأم كلثوم؟
فقيل: إن رقية أكبر سنا من أم كلثوم، لأن عثمان تزوجها أولاً في أول إسلامه ثم أم كلثوم بعدها بعد وقعة بدر، والكبيرة تزوج أولاً، وإن جاء خلافه (2).
وأشرف منهم وأكرم، سيد ولد آدم، إمام أهل البيت وسيدهم، تزوج من ابنتي أبي بكر وعمر {عائشة وحفصة} رضي الله عنهم.
وهذا عمر بن الخطاب تزوج من أم كلثوم بنت علي وفاطمة رضي الله عن الجميع (3).
وعلي تزوج من أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق بعد وفاته رضي الله عنهم (4).
وكذا سلسلة النسب الشريف لأهل البيت، بينهم وبين غيرهم من غير آل البيت مصاهرات مشهورة معلومة.
- وها هي أقوال أهل البيت رضي الله عنهم شامخة منيفة في إبراز مكانة الصحابة
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 256
(2)
الذهبي: مرجع سابق: 3/ 254، الطبري: ذخائر العقبى: 262، ابن القيم: زاد المعاد: 1/ 103
(3)
الطبري: ذخائر العقبى: 286
(4)
الطبري: ذخائر العقبى: 204
صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم الشيخين:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر (1). وفي لفظ: (حدثني رجال أحبهم إلي عمر) وفي لفظ (حدثني ناس أعجبهم إلي عمر). قوله: شهد عندي: أي اعلمني وأخبرني وبين لي، قال الكرماني: المراد من الشهادة لازمها وهو الإعلام، أي: اعلمني رجال عدول.
وقوله: مرضيون: أي لا شك في صدقهم ودينهم.
قال الإمام ابن دقيق العيد: وفي الحديث رد على الروافض فيما يدعونه من المباينة بين أهل البيت وأكابر الصحابة رضي الله عنهم. قال الفاكهاني: صدق رحمه الله (2).
قال يحيى بن شداد: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: أفضلنا أبو بكر (3).
وعن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان،
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب مواقيت الصلاة باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس (581)
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 2/ 70، العيني: عمدة القاري: 4/ 108، ابن دقيق العيد: إحكام الأحكام: 1/ 150، الفاكهاني: رياض الأفهام: 1/ 593، ابن الملقن: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 2/ 310، السفاريني: كشف اللثام 2/ 49
(3)
اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة:: 7/ 1375
قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويروي هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجهاً، وأنه كان يقول على منبر الكوفة، بل قال: لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه ثمانين سوطاً.
وقال رحمه الله: وهذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه، ولخاصته، ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما، والمتواضع لا يجوز له أن يتقدم بعقوبة كل من قال الحق، ولا يجوز أن يسميه مفتريا (1).
ومحمد بن الحنفية هو ابن علي بن أبي طالب، واسم الحنفية: خولة بنت جعفر.
وفي رواية: قلت لأبي: يا أبتي: من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أو ما تعلم يا بني؟. قلت: لا، قال: أبو بكر. أخرجه الدارقطني (2).
وعن النزال بن سبرة قال: وافقنا من علي ذات يوم طيب نفس ومزاج، فقلنا: يا أمير المؤمنين حدّثنا عن أصحابك خاصة، قال: كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي، قالوا: حدثنا عن أبي بكر الصديق قال: ذاك امرؤ أسماه الله صديقاً على لسان جبريل ولسان محمد صلى الله عليه وسلم. كان خليفة رسول
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب قوله (لوكنت متخذا خليلا): (3671)، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 422 - 407
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 7/ 40
الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة رضيه لديننا، ورضيناه لدنيانا (1).
وأخرج الإمام البخاري عن ابن عباس قال: إني لواقف في قوم فدعوا لعمر بن الخطاب، وقد وضع على سريره، إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله: إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك، لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت وأبو بكر وعمر، دخلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجوا أن يجعلك الله معهما، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب (2).
وأخرج الإمام اللالكائي بسنده عن محمد بن علي بن حسن يذكر عن أبيه قال: قال فتى من بني هاشم لعلي بن أبي طالب حين انصرف، سمعتك تخطب يا أمير المؤمنين في الجمعة تقول: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين فمن هم؟ قال: فاغرورقت عيناه، يعني: ثم انهملت على لحيته ثم قال: أبو بكر وعمر، إمامي الهدى وشيخي الإسلام والمقتدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من اتبعهما هدي إلى صراط مستقيم، ومن اقتدى بهما رشد، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله، وحزب الله هم المفلحون (3).
وروى البزار في مسنده من حديث محمد بن عقيل عن علي أنّه
(1) اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1372
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً)(3671)، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 422 - 407
(3)
اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1396
خطبهم فقال: يا أيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فقلنا من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه المشركين، فو الله ما دنا أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس. قال: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يحاده، وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهاً واحداً، فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم! أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فسكت القوم، فقال علي: فو الله لساعة من أبي بكر خير ملئ الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه.
قال البزار: لا نعلمه يروي إلا من هذا الوجه. قال الإمام ابن كثير: فهذه خصوصية للصديق حيث هو مع رسول الله رضي الله عنه في العريش كما كان معه في الغار رضي الله عنه وأرضاه (1).
وأخرج الإمام البخاري عن علي أنّه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي،
(1) ابن كثير: البداية والنهاية: 3/ 307
فكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي الكذب (1).
قوله: (اقضوا كما كنتم تقضون): أي قبل، وذلك أن عليا لما قدم العراق قال: كنت رأيت مع عمر أن تعتق أمهات الأولاد، وقد رأيت الآن أن يسترققن. فقال عبيدة: رأيك يومئذ في الجماعة أحب إليّ من رأيك اليوم في الفرقة فقال: اقضوا كما كنتم تقضون.
وقال: (إني أكره الاختلاف): أي المؤدي للنزاع، قال ابن التين: يعني: مخالفة أبي بكر وعمر.
وكان ابن سيرين يرى - أي يعتقد - أن عامة (أي أكثر) ما يروى عن علي الكذب، والمراد بذلك: ما يرويه الرافضة عن علي من الأقوال المشتملة على مخالفة الشيخين، ولم يرد ما يتعلق بالأحكام الشرعية، فقد روى ابن سعد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: إذا حدثنا ثقة عن علي بقينا لم نجاوزها. قاله الحافظ ابن حجر (2).
وروي عن بقية أهل البيت رضي الله عنهم ما يدل على فضل الصحابة ومنها:
قال عبد الله بن جعفر: ولينا أبو بكر خير خليفة، أرحمه بنا، واحناه علينا.
وقيل لعلي بن الحسن: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب علي بن أبي طالب (3707)
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 7/ 91، العيني: عمدة القاري: 11/ 447
صلى الله عليه وسلم قال: كمنزلتهما اليوم وهما ضجيعاه (1).
وقيل لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين: هل كان أحد منكم تبرأ من أبي بكر وعمر؟
قال: لا، ثم قال: أحبهما وأستغفر لهما وتولهما.
وقال جعفر بن محمد: أبو بكر جدي، فيسب الرجل جده، لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما.
وقال: ما أرجو من شفاعة علي شيئاً إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله، ولقد ولدني مرتين.
قال الإمام اللالكائي: معنى هذا الكلام أن أبا بكر جده مرتين، وذلك أن أم جعفر بنت محمد هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهي زوجة أبيه محمد بن علي بن الحسين، وأم أم فروة هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، فأبو بكر جده من وجهين.
وقال زيد بن علي: أبو بكر إمام الشاكرين، ثم قرأ [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]. وقال: البراءة من أبي بكر وعمر براءة من علي.
وسئل عبد الله بن الحسن عن أبي بكر وعمر، فقال: صل الله عليهما ولا صلى على من لا يصلي عليهما (2).
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1378 وما بعده.
(2)
اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1378 - 1381
وقال جعفر بن محمد الصادق: أنا بريء ممن ذكر أبا بكر وعمر إلا بخير (1).
وهذا الحسن بن داود بن علي بن عيسى بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي قال عنه الحاكم: أبو عبد الله كان شيخ آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره بخراسان وسيد العلوم في زمانه، وكان من أكثر الناس صلاة وصدقة ومحبة للصحابة، وصحبته مدة فما سمعته ذكر عثمان إلا قال: الشهيد ويبكي، وما سمعته ذكر عائشة إلا قال: الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله ويبكي (2).
وعن أبي جعفر قال: من لم يعرف فضل أبي بكر وعمر فقد
جهل السنة.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: جاء رجل إلى أبي فقال: أخبرني عن أبي بكر؟ قال: عن الصديق تسأل؟ قال: رحمك الله وتسميه الصديق، قال: ثكلتك أمك، قد سماه صديقاً من هو خير مني ومنك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار، فمن لم يسمه صديقاً لا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة، اذهب فأحب أبا بكر وعمر، وتولهما فما كان من إثم ففي عنقي (3).
وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه، أنّه
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 326
(2)
ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 278
(3)
ضياء الدين المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 12 - 15
جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ] الآية، قال: لا، قال: فو الله لئن لم تكن من أهل هذه الآية فأنت من قوم قال الله فيهم
[وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ] الآية، قال: لا. فو الله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام.
وقيل: إن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه روى عن أبيه: أن نفراً من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ثم عثمان رضي الله عنه فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا. فقال: أفمن الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا: لا، فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] قوموا فعل بكم وفعل (1).
وعن أبي جعفر الباقر أنّه قال: إن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً
…
] الحجر 47
وأختم بما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر.
(1) القرطبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 270
قال الإمام الذهبي: هذا والله العظيم قاله علي وهو متواتر عنه؛ لأنه قاله على منبر الكوفة، فقاتل الله الرافضة ما أجهلهم (1).
ولما مات عمر ووضع بين القبر والمنبر، جاء علي حتى قام بين الصفوف فقال: رحمة الله عيك ما من خلق أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفة بعد صحيفة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسجى عليه ثوبه.
قال الإمام الذهبي: وقد روي نحوه من عدة وجوه عن علي (2).
فهذه أقوال أهل البيت، فأين المفترون على الصحابة عنها، ومعلوم مدح الصحابة لأهل البيت والأخذ فيهم بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل سبب ونسب وصهر منقطع إلى يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري) وقال: فأحببت أن يكون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب ونسب (3).
وقال ابن مسعود: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي.
وعمر كان يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن.
وقالت عائشة: أما إنّه أعلم من بقي بالسنة (4).
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 270
(2)
الطبري: ذخائر العقبى: 287/ 29
(3)
الطبري: ذخائر العقبى: 287، 29
(4)
الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 462
وهذا أبو بكر الصديق وابنته الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما يجلون أهل البيت ويكرمونهم حتى قال أبو بكر: ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته (1).
وعن عروة بن الزبير قال: ذهب عبد الله بن الزبير مع أناس من بني زهرة إلى عائشة، وكانت أرق شيء لقرباتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وقول الصديق (ارقبوا محمداً في أهل بيته) يخاطب بذلك الناس، ويوصيهم به، والمراقبة للشيء المحافظة عليه، يقول: احفظوه فيهم فلا تؤذوهم ولا تسيئوا إليهم (3).
وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما: والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم.
قال الإمام ابن كثير: فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين (4).
ومما يشار إليه: أن أهل التفسير اختلفوا في تأويل قوله سبحانه وتعالى [قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] الشورى 23، والمعنى:
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3713)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب مناقب قريش (3503)
(3)
ابن حجر: فتح الباري: 7/ 98، العيني: عمدة القاري: 18/ 453
(4)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 122
قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم مالاً تعطو فيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي وإن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة (1).
قال العلماء: الاستثناء في الآية يجوز أن يكون:
أ - استثناء متصلا، ويكون المعنى: لا أسألكم أجراً إلا هذه، وهو ألا تؤذوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجر في الحقيقة، لأن قرابته قرابتهم، وكانت صلتهم لازمة لهم في المودة.
ب - ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً، ويكون المعنى: أي لا أسألكم أجراً قط، ولكن أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتك ولا تؤذوهم.
واختلف العلماء في الآية على رأيين:
الأول: أن الخطاب في الآية خاص بقريش، ويصير المعنى: أمرهم بأن يواددوا النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القرابة التي بينهم وبينه. وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
والثاني: أن الخطاب في الآية عام لجميع المكلفين، وتحمل الآية على أمر المخاطبين بأن يواددوا أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول علي بن الحسين وعمرو بن شعيب والسدي.
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 121
والذي عليه المحققون من أهل العلم في تفسيرها هو ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن طاووس قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه سئل عن قوله [إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: عجلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة (1).
فيصر المعنى: إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم، فتكفوا عني أذاكم، وتمنعوني من أذى الناس، كما تمنعون كل من بينكم وبين مثل قرابتي منكم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم، فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ، لأنه مبذول لكل أحد؛ لأن كل أحد يود أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس.
والذي ذهب إليه سعيد بن جبير، هو ما حكاه عنه البخاري وهو قوله: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك: أن تودوني في قرابتي، أي تحسنوا إليهم وتبروهم.
قال الإمام ابن كثير: والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري، ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن باب قوله تعالى (إلا المودة في القربى)(4818)
فخراً وحسباً ونسباً ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين (1).
وقال الإمام الشوكاني: ولا يقوى ما روي من حملها على آل محمد صلى الله عليه وسلم على معارضة ما صح عن ابن عباس من تلك الطرق الكثيرة، قد أغنى الله آل محمد عن هذا بما لهم من الفضائل الجليلة والمزايا الجميلة.
وقال: وكما لا يقوى هذا على المعارضة، فكذلك لا يقوى ما روي عنه أن المراد بالمودة في القربى: أن يودوا الله، وأن يتقربوا إليه بطاعته، ولكن يشد من هذا أنّه تفسير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسناده عند أحمد في المسند (2) وضعف هذا المرفوع الحافظ ابن حجر وقال: وثبت عن الحسن البصري نحوه (3).
والخلاصة: أن السبب الأقوى في نزول الآية: ما جاء عن قتادة: قال المشركون لعل محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يتعاطاه يطلب أجراً، فنزلت هذه الآية ليحثهم على مودته ومودة أقربائه (4).
وحاصل كلام ابن عباس رضي الله عنهما أن جميع قريش أقارب النبي
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 122
(2)
الشوكاني: فتح القدير: 4/ 35
(3)
ابن حجر: فتح الباري: 8/ 427
(4)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 24، ابن حجر: فتح الباري: 8/ 427
صلى الله عليه وسلم وليس المراد من الآية بنو هاشم ونحوهم، كما يتبادر إلى قول سعيد بن جبير. قاله العلامة العيني (1).
وقال العلامة الشنقيطي: وأما القول بأن قوله تعالى [إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] منسوخ بقوله [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ] فهو ضعيف، والعلم عند الله تعالى.
وقال: والتحقيق - إن شاء الله - في معنى الآية: أي إلا أن تودوني في قرابتي فيكم، وتحفظوني فيها، فتكفوا عني أذاكم، وتمنعوني من أذى الناس، كما هو شأن أهل القرابات (2).
قال الإمام السيوطي: في الآية: وجوب محبة قرابته صلى الله عليه وسلم، فمحبته أولى (3).
ومن هنا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه.
وقال: ومن أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً (4).
(1) العيني: عمدة القاري: 13/ 293
(2)
الشنقيطي: أضواء البيان: 1615 - 1616
(3)
السيوطي: الإكليل: 3/ 1167، انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 703، المباركفوري: تحفة الأحوذي: 9/ 121، العيني: عمدة القاري: 11/ 246، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 614
(4)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 487
[5]
أن ما يشيعه البعض من وجوب نسيان أو تناسي التاريخ، ومحو آثار الماضي، وبدء صفحة جديدة، ومحاولة التعايش على أساس سلمي، دون السعي الجاد لتقريب الهوة، لهو أمر صعب المنال، ربما اتفقت النخب لمصالح عامة، لكن ما الذي يقنع العامة ويهدي الخاصة.
مبدأ التعايش المقبول يقوم على أساس عدم المساس بأصل من أصول الدين، من قرآن وسنة ونقلة لهما، ويقوم على عدم المساس بأمهات المؤمنين الطاهرات المطهرات العفيفات النزيهات، مبدأ التعايش المقبول يكون بالبعد عن الكذب والخداع ومحو آثار السباب الممقوت.
مع ما في الدعوة إلى نسيان الماضي، ومحو التاريخ من مخالفة صريحة للقرآن حيث يقول المولى جل شأنه:[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] يوسف 111، ويقول سبحانه وتعالى:[وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ] هود120، ويقول سبحانه [أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ] الروم 9، وقال سبحانه: [أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً]
فاطر 44.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، فلا بد من قراءة التاريخ، وأخذ الدروس والعبر منه، مع وجوب تنقيته من كل ما دخله من دسائس، والتاريخ فيه دسائس كثيرة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن: المظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عنده بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها من سقيمها، ومبادها من قديمها (1).
نعم، مقابلة البدعة لا تكون ببدعة مثلها، والسيئة بمثلها، بل لا بد من مقابلة الحجة بالحجة، والبرهان بمثله، والبدعة بالسنة الصحيحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوم من المتسننة رووا ورويت لهم أحاديث موضوعة، بنوا عليها ما جعلوه شعاراً في هذا اليوم (عاشوراء) يعارضون به شعار ذلك القوم، فقابلوا باطلاً بباطل، وردوا بدعة ببدعة، وإن كانت إحداهما أعظم في الفساد، وأعون لأهل الإلحاد (2).
وفي بيان مثل هذا يقول الإمام ابن كثير: ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، فيها في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد، بين أهل السنة والرافضة، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه بعيد عن السداد، وذلك أن جماعة من أهل السنة، اركبوا امرأة وسموها عائشة، وتسمي بعضهم بطلحة وبعضهم بالزبير وقالوا:
(1) ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 139
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 513
نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير (1).
وقال رحمه الله: ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وفيها أرادت الشيعة أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه من الزينة يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فيما يزعمونه، فقاتلهم جهلة آخرون من المنتسبين إلى السنة، فادعوا أن في مثل هذا اليوم حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار فامتنعوا من ذلك، وهذا أيضاً جهل من هؤلاء، فإن هذا إنما كان في أوائل ربيع الأول من أول سني الهجرة فإنهما أقاما فيه ثلاثاً، وحين خرجا منه قصدا المدينة، دخلاها بعد ثمانية أيام أو نحوها، كان دخولهما المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وهذا أمر معلوم مقرر محرر.
ولما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتماً يظهرون فيه الحزن على الحسين بن علي، قابلتهم طائفة أخرى من جهلة أهل السنة فادعوا أن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير، فعملوا له مأتماً كما تعمل الشيعة للحسين، وزاروا قبره، كما زاروا قبر الحسين، وهذا من باب مقابلة البدعة ببدعة مثلها، ولا يرفع البدعة إلا السنة الصحيحة (2).
ولسنا هنا نذكر الماضي لشحن النفوس، بل لنقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه، وإلا فأين العقلاء المنصفون المصلحون.
(1) ابن كثير: مرجع سابق: 11/ 294
(2)
ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 349
[6]
أن سب الصحابة رضي الله عنهم ولعنهم مع ما فيه من غيبة وبهتان، واستطالة على عرض المسلم بغير حق، وأكل للحومهم، وتتبع لأعراضهم، لهو أمر شنيع وخطب جسيم، تشمئز منه النفوس، وتقشعر منه الجلود، إذ فيه تكذيب لله تعالى، وتنقص لرسوله عليه الصلاة والسلام وحط من دينه. أخرج الإمام اللالكائي بسنده: عن الشعبي قال: وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين:
سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بالاستغفار فسبوهم (1).
وكتب القوم القديمة والحديثة مليئة بالطعون في خير القرون رضي الله عنهم وأرضاهم (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن القدح في خير القرون الذي صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم قدح في الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين.
وأيضاً: فهؤلاء الذين نقلوا القرآن والإسلام وشرائع النبي صلى الله عليه وسلم، هم
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1551
(2)
انظر: ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 66، 371
الذين نقلوا فضائل علي وغيره فالقدح فيهم يوجب ألا يوثق بما نقلوه من الدين، وحينئذ فلا تثبت فضيلة لا لعلي ولا لغيره (1).
وعن عبد الله بن مصعب قال: قال لي أمير المؤمنين: يا أبا بكر، ما تقول في الذين يشتمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنما هم قوم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك فيه، فشتموا أصحابه، يا أمير المؤمنين، ما أقبح بالرجل أن يصحب صحابة السوء، فكأنهم قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم صحب صحابة السوء، فقال لي: ما أرى الأمر إلا كما قلت (2).
قال الإمام ابن عقيل: الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة، وذلك أن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر غائب عنا، وإنما نثق في ذلك بنقل السلف وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم، فكأننا نظرنا إذ نظر لنا من نثق بدينه وعقله، فإذا قال قائل: إنهم أول ما بدءوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة وابنته في إرثها وما هذا إلا لسوء اعتقاد المتوفي، فإن الاعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم فإذا قالت الرافضة: إن القوم استحلوا هذا بعده خابت آمالنا في الشرع، لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم، فإذا كان هذا محصول ما حصل بعد موته خبنا في
(1) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى: 4/ 446
(2)
ضياء الدين المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 19
المنقول، وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من إتباع ذوي العقول ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب أتباعه فراعوه مدة الحياة وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة ولم يبق على دينه إلا الأقل من أهله فطاحت الاعتقادات وضعفت التقوى عن قبول الروايات في الأصل هو المعجزات فهذا من أعظم المحن على الشريعة (1).
وقال عبد الله بن محمد بن أبي مريم: قيل لمحمد بن يوسف الفريابي: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: قد فضلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخبرني رجل من قريش: أن بعض الخلفاء أخذ رجلين من الرافضة فقال لهما: والله لئن لم تخبراني بالذي يحملكما على تنقص أبي بكر وعمر لأقتلنكما فأبيا. فقدم أحدهما فضرب عنقه، ثم قال للآخر: والله لئن لم تخبرني لألحقنك بصاحبك، قال: فتؤمّنيّ؟ قاله: نعم، قال: فإنا أردنا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: لأيتابعنا الناس عليه، فقصدنا قصد هذين الرجلين فتابعنا الناس على ذلك. قال محمد بن يوسف: ما أرى الرافضة والجهمية إلا زنادقة (2).
وقد وصل بهم الأمر إلى حدٍّ مخز: قال رافضي اجتمع بالسيد عمر الحضري من أهل بيروت: نحن نبغض أبا بكر لتقدمه في الخلافة على علي، ونبغض بجبريل؛ لأنه نزل بالرسالة على محمد ولم ينزل على علي، ونبغض محمداً؛ لأنه قدم أبا بكر في النيابة عنه في الصلاة ولم يقدم علياً، ونبغض
(1) ابن الجوزي: تلبيس إبليس: 113
(2)
اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1544
علياً؛ لسكوته عن طلب حقه من أبي بكر وهو قادر عليه، ونبغض الله؛ لأنه أرسل محمداً ولم يرسل علياً. وهذا أقبح ما يكون من الكفر الذي ما سمع بمثله، والعياذ بالله (1).
وأخرج الإمام اللالكائي: عن أبي بشر هارون بن حاتم البزار الكوفي قال: سمعت محمد بن صبيح السماك بقول: علمت أن أصحاب موسى وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى فما بالك يا جاهل تسب أصحاب محمد. قد علمت: من أين أتيت لم يشغلك ذنبك أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك.
لقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين، ورجوت لهم أرحم الراحمين، ولكنك من المسيئين، فمن ثم عبت الشهداء الصالحين.
أيها العائب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لو نمت ليلك، وأفطرت نهارك، لكان خيراً لك من قيام ليلك وصيام نهارك، مع سوء قولك في أصحاب نبيك.
ويحك: فلا قيام ليل وصيام نهار وأنت تتناول الأخيار وأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى.
ويحك: هؤلاء تشرفوا في بدر، وهؤلاء تشرفوا في أحد، إذ إن هؤلاء وهؤلاء جاء عن الله العفو عنهم فقال: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
(1) الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 382
الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] آل عمران 155، فما تقول فيمن عفا الله عنه؟
نحن نحتج لإبراهيم خليل الرحمن قال: [فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] إبراهيم 36.
فقد عرض للعاصي بالغفران. ولو قال: فإنك عزيز حكيم، أو عذابك عذاب أليم، كان قد عرض للانتقام. فيمن تحتج أنت يا جاهل إلا بالجاهلين، لبئس الخلف خلف يشتمون السلف، لواحد من السلف خير من ألف من الخلف.
وهؤلاء جاء العفو عنهم فقال: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] فما تقول فيمن عفا الله عنهم؟ فما تقول فيمن عفا الله عنهم؟ (1) ولكن نقول كما قال الإمام الشافعي: ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله عزوجل بذلك ثواباً عند انقطاع عملهم (2).
قلت: ولسنا ننازع في هذا المقام كثيراً في تلقيب الإمام علي رضي الله عنه بـ (كرم الله وجهه): أو تخصيصه بالسلام دون غيره، وإن كان التحقيق في هذه المسألة ما ذكره أهل العلم المحققون، قال الإمام ابن كثير: وقد غلب في هذا عبارة كثير من النُسّاخ للكتب أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال: عليه السلام من
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1548
(2)
مرجع سابق
دون سائر الصحابة، أو كرم الله وجهه، وهذا وإن كان معناه صحيحاً، ولكن ينبغي أن يسوّي بين الصحابة في ذلك، فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين.
ولكننا نُنازع في إضفاء صبغة الخصوصية المطلقة على ذات الإمام، ثم إيراد روايات مكذوبة عنه، وفي المقابل إضفاء صبغة الحقد والكراهية على بقية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أن التاريخ أثبت، والشواهد أكدت، حسن الصحبة بين أئمة أهل البيت، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن باب الامتثال لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته (1)، قمت بمحاولة للدفع عنهم، والانتصار لهم، والذب عن أعراضهم، رجاء أن يحشرني الله تعالى معهم يوم الدين. يقول الإمام ابن كثير: والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض بمساويهم كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم (2).
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا
(1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب من رد عن مسلم غيبة (4876)
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 219
شيء، إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت مع من أحببت. قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أنت مع من أحببت. قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم (1).
[7]
كثرة الدس في كتب التاريخ، ظاهرة منتشرة عند القوم.
فهي مشحونة بالروايات المكذوبة والضعيفة والمنكرة التي تذكر وفيها مطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وبما أن كتب التاريخ يغلب عليها النقل دون التمحيص في الرواية، فقد نقل جماعة من أهل السنة في مصنفاتهم كثيراً من روايات القوم، دون بيان حكم في الغالب، استناداً منهم على نقل الروايات بما سُمعت، وسردها سنداً، والخروج بذلك عن عهدة الملامة والعتب.
ولذا ينبغي التنبه للروايات التاريخية، والحذر من المصادر غير الموثوقة. وفي كتب أهل السنة من الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات والأجزاء غنية، وكذا في كتب التاريخ الممحصة للروايات.
وقد ظهر جماعة كانوا يتتبعون الأحاديث الرديئة التي كتبت وفيها تنقص لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذا كان الإمام أحمد ينهى عن كتابتها وتتبعها، وقال: لا أرى لأحد
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عمر بن الخطاب (3688)
أن يكتب شيئا، قيل له: فإذا رأينا الرجل يطلبها ويسأل عنها - فيها ذكر عثمان وعلي ومعاوية وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيت الرجل يطلب هذه ويجمعها فأخاف أن يكون له خبيئة سوء.
وقال مهنا: سألت أحمد عن عبيد الله بن موسى العبسي فقال:
كوفي، فقلت: كيف هو؟ قال: كما شاء الله، قلت:
كيف هو يا أبا عبد الله؟
قال: لا يعجبني أن أحدث عنه، قلت: لم؟ قال: يحدث بأحاديث فيها تنقص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد: كان أبو عوانة وضع كتابا فيه معايب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه بلايا، فجاء إليه سلام بن أبي مطيع فقال: يا أبا عوانة، أعطني ذلك الكتاب فأعطاه فأخذه سلام فأحرقه.
وقال أحمد الأبار: سألت سفيان بن وكيع فقلت: هذه الأحاديث الرديئة نكتبها؟ فقال: ما طلبها إنسان فأفلح. قال: وسألت همام فقال: لا تكتبها، وسألت مجاهد بن موسى فقال: لايش تكتبها؟ قلت: نعرفها، قال: تعرف الشر.
ولذا لما جاء عبد الرحمن بن صالح إلى أبي معمر فذكر الأحاديث الرديئة فقال أبو معمر: خذوا برجله وجروه وأخرجوه من المسجد، فجر برجليه وأخرج من المسجد.
فرحم الله تعالى بشرا الحافي حين قال: أرجو أن أقدم على محمد صلى الله عليه وسلم ولا أخزى في أصحابه غدا. (1)
(1) الخلال: السنة 3/ 504، 509، 510، 516، 2/ 480